مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
ثقافة العقل والعلم
 
ندوة الفكر القومي - محاضرة للأمين د. ادمون ملحم
ملحم، ادمون
 

نص المحاضرة

 

 

 

- مقدمة

 

1- أهمية العقل

2- نهضة الغرب

3- العصر العلمي الحديث

4- واقعنا الإجتماعي

5- العوامل المساهمة في إنحطاطنا الحضاري

 

- أوهام مهترئة ومعتقدات موروثة

- فقدان الثقة

- التخطيط الصحيح

- المؤسسات القومية الصالحة

- الثقافة النهضوية

- القراءة

 

6- من حالة اللارشد إلى الأخذ بأسباب العلم

7- إصلاح حياتنا

 

- إيقاظ عقولنا

- بناء المجتمع المحصّن

- التخطيط القومي

- التفكير العملي-العلمي-المنطقي

- رؤية إنسانية مستقبلية

- التربية القومية الصحيحة

 

8- التفكير العملي-العلمي

9- التربية القومية

10- العودة إلى التاريخ

 

خاتمة

 

 

 

مقدمة:

 

لا نحتاج إلى عناء كبير لنثبت ان مجتمعنا يعاني من التخلّف والانحطاط والتراجع والتفسخ والتفكك والإنحلال ومن أزمات عديدة في حياته الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويعاني ايضاً من الهيمنة والإستلاب وبسط النفوذ والتبعية بأشكالها المختلفة، ومن الإعتماد على الدول المتقدمة اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وفي جميع مناحي الحياة.. وأكثر ما نحتاج إليه في هذا الزمن هو عملية تغيير جذري تبدأ بتسليط الضوء على واقعنا المؤلم واكتشاف مشاكله وتعقيداته، وتجابهه مجابهة جدّية نقدية صحيحة معتمدة على منهجية عقلية - علمية تحليلية وعلى لغة جديدة هي لغة العقل الناقد والوعي الجماعي وصولاً إلى تغيير ذلك الواقع وتجاوزه. فإن لم نلجأْ إلى مِيزةِ الإنسانِ الأساسيةِ، إلى قوةِ العقلِ، مَوْهِبَةِ اللهِ في الإنسانِ والشرعِ الأساسيِ الأعلى الذي بواسطتِه نعي ونفكرُ ونُميّزُ ونُعيّنُ الأهدافَ ونرسمُ الخِططَ ونفعلُ في الوجودِ... وإن لم نعتمد العقل شرعاً أعلى وأداة للتمييزِ والإدراك ونسلَّط نورَه على ما يعتري مجتمعَنا من مشاكلَ وأزماتٍ، فلن تتبيَّنَ لنا بوضوحٍ أسبابُ المصائبِ والويلاتِ التي تمزِّقُ مجتَمَعَنا وتزيدُ حالةَ أمتِنا سوءاً وتدهوراً وتخلفاً. وكلها عوامل تنعكس على حياتِها ومصالِحها، بينما عدُّوُنا المترّبصُ بنا شراً ينتهزُ جَهلَنا وتفكُّكَنا وإنقساماتِنا ويعملُ بتخطيطٍ دقيقٍ على اجتثاثِنا من أرضِنا وتحقيقِ حُلمِهِ التوراتي.

 

إنّ انطلاقنا من واقعنا المؤلم يحتم علينا طرح أسئلة من النوع التالي: لماذا نحن غارقون في مستنقعات الجهل ومتخلفون عن اللحاق بمسيرة التقدم الإنساني عامة؟ كيف لنا أن نغيّر واقعنا المأزوم ونجاري أمم العالم في السير نحو المستقبل وما يعد به من تقدم وآمال؟ ما هي أهمية العقل؟ ما هو دور العلم في عملية التغيير الإجتماعي؟ وما هي العوامل التي تساعدنا على تنمية وترسيخ الثقافة العلمية – العقلانية؟  هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عليها في هذا البحث:

 

  1. أهمية العقل:

 

العقل هو ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وان يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.. فما من انتصارات تحققت، وما من اختراعات تمت، وما من إنجازات أحرزت، وما من حضارات قامت، إلا بفضل العقل ودوره. فما ابتدعه الإنسان من علوم إنسانية وطبيعية واكتشافات وفلسفات ومناهج علمية مختلفة وفنون وآداب بأشكالها  ليس إلا نتيجة الفكر والعقل، فالعقل يتبلور في التفكير كفعل عقلي واعٍ، والتفكير كنشاط إرادي مصاحب للفرد لا حدود له ولا قيود. فالله سبحانه، خصَّ الإنسان بالعقل لكي يفكر به عن حرية واختيار ولكي يميّز بواسطته بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين المفيد والضار، بين الصواب والخطأ، وبين الهدى والضلال.. والله وهب الإنسان العقل الذي لعله أهم ما خلقه فينا، لكي يحافظ على نفسه بإنسجام وتكيّف مع البيئة، ولكي يتفكَّر في وجود الأشياء ويختار ما يناسبه منها، ولكي يحكم به على الأمور معتمداً المقياس السليم، ولكي يتعلم ويدقق ويحاسب ويكتشف أسرار الطبيعة ونواميسها ويسيطر على كنوزها ومواردها ويحقق الإنجازات والمعارف وينشئ الحضارات. فكلما اكتشف العقل أفقاً، تفتحتْ له آفاق.. وليس الإنسان إلا تعبيراً عن عظمة الخالق، وليس عقله إلا قوة هائلة قادرة على العطاء والمعرفة والخلق والإبداع وعلى استخدام المدارك الحسية والعقلية وإنتاج الأفكار اللامعة والباهرة القابلة لأن تكون مشاريع انجازات واكتشافات. والحق يقال، إن الأفكار الحية الخلاّقة هي ثروة الأمم وقوتها الحقيقية. فالأمم هي عقول أبنائها وأفكارهم المتجلية فناً وجمالاً وإبداعاً وإنتاجاً وسمواً.  يقول الدكتور مرحبا: "وإنما الأمم الأفكار وما يموج فيها من أفكار. فالأفكار هي التي تقود العالم. إنها القوة الحقيقية التي تقرر مصائر الشعوب."[1]  

 

والعقل البشري الذي صُمِّم كمختبر للأفكار والتصورات والقيم والمثل ينمو في المجتمع ويتطور مع الزمن وتزداد مقدرته وذلك بفضل علاقة الإنسان التفاعلية ضمن المجتمع ومع المحيط (البيئة) وبفضل ما اكتسبه من معارف وعلوم واتجاهات فكرية وخبرات وتجارب وقدرات وإدراك للشؤون النفسية والمادية وهذا ما يمكن اختصاره بالثقافة العقلية-الإنسانية العصرية أو بالمدنية الحديثة. فالصعود إلى القمر لم يكن في الماضي البعيد تصوراً عقليا ممكناً. أما الآن فهذا التصور أصبح أمراً حاصلاً وحقيقة ملموسة بسبب التراكم المعرفي والتطور العلمي. ومثله تماماً ما حصل في عالم الإتصالات والتواصل الإجتماعي وشبكات المعلومات وفي كثير من مجالات العلم والطب والتكنولوجيا والإختراعات والصناعات المختلفة. فنحن الآن نعيش في عصر بلغ التقدّم فيه درجة رفيعة بفضل التطور العلمي الذي يمَكّننا من غزو الفضاء وعبور المسافات وتوليد الطاقات والتحقق من اللامعقول. فهل يمكننا ان يأخذ بنا الخيال في اتجاه المستقبل ونتصور وجود مستعمرات بشرية في كواكب بعيدة، أو سفن فضاء تستكشف أبعد أطراف المجموعة الشمسية؟ من يدري؟ إن ما نعتبره اليوم غير ممكن أو غير معقول، قد يصبح معقولاً أو صحيحاً في يوم من الأيام بفضل ما نشهده من فتوحات وانتصارات جديدة في مجال العلوم والتكنولوجيا.

 

 

  1. نهضة الغرب:

 

إن ما وصل إليه الغرب من نهوض عقلي ومن تقـدم علمي هائل ورقـي مـدني واجتمـاعي واقتـصادي هو نتيجة لعوامل عديدة بينها ثورة الإصلاح الديني الواسعة النطاق التي شملت بعض الدول الأوروبية والتي جاءت تجسيداً لكتابات اللاهوتي الراهب الألماني مارتن لوثر (1483-1546)[2] وخليفته المصلح الديني البارز واللاهوتي الفرنسي - السويسري  جون كالفن (1509-1564)[3] المتمرّديْن على الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسلطاتها الفاسدة – المستفيدة من محاكم التفتيش وإجراءاتها المجافية للعدالة واضطهادها للمفكرين والعلماء واتهاماتها الزائفة للمشتبه بهم بالهرطقة والإلحاد والكفر وممارسة السحر وعبادة الشيطان[4] ومن ممارسات غير مشروعة لجمع الأموال كتجارة صكوك الغفران[5] وبيع المناصب الكنسية والزيت المقدس والرشاوى والعفو عن المجرمين وارتكاب المعاصي وأعمال الخداع وغيرها - والتي كانت بداية لثورات فكرية وإجتماعية وسياسية وثقافية وإقتصادية وإيذاناً لعصر التنوير – عصر العقل الجديد المتحرر من العقيدة والتفكير اللاهوتي[6] والميتافيزيقي والطامح إلى الحرية. في ذلك العصر، بدءاً من القرن الرابع عشر، وما تلاه، خرجت أوروبا على ثقافة العصور الوسطى والقوى السحرية[7] والعقائد القديمة وتقاليد السلطة الدينية المتمادية في غيّها وقسوتها ومحاربتها للمفكرين، عصور الجهل والظلام والإقطاع[8] وطغيان الملوك واستبدادهم وسيطرة رجال الدين على العقول ووضعهم ستاراً كثيفاً بين الأذهان والمعرفة الحقيقية باحتكارهم اللغة اللاتينية.

 

وبفضل حركة الإنسانيين ودعاة التنوير من المفكرين والأساتذة الأحرار والفلاسفة المجدّدين والفنانين، الذين أوقفوا كل ما يملكون من مال وجهد وكرّسوا حياتهم لدراسة وإحياء العلوم والمعارف والأدبيات والدراسات الدينية والفنون الجميلة وللإهتمام بالمناظر الطبيعية، بُعثَتْ عوامل التفكير النقدي من مرقدها وانتشرت مبادىء العقلانية والعلم وقوة التفكير وحريته وروح الشك والنقد والثقة بالعقل البشري القادر على الإبداع والوصول إلى الحقيقة. والجدير بالذكر، أنه في حين كانت أوروبا تعيش في غياهب العصور الوسطى وتغط في غيبوبة طويلة، كان المشرق العربي، إبتداءً من القرن العاشر بعد الميلاد، منكّباً على ترجمة آثار الفكر اليوناني ونقل المعارف القديمة من يونانية وفارسية وبابلية وهندية، ودرسها عبر مدارس فكرية وعلمية متعددة وبتشجيع من الخلفاء والأمراء، وكان يضيف إليها تعليقات وإضافات ويقدم الإبتكارات والإكتشافات في الطب والهندسة والحساب والجبر والفلك والكيمياء وغيرها.[9] وعندما استفاقت أوروبا من سباتها وغيبوبتها، تطلعت نحو منطقتنا وتقدمها الحضاري بتعطش للفكر الجديد وراحت تعمل جاهدة على الإستفادة من تراثها العلمي العظيم والأخذ بأسباب العلم، ثم تطويره فيما بعد، فبدأت في الترجمة والنقل ونهلت العلوم والفلسفة والفكر (الإغريقي والسوري والبيزنطي) وتعرّفت على مؤلفات وترجمات للفلسفة اليونانية وشروحٍ لها وعلى علوم أصيلة ومخترعات علمية ومناهج تجريبية للبحث العلمي أدرَكَتْها إليها عبر مسالك ثلاثة[10]، حصل من خلالها التأثر الحضاري والتأثير، وشكَّلت بمجملها أساساً لنهضة علمية وفكرية ضخمة عمّت أوروبا وأخرجتها من العصور الوسطى الظلامية إلى عصورها الحديثة المتنورة.

 

وبعد ان استوعب الغرب ما تجمّع لديه من تراث فكري عالمي، من يوناني وروماني وسوري، وبعد أن خاض معارك ضارية، سياسية ودينية واجتماعية، بدأت اللغات الأوروبية الحديثة والإتجاهات القومية في الظهور، ابتداءً من القرن الخامس عشر، ترافقها حركة الكشوف الجغرافية[11] وما أسفرت عنه من كشف العالم الجديد وتنظيم طرق ملاحية جديدة ونمو الدراسات الجغرافية. ونمت حركة الإستعمار ورغبة بعض الدول الأوروبية في التوسع والسيطرة على بقاع الأرض في العالم الجديد لنشر نفوذها وحضارتها وتحقيق مطامعها المادية بحجة رفع مستوى الشعوب، فتحوّلَ العالم الجديد إلى مستعمرات غربية ذات إمكانات اقتصادية. ونتيجة لكل ذلك، ازدهرت التجارة والصناعة وتدفقت الكنوز وسبائك الذهب والفضة والمعادن النفيسة من المستعمرات إلى أوروبا، وازداد بناء السفن التجارية والأساطيل ونشاط المصارف وعديدها، وارتقت الفنون الجميلة وآداب السلوك وانتعشت الموسيقى وزخرفة البناء، وخاصة بناء الكنائس، وتحوّلت اللهجات الشعبية إلى لغات حية مزدهرة بالآداب القومية وأصبحت مظهراً من مظاهر القومية.[12] وبدأ التركيز على الحاجات العملية الراهنة فانتعشت الزراعة وتقدمت العلوم وظهرت نظريات فكرية جديدة (التجريبية والعقلانية) وبعد البدء بصناعة الورق[13] التي اقتبسها الغرب عن الشرق، انتشرت المطابع في أوروبا التي بدأت بطباعة الكتاب المقدس، بإحتضان من الكنيسة، وترجمته إلى اللغات الشعبية ونشْره بين الناس، وبإنتاج نسخ عديدة من المخطوطات وكتب الأقدمين اللاتينية واليونانية وراجت المؤلفات والأبحاث العلمية والأدبية والفلسفية والفنية باللغات الحديثة وبتشجيع من الأسر الحاكمة والأمراء (خاصة الإيطاليين) والبابوات. وتكوّنت المتاحف والمكتبات العظمى في ايطاليا وفرنسا وانجلترا لتضم المخطوطات والكتب والتحف النادرة وغيرها من المقتنيات، لتصبح المصدر الأساسي للإطلاع والبحث العلمي. وظهرت الأكاديميات الحديثة التي اهتمت بالإنسانيات وبالدراسات الإغريقية واللاتينية والتاريخية وبعلوم الهندسة والرياضة والفيزيقا والفلك والآثار (الرومانية)[14] باعتبارها علوماً تخدم الإنسان الذي تحوّلت نظرة المجتمع إليه وأصبح محور الإهتمام.. وإزاء النظرة الجديدة للإنسان وانحسار نظرة العصور الوسطى إليه، إزدات ثقة الفرد بنفسه وبدأ يستمتع بجمال الحياة الإنسانية وقيمتها ويتطلع للجديد والتجديد متسلّحاً بحرية الفكر وحرية التعبير وبقدرته على اتخاذ المسار الذي يريده في حياته. وهكذا احتدمت المعركة بين السحر والعلم، وبدأت تظهر النتائج واضحةً للعيان: الفشل الذريع للسحر والمنافع "المحدودة" للعلم التجريبي والعلم المبني على الرياضيات وكانت هزيمة قوى السحر والتنجيم وبالتالي انتصار العلم والعلماء وانبثاق فجر العصر العلمي الحديث.

 

  1. العصر العلمي الحديث:

 

في هذا العصر عاش علماء كبار، أمثال جلبرت وجاليليو، وكيلر وهارفي، كانوا يؤمنون بالتجربة الإفتراضية وكانوا في معظم الأحيان أطباء أو نبلاء أغنياء، أو قساوسة. هؤلاء العلماء لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم في عصورهم فبدأت تظهر أبحاثهم واكتشافاتهم الجديدة في مختلف المجالات وبلغات أوروبية حديثة وكان من بينهم:

 

- الجراح Vésale ڨيسال من بروكسل (أندرياس فيساليوس 1514-1564( الذي طوّرَ علم تشريح الأعضاء وأحدث ثورة في علم الطب كله؛

 

- ووليم هرڨي الذي اهتدى عام 1615 إلى الدورة الدموية بعد سنين من التجارب أجراها على الحيوانات وتشريح الجثث فنشر اكتشافه عام 1682 واضعاً أسس الفيسيولوجيا الحديثة؛

 

= ونيكولاس كوبرنيكوسCopernicus   (1473-1543) عالم الفلك البولوني الذي استطاع بعد سلسلة من التجارب أن يقدم في كتابه "ثورة في الأفلاك السماوية" المنشور عام 1543 نظرية جديدة تخالف النظرية القديمة لبطليموس (100-170) التي كان معترفاً بها في العصور الوسطى، وتقول بمركزية الشمس وإن الأرض جرم يدور في فلكها دون تقديم الحجج العلمية الجيدة التي تثبت نظريته وقد لاقت هذه النظرية التي شكّلت منعطفاً في تاريخ الفكر والتقدم العلمي مقاومة شديدة استمرت حتى بداية القرن السابع عشر، وقد استخدم معارضوها النفوذ الديني سنداً لهم مؤكدين بأن هذه النظرية تتنافى مع الكتابات المقدسة ولم يقبلوا بزعزعة الأرض عن مركزية الكون؛

 

- والموسوعي العبقري العالم والفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452-1519) الذي علّم نفسه بنفسه وأسهم في اختراع وتطّور العديد من الأجهزة الثقيلة منها مظلة الهبوط والمركبة الطائرة وترك أبحاثاً وتصاميم عن المحرك البخاري وسيارة الدفع الذاتي ومعدات الغوص والدبابة المدرعة ومقياس للزمن والساعة المائية؛

 

- وأبو العصر الحديث الذي "دكَّ صرح معارف العصور الوسطى كله"[15]: الإيطالي جاليليو جاليلي (1564-1642) الذي اخترع التلسكوب وكشف من خلال الملاحظة والمشاهدة والتجربة قوانين سقوط الأجسام ووضع أسس العلم التجريبي[16] وقال بثبوت الشمس وحركة الأرض ودورانها حول الشمس، مثبّتاً نظريات كوبرنيكوس (1473-1543) المخالفة للكنيسة، فصدم أهل عصره واتُهمَ من قبل محكمة التفتيش بالتجديف والكفر[17] وإلحاق الضرر بالعقيدة المقدسة (لتصريحه بنظريته الفلكية عن دوران الأرض، بما يتعارض مع أفكار أرسطو الخاطئة في هذا المجال والتي كانت مقبولة ومسلماً بها من باب التقليد والتبعية) وأجبر على التبرؤ من أفكاره "الزائفة" المخالفة لآراء الكنيسة المقدسة لكي لا يحكم بالموت؛ ويقال أنه قضى بقية حياته تحت الإقامة الجبرية في منزله مهموماً حتى وفاته وكان يردد باستمرار: "لكنها تدور".

 

- والفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون F. Bacon (1626-1561)، فيلسوف العلم التجريبي، الذي سعى إلى التجديد الكبير بالمعرفة وبمناهج الدراسة والبحث وإلى استغلالٍ أدق وأكمل للعقل البشري، فبشّرَ بسيادة العلم ودعا "إلى التخلي عن كثير من الأفكار والمفاهيم الموروثة عن الكون والمادة"[18] و"إلى الإنفتاح الذهني حول العلوم والنهوض بالمعرفة الجديدة من فلك وفيزياء وبيولوجيا نابذاً الإذعان البالغ المتزمت للقديم، فقد كان يؤمن بأن المعرفة والعلم هما طريق القوة والحياة الأفضل."[19] وقدّمَ في كتابه "الأورغانون الجديد" أو "الأداة الجديدة" – (Novum Organum) منهجه الجديد القائل بالأسلوب التجريبي الإستقرائي (إستقراء الأجزاء للإستدلال منها على حقائق تُعمّم على الكل) وإعتماد الوقائع المادية والحسية طريقاً لتحصيل المعرفة.[20] كانت تجريبية بيكون نقطة البدء وتلاه ديكارت، وكبلر ونيوتن، وسبينوزا وغيرهم. ومن ثم جاء بعض الفلاسفة والمفكرين ، أمثال توماس هوبز[21] (1588-1679) ولوك (1704-1632)، وبيركلي (1753-1685)، وهيوم (1711-1776)، فطوروا الفلسفة التجريبية الإستقرائية بأسلوب صارم لا تطغى عليه التأملات.[22]

 

- ورينيه ديكارت (1596-1650)، بطل البسائط والأفكار الواضحة والحقائق المألوفة وصاحب المنهج (الديكارتي) الإستنتاجي المؤدي إلى حسن السير بالعقل، القول الفصل، وصولاً إلى المعرفة اليقينية.[23] ديكارت العالم الفذ والفيلسوف المعروف بأبي الفلسفة الحديثة ومؤسس العقلانية، أعلى من قيمة العقل واعتبره أعدل الأشياء قسمة بين سائر الناس، وجعله ينبوع المعرفة لأن "العقل وحده هو الذي يستنتج نتائج التجارب."[24] ولقد مهدت أبحاثه في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك والتشريح وعلم النفس والفلسفة واللاهوت، للعالم الإنكليزي اسحق نيوتن (1642-1727) استنباط قوانينه الخاصة بالحركة والسكون (قانون الجاذبية) ورسم مخطط متكامل للكون؛

 

- والكاهن الهولندي انطوني فان ليفنهيك الذي اكتشف الميكروب وكان لإكتشافه أهمية عظمى في تاريخ البشرية؛

 

- والفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704)، أحد رواد حركة التغيير الإجتماعي في العصر الحديث، الذي صاغ نظرية في المعرفة مؤكداً فيها أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد لمعرفتنا.

 

- وبرز داروين الذي اخترع نظرية "الإنتخاب الطبيعي" وفي عام 1859 قام بنشر نظرية التطور وأصل الأنواع.

 

وغيرهم من كبار الرياضيين الأوائل والعلماء الذين ارتكزوا على دراسات وتجارب وتقصيات ومشاهدات وصولاً إلى نظريات علمية والذين "أكدوا أن العقل هو سبيل الإنسان إلى النفاذ إلى الحقيقة أي إلى العلاقات والروابط أو القوانين التي تحكم الأشياء، فالعلاقات او القوانين ضرورية لتنظيم فهمنا للطبيعة وتنظيم أفعالنا وفقاً لهذا الفهم."[25] ويعتبر بروز الإتجاه الجديد، آنذاك، نحو الطبيعة وجمالها وأسرارها[26]، نتيجة مغامرات وإكتشافات الرحالة والملاحين[27] والجغرافيين والعلماء لأراضي وشعوب جديدة ولمعالم في الأرض كانت مجهولة، عاملاً قوياً من عوامل النهضة الحديثة أدى إلى إختراعات حديثة، كالآلات والمجهر (الميكروسكوب) والبارود والبوصلة البحرية والأجهزة الفلكية وفن الطباعة، زادت الناس يقيناً بأن الطبيعة تملك قوى خلاقة عجائبية أصيلة ومملوءة بالآيات والعطايا والمعجزات التي يجب درسها والبحث في دخائلها.

 

في القرون الأربعة الأخيرة انتقل العلم من الأديرة إلى الأكاديميات والجامعات وأدخلت دراسة العلوم إلى برامج الجامعات ومدارس التعليم، وانتشر الوعي العلمي وتوسّع العلم وتقدَّمَ في جميع الاتجاهات فارضاً نتائجه المتطورة على الفرد والمجتمع وظهرت الآلة لتزيد من قدرة الإنسان على العمل ولتؤدي إلى عصر الثورة الصناعية التي تركت آثاراً عميقة في حياة الناس الإجتماعية والإقتصادية و"وضعت الاجتماع على أساس جديد" وأفسحت المجال واسعاً لإزدهار الثّقافة العقليّة[28] ولبروز الفكر العقلاني الحديث أو العقل الحديث الذي بدأ يخطو خطوات كبيرة إلى الأمام على كافة الجبهات معتمداً على منهج علمي جديد يعتمد الحس أداة للمعرفة ويستخدم أجهزة علمية وأدوات متجددة ومتطورة. وامتدت اهتمامات العلم، الذي انفصل، تدريجياً، انفصالاً تاماً عن الفلسفة، لتشمل ظواهرَ وميادينَ عديدة وتطور علم المناهج "الباحث في الطرق المستخدمة في العلوم للوصول إلى الحقيقة"[29]، إلى أن وصلنا إلى ما يمكن تسميته بالإنفجار المعرفي وإلى فيض من المعلومات المتدفقة علينا كل يوم. وما زال التوسع في العلم والمعرفة البشرية يسير باطراد لتحسين حياة الإنسان وحل مشاكله ولفهم حقائق الأشياء والأسباب المتحكمة في الظواهر البيئية والإجتماعية والنفسية والتحكم بنتائجها من أجل السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة غايات وأهداف عملية. فالعلم بحكم طبيعته تراكمي متزايد ويتمتع بديناميكية مستمرة ولا يعود إلى الوراء بل يسير على نهج ارتقائي ولن يتوقف عند حد، وبالتالي فإن "مسيرة التقدُّم العلمي مسيرة متواصلة، تؤدي إلى تطور مستمر وتحديث متواصل لكل ما تم تحقيقه في فترات سابقة."[30] كما إن المناهج العلمية على اختلافها هي في تغيّر مستمر وفقاً لتقدم العلم وحاجاته.

 

ويمكن اعتبار تضافر العقول ومشاركتها في السعي إلى بلوغ الحقيقة طريقاً مؤدية إلى المعرفة القائمة على التجربة الحسية وعلى الوقائع المادية الملموسة. وفي تضافر العقول وحوارها تتجلى الأخلاق العلمية ويكمن النقد الموضوعي الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الممارسة العلمية ومظهراً من مظاهر العقلانية. أما العقلانية فهي الإيمان الكلي بوجود العقل وقيمته لأنه "عنصر جوهري من عناصر الشخصية الخلقية."[31] فهي تقول بأولوية العقل في الحكم على الأشياء وتدعو إلى الأخذ بأحكامه والعمل بمقتضاها.. فهي، بإختصار، ممارسة فكرية تحتكم إلى مرجعية العقل بأقصى قدراته وإمكانياته وتلتزم بأحكامه لكونه المصدر الأول او الأساس في مصادر المعرفة والفكر والدين، وهي نقيض الدعوات التقليدية المظلمة والإتجاهات السلفية والأصولية الرجعية المنتشرة في عالمنا العربي والتي تضرب بالعقل عرض الحائط وترفض ثقافة العصر ونظمه ومؤسساته، وتطلب منا الرجوع إلى الوراء، إلى الماضي الذي يُشكّل برأيها حقيقة الإسلام وعصره الذهبي، وتتمسك بثقافة تقليدية غيبية تتصل بالعصور الوسطى الجامدة.

 

وفي نظر الكثير من الكتّاب، العقلانية هي مذهب لا غنى عنه لتقدمنا لأنها تقول بالإعتماد على العقل الذي يمثّل النور والضياء واليقين والسبيل للنفاذ إلى الحقيقة. وتعطي أهمية للفكر العقلاني-العلمي ولأساليب التفكير العلمي- المنطقي المنظّم الذي لا يصدر أحكاماً عشوائية أو كيفية بل يعتمد على القوانين المكتشفة والبراهين المقنعة للعقل والضبط والقياس والتكميم، أي لغة الأرقام والتعبير الكمي، ويلقي الأضواء الكاشفة على الظواهر بتعمق وبمنهجية علمية منظّمة ويلجأ إلى البحث عن الأسباب المتحكمة في الظواهر وإلى الاستنباط العقلي وصولاً إلى اليقين العلمي الموضوعي. وفي كتابها "مفهوم المنهج العلمي"، تعتبر يمنى طريف الخولي أن العلم هو "أروع تجليات العقلانية في الحضارة الإنسانية، وأشدها إثباتاً لحضور الإنسان."[32]

 

 

  1. واقعنا الاجتماعي:

 

صحيح ان عصرنا هو عصر الإنجازات العلمية والطاقة الذرية والحقول الإلكترونية، الذي تقوده ثورة التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات والمعرفة البشرية المتزايدة في مختلف الميادين والتي جعلت من العالم قرية صغيرة، إلا أننا ما زلنا متخلّفين عن اللحاق بتقدم الغرب العلمي والصناعي والتكنولوجي والنووي. فبيننا وبينه فجوة كبيرة في ميدان العلم والحضارة العلمية الحديثة. إن مجتمعنا العاجز والممزّق إلى كيانات وطوائف وعشائر وإثنيات، ما زال، بالإجمال، وبالرغم من ارتفاع عدد المتعلمين والمثقفين فيه، مجتمعاً متخلّفاً غارقاً في مستنقعات الجهل والقضايا الرجعية وأوهامها، مجتمعاً فئوياً منقسماً إلى جماعات طائفية وإثنية وقبائلية متنافسة ومتناخرة؛ مجتمعاً فسيفسائياً بثقافاته ومنطلقاته وتطلعاته، مُغرِّباً ومغترباً عن نفسه، يتخبّط بتناقضاته الداخلية و"هوياته" المتنوعة وانقساماته الاجتماعية والسياسية وعصبياته الطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية، ومثقلاً بأوضاعه الفاسدة والمذلّة وتقاليده البالية واتجاهاته التعصبية وثقافاته الرجعية المعطّلة للإرادة الحرة ولحقوق المواطنة والمكرّسة تبعية الشعب وامتثاله القسري لسلطوية الأنظمة السائدة ومؤسساتها وتبعية هذه الأنظمة للخارج وتسابقها للتطبيع مع دولة العدو الغاصبة لأرضنا. هذا المجتمع المتخلف، المفكك، الضعيف، والمستباح والمهدّد بنزاعاته وبالأخطار الخارجية (التي تهدّد وجوده) والرازح بفقره وأمراضه ومفاسده، تُسَيّره العقليات السلفية والغيبية والثيوقراطية والقبلية والثقافة الأبوية المهيمنة والتفكير الخرافي والرجعي المتخاذل والغارق بقضايا الماضي وأمجاده والمعرقل للتقدم والإرتقاء. إنه مجتمع حائر بين السلفية والحداثة، بين ثقافة الماضي والتقاليد المتوارثة وثقافة المدنية الحديثة الواردة من الخارج. إن الثقافة السائدة في مجتمعنا، كما يحلّل عالم الإجتماع الدكتور حليم بركات، "هي في آنٍ واحد ثقافة غيبية تقليدية طقوسية وثقافة استهلاكية مستوردة من الغرب وأنماط حياته السطحية."[33] إن مشكلتنا، بإختصار، نابعة من خطط التفكير الانحطاطي وقضايا الحزبيات الدينية ومن سيطرة السحر والتنجيم والخرافات والقيم السلفية والقدرية التي تعوق مسيرتنا العلمية وتشجّع على القناعة والإستسلام واليأس وتنامي الإتجاهات التعصبية العرقية والقبلية والعشائرية والمذهبية والكيانية والقبول بالأمر الواقع وعدم مواجهة التحديات او المشكلات التي تعترينا وتفضيل استمرارية العيش والمساومة والإنغلاق على الذات والمبايعة والإتكال على القوى الأجنبية لحل مشاكلنا. فكما يقول أنطون سعاده: "إنّ بلية الأمة العظمى، هي الرجعية الاجتماعية والسياسية، بعقليتها الاتكالية المستسلمة المستمرة في خطط التفكير الانحطاطي، وفي قضايا الحزبيات الدينية والمصالح الخصوصية والسياسة القبلية والعائلية.."[34] وبكلام مماثل، يوضح سعاده أن أعظم بلية حلَّت بالأمة، نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط، هي:

 

بلية الأمراض النفسية والانحطاط الـمناقبي، وقيام الـمصالح الـخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتـحجر الـمجتمع السـوري في قوالب الـحـزبيـات الدينيـة الـمختلفة، فتفشّت في الـمتحد الاجتماعي الـمثالب الأخلاقية، وحلّت محل الـمناقب، فطغت نفسية الرياء والغش والتزييف والنفاق، يساعدها على الانتشار الـجهل والفقر والذل التي تعرّض لها الشعب في سقوطه من سيادته وعزِّه.[35]

 

وللإستفاضة في وصف واقعنا الإجتماعي الفسيفسائي، لا بد لنا من أن نستعير وصفاً لحليم بركات الذي حلَّلَ بنْيَة "المجتمع العربي" الهزيل معتبراً أن هذا المجتمع، المسمى بالعالم العربي والمكوّن من مجتمعات متنوعة، يمرُّ في مرحلة إنتقالية طال أمدها ويختبر تناقضات وصراعات تاريخية حادة بين مختلف أنواع القوى المتضادة ومنها قوى الماضي وقوى المستقبل، قوى التغيير وقوى المحافظة، قوى التحرير وقوى التبعية، وقوى الوحدة وقوى التجزئة القومية.. ومختلف هذه القوى ليست منفصلة بعضها عن بعض وعن القوى العالمية بل متصلة بعضها ببعض اتصالاً عضوياً.[36] ويعتبر د بركات إن هذا المجتمع يعيش "في تأزم دائم فيشهد صراعاً مريراً تتجاذبه قوى الوعي التقليدي وقوى الوعي الحداثي، قوى المحافظة وقوى التقدم، قوى النزوع القومي وقوى النزوع الديني، قوى الوحدة وقوى التجزئة، قوى العلمنة وقوى الثيوقراطية الغيبية.."[37]

 

إن واقعنا الإجتماعي مأزوم بنظامه الأبوي وإنقساماته الاجتماعية ونزعاته الفئوية وبأزماته السياسية والاقتصادية والمالية المتفاقمة. هذا الواقع وما يتفشى فيه من حروب وتطرف ديني وسياسي وإرهاب ونزوح وفقر وبؤس وحرمان ومن قهر وظلم وإذلال وقمع وإقصاء سياسي وإجتماعي يبعث على الإحباط واليأس. إن إنساننا يعاني من شعور بالإستلاب والإغتراب عن ذاته وعن مجتمعه ويبدو كائناً عاجزاً عن تحقيق أحلامه وإمكاناته الإنسانية، كائناً مقهوراً ومغلوباً على أمره  ومحروماً من ممارسة حقوقه. هذا الإنسان المقهور يعيش على هامش الوجود قلقاً وحذراً على حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده ومأخوذاً بتأمين حاجاته الآنية "فتسيطر في حياته قيم مجرد المعيشة والاستمرار."[38]

 

إن شعبنا بأسره يعاني من الويلات والمآسي والتراجع والإنهزامات وغياب الديمقراطية والعدالة والمساواة.. ويعاني ايضاً من الظمأ والجوع والتخلف والأمية والتلوّث وانتشار الفساد والرأسمالية المتوحشة والتبعية وسلطوية الأنظمة القمعية وفقدان السيطرة على الموارد والمصير. فهو محاصر بكم هائل من مشاكل السياسة والبيئة والصحة والسكن والمياه والغذاء والتعليم والعمل والبيروقراطية والتهجير، وعاجز تجاه أوضاعه المأساوية، فاقد الثقة بنفسه ولا يمتلك إرادة التغير، ومنشغل عن قضايا حياته الأساسية بأمور المعيشة وتأمين مصالحه الخاصة والمحافظة على سلامته مفضلاً التراجع والطاعة والخضوع لسلطوية الأنظمة الأبوية السياسية والإجتماعية ومؤسساتها الخاضعة بدورها لنظام عالمي تقوده الولايات المتحدة الأميركانية التي تفرض مشيئتها على الدول بما يفيد مصالحها وتمنع تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي. لذلك ليس غريباً ان يتكون عند غالبية الشعب شعور بالإغتراب والضعف والإنسحاب من ميدان الفعل والمسؤولية وعدم المقدرة والعجز الكامل عن التأثير في الأحداث أو عن تقرير المصير وأن يزداد قبولها بالوضع الراهن وإنغماسها في الغيبيات وفي الفكر الخرافي معللةً هذا الإنغماس بالربط بين الخرافة والدين وبالتأكيد على دعم الدين لحقيقة الظواهر الخرافية بالإرتكاز إلى وجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السحر والحسد والجن والشياطين وغيرها من الظواهر. هذا الواقع المرير، المفروض علينا من الغرب الذي استعمرنا والذي يمتلك سجلاً حافلاً بالجرائم الإستعمارية متوجاً بدعم دولة الإغتصاب نهب ثرواتنا ومعه الصهيونية وعملاؤهم المحليون، اختصره الدكتور حليم بركات بكلمات كتبها منذ أكثر من ثلاثين عاماً لكنها تنطبق على واقعنا الحالي. إذ قال:

 

نحن في الوقت الحاضر أكثر احساساً بالمأساة، أي بعبوديتنا بعد الإستقلال، وبفقرنا في وسط الغنى الفاحش الذي تتمتع به القلة على حساب المجتمع والكثرة المعدمة، وبتخلفنا بعد سلسلة من الإنهزامات المريرة. هنا بداية الإنطلاقة، ولن ينفعنا الهرب ولا الخضوع ولا التمرد الفردي، ولا مجرد الإصلاح الجزئي ولا العودة إلى الماضي الذي لا يمكن العودة إليه أساساً.[39]

 

وفي الوقت الذي يواصل فيه العالم خطوات التفوق في ميادين التربية والتعليم والإقتصاد والإجتماع والإتصالات والتجديد التقني والتكنولوجي والأبحاث العلمية والفيزيائية والطبية والإستكشاف الفضائي وغيرها من مجالات المعرفة، ما زال العالم العربي في أواخر السُلّم للدول المنتجة للبحوث العلمية وما زلنا نضع العراقيل أمام مشاريع الحداثة والتنوير والتطوير ونبتعد عن بذل الجهود في اعتماد التخطيط السليم القائم على أساس المعرفة الواقعية لحالة المجتمع ونرفض الإنفتاح الفكري والأفكار النهضوية، لا بل نضّحي بها من أجل السلامة الشخصية أو تحقيق مصالح خصوصية أو من أجل الحفاظ على العادات والتقاليد المتنافرة المستمدة من أنظمتنا المذهبية والعشائرية.. وما زلنا نعيش في تجمعات تقليدية عشائرية وطائفية مُغلقة تمنع الإنفتاح الديمقراطي والتفاعل الطبيعي بين أبناء المجتمع الواحد وتُعرقل نشوء الإنتماء الوطني والشعور القومي وقيام المواطَنة الصحيحة. ما زال تفكيرنا، بشكل عام، وفي كثير من جوانبه وأبعاده، تفكيراً قبائلياَ – مذهبياً – رجعياً، تفكيراً سطحياً – هشٌّاً - أجوف، يعبّرُ عن حالات الإنقسامات والضياع والإتكالية والظلام والموت.. وما زلنا نقتتل على السماوات ونغرّد كالعصافير في أقفاصنا المُغلقة ونحتمي بمعتقلاتنا المذهبية والقبلية والأثنية ونسبح في عالم الغيب والتأمل والأحلام الطوباوية ونعيش في متاهات الخرافات والقوى الخفية والسحرية والشعوذة وقراءة الكف والتنجيم والأعاجيب المثيرة ونتخبط في القضايا الزائفة والمعتقدات الدينية والخطابات الأصولية والغيبية والشعارات الوهمية والتفكير الأولي السطحي، مفضّلين النزق على المنطق، والغرائز على لغة العقل والأقفاص بدل الأجواء الفسيحة.. وما زالت المسافة تتسع بيننا وبين العالم الغربي الصاعد نحو مزيد من الإرتقاء والفتوحات العلمية، بينما نحن، ولجملة من الأسباب من بينها عدم تقديرنا للعلم والعلماء والعقول المبدعة وعدم اعترافنا بقيمة أعمالهم، ندفع بهجرة الكفاءات العلمية والعقول المتفوقة إلى الغرب لتساهم بتقدمه الاقتصادي وبإنجازاته وإختراعاته في الطب والعلوم وفي كل المجالات ولتذوب في مجتمعاته وتنصهر فيها حيث يلاقون كل الدعم والإحترام والعيش الكريم وتتأمن لهم فرص البحث وإمكاناته والأجواء الملائمة للإنتاج والإبداع وتحقيق الذات.. وفي الوقت ذاته، نتراجع نحن في ميادين المعرفة والثقافة الرصينة والبحث العلمي والبناء والنمو والتطوير ونسير إلى الوراء، إلى مزيد من التخلف والتبعية والتراجع والإنحدار، عاجزينَ عن استيعاب أصحاب الكفاءات العلمية وتأمين البيئة الملائمة لهم وعاجزين عن مواجهة العقبات والتحديات التاريخية وعن السير في مشروع نهضة حقيقية، بنّاءة، تنبع من داخلنا، من صميم مجتمعنا وتعمل على تجديد معالم حياتنا.  إن كل التحديات الداخلية والخارجية التي نواجهها يجب أن تشكل حافزاً قوياً لنا لكي نستفيد من العلم ومناهجه ومن التفكير العلمي ومبادئه ولكي نعرف أنفسنا معرفة صحيحة ونستعيد مكانتنا في قافلة العمران والإرتقاء البشري ونكون مبدعين ومنتجين ومتفوقين لا مجرد مستهلكين لنتاج الغير.

 

 

  1. العوامل المساهمة بإنحطاطنا الحضاري:

 

إن ما نعاني منه من فوضى وبلبلة فكرية وجهل وضعف وضياع وانحطاط حضاري هو نتيجة للعوامل التالية:

 

أولاً، لما يُختزَن في عقولنا الباطنية من أوهام مهترئة ومعتقدات موروثة ومفاهيم مألوفة وأفكار محدودة وثقافات زائفة وبرمجة ذاتية تؤثر على تفكيرنا وإدراكنا وسلوكنا. وهناك إجماع عند علماء النفس أن للإعتقادات قوة تأثير كبيرة على سلوكنا. فهي الأساس الذي نبني عليه كل أفعالنا، وكما يقول الكاتب الأميركاني روبرت ديلتز في كتابه "الإعتقاد": "يمثل الإعتقاد أكبر إطار للسلوك، وعندما يكون الإعتقاد قوياً ستكون تصرفاتنا متماشية مع هذا الإعتقاد."[40] كما يعتبر أنطون سعاده "إن قيمة عقل الإنسان تظهر في مقدار تفكيره ونوعه.."[41] وتفكيرنا الآن ما زال تفكيراً سطحياً متمحوراً حول الماضي وقيمه. ما زلنا غارقين في قضايا الماضي ونعيش بعقلية القرون الوسطى وعقلية المجتمع البدوي التي تدفعنا للقوقعة والتعصّب والتحاسد والتناحر الضار والإقتتال، كما تدفعنا للتنازع الفئوي على حساب المجتمع وللتشبّث بآرائنا لأن كل فئة منا تحتكر منطق الحق المطلق إنطلاقاً من نظرتها القوقعية التعسفية فلا ترى إلا وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة. فنحن اليوم أقل تسامحاً وأكثر تعصباً لآرائنا ولمنطقنا "الصخري"[42] ولمعتقداتنا الصارمة، وقد تكون هذه المعتقدات باطلة، وإذا قال أحدنا للآخر "إنك مخطىء"، ظنَّ أننا نتهمه بالغباء وهو قد يصفعك على وجهك وإذا لم يفعل ذلك تأدباً أضمر لك حقداً لا ينساه حتى ينتقم منك. ينسى بعضهم أننا نحيا الآن في عصر جديد لا مكان فيه للبديهيات والحقائق والقيم المطلقة المستمدة من مفاهيم القداسة. وكما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل": " من مزايا هذا العصر الذي نعيش فيه  أن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها، وأخذ يحّل محلها سلطان النسبية. فما هو حق في نظرك قد يكون باطلاً في نظر غيرك، وما كان جميلاً أمس قد ينقلب قبيحاً عندك اليوم."[43] نحن اليوم في عصر العلم، والعلم في حالة تطور حثيث ولا يوجد فيه حتميات. فليس في العلم، كما يؤكد ديكارت، من حقيقة مطلقة.

 

وثانياً، لفقدان الثقة بنفوسنا وبمواهب شعبنا وإمكانياته والإستسلام للخنوع. إن النفسية العامة في الأمة هي نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وأوهام تُغذّيها طائفة من ذوي النفوس السقيمة المأجورة للإرادات الأجنبية[44]. هؤلاء الدجّالون ينشرون الخوف شمالاً ويميناً ويغذّون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة ويدْعون لإستجداء الإرادات الأجنبية والتسليم بمقرراتها وانتظار رحمتها والقبول بالحالة الراهنة لأننا، برأيهم، "قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شـيء ولا أمـل لنا بتحقيق مطـلـب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلّم بعجـزنا ونتـرك شخصيتنـا القوميـة تضمحـل من بيـن الأمـم، ونقنع بكل حالة نسير إليها."[45]

 

نحن "لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء."[46] إن لدينا القدرة على الخلق والإبداع ويمكن لعقلنا أن يخطط للنهوض والعز والكرامة، لكن المطلوب هو أن نعود إلى الإيمان بذاتنا وبنفسيتنا الجميلة وخصائصها.. علينا أن ننتصر على الخوف المعشعش في داخلنا وأن نثق بأصالتنا وبما يختزن فيها من خير وجمال وإبداع، ففي النفس السورية، كما يقول سعاده: "كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم"[47] إن عقلنا، يؤكد سعاده: "ليس أقلّ مقدرة وذكاء من اي دماغ في العالم. وهذا الدماغ السوري هو نفسه يعرف ويقدر أن يخطط للمجتمع السوري الخطط والقواعد التي يكون بها صلاحه وعزه."[48]

 

وثالثاً، لإهمالنا قواعد التخطيط الصحيح القائم على العلم واعتمادنا إما خططاً فوقية فاشلة تخدم مصالح المسؤول او الحاكم، وإما خططاً وهمية، هزيلة، خيالية، مشوّهة، سرابية، منفصلة عن الواقع ولا تأخذ بعين الإعتبار معرفة الحقائق الواقعية والتحديات وتحديد الوسائل والإمكانيات المتاحة وخطط التنفيذ وترتيب الأولويات. إنها خطط فاشلة لا تحقق تقدماً ولا تُحدث تغييرات في الواقع وتؤدي إلى تحسينه، بل هي تزيده سوءاً. وبغياب التخطيط الناجح، الذي يشكِّلُ العمود الفقري لأي عمل، واعتماد سياسة رد الفعل والإرتجال والخطط الوهمية والتخبط، نبتعد عن النجاح في مشاريعنا ومؤسساتنا ودولنا ولا نحصد إلا الفشل والتراجع والإحباط والشقاء.

 

ورابعاً، لغياب المؤسسات القومية الصالحة لتجديد حياة الأمة ولإيقاظ الوجدان القومي من نومه. فالمؤسسات الإجتماعية والتشكيلات السياسية القائمة في المجتمع هي مؤسسات الإقطاع والعشائر والعائلات والمذاهب الدينية وهي بمعظمها مؤسسات خصوصية تقليدية، إنتفاعية، تدّعي الوطنية والتقدمية ولكنها تعمل لمنافعها وغاياتها الخصوصية وتتضارب فيما بينها لتنتج سياسة العائلات والمذاهب وثقافة الحقد والفتنة والتعصب والإنقسامات الطائفية والتصادم الإجتماعي والأنانية العمياء. هذه المؤسسات اللاقومية المتنافرة والمتضاربة المصالح والأهداف لا تصلح لحاجات الأمة ولإيقاظ الحس الإجتماعي بين أبنائها ولا تأتي بالتربية القومية المولِّدة للتعاون الإجتماعي ولثقة الشعب بنفسه التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة التي تدفعه إلى حل قضاياه بنفسه وإلى تحسين حياته والسير إلى ما فيه صلاحه وفلاحه..

 

وخامساً، لإهمالنا الثقافة البانية للإنسان - الثقافة النهضوية، المنعشة، والفعّالة والعقلانية - وعدم إعطائها الأولوية في إهتماماتنا وسياساتنا. نحن، وللأسف، أصبحنا مجتمعاً راكداً يقتل الوقت بالضجر والملل، مجتمعاً مستسلماً لثقافات التعصّب والتقليد والشعوذة والتسليم بالقدر والإنسحاب والرضوخ والرضى والطاعة والميوعة واللامبالاة، والأنانية والإتكالية والتلذذ بالأحلام الطوباوية، ومتماهياً مع الثقافات الغربية (الآنية) المعادية لتاريخنا والمهتمة بالجوانب المادية على حساب النظرة المعنوية للإنسان والحياة. وهنا لا بد لنا من الإستشهاد بالمؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق الذي اعتبر ان ما حلّ بنا "من هزائم ونكبات ما كان ليقع لولا الافتقار إلى الثقافة الحديثة"[49] المستندة إلى حرية الفكر والمعتقد وإنفلات العقل من قيوده. ودعا في كتابه "نحن والمستقبل"إلى "الإيمان بالعقل، العقل اليقظ المتطور الفاعل"، وإلى إقامة المجتمع العقلاني لأنه بدون العقلانية "لا يمكن لأي مجتمع ان يتقدم وحتى ان يوجد."[50]

 

نحن مجتمع مقصّر في حق العلم والكفاءات العلمية وفاقد للحيوية الفكرية ولوعي الذات والإمكانيات والتقدم نحو المستقبل وغبر مبالٍ بتنمية الثقافة الصحيحة، النافعة، البانية للإنسان، التي تحصّن المجتمع، وجعلها من أولويات إهتماماته.. إن مؤسساتنا العلمية ومناهج بحثنا وطرق إنتاجنا ونظمنا السياسية كلها متخلفة بالنسبة إلى مثيلاتها في المجتمعات المتقدمة القائمة على الديمقراطية والتصنيع وفصل الدين عن الدولة ونشر العلم والثقافة القومية والعلمية عبر مؤسسات خاصة بها. أين مؤتمراتنا ومنتدياتنا الثقافية وجمعياتنا العلمية؟ أين مؤسساتنا وصحافتنا الفكرية والثقافية والعلمية؟ وأين فعلها في توجيه الرأي العام توجيهاً علمياً وفي خلق التنوير العقلاني والتنمية الثقافية؟ أين الوسائل الإعلامية التي تسهم في تنمية التفكير العلمي وتهتم بمآثرنا العلمية وبما ظهر في ماضينا من نوابغ وعلماء وبتعزيز الثقافة العلمية التي بإمكانها ان تكون عاملاً أساسياً وفعّالاً من عوامل التحول الفكري والثقافي في حياة الأفراد والمجتمع؟ يُنتظر من وسائل الإعلام أن تبادر على نشر المباحث والآراء العلمية ذات القيمة الحقيقية وتبسيط حقائق العلوم على نطاق شعبي واسع وأن تبدي إهتماماً بتقديم برامج ذات توجه علمي تبرز النماذج والشخصيات العلمية وسيرة حياتها وإبداعها بنفس قدر الإهتمام الذي توليه لإبراز مسيرة حياة السياسيين والفنانيين وغيرهم.

 

 لقد أغرقنا تفكيرنا في الماضي وأهملنا عمليات الإبتكار في مجالات المعرفة والثقافة القومية المستنيرة وثوابتها، ثقافة الحرية والإنفتاح والخلق والإبداع، الرافضة للثقافة الفاسدة، المشوّهة، اللاإنسانية، ثقافة الجريمة والجنس والتعصب الطائفي والتمييز والسيطرة الأجنبية، والساعية لوحدة المجتمع ونهضته والمرتكزة على قواعد العلم والعقل وفصل الدين عن الدولة والحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية والقيم والأخلاق. بتنا مجتمعاً خاوياً وفاقداً لحس الاتجاه، ثقافاته "رجعية" ومتحجّرة ومستوردة جاهزة، وأكثريته لا تقرأ إلا ما هو متداول عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو ما يدعم معتقداتها الموروثة. ومن المعروف أن المعتقدات لا ترتبط دائماً بالحقائق الموضوعية وقد لا تستند إلى دلائل منطقية.. فهي قد تكون حقيقية أو زائفة، صحيحة أو خاطئة، وهي تُلّون تفكير الإنسان وتبعده عن جادة البحث الصحيح والحكم على الأمور بشكل محايد.

 

إن للثقافة دوراً هاماً في حياة الشعوب وارتقائها. فهي جهد إيجابي خلاّق وأساس حيوي للنهوض وغذاء للفكر والتاريخ ومحرّك لحيوية الأمة الإبداعية ونور يضيء ظلماتها وقوة تحصِّنُ المجتمع للصمود في وجه الهجمات الثقافية الآتية من الخارج او تلك الصاعدة من الداخل وتريد الإرتداد بالمجتمع إلى ما كان عليه في فترة من الزمان. والثقافة أداة لفهم مشكلات المجتمع وتحدياته، وأداة للتربية والإصلاح وتقويم الإعوجاج وتنمية المواهب وخدمة المجتمع وترقيته وترسيخ قيمه. فهي، معركة دائمة وطريقها لا نهاية له، وكما يقول الدكتور ربيع الدبس، هي "مشروع حياة حضارية."[51]

 

وغاية الثقافة، كإنتاج عقلي راق، هي الكشف عن الحقائق والإرتقاء بالفكر والمجتمع وصولاً إلى حياة أفضل وأجمل. وبكلام آخر، إن غاية الثقافة السامية هي تجويد الحياة والوصول إلى أساليب وأنظمة سامية نعيش بها. وغاية الثقافة القومية، تحديداً، هي تحقيق يقظة الشعب ونهضته الشاملة وترسيخ فكرة المواطنة والولاء للمجتمع وتعزيز قيم الإخاء والتسامح والتعاون والتكافل وصولاً إلى حياة أجمل وإلى عالم عنوانه الحرية والسلام والجمال والإبداع. ولا نخطىء القول أنه لو تحققت يقظتنا القومية، لكان لأمتنا دور عظيم في إنهاض العالم العربي وفي إعداده أدبياً وثقافياً وعلمياً.

 

والخطوة الأولى للثقافة هي الرغبة في اكتساب المعرفة الصحيحة التي تؤدي إلى الفهم والحكمة والهداية وإلى تكوين العقل الإرادي، المثقف، والمبدع. والمعرفة نكتسبها من القراءة، والإطلاع الواسع على مبادىء العلم والفلسفة والفنون، والتعمق الدقيق في علم من العلوم ومتابعة تطوراته، ومن كل مصدر ممكن، وهي تبدأ بإعمال العقل وإستغلاله وبالإطلاع والبحث والإجتهاد واعتماد التفكير الموضوعي المجرّد والمنظّم في استكشاف الحقيقة والتدرج في إجلائها بإعتماد الشك والتدقيق والنقد والتحليل والتعليل والإستنباط والإستنتاج والمرونة الذهنية والإختراع والإبتكار. إن الثقافة، بكونها إلماماً بنواحٍ مختلفة من المعارف، لا تحصل بالقراءة المسلّية و"الناعسة (اللاواعية)"، بل بالقراءة "المفكرة الواعية"[52] وبالجهد النفسي والفكري والمتابعة والتوغل في مجاهل الفكر والعلوم. ولا تحصل بتجميع المعلومات المتفرقة على أهميتها، بل بطريقة إدخال هذه المعلومات إلى أذهاننا وبكيفية تعاملنا معها واستفادتنا منها. وهذا يعني تشغيل العقل واستخدامه بكفاءة باعتماد التأمل والتساؤل والترجيح والتفكير العقلاني المنطقي والإبداعي والنقدي وتنقية الأفكار والمعلومات وتحليلها واختيار أصلحها.

 

ونكتسب المعرفة من خلال النشاط الثقافي وإحياء المؤتمرات والندوات والمحاضرات الثقافية التي تبحث في ظواهر المجتمع ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بروح علمية وبتعمق في حقيقة الأشياء والتي تنزع إلى التحليل والإستنتاج والجهد في التفكير الإبداعي المستقل والمرتكز على العلم. يقول الدكتور محمد الجزار: "لقد استخدم واستغل الإنسان الغربي عقله أفضل استعمال وأحسن استغلال، بعد تحريره من قيوده وانطلاقه نحو البحث والتطوير، وظل العقل العربي كامناً ولاهياً في غيبيات، ويجادل في توافه الأمور، مستورداً جهد عقل الغربي بأغلى الأثمان، مبدداً ثرواته بأبخس الأسعار." [53]

 

سادساً، لإهمالنا القراءة والكتاب الثقافي- التنويري والفضول المعرفي وثقافة الحوار والإنفتاح والتواصل الفكري. والمجتمع الذي لا يقرأ ولا يتسلح بالثقافة المفيدة وبالمعارف العلمية - العقلانية، هو مجتمع هزيل، يفقد مناعته الروحية وتهبط فيه مستويات المهارات العقلية والطاقات الفكرية والوعي الثقافي وتنخفض لديه القدرة الإنتاجية والإبداعية وتنتشر فيه البطالة وضيق الأفق والسذاجة وتفاهة الإهتمامات. وهو مجتمع جاهل، غير واعٍ لذاته وإمكانياته، وعاجز عن التحرّر والتطور ولا يمتلك إرادة التقدم والنظر إلى المستقبل بأمل وطموح.

 

لقد أصبحنا مجتمعاً كسولاً، لا يدرك أهمية القراءة وفوائدها الكبرى لحياة المجتمع ودورها المؤثر في فكر الإنسان وحياته ومعتقداته وسلوكه وفي صقل شخصيته وتكوين عقله ونموه. وعن علاقة القراءة بالفكر، يقول عميد الأدب العربي د. طه حسين وهو المعلم والأديب المفكر المؤمن بأهمية الفكر العقلاني العلمي المستنير: "وما نعرف شيئاً يحقق للإنسان تفكيره وتعبيره ومدنيته، كالقراءة، فهي تصور التفكير على أنه أصل لكل ما يقرأ، وعلى أنه غاية لكل ما يقرأ. فالكاتب يفكر قبل أن يكتب، وأثناء كتابته؛ والقارىء يفكر فيما يقرأ أثناء قراءته، وبعد أن يقرأ."[54] أما عن فوائد القراءة، فهي "ترقي العقل، وتنقي الطبع، وتصفي الذوق."[55] فالفرد الذي يقرأ ينمّي مهاراته الشخصية لحل مشاكل حياته وتحسين عمله، فيلقى من التقدير ما يفتح له أبواب النجاح. أما "الفرد الذي لا يقرأ"، يقول الدكتور السيّد أبو النجا، فهو "يوقف التيار الفكري الذي يربطه بالعالم، ويحكم على نفسه بالعزلة، وعلى عقله بالجمود، وعلى ملكاته بالتحجر."[56]

 

إن القراءة المقرونة بالتفكير هي السبيل إلى تنمية الذهن وتوسيع الفهم والإدراك وتكوين العقل السليم والإرتقاء به، وهي باب الولوج إلى العلم والمعرفة والثقافة الحقيقية وإلى متابعة تيارات الفكر والإبداع واكتشاف مواهبنا ونفسيتنا الجميلة وعظمتها... والقراءة، في نظر سعاده، تقودنا إلى "معرفة الحياة الجميلة من الحياة القبيحة"، وترشدنا إلى "طريق الخير وطريق العز."[57] وكما قال في كلمة له في مدرسة الناشئة الوطنية عام 1948: "إن القراءة والكتابة هما واسطة للوصول إلى الخير والعز والحياة الجيدة الحسنة."[58]

 

والقراءة مَعين لا ينضب للثقافة ووسيلة نافعة للإكتشاف والتعلم والتقدم. فهي تزيدنا خبرة ومعرفة وتعطينا فرصاً للتلاقي والتواصل ولإستكشاف مجالات الحياة وحقائقها وحضارات الأمم وتجاربها وللإطلاع على شتى المعارف والعلوم.. وكم من العلوم والفلسفات نشأت وتطورت نتيجة للإحتكاك الفكري بين الأمم.. والقراءة تحلّق بنا إلى آفاق بعيدة متخطية حواجز الزمن والجغرافيا لتأخذنا إلى أحداث الماضى وتجاربه ومآسي العصور الغابرة ولتقدم لنا عظماء التاريخ وأبطاله ولتجمعنا مع الناس من كل الأمم والأجناس والعصور.

 

ولكن يجب الإعتراف أن أجيالنا الحاضرة تبتعد عن الكتاب وممارسة القراءة وتصرف معظم أوقاتها مع الأصدقاء أو أمام الوسائل الإعلامية المختلفة أو في أمور هامشية وثانوية أو حتى لهواً بالألعاب الإلكترونية وإنغماساً في المخدرات والإنحرافات وإشباع الشهوات. وبسبب ما نواجهه من حروب ومآسيَ وأزمات حياتية ولّدت أمراضاً نفسية ومشاكل إجتماعية عديدة وأدت إلى انحطاط في أصول التربية والأخلاق وإلى تخريب أدمغة أجيالنا وتسميم نفوسها "بسموم القضايا الرجعية وروحية الاستسلام للاستعمار"[59]، بات مجتمعنا يهمل الثقافة الجادة بكل أشكالها ولا يعتبرها من أولوياته. لذلك، من الواجب على الأهل تشجيع عادة القراءة عند الأطفال والأحداث وتنمية شغفهم بالمعرفة والإستئناس بها ومساعدتهم على اختيار الكتاب الملائم والمفيد وحثهم على الإكتشاف والملاحظة والمطالعة في أوقات الفراغ لأن الكتاب هو وعاء المعرفة ومصدر رئيسي للثقافة وللتثقف الجيد والتهذيب وهو لسان ناطق بصمته وخير جليس، كما يقول المتنبي، وصديق مفيد ووفيّ للإنسان ومعلم صبور له إذ يعطيه من علمه ويمنحه قيمة حقيقية.. ويؤكد علماء التربية ان ما نقرأه ونسمعه ونختبره في الصغر يُشكّل التكوين الأولي لثقافتنا وعقولنا. بأية حال، إن صداقة الكتاب تدوم ولا ترهق وعطاؤها يتجدّد زاداً ومعرفة وخبرة وحكمة وأخلاقاً وقيماً وإلهاماً.

 

ومن الواجب على المؤسسات التعليمية توسيع مدارك الطلاب والإهتمام بصحة عقولهم ونظافتها وتطهيرها من أدران الغشاوات ومركبات النقص والخوف والقلق وإطلاق طاقاتهم العقلية بما فيها قوى التصور والتركيز والملاحظة والإصغاء والإدراك والفهم والحكم وتنميتها وتمرينهم على كيفية استخدامها بكيفية عملية وتحفيزهم على البحث والإستقصاء وإيجاد المعلومات والنقد وتوجيههم لقراءة كتب المبدعين والمتعمقين في تخصصاتهم والكتب الغنية بالمصادر والمراجع والدراسات التحليلية والنقدية لها وحثهم على التأمل والتفكير الموضوعي والنقدي في معنى ما يقرؤونه وفي مغزاه. وهذا يعني تدريب الطلاب على استخلاص العبر والدلالات والقوانين الكلية من المعارف المتفرقة والمعلومات الجزئية التي يطلعون عليها.

 

 

  1. من حالة اللارشد إلى الأخذ بأسباب العلم:

 

اعتبر مؤسس "المذهب النقدي" الفيلسوف الإلماني إيمانويل كانط (1724-1804)[60] ان "التنوير هو هجرة الإنسان من اللارشد، الذي هو عجز الإنسان عن الإستفادة من عقله دون معونة من الآخرين."[61] ويكمن سبب اللارشد، حسب كانط، في "الإنسان ذاته، إذا لم يكن سببَه نقصٌ في العقل، وإنما نقص في التصميم والجرأة على إعمال العقل.. فالكسل والجبن هما السببان في بقاء معظم البشر في حالة اللارشد طوال حياتهم، مع ان الطبيعة قد حررتهم من الاعتماد على الآخرين."[62] والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سنبقى في حالة اللارشد والتردي الثقافي مكبّلين بأغلال التقاليد البالية وقيود الخوف والخمول والتخلف؟ إلى متى سنبقى مقصّرين عن البحث والإستطلاع ومعرفة المجهول والتحليل وإعمال العقل واعتماد منهج التفكير العلمي والمنطقي المنتج والأخذ بأسباب العلم ومناهجه؟ ألا ندرك أهمية المعرفة كظاهرة إجتماعية - إنسانية ودورها في إحراز التقدم الإنساني؟ ألا ندرك أهمية العلم وفضائله في حياة الشعوب وتقدمها؟ ألا ندرك أنه بالعلم ترتقي الشعوب إلى أعلى القمم، وبدونه تهبط إلى أسفل القعور؟ إن ثقافة العلم هي ثقافة التقدم إلى الأمام، ثقافة نهمة مولعة بالمعرفة والإستزادة منها. إنها ثقافة الإكتناز المعرفي والثورة المستمرة لإستيعاب الوقائع والسيطرة عليها والإقتراب من الصدق/ الحقيقة والقدرة على التنبؤ بصورة أدق. إنها نقيض الركود والإكتفاء الذاتي أو ثقافة الحقيقة المطلقة التي تقتل الفضول المعرفي وتعتمد التفكير الإختزالي. وثقافة العلم هي ثقافة المعرفة البناءة المتطورة الخلاّقة، ثقافة التغيير والتطوير، تغيير المجتمع والعالم عن وعي وإرادة وتصميم، وليس مجرد فهم هذا العالم أو تأمله. لذلك فهي ثقافة قوة الإنسان والإيمان بنفسه وبقدرته على البحث والإبتكار والتحدي والتغيير وبناء المستقبل. وهي بالتالي ثقافة الإيمان بقيمة الإنسانية وجمالها.

 

إن تقدم الدول مرهون بقوتها العلمية والتكنولوجية وإنتاجها العلمي والثقافي وبإهتمامها بحرية الفكر والتعليم وبناء الطاقات البشرية والعلمية القادرة على إحداث تغيير في المجتمع وتنمية المؤسسات والصناعات الثقافية المتحكمة في إنتاج الثقافة ونشرها. يقول سعاده: "العلم بلا غاية شبيه بالجهل. وغاية العلم هي جعل الحياة جميلة مجيدة حلوة."[63] ويقول ايضاً: "العلم هو الحق"[64] و"العلم قوة والمعرفة سلاح وعدة."[65] ويضيف: "لم تبرز أمة إلى عالم الوجود بعد أن كانت في عالم الغيب إلا بما كان لها من تنبه فكري امتلأت به جرائدها ومجلاتها وكتبها."[66] فهل نسعى إلى استغلال العلم وفوائد المعرفة لتحسين حياتنا ولصياغة مستقبل مُشِع لأجيالنا القادمة؟

 

إن ما نصبو إليه هو ان ننقض واقعنا الراهن وننهض بأمتنا من قبر التاريخ.. وهذا لا يكون، في رأينا، إلا بمشروع نهضة حقيقية تشق طريق الوحدة بإيقاظ الروح القومية التي تحرّر النفوس من عبودية الإستسلام للحال الراهنة والخضوع لحوادث التاريخ. وهذه الروح تولِّدها إرادة قومية واحدة تنقذ حيوية الأمة من فوضى التجزئة والضعف وتقيم في المجتمع "نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية"[67] وتوحّد قوى الأمة وإمكانياتها وعقولها ومواهبها المخزونة وتجعل منها قوة فاعلة قادرة على تحقيق ما تريد. فهل سيتحقق ما نصبو إليه وتنتصر هذه الروح القومية؟ هل ستبادر حكوماتنا بتلبية احتياجات العلماء والباحثين وتوفير مطالبهم المادية وتزويدهم بكل ما يلزمهم للبحث، بحيث تصبح عقولهم مكرّسة للتفكير في المشاكل العلمية وحدها فلا يشغلهم شيء سوى بحثهم وراء الحقيقة؟ إن "التاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع."[68]

 

 

  1. إصلاح حياتنا:

 

لا بد لنا من إصلاح حياتنا القومية وتنقيتها "من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فتعود الصحة والنشاط إلينا ويصبح في إمكاننا بذل الجهود الصادقة لتحقيق مطلبنا الأعلى."[69]  وإصلاح حياتنا يبدأ:

 

أولاً، بإيقاظ عقولنا والإعتناء بها وإرشادها وتشريبها منهج التفكير العلمي وتغذيتها بالحقائق والمعرفة الصحيحة لتعود إلى الإبداع والإبتكار. ولكن الإبداع والابتكار لا يتولدان في العبودية، بل في الحرية. من هنا اعتبار سعاده "إنّ "الحقيقة والمعرفة الصحيحة تظهران بالبحث الحرّ لا باضطهاد حرية الفكر."[70]

 

ثانياً، ببناء المجتمع المحصّن وقيامِ الدولة القادرة - الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الجديدة الصالحة والمحرِّكة لطاقات الإنتاج. ففي ظلال الدولة الحديثة الضامنة لحرية الشعب وحقوقه والساهرة على رعاية مصالحه وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم، يتحوّل الشعب بكل أجياله إلى قوة فاعلة ترتقي بالحياة إلى أعلى ما تتوق إليه النفوس من منعة وخير وبحبوحة وأمان ويكون لها القول الفصل في كل القضايا التي تخص الأمة وجوداً ونهوضاً وتقدماً وإرتقاء.

 

إذن، من مصلحتنا الأكيدة ان نعيد النظر في الكثير من أحوالنا الإجتماعية وان نبادرَ إلى إصلاح مجتمعنا وتحصينه بالوعي القومي الصحيح الذي يؤسس لوحدة المجتمع وبعث فضائله النبيلة وتنمية روح التعاون بين أبنائه واستنهاض القوة الكامنة في نفوسهم. وفي هذا المجال، لا بد لنا من بناء النفوس بناءً جديداً والعمل لتكوين العقل الجماعي الذي يعي هويته القومية الحضارية ويعتّزُ بها ويرى مصلحته في العمل لإزالة الموانع والحواجز التي تعرقل دورة الحياة الاجتماعية - الاقتصادية الواحدة في الميدان القومي الذي جزأه المستعمر إلى كيانات هزيلة وهويات عرقية ومذهبية، ولترسيخ ثقافة الوحدة والتلاحم والدفاع عن الهوية الثقافية-المجتمعية وتحصينها.

 

إن بناء العقل القومي المتجه بتفكيره نحو الأمة وقضيتها الصحيحة يستوجب التخلي عن التفكير السطحي - الرجعي والاتجاهات الفكرية المتمسكة بواقع الحال والإعتناء بالتخطيط الثقافي الهادف لتأهيل المجتمع وتحصينه بتعزيز ثقافة المعرفة والعمل والإنتاج والاجتهاد والتفاني في أداء الواجب وبنشر الوعي القومي الذي يضيء طريق الشعب باتجاه المستقبل وينبّهه إلى وحدة حياته ومصيره ويكشف له تراثه الحضاري الغني بالمآثر الثقافية وبالعلم والفن والإبداع. إن الوعي القومي لا ينقذنا من تخبطنا وتشرذمنا فحسب، بل يمَكِّننا من تعزيز الولاء الوطني وبناء المجتمع المتماسك القادر على التجديد والإبتكار والتفوق في معترك الأمم والسير نحو مقاصده السامية. وكما يقول سعاده:

 

الوعي القومي الذي يوضح حقيقة المجتمع وينقذه من تخبطاته هو شرط أولي للإبتداء بالعمل الأولي للتقدم والفلاح، لذلك نحن نفضّل أن نبدأ بهذه الطريقة بوعي قومي اجتماعي صحيح يقضي على جميع المشاكل الروحية والنفسية في المجتمع لإيجاد مجتمع واحد له أهداف واحدة.[71]

 

وثالثاً، بإعتمادنا على التخطيط القومي الشامل للتقدم في كافة نواحي الحياة في المجتمع بأسره والمتلائم مع حقيقة أوضاعه القائمة. إن نجاح أي تخطيط يتطلب قبل كل شيء الإستعانة بالكفاءات الحقيقية العالية المتخصّصة والمتميّزة بعلمها وخبرتها العملية وإخلاصها ومعرفتها بالواقع. ولكي يكون التخطيط ناجحاً، يتطلب ان لا يكون إنتاجاً فردياً أو من صناعة أفراد، بل يجب ان يكون عملاً جماعياً تعاونياً تكافلياً يشارك به الجميع بحرية وديمقراطية ويعكس طموحات الجماعة او المؤسسة او الشعب. ونجاح التخطيط يستوجب أن تكون عملية التخطيط هادفة وقائمة على أسس واحتمالات واقعية وموضوعية وخاضعة للمتابعة والتقييم المستمر بهدف تصحيح الإنحرافات فيها وإجراء التعديلات اللازمة. لذلك يجب وضع الخطة الإستراتيجية الواضحة المراحل والإجراءات والأهداف المستقبلية والمحدِّدة للصعوبات والتحديات والأولويات والبدائل والمعيّنة القواعد والمبادىء والوسائل الصحيحة والموارد المادية والبشرية وخطط التنفيذ والتوقيت ومؤشرات الأداء.

 

ورابعاً، بتبني التفكير العملي-العلمي-المنطقي والإعتماد على البحث العلمي والميداني الموضوعي الذي يؤدي بنا لتغيير هذا الواقع الموروث وبناء مجتمع معرفي ينبثق عنه اقتصاد معرفي مبني على الإبتكار والإبداع. وسنتوسع في هذا الموضوع في قسم مستقل.

 

خامساً، بالإنطلاق من رؤية إنسانية مستقبلية محددة المعالم. وهذه الرؤية يجب ان تتميز بما يلي:

 

  • بأن تكون رؤية واقعية تشخيصية موجّهة، على عكس الرؤية الضبابية، الظلامية - الجامدة، التي تعبّر عن التخلف والفكر المغلق والتي ترى ان الحل إنما يتمثل في الرجوع إلى الماضي، إلى الخلف، والوقوف على الأطلال. الرؤية الواقعية هي رؤية إنمائية إستشرافية واضحة، خالية من غياهب الأوهام والأحلام السحرية وقائمة على الوضوح والفكر التجديدي البَنّاء والمتحرر.
  •  
  • بأن تكون رؤية حضارية طموحة تتلاءم مع قيمنا الإنسانية وتعكسُ سمو نفسيتنا الجميلة وتعبِّرُ عن طموحاتنا وآمالنا السامية في الحياة وتدفع بنا نحو التركيز على المستقبل... أي إنها رؤية إنمائية تّواقة لحياة مستقبلية راقية ولعالم إنساني جديد فيه كل أسباب التقدم والعدل والأمان والحرية والخير والرفاهية والجمال.

 

سادساً، بإعتمادنا على التربية القومية الصحيحة الخالية من المبادىء العنصرية والطائفية، والقائمة على الحقائق والعلم الصحيح وعلى"المبادىء الشعبية الصحيحة التي تقوي في أجيالنا روح احترام النفس والثقة بالنفس"، وتنمّي في نفوسهم "الروح السليمة والمدارك العقلية العالية."[72] وهذا ما سنفصِّله في قسم مستقل.

 

 

  1. التفكير العملي- العلمي

 

أن التفكير العملي- العلمي المجموعي الجاد هو نقيض التفكير السحري- الخرافي الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه. إنه تفكير تخطيطي منظّم، واضح، ومرن، يتبنى البحوث والإختبارات العلمية والعمل بالخطط المستمرة وغايته تعزيز العلم والمعرفة وتوظيفهما في خدمة المجتمع وترقيته وفي تحقيق الخير للمجموع. وكما يقول سعاده: "هذا النوع من التفكير هو الوحيد الذي يرجى من ورائه عمل نظامي يؤدي إلى تحقيق الغايات التي يحوم حولها."[73] لذلك، من الضروري أن نقوم بالدراسات والأبحاث المتنوعة وان نجعل "قضية الثقافة في مقدمة القضايا التي يجب أن نوليها اهتماماً خاصاً، وأن نخطط لها الخطط ونرتب الصفوف."[74]

 

لذا يجب التغيير الجذري في نظرة المجتمع وسلطاته إلى العلم والعلماء، وإلى مكانة البحث العلمي. وهذا يستوجب الإنفاق على التعليم العالي والبحوث النظرية والعلمية والتطبيقية وتطوير البنية التحتية المعرفية والإهتمام في تشجيع الصناعات الإبتكارية والإبداعية وفي إنشاء مراكز ومؤسسات علمية – بحثية - تطبيقية ومعاهد مُتخصِّصة ومتنوعة في اهتماماتها ومنتجة للمعرفة والعلوم والتكنولوجيا وتحسين فعالية هذه المؤسسات والمعاهد بتمويلها وتوفير مقومات العمل فيها وتحفيز القدرات البحثية للباحثين وأصحاب الكفايات العلمية والمنتجين واستخدام نتائج البحوث في قطاعات الأعمال والإنتاج "لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتحقيق مطالب عليا."[75] إنه عصر عمل وجدٍّ ونشاط.. عصر إنتاج وابتكار وإبداع وعصر نهضة مجدّدة قادرة ان تحقق المعجزات العلمية. فإذا تخلفنا عن التخطيط الصحيح وعن العمل والإنتاج فكراً وصناعة وغلالاً، لم نتمكن من إنقاذ أمتنا من التبعية والإنحلال. فنحن أمام قضية مصير، هي قضية وجودنا: فإما أن نكون أو لا نكون. لذلك يجب ان نرفض الكسل والإتكالية والتنظير الفارغ ونبدأ بالعمل بكل همة وإخلاص مبتدئين بتكثيف الدراسات المتعلقة بسياسات العلم والتكنولوجيا والتنمية الإنسانية الشاملة وبدعم وتشجيع العاملين في هذا المجال وتيسير أمورهم وتعزيز الإمكانات المطلوبة. كما يجب السعي لتحويل مجتمعنا في بيئته المعرفية العامة وفي ذهنيته العلمية ليصير مجتمع المعرفة لأن المعرفة تزيده قوة وتقدماً وتمكِّنه من بلوغ غاياته العليا. ولكي نتحول إلى مجتمع المعرفة في جميع مظاهر حياتنا وإنتاجنا، لا بد من أن تكون لدينا الرغبة الصادقة في مواكبة التقدم العلمي وفي تبني العلم والبحث العلمي و"التخطيط لسياسات إجتماعية ولتنشئة علمية في المناهج التربوية."[76] وهنا يجب الإشارة إلى أنه لا يكفي ان نعتمد على منجزات الغرب فننقل سلعه التكنولوجية وموادها فتستفيد منها قطاعات ضيقة ومحددة وهكذا نبقى في موقع الإستهلاك لمنتجات الغرب، بل يجب ان نعمل لتوطين التكنولوجيا المستوردة، كما يشير الدكتور عاطف عطيه، "واستيعابها في شرايين النسيج المجتمعي لتصبح من دواخل ذهنياتنا ومن عناصر عقولنا ومن مبادىء ممارساتنا في شتى أمور حياتنا."[77] وهذا يستوجب تبني مناهج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي وخلق تقاليد علمية في البحث النظري والتقني "ليصير العلم والذهنية العلمية والمعرفية من سمات المجتمع ومن أوصافه"، وليتحول كامل المجتمع إلى مجتمع المعرفة الكفيلة بإنتاج العلم والتكنولوجيا وبتحقيق ما نطمح إليه.

 

إنه من الضروري الإهتمام بقضايا العلم والمعرفة وتحفيز التفكير العقلاني. إن ما توصلت إليه الإنسانية من تقدم مذهل في جميع المجالات هو نتيجة الإنفتاح العقلي والتفكير العلمي والبحث العميق وإجراء التجارب والاختبارات. إن الأمم المتقدمة لا تشيد صروحها الحضارية عن طريق التخويف وفرض القيود، إنما عن طريق التحفيز وتشجيع الروح العلمية والإهتمام بالعلم والمعرفة وجعل جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية منارات إصلاحية ومنصات صالحة لمناقشة مشكلاتنا. إن الأمم الطامحة للسير على طريق التقدم والرقي لا بد لها من  توظيف العلم والمعرفة وتشجيع التجارب والأبحاث واعتماد أفضل الطرق في التعليم والتربية والتدريب. ونحن لا يمكننا أن نواكب هذا العصر بإنجازاته واختراعاته والإمساك بتلابيبه ما لم نعمل على تأمين مناخ علمي في مجتمعاتنا. فالعلم هو خلاصنا وسبيلنا إلى النصر في معركة البقاء. فالمطلوب أن نعتمد العلم ومناهجه المنضبطة وبأن نقيم المراكز العلمية البحثية التي تُجري التجارب المتنوعة وتعتمد البحث المنهجي المنظّم والقواعد المنهجية والتحديدات والمناهج الكمية وتقوم بتجميع المعارف بطريقة منظمة توخياً لفهم بيئتنا بأوسع معانيها ولفهم الظواهر وتعليلها ولإكتشاف القوانين او المبادىء العامة الكامنة من وراء هذه الظواهر والوصول إلى اليقين العلمي بواسطة الإستنباط العقلي المبني على أدلة منطقية مقنعة للعقل. فالعقل هو الذي يقود الإنسان في كل تصرفاته وفي جميع مجالات حياته وهو الذي يدفعه للعمل والسعي لتحقيق مطالبه في الحياة ليحيا بعز وكرامة وحرية وإبداع. إن تقدم الأمم ورفاهيتها هما نتيجة العوامل التالية:

 

1- العامل الأول هو نتيجة عقول أبنائها وأبحاثهم ودراساتهم واختراعاتهم العلمية وأفكارهم الإبداعية المتجلية إنتاجاً في كل فروع المعرفة. وما المعرفة إلا محرك التقدم. إن العقل المجتمعي هو قوة الأمة الحقيقية وهو طريقها إلى التقدم والفلاح. يقول الدكتور محمد عبد الرازق منّاع في كتابه "العقل والإختراع":

 

إنني اعتبر التقدم الذي نشهده اليوم من نتائج العقل بصرف النظر عن جنسيته وموطنه مع الأخذ بعين الإعتبار أن ثمة عقلاً أتيح له أن يصقل فكان منتجاً معطاء، وعقلاً آخر فرضت عليه الظروف ان يعلوه الصدأ فأمسى خاملاً خمولاً ترتب عليه العقم.[78]  

 

2- هو نتيجة مناخ علمي ملائم يحترم العلم ويعطيه مكانته المرموقة في المجتمع. "إذ بدون مناخ علمي يغمر المجتمع ويتخلله"، يقول الكاتب الخبير في مناهج العلوم، زهير الكرمي، "لا يمكن لعالم أن يبدع أو يصل إلى المستوى العالمي.."[79] ويضيف:

 

المناخ العلمي في المجتمع يحتم وجود انسجام وتوافق وتبادل إيجابي بين العالم ومجتمعه. وهذا لن يتأتى اذا شعر العالِم أنه غريب، فكرياً على الأقل، وسط مجتمعه. وحتى يكون هناك مناخ علمي في مجتمعاتنا يتحتم أن تكون للعلم مكانته المرموقة في نفوس الناس، ويجب أن يحس كل فرد في المجتمع، وعلى جميع درجات المسؤولية، بأهمية العلم وخطره، وأن يكون هناك استعداد نفسي وفعلي لتقبل نتاج البحث العلمي وتأثيراته في حياة الناس من جميع وجوهها.[80]  

 

3- هو نتيجة مناخ حر يُقدّر العلم تقديراً صحيحاً ويترك له حريته واستقلاله. فالعلم يجب أن لا يخضع لأية مؤثرات سياسية أو خارجية، بل يجب ان يرتكز على أساس الإستقلال الفكري. وكما يقول الدكتور علي مصطفى مشرفة، إن "كلُّ تقدُّم في العلم أساسُه استقلالُ الفكر وابتعادُ الباحث عن كل مؤثِّر خارجي وحَصرُه الجهدَ في طلب الحقيقة، وبعبارة أخرى: إن الإستقلال جزء من طبيعة العلم يقتضيه ناموس تطوره، به يحيا وبغيره يضمحل ويموت."[81] 

 

4- نتيجة الإعتماد على العقول المبدعة. إذ لا يمكن إحداث نهضة تجديدية أو تنوير بدون العقل. فالعقل هو الأساس ومفتاح القضية التنويرية، وكما يقول د. عاطف العراقي، "إن العقل يمثل التقدم، يمثل القوة الخلاقة المبدعة، وهل يمكن الحديث عن التنوير سواء في أوروبا أو في عالمنا العربي المعاصر، دون القول بالركيزة الكبرى والأساس القوي البنيان لهذا التنوير، وهو العقل، العقل وحده؟"[82]

 

إن الدول الغربية تعتمد الآن بنوك العقول الإلكترونية ومراكز الأبحاث في جميع مجالات الحياة. وهذه المراكز تقوم بالدراسات والبحوث العلمية والتطويرية والميدانية وتضع التصورات للمستقبل وتقدّم الخدمات الإستشارية للحكومات والمؤسسات ورجال الأعمال وتساهم بترقية المعارف وزيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي واحراز المزيد من التقدم.. أما شعبنا فما زال يتلهى في عالم الخرافة والأشباح والأوهام والمعتقدات الخاطئة وفي قضايا دينية وغيبية ويرتع في كهوف من الجهل المُطبِق والتخلف العقلي والجمود الفكري والتحجر العقائدي والركود الثقافي، كهوف يسيطر عليها المنافقون المراؤون والنفعيون والإقطاعيون  والرجعيون الجهلاء والسفهاء، ذوو العقول المتحجّرة معارضو التحديث والتجديد. إن دولة العدو تمدّدت وحققت تفوقها العسكري والصناعي والتكنولوجي والنووي وتسعى لأن تكون امبراطورية لها ثقلها ونفوذها في العالم العربي المجزأ بفضل إرادتها السياسية لتخصيص الإنفاق اللازم ولتوجيه الموارد إلى بناء مراكز أبحاث ومعلومات ولحماية الطاقات والأدمغة بدلاً من قتلها أو تهجيرها، لا بل هي تسعى لجلب العلماء اليهود من أقاصي المعمورة لتسخير مواهبهم في خدمة مشروعها. فهل من الصعب علينا ان نسير في الإتجاه السليم وأن نهتم بقضية العلم ونوليها إهتماماً أكبر؟ إن الأمم المتحضرة وصلت إلى ما هي عليه من المدنية والحياة الحديثة نتيجة اهتمامها بالعلوم. واليوم نجد أن أمم العالم بأسره تتسابق للأخذ بنتائج العلوم ولإستخدام الوسائل العلمية لإصلاح أمورها الداخلية وتحقيق ازدهارها. إن ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المصممة التي تدفعنا إلى التخطيط الثقافي والعمل المنظّم والإجماع على مشروع نهضوي بناء يوّحد اتجاهنا في الحياة ويحرّر "أفكارنا من عقائد مهترئة وأوهام قعدت بنا عن طلب ما هو جدير بنا، كالوهم الذي يدعو إليه فريق من ذوي النفوس السقيمة والعقول العقيمة، وهو أننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شيء ولا أمل لنا بتحقيق مطلب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلِّم بعجزنا ونترك شخصيتنا القومية تضمحل من بين الأمم ونقنع بكل حالة نصير إليها."[83]

 

إن تحقيق الطموحات الكبيرة يكون بالثقة بالنفس والشجاعة والتعاون والتآخي والتخطيط المنظّم والتصميم والإعداد والحكمة والإبداع والعلم النافع والبحث والتقصي والإلتزام والعمل الجاد والمثابرة، وليس بالفوضى والعجلة والإرتجال والجهل والخمول والمماطلة والخوف من المجهول وعدم الثبات في وجه المصاعب والإتكال على الصدف.

 

 

  1. التربية القومية

 

إن التربية القومية الصحيحة هي السبيل لإصلاح المجتمع وتأهيله وإطلاق طاقاته وتوجيهه لتحقيق أهدافه ومثله العليا. فبعض الدول، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، تمكنت من تحقيق تقدمها السريع بفضل تخطيطها واستثمارها في التربية القومية وإطلاق طاقاتها الإنسانية. اليابان، مثلاً، اقتبست التكنولوجيا الغربية واستوعبتها دون معوقات، فانجزت تقدماً سريعاً، بالرغم من عدم امتلاكها المواد الأولية. وها هي اليوم تنافس الغرب في الإبتكار والإبداع وفي الأسواق الإقتصادية. إن رهان اليابان كان على إنسانها الذي أهلتّه ليصبح خلاّقاً فأحسنت تأهيله. لذلك لا بد من تطوير نظامنا التربوي ومؤسساتنا التعليمية وإقامة مراكز البحوت والتخطيط واعتماد البرامج الهادفة لبناء نفوس الأجيال وتحرير عقولهم من تيارات المناهج الغريبة وقوالب الحياة الجامدة الخالية من المعاني السامية والمقاصد النبيلة ورعاية ملكاتهم الخلاّقة. فما نفع التربية إن لم تسْعَ لبناء العقول المبدعة وتعزيز الوعي العلمي والثقافي للوصول إلى حياة أجمل وأسمى؟

 

إن الإستثمار في التربية الصحيحة وبناء الجيل الجديد هو الطريق لبناء مجتمع منتج، وحرّ وخلاّق. ونقطة الإنطلاق في التربية هي في العمل مع الأجيال الطالعة. إذ لا بد للنهضة الحقيقية الساعية إلى النهوض بالمجتمع وتحريره من أن تبدأ عملها مع الأحداث والأجيال الطالعة وتركّز إهتمامها على بناء الشخصية الاجتماعية الواعية والمتحررة من النزعة الفردية السلبية ومن مشاعر الإرهاب المباشر والقهر والكبت والنقص والخوف والعجز والإتكالية والرضوخ، فتزرع فيها قيم الثقة والإستقلال والحرية والصراحة والصدق والتعاون والوئام مع الآخرين ونزعة الإنتماء إلى الجماعة وتسلّحها بالعقل الإرادي الناضج والقادر على التساؤل الحرّ والتفكير المستقل والتحليل والمعرفة والنقد وتنمّي فيها القدرة على تحمّل مسؤولية أعمالها ومواجهة ما تعترضه من مشكلات وتحديات دون خوف او تهرب.

 

كما لا بد من تأمين بيئة تربوية صحية، متفاعلة وجيدة، تقوم بتهذيب الأجيال وتربيتهم في الفضائل الجميلة، وتنمية شخصياتهم وتنقية عقولهم، وتوجيه اهتماماتهم، وتوليد وعيهم بالمستقبل وبمتطلبات الحياة الكثيرة والمعقّدة، وتحسين علاقاتهم، وتشجيعهم على مجابهة الصعوبات والتحديات وعلى الجدّية والحوار والمصارحة والتعاون. فالحوار هو فرصة لتبادل وجهات النظر ولإظهار الرؤى والأفكار التي قد تكون جميلة وحيوية ومفيدة. ومن فوائد الحوار الهادىء أنه يكشف للمتحاورين عن جوانب غامضة او منسية ويُنَضّج الأفكار بعد ان تتعرّض للنقاش والتشذيب والنقد والمراجعة والتصحيح. كما ان التحلي بروح التعاون والقدرة على العمل مع الآخرين كفريق واحد، يعطلان بروز الفردية في السلوك وما تجلبه من عيوب كالأنانية، والعزلة، والغرور، والشعور بالضعف.

 

وتهذيب الأجيال يبدأ بترسيخ حب النظام والأخلاق والقيم الإيجابية في نفوسها وبتنمية إرادتها الحرّة وروح المقاومة لديها وحثّها على الحيوية الفكرية وبذل الجهد والترحيب بالعمل الشاق وتحصيل المعرفة وحب الإطلاع وطلب العلم والبحث عن الحقيقة والإلتزام بمقتضياتها والإنتصار للحق ودفع الظلم ومساعدة تلك الأجيال على التحرّر من مخاوفها وأوهامها وعاداتها السيئة وللتخلص من أمراض الأنانية والغرور والتعالي والشعور بالعجز.

 

ولبناء جيل حرّ، لا بد من الإهتمام بعقول الناشئة وتنقيتها من الأفكار الخاطئة التي تشوه رؤيتها للحياة والأشياء ومن العادات الفكرية السيئة التي تدفع الناشئة إلى "المبالغة، والتحيز، والتعصب، والخضوع للعاطفة، والوقوع تحت تأثير الشائعات، والرؤية النصفية، وتفسير الظاهرات الكبرى بعامل واحد، وما شابه ذلك."[84] لذا، يجب العمل على تحسين مستوى التفكير لدى الجيل الجديد وذلك يتمُّ بتنمية مواهب الطالب وقدراته الذهنية، وتحسين مهاراته، وتفجير طاقاته الابتكارية والإبداعية وتكوين نفسيته الإيجابية، وتعويده على التفكير المركّز وتنمية فضوله المعرفي والتساؤل والحس النقدي وروح الأمل والواجب والثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه وتعويده على الخدمة الاجتماعية والإهتمام بخير المجتمع ومحاربة الشر. كما يتم بتدريب الطالب على حرية التفكير والمرونة الذهنية والانفتاح وملاحظة الأشياء والإهتمام بالتفاصيل وفحص التصورات ورؤية الإيجابيات والسلبيات والإختيار والعثور على البدائل المتعددة. ولا بد ايضاً من ترسيخ قيم المثابرة على العمل في نفوس الأجيال وحثّها لبذل الجهد وتركيز الإهتمام وتأجيل الرغبات غير البنّاءة وتخصيص الوقت لاكتساب المعارف والمهارات ودفعها للتراجع عن أخطائها وللسعي وراء التميّز الحقيقي بدلاً عن البروز الشكلي.

 

 

  1. العودة إلى التاريخ:

 

لا بد لنا من العودة إلى تاريخنا لا لنفاخر بالماضي وأمجاده ولا لنهرب من الواقع المؤلم خوفاً من مواجهة الحقائق القاسية السافرة، بل من أجل أن نستلهم منه الأفكار الحية - النافعة وكل ما يبعث هممنا ويجدّد أملنا ويشعل روح الحماسة في نفوسنا ويساعدنا في إعداد العدة اللازمة للإقدام والسير للأمام.. لذا لا بد من الرجوع إلى تاريخنا المضيء واستكشاف الإتجاه العملي- الصراعي الذي امتازت به بلادنا على مر العصور والذي نجد البرهان عليه  في "الطابع العمراني الذي نشرته سورية في البحر السوري"[85]، وفي حضارتها العريقة في القدم وفي إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي كل فنونها وعلومها ومآثرها الثقافية المعبّرة عن نفسية صراعية عملية مقتدرة للإضطلاع بالحياة ومتاعبها وساعية دائماً للسيطرة على ظاهرات الكون ونواميسه وإلى تحقيق الوجود المجتمعي السامي الجميل. هذا هو الإتجاه الذي نحتاج إليه لكي نواجه مشاكلنا الراهنة وننهض من كبوتنا ونسير إلى الأمام.

 

ألم تنتج بلادنا المعارف والعلوم والشرائع والفلسفات؟ ألم تُظهر المكتشفات الأثرية أن سورية هي مهد الحضارة الإنسانية وهي منبع العطاءات والإنجازات في كل ميدان من ميادين المعرفة؟ يقول سعاده في معرض نقضه للمدعو زكي قنصل الذي "يجهل تاريخ الشعب السوري كل الجهل، إذ هو يجهل أنه أول شعب حكّم العقل في شؤونه فنفض عنه الأوهام الشرقية، وابتكر واخترع ونظّم في الاقتصاد والسياسة من زراعة وصناعة واستعمار وملاحة. وفي العلم من بحث وتنقيب واكتشاف وتدوين. وفي الفنون من موسيقى وحفر ونقش ورسم."[86] فلماذا لا نعود إلى آثارنا وتاريخنا القومي- الثقافي وننهل من تراثنا الغني بالمآثر الثقافية وبالعلم والفن والإبداع؟

 

نحن أمة اخترعت الكتابة والأبجدية السورية الأولى وأنشأت المدارس الأولى في وادي الرافدين وأعطت الشرائع الأولى وأهمها شريعة الملك حمورابي التي عمّت بابل وجميع البلاد التي دانت لها. ومن المعروف ان الكنعانيين (الفينيقيين) القادمين مع قدموس للبحث عن شقيقته أوروبا التي خطفها زيوس ومضى بها إلى أثينا، حسب ما كتب هيرودوت في القرن الخامس، علّموا الأبجدية السورية الأولى للإغريق وأصبحت أبجدية أثينا، ثم تحوّلت إلى الأبجدية اللاتينية عندما نقلها السوريون المعروفون بالإتروسكيين (نزحوا من الساحل السوري وكيليكيا واستقروا في شمالي إيطاليا) حوالي عام 800 ق.م. إلى الرومان كما نقلها الإغريق إلى البلدان الأوروبية الأخرى عبر الأحرف اللاتينية. والأبجدية، كما هو معروف، اكتشفها الفينيقيون في أوغاريت، وطوّروها في بيبلوس جبيل. وهي تعتبر أساس التمدن الحديث والثقافة العقلية. وكما يشير سعاده: "قادت الأبجديّة العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة إلى الآلة الاقتصادّية.. إلى عصر الآلة الصناعية الذي هو عصر التمدن الحديث."[87]

 

نحن أمة العقل والحكمة، أمة التفكير الفلسفي والعقلي- المنطقي، أمة المعارف والإبتكارات العلمية والمنجزات الحضارية.. ألم يعطِ السوريون أثينا عقائدها وعباداتها بحيث أصبحت الآلهة الكوكبية هي المثل العليا والمصدر الأساس لقوى الخير والحب والخصب والثواب؟ فماذا يمنعنا من أن نكون مجتمعاً مستنيراً ومتقدماً علمياً وقادراً على ترتيب أوضاعه الإجتماعية على هدي العلم والمعرفة والعقل؟ ماذا ينقصنا لكي نحترم أسلوب التفكير العلمي ونأخذ به في حياتنا فنعتمد النظرة العقلانية المنطقية في تدبير شؤون حياتنا؟ وماذا يمنعنا من بناء إنساننا بالفضائل والقيم والمناقب الجديدة، وتنقية عقله وتنمية مواهبه وإمكاناته الإبداعية وتوجيه مشاعره واهتماماته وتعزيز ثقته بنفسه وشعوره بالمسؤولية ليكون إنساناً حراً قادراً على العمل والمثابرة وبذل الجهد من أجل نجاحه وتفوقه وتقدمه وتحقيق إنسانيته؟

 

لنقرأ عن تاريخنا المضيء ونستلهم منه الإشعاعات التي تنير دروبنا إلى العلم والتقدم والإرتقاء، إلى البحث عن الحقائق ومعرفة الحق والدفاع عنه، وإلى التحرر من قيود الجهل والخرافة والإنعتاق من أغلال العبودية والهوان..  إن اللحاق بركب العصر لا يتم إلا بالعلم والتخطيط والإيمان بالعقل. لذا يجب علينا ان نحترم العلم ونتبع طريقه لنكتسب المعارف الجديدة. فالعلم لا يشكّل تهديداً أو قوة معادية لأحد، بل هو سبيلنا لإحراز التقدم ولفهم أنفسنا والعالم المحيط بنا. 

 

لنقرأ عن الحفريات والمكتشفات الأثرية الحديثة في أوغاريت (راس شمرا) وإيبلا (قرب بلدة سراقب) وماري (قرب مدينة "أبو كمال") وغيرها من المواقع الهامة التي كشفت عن حواضر قديمة حدّدت بدايات التاريخ التي أظهرت أن الحضارة السورية هي "الينبوع الغزير الذي غرفت منه الأمم كل علم وفن وفلسفة حتى قال أحدهم وهو العالم "اندره بارو" مكتشف مدينة "ماري": "إن كل إنسان في العالم له وطنان :وطنه الذي يعيش فيه وسوريا."[88]

 

لنقرأ عن أوائل رموز الفكر العلمي والفلسفي أمثال طاليس الفينيقي، أبي الفلسفة، وانوكسيمندر البابلي، وبيتاغورس المولود في صيدا، والمهندس المشهو أبولودور الدمشقي Apollodor المتفوق في الفن المعماري السوري الذي استدعاه الإمبراطور "تراجان" إلى روما لبناء فورم روما الذي ما زالت آثاره واضحة حتى اليوم في العاصمة الإيطالية. كما بنى قبة "البانتيون" وهي أشهر قبة في العالم.[89]

 

لنقرأ عن زينون الفينيقي الذي جاء بالفلسفة الرواقية الأخلاقية التي نادت بالأخُوّة بين البشر، والتي أحدثت ثورة فكرية - عقلانية ذات أثر بليغ في تسيير الحضارة لأنها حررت الإنسان من عبودية التقاليد ودفعته إلى تحكيم العقل المستقيم والفكر المتحرر لتحقيق الخير والسعادة ومطالب الرقي. لنتعمّق بأفكار هذا الفيلسوف العبقري الذي قال انه ينبغي على الإنسان أن يحيا وفقاً للعقل لأن "العقل لا يختص بالإنسان وحده، بل هو أيضاً من خصائص الوجود الكلي.. فبالعقل نحيا على وئام مع أنفسنا، كما نحيا على وئام مع العالم أجمع.."[90] وعلَّمَ الناس ان يُحَكموا العقل والحكمة في جميع الأمور، لأن العقل هو الحاكم الوحيد القدير على التحكم بعواطفنا ولجم إنفعالاتنا الهوجاء.

 

لنقرأ عن كروسيوس الرواقي،[91] السوري الأصل، الذي ابتدع منطقاً دقيقاً محبوكاً تميّز فيه بمهارته في الجدل والمحاججة وإثارة الشكوك، بغاية معرفة الحق والوصول إلى اليقين.[92] لنتعمّق في أفكار هذا الرجل لعلّنا نجدّد طريقة تفكيرنا ونعتمد التفكير العلمي والعقلاني. هذا الرجل هو آخر ممثلي "الرواقية القديمة" وأكثرهم إطلاعاً وأكبرهم إنتاجاً عقلياً، وإليه يعود الفضل في إختراع الجدل الرواقي الذي يعتبر اليوم الأساس الذي قام عليه المنطق الرياضي الحديث والعلوم الهندسية والتطبيقات العلمية في مجال التكنولوجيا الحديثة بالإضافة إلى العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء.[93]

 

لنعُد إلى تاريخنا ونقرأ عن أنطاكية وامتداداتها كمركز ثقافي خصب شمل إشعاعه سوريا كلها وعن أفامية كمركز علمي  بالغ الأهمية.. ولنقرأ عن العراق ومدارسه الفلسفية وعن بيت الحكمة في بغداد الذي أنشئ بمبادرة من الخليفة العباسي المأمون (813-833) والذي لمعتْ فيه طائفة من المترجمين[94]، وعن سوريا ومدارسها في حرّان، التي اشتهرت بالعلوم الكلدانية الفلكية وبعلم الرياضيات، وفي نصيبين وقنسرين والرّها التي لعبت دوراً كبيراً في نقل الفلسفة والعلوم الهلنستية إلى العربية.

 

لنفراً عن المفكرِين والمشرّعِين والمصلحِين الذين آمنوا بالعقل ودعوا إلى الإسترشاد به.. وعن التيارات الفكرية والفِرق الدينية التى دعت إلى اعتماد المنهج العقلي، كفرقة المعتزلة مثلاً، التي صاغت علم الكلام الإسلامي وقالت بتغليب العقل على النقل وقالت بالفكر قبل السمع، ورفضت الأحاديث التي لا يقرها العقل؛ وكجماعة إخوان الصفا الذين بحثوا في شتى معارف عصرهم من فلسفة وعلوم وإلهيات، وقالوا في رسائلهم بمذهب أخلاقي يعتمد أولاً، التوفيق بين الأديان والمذاهب لأن في كل منها جانباً من الحقيقة، وثانياً، التوفيق بين الأديان وفلسفات العصر وعلومه، أي التوفيق بين الإيمان والتفكير العقلي، وكان قصدهم "سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى؛ وهذه السعادة تبتدىء باستلام طريق المعرفة"[95] وطلب المعارف الحقيقية التي تقود إلى تصديق العقل.[96]

 

ولنعُد إلى رواد النهضة في القرن التاسع عشر الذين آمنوا بالعلم والعقلنة ودعوا للإصلاح والتجديد والعصرنة وتحرير العقل من موروثات عتيقة أمثال:

 

بطرس البستاني، الذي تبنى مذهب العقلانية القائم على سلطان العقل متأثراً بديكارت، محرّك الفلسفة الحديثة الذي وضع القواعد الضرورية لعصمة العقل من الزلل في إدراك الحقائق؛

 

وعبد الرحمن الكواكبي، الذي بحث في الإستبداد كاشفاً عن معانيه وأنواعه وأشكاله ومراتبه وصوره العديدة ورأى أن "من أسوأ أنواع الإستبداد، استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل"[97] ودعا إل هدم النظام المستبّد القائم واستبداله بنظام ديمقراطي جديد يعتمد العلم والتبصر وتحكيم العقل والتسامح، كما دعا الأمم المنحطّة إلى مداواة نفسها من الإستبداد "عن طريق إحياء العلم وإحياء الهمة"[98] واعتماد العلوم للفوز على الطغيان.

 

والمفكر الموسوعي الصحافي فرح أنطون، صاحب المشروع العلماني- العقلاني، الذي فصل بين الدين والعلم وأكد على ضرورة اعتماد قوة العلم العظيمة لتنظيم شؤون الحياة الإنسانية دون التخلي عن الإسترشاد بمبادىء الدين وفضائله، لأن العلم كفضيلة عملية يقود إلى تقدم المجتمعات وعمرانها. وبرأي فرح أنطون، إن الأمم المتمدنة لا تتوقف على الدين، بل على العلم. "فليس ثمة مجتمع متقدم ومتطور بغير علم على نفس المقدار من التقدم والتطور."[99] لذلك فهو يهاجم رجال الدين ويتهمهم بالكفر لمنعهم الناس من التفكير الحرّ ولإطفائهم نور العقل الذي خلقه الله ووضعه في الإنسان. "إن مصلحة الحياة تقتضي وقف مقاومة رجال الدين لإبداع العقل وفعل الذكاء البشريين اللذين هما منبع كل رقي."[100]

 

وشبلي الشميل الذي آمن بالعلم وحرية الفكر وبالمنهج العلمي في التفكير معتبراً ان المستقبل هو للعلم العملي وحده.. وأن إحياء العلوم الطبيعية، أم العلوم الحقيقية، واحلالها محل العلوم النظرية هو السبيل الوحيد إلى التقدم والتحرر وتحقيق آمال الإنسانية.

 

لنقرأ عن أنطون سعاده الذي آمن بالعقل واعتبره "الشرع الأعلى والشرع الأساسي". فالله، يقول سعاده، "أعطانا عقلاً نعي به ونفكر ونقصد ونعمل فهو لم يعطنا هذا عبثاً."[101] ويضيف: " لم يوجد العقل الإنساني عبثاً. لم يوجد ليتقيد وينشل. بل وُجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الأهداف وليفعل في الوجود."[102] هذه الموهبة، إذن، أو هذه القوة المميزة المدركة، أعطاها الله للإنسان "لينظر في شؤونه ويكيفها على ما يفيد مصالحه ومقاصده الكبرى في الحياة."[103]

 

 

خاتمة:

 

لم يبقَ لنا إلا ان ننتشل عقولنا من مستنقعات الجهل والظلام والخمول والجمود لتعود إلى وظيفتها في الإنتاج والإبداع وتحقيق المنجزات العظيمة في كافة الميادين. والحق نقول، أنه لا يمكننا أن نغيّر ما بحالنا حتى نُغيّر ما بأنفسنا. لذا لم يبقَ لنا إلا أن نثور على مسبّبات الخمول وعلى التقاليد المتوارثة التي "تمنع نفسيتنا وعقليتنا من النمو وتشوه تركيبتنا الاجتماعية وتجعلنا عاجزين عن تحقيق ما قد نرى فيه مطلباً أعلى جميلاً."[104] فمتى نُطْلق الثورة داخل عقولنا لنحرّرها من الأفكار الخاطئة والتأثيرات الغريبة ومما يعربد فيها من رواسب المعتقدات والموروثات الضّارة وعيوب التفكير التي تشوِّه رؤيتنا للحياة والأشياء؟  متى نعلن ثورة العقول التي تزلزل ما يقطن داخل عقولنا من أفكار مريضة وأوهام قاتلة، والتي تطلق طاقاتنا لنبني مستقبلاً أفضلَ وأصلح وفق نمط جديد من التفكير الحي المتطور الذي ينير عقولنا ويدفعنا لإحداث زلازل التحوّل على الأرض وتحقيق نقلات كبرى باتجاه بناء حياة جديدة ومجتمع حرّ يحترم العقل، ويعلي مكانته ويستثمر في تنميته؟

 

إذا أردنا لأنفسنا مستقبلاً مشرقاً فلا طريق إلى ذلك إلا بالإجتهاد والعلم وباتجاهنا نحو احترام العقل وتقديره واعتماده شرعاً أعلى في حياتنا. فإن لم نُسدل ستاراً كثيفاً على الخرافات والشعوذة والأوهام ونتخذ العقل نبراساً لنا وهادياً وحَكَماً، فلا يمكن لنا بناء المستقبل الجميل. فالعقل هو النور الهادي وهو أساس البناء وبه نخرج من البلبلة إلى الوضوح ومن الشك إلى اليقين ومن الظلام إلى النور ونحقق نهضتنا المرجوة ونسير نحو التقدم الخلاّق.

                                     *****************

 

 

المراجع

 

  • ابراهيم الفقي، قوة التحكم بالذات، المركز الكندي للتنمية البشرية، 2000.
  • أحمد سليم سعيدان، مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، عالم المعرفة 131، الكويت، 1988.
  • أند لالند، العقل والمعايير، ترجمة د. نظمى لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية، 1979.
  • أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس، 1921=1932.
  • أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، عمدة الثقافة، بيروت، 1976.
  • أنطون سعاده، الأول من آذار، بيروت، 1956.
  • أنطون سعاده، المحاضرات العشر، عمدة الثقافة، بيروت، 1976.
  • أنطون سعاده، نشوء الأمم، عمدة الثقافة، بيروت، 1976.
  • برتراند رسل، النظرة العلمية، ترجمة عثمان نويه، دارالمدى للثقافة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 2008.
  • بشير البرغوثي، "إدارة العقل البشري الجديد"، دار زهران، عمان، 2000.
  • توماس جولدشتاين، المقدمات التاريخية للعلم الحديث – من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة،  ترجمة أحمد حسان عبد الواحد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2003.
  • حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر – بحث إستطلاعي إجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998.
  • حليم بركات، غربة الكاتب العربي، دار الساقي، بيروت، 2011.
  • حيدر الحاج اسماعيل، سعاده والآخرون، دار فكر للأبحاث والنشر، بيروت، 2010.
  • خالدة سعيد، يوتوبيا المدينة المثقفة، دار الساقي، بيروت، 2012.
  • راوية عبد المنعم عباس، ديكارت أو الفلسفة العقلية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989.
  • رجب البنا، لماذا نقرأ؟ لطائفة من المفكرين، دار المعارف، الطبعة الثانية، القاهرة.
  • زهير الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978.
  • سمير:أبو حمدان، فرح أنطون وصعود الخطاب العلماني، دار الكتاب العالمي، بيروت، 1992.
  • الشيخ كامل محمد محمد عويضة، "عمانويل كانط – شيخ الفلسفة في العصر الحديث"، دار الكتب العلمية بيروت، 1993.
  • عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر -  قضايا ومذاهب وشخصيات، دار قباء، القاهرة، 1998.
  • عاطف عطيه، الثقافة المعولمة: في إشكالية العلاقة بين الثقافة العربية والعولمة"، دارنلسن، بيروت، 2014.
  • عبد الحسن الحسيني، التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2008.
  • عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة 1977.
  • عبد الكريم بكار، بناء الأجيال، مجلة البيان، 2002.
  • عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مكتبة الخانجي بمصر، القاهرة، 1945.
  • عفيف بهنسي، التراث الأثري السوري، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2014.
  • علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، 1994.
  • علي مصطفى مشرفة، نحن والعلم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،2012.
  • فراس السواح، طريق إخوان الصفا- المدخل إلى الغنوصية الإسلامية، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2016.
  • لويس عوض، ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987.
  • محمد الجزار، ثورة العقل تغير واقع الكيان العربي، مركز الكتاب للنش، القاهرة، 2004.
  • محمد عبد الرازق منّاع، العقل والإختراع، بنغازي، 1975.
  • محمد عبدالرحمن مرحبا، مع الفلسفة اليونانية، منشورات عويدات، بيروت-باريس، 1988.
  • معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الطويت، 1978.
  • مفيد عرنوق، صرح ومهد الحضارة السورية، منشورات دار علاء الدين، دمشق 1999.
  • هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990
  • يمنى طريف الخولي، مفهوم المنهج العلمي، هنداوي، المملكة المتحدة، 2020.

 

مقالات:

  • أنطون سعاده، "مشكلة الحرية تحلّ بالحرية"، الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 14/04/1949.
  • أنطون سعاده، الحزبية الدينية لعنة الأمة،  كل شيء، بيروت، العدد 105، 1/4/1949.
  • أنطون سعاده، شق الطريق لتحيا سورية، الجمهور، بيروت، السنة 1، العدد 41، 12/07/1937.
  • أنطون سعاده، صناعة العقائد المزيّفة (1) مثالب الذل والخداع، الجيل الجديد، بيروت، العدد 16، 27/04/1949.
  • ربيع الدبس، "الإستراتيجية الثقافية الوطنية: إمكان أم استحالة؟"، أفق، مؤسسة الفكر العربي،  العدد 55، 1 نيسان 2016.
  • رسالة الإرجنتين، الشهرة على حساب الحزب السوري القومي، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 77، 3/8/1940 والعددان 79 و80، 24/8/1940.
  • كلمة الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 6، 15/2/1948.
  • محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.
  • ملحق رقم 4، خطاب الزعيم في دده – الكورة 17/10/1948، صدى الشمال ـ صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 8/7/1958.

 

 

[1] د. محمد عبد الرحمن مرحبا، مع الفلسفة اليونانية، منشورات عويدات، بيروت-باريس، 1988، ص 8.

[2] أصدر الإمبراطور شارل الخامس مرسوماً يعلن ان لوثر ومؤيديه خارجون على القانون.  لوثر، المعزول من الكنيسة، أصبح من أشهر كتّاب ألمانيا وتولى قيادة حركة الإصلاح الديني التي انتشرت على مستوى العالم.وغيّرت الثقافة الأوروبية وجعلته إحدى الشخصيات التي لا تُنسى.وقد شيَّد له بروتستانتيِّو القرن التاسع عشر نصباً تذكارياً في مدينة فورمس أقاموه مع مجموعة من أسلافه المصلحين تخليداً لذكراه كآخر مصلح ديني في القرون الوسطى صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام

[3]  يعتبر كالفن أهم شخصية في الجيل الثاني من الإصلاح البروتستانتي للكنائس الأوروبية، وهو مصلح ديني ولاهوتي فرنسي، مؤسس المذهب الكالفيني المنتشر في سويسرا وفرنسا وواحد من أهم الشخصيات المسيحية خصوصاً والدينية عموماً في التاريخ الحديث. اتخذ من مدينة بازل السويسرية ملجأ له. ومن ثم ذهب إلى جنيف وانضم إلى مسيرة الإصلاح، وفي فترة حكمه اصبحت جنيف مركزاً للبروتستانتية . من أشهر مؤلفااته: "معاهد الديانة المسيحية" ومعاهد الإيمان المسيحي".

[4] مثلاً محاكمة السحرة وحرقهم بكونهم عملاء للشيطان ومحاكمة الهراطقة وفرسان أخوية الهيكل المعروفين بالهيكليين الذين اضطهدوا ومورست عليهم جميع وسائل التعذيب للإعتراف بالتهم الموجهة إليهم وبأنهم هراطقة مذنبون وقد صودرت أموالهم وتم إعدام وإحراق عدد كبير منهم كما انتحر بعض الذين أطلق سراحهم لشدة ما لقوه من ضغط وحرمان.

[5] وجه لوثر اهتمامه إلى مسألة الغفران وابتذال الكنيسة في جمع المال عن طريق بيع صكوك الغفران بعد ان أصبحت مسألة الغفران تشترى بالمال بعد أن كانت ترتجى او يُتوصل إليها بالتوبة والإعتراف والصوم. وكان البابا يشجع عملية بيع الصكوك لأنه كان في حاجة إلى المال لبناء كنيسة سان بطرس في روما. وكان البابوات مهتمين باصطياد الأموال بكل الوسائل، فكانت الوظائف الدينية تشترى بالمال بصرف النظر عن مؤهلات الشخص، والعدالة نفسها كانت تشترى بالمال كالعفو عن المجرمين وما إلى ذلك. وكانت الكنيسة تكافىء الوشاة عن السحرة بسخاء وتعتبرهم منافحين عن العقيدة والإيمان وتمنحهم الغفران عن ذنوبهم.

[6] كانت دراسة اللاهوت في العصور الوسطى أكثر فروع المعرفة أهمية. وكان الإعتقاد السائد أن المجتمع مليء بالمغريات الشريرة لذلك فإن الواجب الرئيسي للناس هو الصلاة والإهتمام بخلاص أرواحهم.

[7] كان السحر رائجاً وقد حاولت محاكم التفتيش محاربة السحرة وعباد الشيطان. وصرّحَ أحد رجال التفتيش عام 1554 بأن محكمة التفتيس قد أحرقت ثلاثين ألفاً من السحرة على الأقل. وحسب المعتقدات الشعبية فإن بعض الأمراض اعتبرت أمراضاً ذات منشأ فوق طبيعي ومن هنا كانت الحاجة إلى السحر لعلاجها. وقد ساد الإعتقاد عند المؤمنين ان الجنون والقنوط هما علامتان من علامات الخطيئة، والمس الشيطاني، أو الروح الضّالة.

[8] كان المجتمع ينقسم إلى طبقتين: سادة يتمتعون بكل شيء، وعبيد لا يملكون شيئاً. اليد العاملة مسخّرة في الزراعة والحِرَف الدنيا، في خدمة الإقطاعيين: الأمير والكونت.

[9] من أشهر علماء سورية والعرب وفلاسفتهم، الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية (الصغرى) والرازي وجابر بن حيان، أبو الكيمياء، وعالم البصريات الرياضي والفيلسوف الحسن ابن الهيثم، الذي التزم بالمنهج العلمي في أبحاثه عن الضوء وكان مؤسساً للمنهج التجريبي الذي ارتكز عليه فيما بعد روجر بيكون (1219 – 1292م) وهو أول داعية للعلوم التجريبية، ومحمد بن موسى الخوارزمى، وهو أول من استعمل الأرقام الهندية وكلمة جبر Algebra وجعل من هذا العلم علماً مضبوطاً، وأبو الريحان البيروني (أعظم الجغرافيين والذي برز في علوم الفلك والرياضيات والفيزياء والمعادن والتاريخ والأثنوغرافيا) وابن الشاطر الدمشقي الذي فكّرَ كما فكّرَ كبرنيكوس من بعده وبنى نظاماً فلكياً كنظام كبرنيكوس، وابن خلدون وغيرهم. هؤلاء العلماء قدموا لأوروبا زاد نهضتها وكانوا بحق آباء العلم الحديث.

[10] الأول: طريق الحروب الصليبية التي بدأت في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، وامتدث ثلاثة قرون. الثاني: طريق الأندلس في أقصى الغرب ومدينة طليطلة التي انتشرت فيها المكتبات التي نقلت إليها من المشرق آلاف المجلدات الثالث: طريق جنوب ايطاليا وجزيرة صقلية، التي اشتهرت برقي حضاري ونشاط علمي وثقافي وبكونها مركز ترجمة نشيطة.

[11]تركّزت  الكشوف البرتغالية حول سواحل افريقيا واحتكر البرتغاليون التجارة مع الأفريقيين واكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح والبرازيل ووصلوا إلى الهند وجزرها الشرقية وحدود الصين. واتجهت كشوف الأسبان للقارة الأميركية بواسطة الإيطالي  "كريستوف كولومبوس" وبدعم من ملك إسبانيا واستعمروا استعماراً حقيقياً في جزر الهند الغربية والمكسيك وبيرو. ونتيجة الرحلات الإستكشافية وخاصة بعد رحلات ماجلان Magellan بدعم من ملك أسبانيا، استقرت في الأذهان الحقيقة الجغرافية، وهي كروية الأرض وصححت مواقع الأراضي المستكشفة، وأيقن رجال البحث أن هناك قارتين عظيمتي الاتساع هما أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية تقعان بين أوروبا وآسيا، فضلاً عن محيط مترامي الأطراف كان مجهولاً وهو المحيط الهادي. وكان لإنجلترا وفرنسا إستكشافات أدت إلى استعمار الأولى للأقاليم المعروفة باسم الولايات المتحدة الأميركانية وإلى اكتشاف كندا من قبل الفرنسيين.الذين أنشأوا مستعمرتي كندا ولويزيانا.

[12] يعتبر دانتى اليجييري (1265 – 1321)، المولود في فلورنسا والمعروف بأبي الشعر الإيطالي  الملحمي والفلسفي والديني، واضع أساس الأدب القومي وأحد رواد عصر النهضة الأوروبية في ايطاليا وربما في أوروبا بصورة عامة إذ كتب كثيراً من انتاجه الأدبي باللغة الإيطالية، وكتب كذلك باللاتينية، وتُعتبر "الكوميديا الإلهية Divine Comedy .ويعتبر دانتي ومن بعده الشاعر فرانشسكو بترارك  (1304 – 1374)، أبا الشعر الإيطالي الغنائي وأول من وضع أساس المذهب الإنساني في ايطاليا بإحيائه التراث اللاتيني، لذلك أطلق عليه لقب أبو الحركة الإنسانية، والروائي جيوفني بوكاشيو (1313 – 1375)  الذي استخدم اللغة العامية في النثر الفني وكان بحق  أبا النثر الإيطالي. ومن أهم كتبه التي ألفها في الأدب الإيطالي كتاب "ديكاميرون" Decameron ولقد ترجم هذا الكتاب إلى كافة اللغات الأوروبية. هؤلاء الثلاثة ثاروا على اللغة اللاتينية المقدسة الجامعة التي كانت لغة الدين والدولة في ايطاليا وفي كافة أرجاء أوروبا واتخذوا من اللغة الإيطالية العامية أداة للتعبير الأدبي في الشعر والنثر.. وبذلك وضعوا أساس الأدب القومي وانضجوا اللغة القومية في ايطاليا. راجع د. لويس عوض، ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987، ص 30.

[13] أنشىء أول مصنع للورق سنة 1390 م في ألمانيا، وفي سنة 1494م قام في إنكلترا أول مصنع للورق.

[14] شهد عصر النهضة اهتماماً كبيراً من قبل فناني العصر بالتنقيب عن الآثار الرومانية وبالمحافظة عليها وتقديراً عميقاً لقيمتها الفنية الرائعة. وقد راجت الدراسة العلمية المنظمة للآثار الرومانية حيث تجلّت في ظهور عدد من المؤلفات والموسوعات تناولت تاريخ الآثار الرومانية وتخطيط روما القديمة وعادات الرومان القدماء.

[15] برتراند رسل، النظرة العلمية، ترجمة عثمان نويه، دارالمدى للثقافة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 2008، ص 29.

[16] قام بتجربة حيث ألقى بثقلين من قمة برج بيزا المائل وعلى أساسها استنتج قانون سقوط الأجسام، القائل بأن كل الأجسام تسقط بنفس السرعة في الخلاء. وكان الرأي الجامعي يمقت اكتشافاته مقتاً شديداً. راجع برتراند رسل، النظرة العلمية، ص 11- 30.

[17] المفكر والفليلسوف جيوردانو (فيليبو) برونو Giordano (Philippo) Bruno، الذي ناقض التصورات القديمة عن العالم المخلوق مدافعاً عن كوبرنيكوس وانتقد "ترهات وسخافات" الكنيسة وأنكر معجزات السيد المسيح، كان من ضحايا أحكام القتل والحرمان وقد حُكم من محكمة التفتيش المؤلفة من كاردينالات بالإعدام سنة 1600م حرقاً حتى الموت بعد أن أمضى ثمانية أعوام في غياهب سجون محاكم البابا التفتيشية، وبعد أن خيّرَ كجاليليو ولكنه رفض التنصل من أفكاره وأصرَّ على براءته معتبراً بأنه لا يوجد هرطقة في كتاباته. أعدم في ساحة كامبو دي فيوري أمام جمع غفير من الناس وكانت آخر كلماته: "أنا أموت شهيداً بإرادتي واختياري." عام 1889، أقيم له تمثالاً في نفس الساحة التي أعدم فيها بعد أن جمعت له التبرعات من أنحاء العالم. وظلت أفكاره مضيئة وأثرت في الفكر العلمي والفلك والفلسفة وكانت فلسفته ملهمة لكثير من الفلاسفة ومن بينهم سبينوزا وهيجل.

[18] د. أحمد سليم سعيدان، مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، عالم المعرفة 131، الكويت، 1988، ص 75.

[19] د. محمد الجزار، ثورة العقل تغير واقع الكيان العربي، مركز الكتاب للنش، القاهرة، 2004،.ص 44.

[20]  د. معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الطويت، 1978، ص 24.

[21] كان هوبز في القرن السابع عشر "بعبع" عصره ووصفه رجال الدين بأنه زعيم الملاحدة ورسول الكفر. حرمت كتبه ولعنت في الكنائس، وأحرقت علناً. وُصف كتابه التنين بأنه أعظم تحفة في الفلسفة السياسية التي كتبت باللغة الإنكليزية.

[22] د. أحمد سليم سعيدان، مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، ص 79.

[23] المنهج هو الطريق الواضح المستقيم الذي يفضي السير فيه إلى غاية مقصودة. إنه مجموعة القواعد التي تكفل لمن يراعيها بلوع الحقيقة في العلوم. كما انه اجتهاد شخصي لمن يستخدم النور العقلي المنبث فينا من قبل الله، والذي ليس بحاجة إلى تعليم أو تلقين، فيصل إلى الحقيقة بوسيلتين أو فعلين هما: فعل الحدس، وفعل الإستنباط  (الإستدلال) اللذان يؤديان إلى معارف صادقة وحقائق واضحة. والحدس هو ادراك للشيء في لمحة أو ومضة وهو نور فطري يجعل المرء يدرك الفكرة في لحظة خاطفة. فالحدس لا يقوم إلا في ذهن خالص ولا يصدر إلا عن نور العقل. فهو يمثل بصيرة العقل ورؤيته لطبيعة الشيء وماهيته. أما الإستنباط فهو فعل عقلي نستلخص به من شيء معروف لنا يقيناً، نتائج تلزم عنه من حيث انه يربط بين حقائق، وليس بين أفكار ويمكن لأي ذهن القيام به. فالإستنباط هو قوة نفهم بها حقيقة من الحقائق نتيجة لحقائق أخرى أبسط منها. راجع د. راوية عبد المنعم عباس، ديكارت أو الفلسفة العقلية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989، ص 79- 111.

[24] د. أحمد سليم سعيدان، مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، ص 79.

[25] د. معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، ص 25.

[26] بدايات هذا الإتجاه نشأت في نظريات الطبيعيين في مدرسة كاتدرائية شارتر الفرنسية في القرن الثاني عشر التي بادرت إلى إحياء الثقافة الكلاسيكية وإعادة بناء المعرفة العلمية للعالم القديم وكان من بينهم عميد المدرسة تييري الشارتري (أحد رواد دراسة العلوم الطبيعية) وويليام الكونشي (صاحب فلسفة القانون الطبيعي) وبرنار سيلفستر. راجع توماس جولدشتاين، المقدمات التاريخية للعلم الحديث – من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة،  ترجمة أحمد حسان عبد الواحد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2003، ص 83-108.

[27] اتسمت هذه الفترة بظهور طائفة كبيرة من الرحالة والمستكشفين والملاحين ومنهم الأمير هنري الملاح وكريستوفر كولومبس وفاسكو ديجاما.

[28] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 84-85.

[29] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة 1977، ص 7.

[30] عبد الحسن الحسيني، التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2008،  ص 141.

[31]أند لالند، العقل والمعايير، ترجمة د. نظمى لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية، 1979، ص 6.

[32] يمنى طريف الخولي، مفهوم المنهج العلمي، هنداوي، المملكة المتحدة، 2020، المقدمة.

[33] حليم بركات، غربة الكاتب العربي، دار الساقي، بيروت، 2011، ص 266.

[34] سعاده، الحزبية الدينية لعنة الأمة،  كل شيء، بيروت، العدد 105، 1/4/1949

[35] أنطون سعاده، صناعة العقائد المزيّفة (1) مثالب الذل والخداع، الجيل الجديد، بيروت، العدد 16، 27/04/1949.

[36]حليم بركات، غربة الكاتب العربي، دار الساقي، بيروت، 2011،  ص 238.

[37] المرجع ذاته، ص 239.

[38] د. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر – بحث إستطلاعي إجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 19.

[39] المرجع ذاته، ص 463.

[40] د. ابراهيم الفقي، قوة التحكم بالذات، المركز الكندي للتنمية البشرية، 2000، ص 41.

[41] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، بيرون 1976، ص 13.

[42] تعبير استخدمه المفكر إدوارد دي بونو، مُوجد طريقة التفكير الجانبي، الذي أراد تعليم الناس كيف يفكرون بشكل متأنٍّ خلاّق إستناداً إلى الإدارك. واعتبر دي بونو أن الدماغ هو نظام ذاتي التنظيم. راجع كتاب "إدارة العقل البشري الجديد" للمؤلف بشير البرغوثي، دار زهران، عمان، 2000.

[43] د. علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، 1994، ص 134.

[44] راجع خطبة الزعيم في حفلة الأول من آذار عام 1938، منشورة في كُتيّب "سعاده في أول آذار"، ص 27.

[45] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 33.

[46] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 168.

[47] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 108.

[48] ملحق رقم 4، خطاب الزعيم في دده – الكورة 17/10/1948، صدى الشمال ـ صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 8/7/1958

[49]خالدة سعيد، يوتوبيا المدينة المثقفة، دار الساقي، بيروت، 2012، ص 30.

[50] د. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر – بحث إستطلاعي إجتماعي، ص 344-345.

[51]  ربيع الدبس، "الإستراتيجية الثقافية الوطنية: إمكان أم استحالة؟"، أفق، مؤسسة الفكر العربي،  العدد 55، 1 نيسان 2016،

[52] هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 28.

[53] د. محمد الجزار، ثورة العقل تغير واقع الكيان العربي"، ص 56.

[54] رجب البنا، لماذا نقرأ؟ لطائفة من المفكرين، دار المعارف، الطبعة الثانية، القاهرة، ص 30.

[55] المرجع ذاته، ص 31.

[56] المرجع ذاته، ص 84.

[57] كلمة الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 6، 15/2/1948.

[58] المرجع ذاته.

[59] أنطون سعاده، صناعة العقائد المزيّفة (1) مثالب الذل والخداع، الجيل الجديد، بيروت، العدد 16، 27/04/1949.

[60] صاحب المؤلف الضخم الذي أحدث ثورة كبرى في عالم الفلسفة: "نقد العقل الخالص" (عام 1781). ويقال ان هذا الكتاب "كان بالفعل أكبر حدث فلسفي عرفه تاريخ الفكر الأوروبي الحديث." فقد أحدث إنقلاباً لم يحدثهما أي مؤلف آخر منذ القرن الثامن عشر. وبفهم هذا الكتاب نفهم الفلسفة الكانطية كلها. ولكانط مؤلفات أخرى، منها: "نقد العقل العملي" و"نقد قوة الحكم" و"دعائم ميتافيزيقا الأخلاق" وغيرها. ويقال ان كانط أحدث في دائرة الفلسفة ثورة شبيهة بتلك الثورة التي أحدثها كوبرنيق البولندي في علم الفلك. راجع الشيخ كامل محمد محمد عويضة، "عمانويل كانط – شيخ الفلسفة في العصر الحديث"، دار الكتب العلمية بيروت، 1993، ص 19.

[61] د. محمد الجزار، ثورة العقل تغير واقع الكيان العربي"، ص 56.

[62] المرجع ذاته، ص 56.

[63] كلمة الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 6، 15/2/1948.

[64] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 120.

[65] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 117.

[66] المرجع ذاته.

[67] أنطون سعاده، شق الطريق لتحيا سورية، الجمهور، بيروت، السنة 1، العدد 41، 12/07/1937.

[68] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، --ص 31.

[69] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 19.

[70] أنطون سعاده، "مشكلة الحرية تحلّ بالحرية"، الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 14/04/1949.

[71]سعاده،  المجلد الثامن 1948-1949، ص 422-423.

[72] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس، 1921=1932، ص 236.

[73] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 16.

[74] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.

[75] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 18.

[76] عاطف عطيه، الثقافة المعولمة: في إشكالية العلاقة بين الثقافة العربية والعولمة"، دارنلسن، بيروت، 2014، ص 58.

[77] المصدر نفسه، ص 54.

[78] محمد عبد الرازق منّاع، العقل والإختراع، بنغازي، 1975، ص 171.

[79] زهير الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص 148.

[80]  زهير الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، ص 148.

[81] علي مصطفى مشرفة، نحن والعلم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،2012، ص 26.

[82] د.عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر -  قضايا ومذاهب وشخصيات، دار قباء، القاهرة، 1998، ص 9.

[83] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 33.

[84] د. عبد الكريم بكار، بناء الأجيال، مجلة البيان، 2002، ص 66.

[85] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 105.

[86] رسالة الإرجنتين، الشهرة على حساب الحزب السوري القومي، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 77، 3/8/1940 والعددان 79 و80، 24/8/1940.

[87] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 85.

[88] مفيد عرنوق، صرح ومهد الحضارة السورية، منشورات دار علاء الدين، دمشق 1999، ص 27.

[89] د. عفيف بهنسي، التراث الأثري السوري، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2014، ص 164-165.

[90] عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مكتبة الخانجي بمصر، القاهرة، 1945، ص 159.

[91] المولود سنة 277 ق.ح. في مدينة صول بجزيرة قبرص من أبوين سوريين جاءا من مدينة سوليس شمالي سورية. راجع عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، ص 30-39.

[92] عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، ص 37.

[93] عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، ص 46-54.

[94] بينهم سهيل بن هارون، وحنين بن إسحق، وابنه اسحق بن حنين، وحبيش ابن الحسن، وثابت بن قرّة، وعيسى بن يحيى.

[95] فراس السواح، طريق إخوان الصفا- المدخل إلى الغنوصية الإسلامية، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2016، ص 28.

[96] المرجع ذاته، ص 30.

[97] د.عاطف العراقي، العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، ص 166.

[98]حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر – بحث إستطلاعي إجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 409.

[99] سمير:أبو حمدان، فرح أنطون وصعود الخطاب العلماني، دار الكتاب العالمي، بيروت، 1992، ص 114.

[100] د. حيدر الحاج اسماعيل، سعاده والآخرون، دار فكر للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 46.

[101] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 127.

[102] المرجع ذاته.

[103] المرجع ذاته، ص 128.

[104]أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 16.

 
التاريخ: 2021-04-17
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
التاريخ: 2021-04-17
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro