مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
غسان الأشقر والشجرة الخضراء
 
يونان، جورج
 

 

في قَسَمِ الانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، على العضو هذا الالتزام: «...وأن أتَّخِذَ مبادِئه القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي...»، ومع احترامي للذين انتموا، فالأمين أسد الأشقر من القلائل الذين ربّوا عائلاتهم على هذا الالتزام.

 

تتحدَّثُ الأمينة نضال الأشقر عن الأشجار التي لم تَعُدْ خضراء بعد رحيل غسَّان. أُدرِك شعورها بالخسارة؛ فهو شقيقها. إلّا أنَّ كليهما غصنان في شجرة العائلةِ الخضراء التي أنشأها رَبُّها ملتزماً بقسمه، ومؤمناً بأنَّ الكونَ حركةٌ، ومُصِرّاً على تسمية أغصان هذه الشجرة الخضراء وفقَ حركة الكون. والعائلة-الخلية، التي بناها ربُّها، كانت مفعمةً بالحركات الحسنى في الكون. وُلِدَت من الرؤية، وامتدت متكاثرةً في الحقولِ الخصيبة. هذا الكون لا يفهمُهُ إلاّ النُّخَبُ النجباءُ ذوو الرؤية، أما قال الله في كتابه: «فاعتبروا يا أولي الأبصار» (سورة الحشر، 2). والبصيرة هي تلك العينُ الثالثة التي وصفها جبران، والتي تَسْتَشْرِفُ المستقبلَ، وترى ما قبلَ وقوع الحدثِ وما بعدَه، وتغزلُ موقفاً صلباً وانطلاقةً زاخمة بالحركة والتغيير. والحركةُ التي آمَنَ بها الأمينُ ربُّ العائلة لم تكن اعتباطيةً؛ فقد أَرستْها الأجيالُ على مدى التاريخ، ونُقِشَت في الحجرِ قبل أن يكونَ الورقُ والقلم، وأملاها عقلٌ ألوهيٌّ ليس في «نضالٍ» من أجل العدالة في الكون، بل في «نظامٍ» إنسانيٍّ عادلٍ صلبٍ وشجاع لا يقوى عليه نظامٌ آخر. الحكمة والشجاعة والعفَّةُ أُسُسُ الحكم كما وصفها أفلاطون والفلاسفة؛ وهي، مع الحرية والواجب والنظام والقوة، تنتمي إلى سلالة العدالة في هذا الكون.

 

في الستينيّات من القرن الماضي، أيّامَ المِحَنِ والكوارث، جالستُ ربَّ العائلة، حين كان في الأسرِ في مستشفى الكَرَنتينا. كان جسمُهُ قد هزلَ بسبب إضرابه عن الطعام، متحدِّياً ذلك الطاغية المتسربلِ بثوبِ كاهن، إلّا أن عينَيْ محدِّثي وأميني كانتا تشعّان بالقدرة وبإرادة فارس صَمَّمَ وأصرَّ على دحر الطاغية. وكانت عيناه مُفعَمتَين بـ«الأملِ» والرؤية الثاقبة، وكانَ له «غسّانه» الذي سَمَّاهُ تَيَمُّناً بديار غسان يرتادُها أولياء قريش طلباً للقوتِ والمشورة والمعرفة. كان «غسّان» في الأعاصيرِ والنكبات، مثل الأمينِ ربِّ العائلة، يرى العالمَ تَحدِّياً وردَّ تحدٍّ، بين قوى الخيرِ وقوى الشرِّ. وهكذا كان «اليَرموكُ الردَّ التاريخيَّ السوري-العربي على معركة زاما وسقوطِ قرطاجة أمام الرومان»، وكانت «القادسيَّة الردَّ على الاجتياح الفارسيِّ للدولة النيوبابليَّة، وكانت إسبانيا الردَّ على سقوطِ القواعدِ الأماميَّةِ الكنعانيَّةِ...» (تاريخ سورية).

 

لم يكن غسّان مُجَرَّدَ وارثِ إرثٍ، يكابرُ به ويتغنّى، مستلقياً كالآخرين على أريكةٍ يراقب قوافل النجوم في حركتها في قبة السماء، إذ كان قد أدركَ أنَّ الإرثَ هو إرثُ أمَّةٍ، مسؤوليتُه تقع على كتفيه، وهو «الأمينُ» عليه، فوق تلك الدرب الوَعِرة، كما الجنديِ في الوغى، الذي يُدرِكُ بأن غبارَ «بسطاره» يجبُ أن يعلو شاهقاً؛ فكان له إيمانٌ بالمسيرة، ورؤيةٌ ثاقبة هي ميزة النُّخَب.


الصراع على الأرض الخصيبة بين الزؤان وفحيح التنين، لم يكن ليرضى به الأمين غسّان. كان يتمنّى أن يستدعي السحاب لإطلاق البرق والرعد من أجلِ عودة المطر ومواسم الخصب، وكان كتابه المقدّس دورة الفصولِ وحركة الطبيعة في بلاده.


في عام 2002 ألقى غسان الأشقر خطاباً في المجلس النيابي اللبناني، وكان نائباً فيه، وهو الذي أدركَ قدرة المغتربين، فكان أوَّلَ من طالب، في خطابه، بمؤتمرٍ للمغتربين قبل أي سياسيٍّ آخر. سألَ حُكّام البلدِ آنذاك سؤالاً بسيطاً: «إذا كنتم، أيُّها السادة الحكّام، على هذا القَدْر من الذكاء، فلماذا نحنُ فقراء؟» وكان السؤالُ البسيطُ «عصِياً على الجواب». كان يناقش موازنتهم التي أعادوا طبعها مرّاتٍ ومرّاتٍ، فقال لهم: «موازنتكم، أيُّها السادة، أقربُ ما تكونُ إلى «غَزْلِ البنات»، يخطفُكَ المشهدُ الواعدُ وأنت على جوعٍ: كومةٌ من غمامٍ زهرِيٍّ هشٍّ... يُغريكَ اللونُ والشكلُ ونفنافُهُ المنفوشُ، وصوتُ المُدَلِّل، لكنّه خيبةٌ للجياع». واليوم، وبعد عشرين عاماً، يُعَربِدُ الجوعُ في الحارات والأزقة. لم يخاطبهم بلغة الدلّال في أسواقهم. صارحهم: «نحن لسنا بحاجةٍ إلى أبي زيد الهلالي، فليبقَ الزيرُ مهلهلاً في بئرِهِ. نحنُ بحاجةٍ إلى رؤية شاملة...» ولكنَّ رؤيتهم كانت إلى قعرِ البئر، ولا تزال. «كيفَ لا نتخَوَّف ونحنُ جماعةٌ نُفَتِّشُ عن وطن، فلا نجدُ إلّا تسارعاً خطيراً في تقهقرٍ إلى مذهبيّاتِ شرسة؟»، «صغارٌ كُبِّروا بالشراطيط، ونُشِروا كفَزَّاعات الحقول خشباً وخيشاً وتبناً. تسَلَّطوا على الإدارات والأسلاك ومراكز القنص المالي». هذا ما كان يفعلهُ الزؤان في الحقولِ الخصبة من بلاده، ولا يزال متمادياً. أمّا التنينُ، فقد «شَنَّعَ يشوع بن نون بمُدِنِ كنعان، حبرون، أورشليم، عجلون، غزَّة، قادش... تماماً كما شَنَّعَ بأريحا»، وكما فعلَ التنينُ حين سخُنَت الأرضُ، فخَرَجَ من جحرهِ إلى أن تَصَدّى له الفارسُ المُرَمَّحُ وهو على حصانه الأبيض. وهكذا قالَ لهم ربُّهم على أسوارِ أريحا: «حرّموا كل من فيها من رجلٍ وامرأة وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، بحدِّ السيف. وأحرقوا المدينة بالنارِ». كان يشوع يُكَرِّسُ أسطورة «منفيس»: الإلهة «هاثور» تفتُكُ بالبشرِ وهم منهزمون في البادية. والإله يهوه يقودُ لوط بعيداً عن «سدوم» و«عاموراه» وهو يرميهما بالنار والكبريت. «هكذا بدأت طقوس المجازر. هكذا تأسَّسَت الذاكرة الدموية للشعب المختار»، «عالمنا العربيّ ناضجٌ للافتراس»، «إنَّهُ نظام الإرهاب الاقتصادي، والإرهاب العسكري-الأمني بامتياز». عشرون سنةً مضت، وما أشبه اليومَ بالأمس، فما زالَ شبقُ يشوع يضربُ أسوارَ أريحا، وراحابُ في الداخلِ تلاقيه بغلمتها.


كان غسّان، برؤياهُ الاستشرافيَّة، قد أنار الطريق لهم، إذ قال للمهرولين على أعقابهم: «تبرُزُ المعرفةُ اليومَ كأولويَّةٍ مطلقة... كمفتاحٍ لعملية الإنماء المستدام برمّتها... بدونها لا إنماء... هي ليست عنصراً ملحقاً. هي رأس المال، وباقي عناصر الإنتاج ملحقةٌ بها. قبلها كان اقتصادُ الماءِ والأراضي الزراعية، وكان اقتصادُ الموارد الطبيعية والرأسمال المادي. ولكنَّ نهايات هذا القرنِ تشهدُ سقوطاً تدريجيّاً لكلِّ هذه العناصرِ دون إلغائها، وتبرزُ المعرفة كميزةٍ تفاضليَّة تكادُ تكون مطلقة. إننا ندخلُ عصرَ الصناعات المدارة بالطاقة الذهنية... فالبنى التي يُحسَبُ لها حساب في الحاضر والمستقبل ليست فقط البنى التحتية على أهميتها، بل، وبشكلٍ أعظم، البنى الفوقيَّة المعرفيَّة التي تقومُ على شبكة المواصلات المعرفيَّة». وكان المُعَلِّمُ قد أفتى بأنَّ: «المجتمعُ معرفةٌ والمعرفة قوة» حين كان «يُخاطبُ أجيالاً لم تولدْ بعد».


غسّان، في هذا الزمن الرديء، روحه سحابٌ عريبٌ فوق الأرض المتصحِّرة. غسّان لم يمت، نُثِرت روحه في الحقولِ. وستتَّشِحُ الأرض الخصبة مرة أخرى بثوبِ عشتار؛ فنحن شعبُ القيامة، وللفصولِ دورتُها.

 

 
التاريخ: 2022-09-27
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 27 أيلول 2022
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro