مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
منهج سعادة في البحث الديني
 
كفروني، يوسف
 

 

 

"الظاهرة الدينية هي ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشري"

(أنطون سعادة-نشوء الأمم، الطبعة الثانية–دمشق 1958-ص174)

 

الظاهرة الدينية هي ظاهرة قديمة جدا، وقد شملت جميع الشعوب والمجتمعات البشرية على اختلاف تنوعها.

 

ساهمت الأديان الكبرى كالمسيحية والاسلام، في كسر الحواجز بين الجماعات والشعوب وفي خلق عالم انساني أكثر انفتاحا، غير أنها في مراحل تاريخية متعددة، تراجعت الى حالات التشرذم والانقسام والانغلاق الطائفي والمذهبي، وساهمت في خلق مزيد من العداوات والفتن، وأدّت إلى حروب مدمّرة وإلى قتل الملايين من البشر، باسم الدين وباسم الاله الموصوف بالمحبة والرحمة.

 

يدفع الدين المؤمن إلى التسامي والتعالي وإلى تحمّل أقسى أنواع الصعوبات والاضطهادات والعذابات في سبيل ايمانه وعقيدته.

 

ويحرّض الدين على فعل الخير وتجنّب الأذى والشر. ويحث على رفض الظلم والطغيان والدفاع عن الحق ومواساة المظلومين والمضطهدين والفقراء والوقوف الى جانبهم.

 

تجد من يستخدم الدين في التثوير، وتجد من يستخدمه في التخدير. ثمّة من يوظفّه في ثقافة الانفتاح والتسامح وثمّة من يوظفّه في ثقافة الانغلاق والحقد والقتل.

 

تتوقف المسألة على الدعاة وعلى الجمهور الذي يتوجه اليه الدعاة، وعلى السلطة السياسية الفاقدة للمشروع السياسي التي تلجأ الى توظّيف الدين ورجاله لمصالحها، تعويضا عن ضحالة فكرها السياسي وغياب برامجها. وعلى رجال الدين المتشبثين بالمصالح المادية والمنافع من خلال استغلال الدين باستغلال جمهوره من المؤمنين البسطاء.

 

كلّما غرق الناس في الجهل بعيدا عن العلم والمنطق، ازداد التسلط واستغلال الدين في غير وجهته الصحيحة وأغراضه الأساسية.

 

لا يزال الدين في مجتمعاتنا العربية، يلعب دورا أساسيا في تحريك الناس سلبا أم ايجابا. وقوى الاستعمار تتقن جيدا اللعب بالدين والمذاهب لصالح مخططاتها ومشاريعها.

 

لا عجب في صرف مليارات الدولاارات استغلالا للدين في الفتنة الدينية والمذهبية، من خلال إعلامها المتنوع ودعاتها المبثوثين في شتى الأرجاء.

 

إضافة إلى الإعلام المكتوب والمسموع والشخصي المباشر عبر الدعاة الجوالين، تنتشر اليوم المحطات الفضائية المتخصصة في تكفير الأديان والمذاهب الأخرى، والبعيدة كليا عن لغة العقل والمنطق، والبعيدة عن جوهر الدين وقيمه في الانفتاح والرحمة والتسامح. محطات تخاطب العواطف والغرائز البدائية، وتفتّش عن كل ما يثير الفتن في المجتمع الواحد.

 

الاعلام الذي ينفق عليه مئات مليارات الدولارات، ليس سوى أدوات حرب تهدف الى تفتيت الأمة وتمزيقها خدمة للمشروع الأميركي الصهيوني.

 

الحوارات والسجالات بين أهل الأديان والمذاهب، قديمة وتعود إلى البدايات الأولى لنشأة الدين وانقسامه في ما بعد إلى مذاهب وفرق متعددة. ولكن تلك الحوارات كانت محدودة الانتشار والتأثير ومحدودة الضرر.

 

لقد وضعت مصنفات عديدة لكل مذهب يدافع فيها عن نظرته ويحط من نظرة المذاهب الأخرى وصولا إلى تكفيرها والدعوة إلى محاربتها. ويشهد التاريخ على صراعات وحروب كثيرة باسم الأديان والمذاهب، ولكن الغايات الحقيقية منها لم تكن دينية بل اقتصادية وسياسية لمصالح جماعات وفئات محدّدة.

 

الحروب المذهبية التي شهدتها أوروبا كانت الأعنف، فقد استمرت حوالي 130 عاما بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر وطالت معظم المجتمعات الأوروبية. وانتهت في مؤتمر وستفاليا 1648 الذي يعتبر أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة، حيث أرسى نظاما جديدا مبنيا على مبدأ سيادة الدولة. وقد شكل صلح وستفاليا بداية لنهوض الدول على الأساس القومي وصولا إلى فصل الدين عن الدولة، وبداية الحرية الدينية الحقيقية من خلال موقف الدولة المحايد من الأديان والمذاهب، وترك حرية الاعتقاد الديني لكل فرد دون إكراه من أي طرف.

 

الدول الغربية الناهضة، استعمرت معظم شعوب الأرض، وقد حرّمت داخل دولها ومجتمعاتها قيام أحزاب وتنظيمات سياسية على أسس اتنية أو دينية أو مذهبية، إلا أنها شجعت قيام مثل هذه الحركات والأحزاب خارجها في المجتمعات المستعمَرة.

 

الحروب الكبرى التي جرت في القرن العشرين لم تكن حروبا دينية، بل حروبا بين دول أوروبية مسيحية لأسباب اقتصادية وسياسية.

 

الغرب الاستعماري الذي انتهى من حروبه الدينية الداخلية، عرف كيف يسخّر الدين والمذاهب لخدمة مصالحه، خاصة في البلدان العربية والاسلامية حيث تتركّز مطامعه للهيمنة والسيطرة على العالم.

 

لا يمكن فهم الدعم الغربي الاستعماري لقيام دولة يهودية في فلسطين، إلا من خلال الارتباط العضوي الوظيفي بين هذه الدولة وبين المشروع الاستعماري، وتوظيف الدين اليهودي إضافة الى الجماعات المسيحية المتهودة لهذا المشروع.

 

من خلال فهمنا لخطر المشروع الغربي على نهوضنا وعلى تحررنا الحقيقي ومستقبلنا ووجودنا ندرك الارتباط الوظيفي بين هذا الغرب الاستعماري وبين كل حركات التقسيم والفتنة، القائمة على أسس عرقية أو مذهبية أو دينية.

 

الفتن الدينية والفتن المذهبية التي يجري النفخ فيها باستمرار هي موجهة حكما لخدمة المستعمر، ومعظم الكلام المسوق باسم الدين هو في الحقيقة ضد الدين.

 

نشهد اليوم واقعا مزريا لا يخدم إلا أعداء الأمة ويشكّل إساءة كبرى للإسلام، حيث ترتكب فظائع بربرية ووحشية باسمه، من ذبح وتقطيع وشواء وأكل للبشر، وتمارس كل أنواع الموبقات، ويجري تكفير المذاهب والافتاء بالقتل من قبل شخصيات وحركات دينية متطرفة، مع صيحات وصرخات الله أكبر.

 

مقارنة مع النص الديني وتاريخ الاسلام، نجزم بأن ما يقدّم باسم الاسلام من قبل الجماعات المتطرفة هو نقيض له تماما.

 

الكتابة العلمية والموضوعية في الشأن الديني وخاصة في الدراسات المقارنة هي مسألة على درجة عالية من الأهمية والخطورة، تتطلب استعدادا وشروطا معينة، ولا يجوز لأي كان أن يتعاطى في هذا الموضوع دون حيازة المؤهلات المطلوبة.

 

قليلة لا بل نادرة الكتابة العلمية في هذا المجال لأن أغلب ما يكتب، يدخل في باب الانحياز للموروث والتحيّز ضد الآخر.

 

علم الاجتماع والظاهرة الدينية

 

  مع علم الاجتماع أخذت الظاهرة الدينية اهتماما واسعا، وجرى دراسة الموضوع الديني بطريقة جديدة من خلال ارتباطه وتفاعله مع الواقع الاجتماعي، بعيدا عن منطق السجال، والحوار حول صحة هذه العقيدة أو تلك انطلاقا من النص الديني وتأويلاته.

 

"تتعدّد المدارس والاتجاهات في تفسيرها للدين، وفي التساؤل حول مستقبله في المجتمعات الغربية. قدّم جميع المؤسسين الكبار (دوركايم وّفيبر على الأخص) تحليلا للظواهر الدينية من منطلق علم الاجتماع. وتركّز تحقيقهم على المجتمع المعاصر والتغيّرات العميقة التي طرأت على الدين".

 

(جان بول ويليم، الأديان في علم الاجتماع، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 2001، بيروت

 طبعة أولى ترجمة بسمة علي بدران، ص9)

 

يقول دوركايم في كتاب الاشكال الأولية للحياة الدينية:

 

"الدين هو نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، أي المفروزة والممنوعة (المحرّمة)، والمعتقدات والممارسات التي تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد يسمى الكنيسة (الجماعة)، وجميع أولئك الذين ينتمون إليها. العنصر الثاني في تعريفنا ليس أقل أهمية، لأنه يظهر أن فكرة الدين لاتنفصل عن فكرة الكنيسة (الجماعة)، فإنه ينذر بأن الدين ينبغي أن يكون شيئا بارزا وجماعيا" ص51

 

 Émile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse: livre premier

Site web: http://bibliotheque.uqac.ca

 

ثمّة نظريات عديدة في محاولة فهم الدين وتفسيره من خلال احدى العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية.

 

حاول غالبية علماء الاجتماع والفلاسفة خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين دراسة الظاهرة الدينية من خلال مفاهيم ونظريات علم الاجتماع.

 

"أبدى علم الاجتماع اهتماما لافتا بالدين منذ ظهوره. وقد توقف كبار منظّري علم الاجتماع الكلاسيكي طويلا، متأملين معنى الدين ووظائفه داخل المجتمع". (سابينو أكوافيفا، علم الاجتماع الديني، ترجمة عزالدين عناية، كلمة، أبو ظبي –الامارات العربية المتحدة، 2011) ص27

 

 

يشكّل بحث سعادة في الموضوع الديني، مساهمة علمية كبيرة بتناوله هذا الموضوع بطريقة هادئة بعيدا عن الهوس والتعنّت. وبعيدا عن التحدّيات الفارغة التي يلجأ إليها الكثيرون دفاعا عن مذهب خاص ضد مذاهب مختلفة، وكان سبّاقا في هذا الميدان على المستوى العربي بالتعاطي العلمي والموضوعي بعيدا عن التحيّز والأحكام المسبقة.

 

ثمّة حاجة ماسّة لدراسة الموضوع الديني بطريقة علمية رصينة، لأن الساحة مستباحة للمهووسين والمتزمّتين الذين يخدمون بوعي أو بدونه مخططات العدو ومصالحه. حتى الآن، لم يأخذ بحث سعادة حقه من التقدير والاهتمام والمتابعة، بالرغم من مرور أكثر من 60 عاما على نشره.

 

يتناول أنطون سعادة في بحثه المخصّص للدين، كلاّ من الاسلام والمسيحية واليهودية، بطريقة علمية وموضوعية. إنه بحث جديد في منهجه وفي معلوماته واستنتاجاته. وهو من أهم البحوث المكتوبة في هذا المجال على الصعيدين المحلّي والعالمي.

 

نظرة سعادة إلى الدين وعلاقته بالدولة، تنطلق من إيمانه بوحدة المجتمع والمساواة بين جميع أبنائه، ومن إيمانه بالحرية كقيمة أساسية وحق لجميع المواطنين، ومن إيمانه بالعقل الذي اعتبره الشرع الأعلى للانسان، وتسليمه بالحقائق العلمية التي يتم التثبت منها بالتجربة والبرهان، مبتعدا عن الافتراضات والتخمينات التي لا مجال للتأكد منها.

 

 

جنون الخلود – الاسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية

 

في رسالته إلى نجيب العسراوي يقول سعادة قررت طبع سلسلة أبحاث "جنون الخلود" في كتابين: الواحد أدبي ويتعلق بمنظومات رشيد الخوري كدراسة أدبية، والثاني يختص بموضوع المسيحية والمحمدية أو اليسوعية والمحمدية والعصبية القومية. وقد رأيت أن يحمل الكتاب الأول فقط عنوان "جنون الخلود". أما الكتاب الثاني فسأجد له عنوانا من موضوعه. وقد جرى نشر الأبحاث المتعلقة بالدين من قبل الحزب السوري القومي الاجتماعي تحت عنوان " الاسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية". (جنون الخلود، مؤسسة سعادة للأبحاث، بيروت، طبعة أولى 2001 المجلد الخامس ص295)

 

سنعتمد على تحليل منهج قراءة سعادة في البحث الديني استنادا الى هذا البحث الوارد في سلسلة مقالات بعنوان جنون الخلود.

كتبت سلسلة أبحاث "جنون الخلود" في جريدتي الزوبعة وسورية الجديدة في البرازيل والأرجنتين بين 1941 و1942

 

ويحدّد سعادة طبيعة بحثه بالقول: "بحث علمي جديد بنظرياته ومعلوماته، لا يتوخى غير جلاء الحقيقة في طبيعة المسيحية وطبيعة الاسلام على ضوء عناصر كل منهما كما هي في ذاتها"

 

لا تفضيل لرسالة على الأخرى،

 

المقارنة مقصورة على الحالة الاجتماعية والمرتبة الاقتصادية.

 

علاقة الدين بالمستوى الاجتماعي للبيئة وعلاقة الآيات والتعاليم بمستوى البيئة من الوجهة التاريخية". جنون الخلود114

 

محاضرة رشيد سليم الخوري

 

ألقى رشيد سليم الخوري، محاضرة تناول فيها المسيحية والاسلام، أعدّها لمولد النبي محمد ونشرتها جريدة الرابطة ابتداء من العدد 527 الصادر في 8 يونيو-حزيران 1940، ومما جاء فيها:

 

"الانجيل كتاب روحاني يعنى بالآخرة فحسب ولا يعلم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح. فلا مجد عنده إلا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبدا رقيقا مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم. ولقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالا لا حد له بقوله:" إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا" في حين جعلت المسيحية الفقر شرطا لدخول السماء عملا بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية "بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني". جنون الخلود 78

 

من الواضح مدى جهل رشيد الخوري بأصول المحاضرات، وبحقيقة كل من المسيحية والاسلام، وهو يشكّل نموذجا لكثير من الكتّاب الذين يتطفلون على ميادين علمية لا يفقهونها ويخوضون بمواضيع دون علم ودراية، ويظنون أن الصياغة الانشائية والكلام المنمّق يعوّضان عن الجهل ويسترانه.

 

لذلك أطلق سعادة على محاضرة الخوري اسم حارضة، لأنها أولا، بعيدة كل البعد عن شروط المحاضرة وأصولها، ولأنها ثانيا، تحرّض على الفتنة، وهي تدل على جهل صاحبها بالمسيحية والاسلام، وتدل على مبلغ النفاق عند الخوري وأمثاله من أشباه المثقفين وأدعياء الثقافة وضعاف النفوس الذين يتقلبون في مواقفهم، في سبيل الشهرة والمال.

 

تفكير رشيد الخوري في المسيحية والاسلام هو من نوع التفكير العامي المنحط الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة. وهو جاهل في المسيحية وجاهل في الاسلام ولا يملك مؤهلات علمية ومنطقية للبحث في موضوع الدين.

 

يعرّف سعادة المحاضرة بأنها" اسم نوع للأبحاث الجليلة التي يقوم بها علماء وأهل الدرس والبحث والتنقيب بقصد الوصول إلى حقيقة أساسية أو نتيجة علمية بالاستقراء والتحليل والتعليل في جو من العلم والفلسفة هادىء، بعيد عن النعرات، منزّه عن التعصّب. ومن شروط المحاضر أن يتجنّب كل ما من شأنه إثارة الشعور والتحريض والتهوّس". جنون الخلود87

 

معظم ما يكتب في الموضوع الديني خاصة في العالم العربي، بعيد عن القواعد والأصول العلمية، ويعتمد لغة الاثارة والتحريض والفتنة.

 

أمثال رشيد الخوري في عصره كانوا كثيرين واليوم تتزايد أعدادهم وهم يشكلون خطورة أكبر بسبب دعمهم بامكانات مادية كبيرة جدا واتاحة المؤسسات والمنابر الاعلامية لهم، بشكل متواصل، فيما الخطاب العلمي والعقلاني غائب وكذلك الدراسات والبحوث وخاصة في هذا الحقل المهم.

 

حسب تقارير اليونسكو للعلوم فإن الدول العربية هي الأقل إنفاقا على البحث العلمي في العالم. ولكنها من دون شك متقدمة في الانفاق على السلاح غير القابل للاستخدام، ومتقدمة في الانفاق على الدعاة والواعظين المتفوقين في مواهب الاثارة وبث التفرقة والفتن.

 

بحث سعادة لا يستهدف رشيد الخوري شخصيا بل هو يستهدف تنبيه جموع السوريين الى خطورة الدعوات التي تستغل الدين لمآرب نفعية خاصة، فلا تتورع عن بث الشقاق والتفرقة باسم الدين وهم جهلة في الدين وفي سائر ميادين العلم والمعرفة الانسانية، ولا يتقنون إلا سياسة التحريض والنفاق وكل مثالب الانحطاط، في حرب يقودها الخارج بواسطة متآمرين لا يهمهم وطن ولا دين.

سعادة ليس مبشرا دينيا ولا يكتب دفاعا ولا نقدا مع أو ضد دين أو مذهب معيّن. 

 

لم يأت بحثه دفاعا عن المسيحية ولا نقدا للاسلام، بل جاء بحثا عميقا وجادّا، في طبيعة دينين عظيمين انطلاقا من دراسة النص الأساسي (الانجيل والقرآن) دراسة علمية هادئة ورصينة، وفق منهج واضح يتميّز بالجدّة والأصالة.

 

 

منهجية البحث الديني عند سعادة

 

  أهمية البحث وغايته

 

يحدّد سعادة أهمية هذا البحث من الناحية القومية، بالدعوة الى فهم خصائص دينين منتشرين

 

ومتداخلين في كل البلاد السورية، ولا تخلو منطقة أو ناحية من وجودهما متجاورين ومتلاصقين، وتشكّل التحزبات الدينية وما يبنى عليها نتيجة الجهل وسوء الفهم، خطرا على الوحدة الروحية للأمة وسببا لتدخلات أجنبية خطيرة.

 

يقول: "أساسنا القومي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية الكلية قبل كل شيء. وهذه الوحدة الروحية يجب أن تشمل كل فكرة وكل نظرة في حياتنا. من هنا ضرورة وأهمية بحث نظراتنا وفكراتنا الدينية بحثا علميا جريئا صريحا لا يبقي مجالا للغموض والريب". جنون الخلود 115

 

"غرض المقالات الأساسي هو تبيان الأدب الانحطاطي وأضراره على نفسية الشعب وتبيان عوامل النفسية المخربة التي تدفع أصحاب هذا الأدب إلى العبث فسادا في الشعب، والعبث بمثله العليا وإرجاعه إلى الفتنة والأحقاد الدينية التي أتلفت الزرع وأهلكت الضرع". جنون الخلود 77

 

"محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والاستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أم غير دينية. ومن أجل إيضاح الحقائق التي تساعد على التخفيف من غلواء التعصب الديني المبني على تشويه هذه الحقائق". جنون الخلود 123

 

 

الخطوات المنهجية:

 

في سبيل تحقيق أهداف بحثه يحدّد سعادة عددا من الخطوات المنهجية الواجب اتباعها:

 

أهم شروط البحث في الدين بصورة عامة، هي:

 

التضلع في العلم والفلسفة، والاطلاع على التاريخ الاجتماعي والسياسي للبشرية. جنون الخلود 77

 

والابتعاد عن العواطف والغرائز واعتماد العقل، لأن إدراك أغراض الدين يكون بالعقل وليس بالزيغ والمنافسة.  جنون الخلود 89

 

ومن الشروط الضرورية بصورة خاصة:

 

 

- عدم الانجرار وراء الأفكار الشائعة

 

- الترابط بين الدعوة والبيئة، دراسة عوامل نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة الاسلام في بيئته

 

- منهج دراسة النص الديني:

 

أ-الاعتماد على النص الديني الأساسي وليس على النصوص الثانوية للفرق والمذاهب

 

ب-أول الكلام مفتاح فهم الرسالة أو الدعوة وربط النص بالتسلسل التاريخي وبالأحداث والمناسبات

 

ج-التمييز في النص القرآني بين نوعين: المكي والمدني، والانتباه الى ثنائية النص.

 

 

عدم الانجرار وراء الأفكار الشائعة

 

نبّه سعادة إلى خطر الانجرار وراء الأفكار الشائعة انسياقا مع قناعة غالبية الناس، لأن شيوع الأفكار بين العامة، لا يعني أن هذه الأفكار صحيحة، ولا يمكن بناء معرفة علمية صحيحة، انطلاقا مما هو شائع بين الناس. لا تصلح الأفكار ولا الآراء الشائعة للانطلاق بالبحث ولا يجوز الاعتماد عليها. 

 

 النظرة التي يرددها بعض الكتّاب، لا تختلف عن الافكار الشعبية التي تتردد في أوساط العامة من المسيحيين والمسلمين الذين يتبعون تأويلات خاطئة.

 

"نشأت عند عامة المسيحيين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في الدينين المسيحي والاسلامي، أقل ما يقال فيها إنها جزئية وسطحية. أخذت تؤول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل لإساءتهم فهم أقوال المسيح التي منها القول:"من ضربك على خدك فحوّل له الآخر." و"إنه لأسهل أن يدخل جمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت السموات". وأخذت تؤول تعاليم الإسلام من غير درس لها وتدين محمدا والمسلمين ببعض آيات التقطتها اتفاقا ولم تحسن تأويلها وفهمها.

 

وكذلك نشأت عند عامة المسلمين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات غير صحيحة عن الأديان والمذاهب الأخرى". جنون الخلود 82 

 

"قسم كبير من عامة السوريين المسيحيين والمسلمين لم يعد مؤمنا الإيمان الديني ولكنه يتشبث بعنعنات من التحزبات الدينية. فهو قد فقد إيمانه الديني ولم يحصل على ثقافة وعلم يرسخانه في المعرفة ويهبانه نظرة شاملة في الحياة، ويساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصح. ونتج عن ذلك كله انحطاط كبير في الإدراك والتأويل وفساد في الاستنتاج وتصادم في النفسيات وفوضى في المنازع وتخبّط في المذاهب." جنون الخلود 83

 

التفكير العامي المنحط لا يهتم بالدراسة العلمية الجدية والموضوعية، بل يلجأ الى التأويل والاستنتاج بناء على اطلاع جزئي ناقص ومشوّه، وهذا النمط من التفكير ينتشر في أوساط كثيرة عند العامة والخاصة.

 

"الحكم على دين بكامله بأخذ آية واحدة وتجريدها عن موضوعها وتأويلها أسوأ تأويل ليس جهالة رشيد الخوري وحده بل جهالة قسم كبير من العامة المسيحيين والمسلمين ومن الخاصة الناقصي الثقافة المغترين بزيادة بعض نواحي اطلاعهم" جنون الخلود 118

 

"العقلية السخيفة للواغلين على العلم كالخوري، لا تجد حاجة لدرس نصوص الاسلام ونصوص المسيحية والبت في طبيعة كل منهما وخصائصه، وإظهار كيفية توصلها الى النتيجة". جنون الخلود123

 

"العقلية السفسطائية لا تعلو عن عقلية الأميين وترى أن التعاليم شائعة بين الناس ومعروفة وأن إقرار النتيجة شيء بديهي لا يستدعي إعادة نظر بل يكفي تقديم آية واحدة مفصولة عن موضوعها

 

التعاليم المسيحية شائعة وكذلك التعاليم الاسلامية، ولكن شيوع التعاليم لا يعني درسها وفهمها. ومن الجهالة الاستناد الى هذا الشيوع غير المضبوط خصوصا في مجتمع يعاني من انحطاط ثقافي ونقص علمي". جنون الخلود 124

 

  • الترابط بين الدعوة والبيئة، دراسة عوامل نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة الاسلام في بيئته

 

لا يمكن اغفال الترابط والتلازم بين الدعوة ومستوى البيئة التي تتوجه إليها الدعوة.

 

حسب النص الديني، جاء الرسل لهداية أقوامهم، والهداية تبدأ من المستوى الذي عليه القوم حتى يتمكنوا من فهم الدعوة.

 

الإسلام نشأ في الجزيرة العربية وهي بيئة لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة البربرية ولم يعرفوا العلم. وكان الغزو والسلب في أساس معيشتهم ونمط حياتهم.

 

حدّثهم النبي محمد بما يحتاجون إليه. فحثّهم على طلب العلم، لأنه لم يكن لهم، وكان التشريع، وتنظيم شؤونهم أساسا ضروريا لأنهم كانوا يفتقدون هذه الأمور التي عرفتها الشعوب المتمدنة.

 

يعطي سعادة مثلا عن ضرورة الترابط بين الدعوة والبيئة، من مهنة التربية، فيقول إن معلم المدرسة الفاهم الخبير لا يبتدىء تعليم الأحداث علم الجبر والهندسة والمنطق قبل أن يكونوا أكملوا دروس الحساب والجغرافيا والأشياء. لذلك لا يمكن أن نتخيل دعوة مهما كان مصدرها أن تخاطب قوما بلغة لا يفهمونها، وبمستوى أعلى من ادراكهم واستعدادهم النفسي.

 

البيئة السورية التي نشر فيها المسيح تعاليمه كانت بيئة حضارية عرفت الدول والمدنية والتشريعات والفنون والعلوم منذ عهد قديم، وتعتبر مهد الحضارة الانسانية. لذلك كان من الطبيعي أن لا يخاطبهم المسيح بالدعوة الى العلم أو الى أهمية التشريعات المتعلقة بشؤون الحياة. لذلك جاءت رسالة المسيح تشدّد على التعاليم الأخلاقية والقيم المناقبية وعدم التحجر والجمود أمام القوانين والتشريعات، بل اعطاء الدور للعقل الذي يجب أن يقرر ما هي مصلحة الانسان الذي هو الهدف والغاية لكل دعوة.

 

البيئة التي يتحدث سعادة عن دورها وتأثيرها في الدعوة، هي البيئة الاجتماعية التي تشمل الثقافة النفسية والثقافة المادية للجماعة.

 

لما كانت الثقافة النفسية العالية لا يمكن أن تقوم بدون قاعدة ثابتة من الثقافة المادية، فقد رأت الرسالة الاسلامية أن تهتم بشؤون الثقافة المادية لكي تهيىء الانتصار على المادة والتسامي في عالم الروح. ولم تكن الرسالة المسيحية في حاجة للاهتمام بشؤون الثقافة المادية، لأن البيئة السورية كانت قد بلغت أبعد شأو". جنون الخلود 93

 

"المادية هي إحدى القضايا التي كان لا بد للاسلام من مواجهتها، ليتمكن من تقريب النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحالة الروحانية التي لا يمكن أن تنشأ في حالة مقيّدة للنفس.

 

الذي لم يتمكن من سد جوعه المادي-الفيزيائي لا يشعر بالجوع الروحي. والنفسية المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة، إذا كانت النفس مؤهلة للارتقاء". جنون 94

 

يقول سعادة: "لو أن المسيح ومحمد تبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها". جنون الخلود 91

 

ويرى ان"أهل العربة ظلوا حتى اليوم تحت حكم آية" قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم".

 

النظرة الى الحياة التي يحملها الدين تتأثر عندما تخرج من المجتمع الذي نشأت فيه إلى مجتمع آخر.

 

لا بد أن يطرأ على النظرة الى الحياة التي يحملها هذا الدين تعديل أو تغيير يوافق استعداد المجتمع الروحي. والإسلام قد مرّ في هذا الاختبار، فحيث انتشر في بيئات راقية في التمدّن كسورية أخذت نظرته الى الحياة تتخذ شكلا غير الشكل المعروف في الصحراء، فارتقت من البسائط الى المركبات. واليوم تقول العربة بمذهب جديد في الاسلام يرمي الى جعل الدين عبارة عن عبادة بسيطة توافق النفسية العربية: الوهابية.

 

 المسيحية حين دخلت الصحراء اتخذت أشكالا بسيطة على قدر استعداد البيئة فصارت شرب خمر وصارت رموز ولادة المسيح عبارة عن زواج بسيط حرى بين الله ومريم. حتى انه قام دليل على أن بعض الاعتقادات المسيحية في العربة قالت بتثليث الآلهة بالفعل فقالوا الأب والأم والابن والمرجح أن القرآن أبطل هذا التثليث الذي جعل الآلهة ثلاثة." جنون الخلود 212

 

"بيئة البداوة لم تكن مؤهلة لإدراك الإيمان الروحي وفهم تعاليم الفلسفة المناقبية. لذلك أخذت السور المدنية وجهة أقرب إلى البيئة وعقليتها من وجهة السور المكية. ولذلك كان ظهور روحانية الرسالة الإسلامية خارج العربة في سورية وفارس والأندلس". جنون الخلود 101

 

لا يعني هذا أن الرسالة الاسلامية أهملت البناء الروحي أو التعاليم المناقبية ولكنها اضطرت لأخذ الأساس المادي بعين الاعتبار وتقديمه في المعالجة على البناء الروحي.

 

روحانية الاسلام وتعاليمه المناقبية لا تختلف عن المسيحية بشيء، ولكن البيئات غير المؤهلة لهذه الروحانية وهذه المناقبية تقف عند حدود المعاملات والتشريعات ويتراجع فيها دور العقل لحساب الذين يفتون في الشرع، ويصبح التشابه مع اليهودية أقرب بكثير من التشابه مع المسيحية.

 

"كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاما، شاملا لجميع النوع الانساني، فإن نظرتها إلى الحياة والكون يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي، فلا يمكنها أن تشذ عن استعداد بيئتها إلا إذا خرجت منها أو وُجّهت الى غيرها المخالف لها.

 

لا شك في وجود تجانس وترابط بين الدعوة في جميع تفاصيلها والبيئة وجماعتها البشرية في استعدادها النفسي والمادي وظروفهما. لا شك في أن انتشار الدعوة وقبولها في البيئات الأخرى يجب أن يكون خاضعا لمبدأ التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معينة، واستعداد البيئات الأخرى لقبولها والعمل بها، أو لتعديلها إذا كان قبولها غير اختياري أو خاضعا لعامل تاريخي معيّن". جنون الخلود 208

 

 

منهج دراسة النص الديني:

 

أ-الاعتماد على النص الديني الأساسي وليس على النصوص الثانوية للفرق والمذاهب

 

الدراسة العلمية للدين انطلاقا من النص الديني الأساسي، وليس من مصادر الفرق والمذاهب 

 

اعتماد الأساس في الكلام على المسيحية، أي الانجيل، واعتماد الأساس في الكلام على الاسلام، وهو القرآن لفهم عوامل نشأة الدين الاسلامي وتطوره في بيئته، العربة، من غير الدخول في تفاصيل المذاهب.

 

لفهم أساس الدعوة الدينية وجوهرها يجب العودة الى المصدر الأساسي قبل تفرّق الدعوة الى فرق وشيع ومذاهب، وما نتج عن ذلك من اتجاهات متباينة في فهم الدين وممارسته.

 

يدعو سعادة الى درس علمي استقرائي لنشأة الرسالة الاسلامية وتطورها.

 

والى دراسة القرآن علميا، عن طريق درس التواريخ وكتب السيرة، وترتيب القرآن على النسق الحادثي أو التعاقبي، ومعرفة كيف نزل القرآن والحالات التي نزلت فيها كل سورة.

 

 ويؤكّد على ضرورة تتبع تطور الرسالة بتطور حالاتها وفهم علاقة نزول الآيات بالحالات والحوادث الجارية.

 

والاستدلال يكون بالرجوع الى موضع الآية وموضوعها والحالة أو الحادث الذي نزلت فيه. بغير هذه الطريقة قد نصل الى عكس المقصود من الآيات الدينية. جنون الخلود 168-170

 

ب-أول الكلام مفتاح فهم الرسالة أو الدعوة وربط النص بالتسلسل التاريخي وبالأحداث والمناسبات

 

مفتاح فهم الرسالة أو الدعوة الدينية يكون في التوقف عند أول كلام صدر في النص الديني

 

يعتبر سعادة أن الكلام الأول هو إعلان الرسالة وعنوانها ومبدأها وما يأتي بعده يكون تابعا.

 

وفي طرح أسئلته الاشكالية المتعلقة بالبحث الديني حول الرسالة الاسلامية

 

يؤكّد أن "الكلام الأول هو الأساس وما يأتي بعد هو البناء الذي لا يحيد ولا ينحرف لئلا يسقط. فماذا كان أول شيء أعلنه محمد للذين اقتربوا منه؟ ما هو الالهام الذي حل عليه والنور الذي أبصره؟ ما هي الدعوة وإلى أي شيء هي؟

 

هذه الأسئلة وغيرها تدغدغ مخيلة كل مفكر عميق يريد أن يعرف بداءة الفكرة ومنتهاها ويحيط بتطوراتها وتفاصيلها ليحصل له الفهم الكامل لها. وبدون هذه المعرفة وهذه الإحاطة يكون فهم الرسالة جزئيا مبعثرا أو متضاربا وهو ما يوقع في الهوس المنحرف الذي لا يفتأ يصطدم بما حوله. فماذا كان أول ما أعلنه محمد من الوحي؟". جنون الخلود 172

 

"أول الدعوة هو بمثابة أساسها لأنه يعيّن غاية الدعوة واتجاهها الصحيح قبل أن يطرأ عليها من التفاعل مع البيئة، ما قد يضطرها لاتخاذ أشكال مختصة بسير الدعوة وواسطة تحقيقها. وليس بحقيقة الدعوة وأغراضها الأخيرة. فالدعوة تعلن أولا ثم يكون السعي لتحقيقها وتعميمها. من هذا الاحتكاك والتفاعل ينتج تطور الدعوة في نهجها التطبيقي الذي يحتمل أن يكسب الدعوة الأساسية النظرة الفلسفية التي يصلح استعداد البيئة الروحي والمادي لحملها إذا لم تكن لها هذه النظرة من البدء. وليس لهذا التطور نهج قياسي عام، لأنه مختص بالدعوة والبيئة الناشئة فيها. وليست الدعوات ذات نظرة واحدة. وليست البيئة واحدة في العالم، بل متعددة وعلى أنواع وخصائص شتى". جنون الخلود 207

 

ج-التمييز في النص القرآني بين نوعين: المكي والمدني، والانتباه الى ثنائية النص.

 

-النص القرآني على نوعين في الدين وفي الدولة

 

يؤكد سعادة على ضرورة التمييز بين نوعين في الرسالة الاسلامية وفي النص القرآني: ما يمثّل أغراض الدين وجوهره، وما يمثّل التنظيم الاجتماعي والأحكام والتشريعات.

 

 "الرسالة الاسلامية تقسم الى قسمين:

 

القسم الأول وهو المكي السابق للهجرة وفيه الآيات المكية المتجهة اتجاها روحيا، على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف والاختبارات والأفكار والتصورات.

 

والقسم الثاني هو المدني المشتمل على الآيات المدنية واتجاهه نحو شؤون أوليات الاجتماع وضروريات بداءة انشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب، ويحل محل العادات والعرف".

جنون الخلود 102

 

النصوص القرآنية على نوعين ويجب أن تدرس من وجهتي الدين والدولة. وبهذه الطريقة فقط يمكن فهم الاسلام فهما صحيحا من الوجهة التاريخية. وبهذه الطريقة فقط يمكن الاستفادة من مرونة الاسلام لمنع جموده وتحجره كما تحجرت اليهودية. جنون الخلود 166

 

القسم المكي هو الأكثر اختصاصا بالوجهة الدينية والقسم المدني هو الأكثر اختصاصا بالوجهة الدولية. وهذا الازدواج في اتجاه الرسالة الاسلامية الذي لم يحصل له فيما مضى دراسة تجمع وجهتيه في وحدة فكرية روحية هو الذي يسهل لأصحاب الأغراض السياسية الأخذ بأي وجه أرادوا، حسبما يوافق أغراضهم. وهو ليس عيبا في القرآن بل نقص الثقافة التاريخية الاجتماعية وعدم تدبّر الرسالة الاسلامية كما يجب.

 

النبي محمد استخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين أساسا لتنظيم شعب في حالة بعيدة عن المدنية والحضارة. اليوم نجد السياسيين والحركات والتنظيمات السياسية، يريدون استخدام الدين لتنفيذ المطامع السياسية والأغراض الخاصة. جنون الخلود 201

 

 

 -ثنائية النص القرآني

 

يقول سعادة حول ثنائية النص القرآني أن المتنازعين على السلطة تلاعبوا بثنائية النصوص لأغراض خاصة ويورد مثلا عن معاوية الذي استشهد بثلاث آيات قرآنية تظهر تفضيل الله لقريش، فردّ عليه رجل من الأنصار بعدد مشابه من الآيات تظهر صد قريش وتكذيبهم. وقال له ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا زدناك. ويوضح سعادة كيف جرى استخدام ثنائية النص القرآني في أغراض المنافسات والمطامع وفاقا للظروف والحالات. ولا تزال هذه الطريقة متبعة عند اصحاب المطامع السياسية الذين لا يريدون قيام دراسة توضح أن هذه الثنائية ليست مطلقة بل مقيدة ومرتبطة بوحدة فلسفية يجب استخراجها وإبرازها بصورة واضحة لإيجاد الاستقرار الروحي في الملّة الاسلامية لتهتم بشؤون الارتقاء الثقافي، فلا تظل معرّضة لتضحية غرض الدين في سبيل غرض السياسة التي يهمها الدولة والسلطان والحكم أكثر مما يهمها الدين والارتقاء الروحي والمثل العليا والتقدم الاجتماعي.   جنون الخلود 202

 

ثنائية النص القرآني لا تعني أن الرسالة الاسلامية لها خطتان متباينتان ومستقلتان الواحدة عن الأخرى، بحيث يجوز للمؤمن أن يختار إحداهما مرة والأخرى مرة أخرى كما يروق له أو يوافق مصالحه أو مطامعه، بل معناها أن هنالك وحدة كامنة بين نوعي النص الاسلامي. وهذه الوحدة يجب أن تستخرج من مبدأ ترابط الأسباب والمسببات ومن معرفة نسبة الواسطة إلى الغاية، ومن العلاقة الوثيقة بين النص القرآني والأسباب الموجبة أو الحوادث الجارية. فإذا لم يتجه الاجتهاد إلى استخراج هذه الوحدة بهذه الطريقة الاستقرائية، التحليلية، فلا مهرب من الوقوع في مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيرا ما يضحي الدين على مذبح الأهواء الجامحة، ويطوّح بالمسلمين في مغامرات لا تعود على دينهم بفائدة ولا على دنياهم بخير. جنون الخلود 204

 

القسم المكي مختص كل الاختصاص بالنص الديني فلا يدخله شيء من النص الدولي، في حين أن القسم المدني يدخله نص ديني مع اختصاصه بالوجهة الدولية من الدعوة، ذك أن غرض هذا القسم ليس نقض غرض القسم الأول بل تحقيقه. جنون الخلود 207

 

المقارنة بين الاسلام والمسيحية والاسلام واليهودية

 

يرى سعادة أن التباين والاختلاف بين المسيحية والاسلام ليس ناتجا عن تباين أو اختلاف في الدين، بل عن تباين المجتمع السوري المدني، العمراني، والمجتمع العربي البدوي اللاعمراني. ويظهر هذا التباين في التفاصيل والأشكال التي لا أهمية لها بالنسبة الى الله والفكرة الدينية الأساسية. جنون الخلود 210

 

لم تكن دعوة النبي محمد الى إله جديد غير الله المعروف في التوراة والانجيل، بل الى إله المسيحية واليهودية أيضا. ولكنه خطّأ تأويلات مسيحيي العرب في سوء فهمهم ولادة المسيح وتثليث الأقانيم التي هي لإله واحد. دعوة محمد حسبت الله واحدا والدين واحدا منذ البدء، وأن الإسلام هو إسلام الأمر لله من قبل محمد ومن بعده. ومع كل ما ورد في القسم المدني من إقامة أسباب دولة الإسلام المحمدي فإن القرآن لم يبطل الإسلام اليهودي ولا الإسلام المسيحي، ففي سورة المائدة التي ورد فيها الحديث: "المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها" لم ينقض القرآن قيمة التوراة والانجيل فقال: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله..." وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.." جنون الخلود 213

 

الاسلام من حيث هو دين يرمي إلى ثلاث أغراض أخيرة:

 

1- إحلال الاعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام

 

2- فرض عمل الخير وتجنب الشر

 

3- تقرير خلود النفس والثواب والعقاب. جنون الخلود 164

 

لمّا لم يكن محمد فيلسوفا اجتماعيا، بل نبيا إلهيا، فإن نظرته هي النظرة الدينية وغرضه الأخيرهو  إقامة الدين. وكل نظرة أخرى يجب أن تكون مجرد نظرة ثنوية أو واسطة لإقامة الدين والوصول إلى خلود الجنة. وبناء عليه نقول بتأكيد أن حقيقة الدين وأساس الدعوة المحمدية هو ما اشتمل عليه الطور المكي الذي هو الطور الروحي، وأن الاتجاه الدنيوي الذي سلكه الطور المدني ليس سوى الواسطة أو الطريقة للقضاء على عبادة الأصنام وإقامة الفكرة الدينية لإتمام الغرض الديني الأخير الذي اكتمل في الطور المكي. جنون الخلود 216

 

الدول والتشريعات موجودة قبل الاسلام بآلاف السنين، ميزة محمد أنه نبي وليس أنه صاحب دولة أو فيلسوف. التشبث بربط الاسلام بمفهوم الدولة لا يحقق أغراض الدين ولا يحقق أغراض الدولة.

 

الرسالة المسيحية والإسلامية واحدة، وأغراض الدينين واحدة في مفهوم الله ومفهوم الخير العام ومفهوم الثواب والعقاب وجوهر التعاليم الأخلاقية واحد في الرسالتين.

 

"التبشير والإنذار بعبادة الله وترك عبادة الأصنام جوهر الروحانية الإسلامية كما كانا جوهر الروحانية الموسوية. تلتقي الرسالتان الموسوية والمحمدية في البشارة والإنذار والتشريع. والآيات المتشابهة مبنى ومعنى من التوراة كثيرة". جنون الخلود 94.

 

من يقرأ سفر تثنية الاشتراع (التوراة) وفيه حدودالله في المعاملات والعقود، وسورتي البقرة والنساء يجد بينهما علاقة وثيقة في التشريع والقضاء والأحكام. جنون الخلود 95

 

أسباب التشابه بين اليهود والعرب تعود الى التشابه في البيئة الاجتماعية، فاليهود لم يكونوا قبل مجيئهم إلى سورية، يعرفون نظاما اجتماعيا مدنيا، لأنهم كانوا في حالة بداوة بربرية. فهم والحالة هذه، كانوا يشبهون العرب من كل وجه في ما يختص بمرتبتهم الاجتماعية وحاجاتها. فلم يكن لهم قوانين وأنظمة عامة تضبط معاملاتهم وتعاقب مجرميهم. جنون الخلود109

 

يرى سعادة كما يرى ابن خلدون أن القبائل التي تسودها حالة البربرية والتوحش يصعب اخضاعها بغير سلطة خفية باسم الدين.

 

القبائل التي لا تعرف نظاما مدنيا لآ يمكن اخضاعها بواسطة شرطة وقضاء وسلطة.

 

يمكن اخضاعها بواسطة سلطة خفية رهيبة وغير منظورة: الله، يهوه الذي ينتقم من المخالفين للشرائع والأحكام، المفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع. وهكذا تحولت الشريعة الكنعانية المدنية القابلة للتطور والتغير حسب تطور الاجتماع والعمران، لأنها من صنع بشر، إلى شريعة دينية جامدة لا تقبل التطور والتغيّر، لأنها صارت أحكام الله الكلي المعرفة القادر على كل شيء المعصوم عن الغلط.

 

هذه هي الطريقة الوحيدة لجميع الشعوب والقبائل التي لا تزال في حالة بداوة أو بربرية وقد عرض ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، لهذه الحالة ويقول "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض". جنون الخلود 110

 

حالة العرب البدوية كما يصفها ابن خلدون بالتوحش والغلظة وصعوبة المراس تمنع من اخضاعهم لقانون واضح إلا عن طريق الدين. جنون الخلود 111

 

حالة العربة الاجتماعية-الروحية أوجبت اهتمام الرسالة الاسلامية اهتماما كليا، أساسيا، جوهريا بالقضية المادية ووجوب تنظيم شؤونها العملية تنظيما حقوقيا، قانونيا، يعمل به جميع العرب فيرقي شؤونهم الاجتماعية ويوسع نظرتهم الإنسانية ويقربهم من الحياة الروحية على قدر المستطاع. وهذا لا يعني أن النبي العربي لم يكن مدركا سمو النظرة الروحية في الشؤون الإنسانية، بل يعني أنه رأى لزوم الاهتمام بالأوليات وأن الرسالة الإسلامية رأت أن تتناول الجماعة الإنسانية المختصة بها من عند درجة مداركها وشؤون حياتها، في حين أنها لم تغفل المطالب الروحية العليا.

جنون الخلود 114

 

من مقابلة آيات القرآن والآيات الانجيلية يتضح أن المطابقة بين التعليمين المسيحي والإسلامي هي كلية.

 

إن درس موعظة المسيح والآيات المتعلقة بموضوع الغنى يوصل الى نتيجة واحدة هي : أنه إذا اتجه أبناء المجتمع الواحد نحو طلب حالة السعادة السامية التي تولدها الفضائل السامية فإن المجتمع يخسر الأنانية الفردية المنحطة، القتالة، ولكنه لا يخسر أسباب العيش والرفاه، لأن التعاون في المجتمع يولد المحبة والمحبة تزيد التعاون، ومن هذا التفاعل بين المحبة والتعاضد يتولد فلاح المجتمع. جنون الخلود 125

 

القرآن يعلم التعليم الانجيلي عينه ولا يتناقض معه كما يستنتج بعض الجاهلين.

 

"من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب". جنون الخلود 126

 

التساهل في الحقوق الفردية يكون من أجل خير المجتمع، فالتساهل لا يكون بحقوق المجتمع لأن التساهل بحقوق المجتمع فيه انحطاطه وهلاكه، والتعاليم المناقبية المسيحية والاسلامية تهدف الى الارتقاء بالمجتمع وليس الى دماره وخرابه. بهذا المنطق يفسّر سعادة الدعوة الى مقاومة الشر داخل المجتمع، وفق القيم المسيحية والتي تؤيدها التعاليم الاسلامية وتتطابق معها.

 

"لا تقاوموا الشرير لا يعني عدم مقاومة الذين يفسدون المجتمع، بل يعني عدم الاستسلام لعوامل الفساد التي منها تفضيل حق الفرد وخيره على حق المجتمع وخيره. مقاومة الشر الحادث بين إنسان وإبن مجتمعه تكون، حسب قاعدة المسيح المناقبية بالتساهل في الحقوق الفردية الذي ينتهي في الأخير إلى نفي الشر. والاسلام يعلم هذا التعليم عينه: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". "ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة". "إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا فإن الله كان عفوا قديرا". جنون الخلود 131

 

اليهودية والمسيحية والاسلام

 

يرى سعادة أن فكرة الله في اليهودية لم ترتق كثيرا عن فكرة الأصنام الا باعتباره غير منظور، اليهود كانوا يشاورون يهوه في حروبهم كما كان الوثنيون يشاورون آلهتهم في حروبهم، وكان الله خاصا بهم كما كان لكل شعب إله خاص به. لم ترتق فكرة الله عن فكرة الأصنام الا بتعليم المسيح، حيث الله هو إله جميع الناس. جنون الخلود 165

 

في المسيحية واليهودية فرض عمل الخير وتجنب الشر وخلود النفس والثواب والعقاب. ولكن المسيحية واليهودية اختلفتا في الخير العام فجعله اليهود مقتصرا على بني اسرائيل وأطلقته المسيحية ليشمل جميع الأمم. وبناء عليه خرجت اليهودية من الاعتبار كدين انساني عام. وبقي اليهود في العالم الحلقة الموجودة بين الآلهة الشعوبية والاله الانساني العام. وإذا أخرجنا اليهودية من غرض الخير الانساني العام فلا يمكننا إخراج المسيحية منه فإنها أساسه وفكرة خلود النفس والثواب والعقاب فيها هي فكرة واضحة ملازمة لجميع تعاليمها. فتحقيق أغراض الاسلام النهائية هو تحقيق أغراض المسيحية عينها. فالأغراض الدينية مشتركة بين المسيحية والاسلام تامة بوجود الدينين وبانتشارهماكل في البيئات الأكثر موافقة لتعاليمه وقبولا لها. جنون الخلود 166

 

من مقابلة أحكام القرآن وحدوده على أحكام التوراة وحدودها، نجد أن نصوص الشريعتين واحدة مع فوارق شكلية قليلة لاتغيّر شيئا من وحدة الأساس.

 

الله قد أوحى الى محمد، في القرآن، الشريعة عينها التي أوحاها الى موسى وجميع النبيين الذين تقدموا محمدا، كما هو مثبت في القرآن.

 

والله قد أوحى الى محمد آيات مسيحية أيضا ولكن الشعب الذي أرسل اليه محمد لم يكن من الادراك والثقافة بحيث يميل الى الأخذ بالتعاليم العليا، وكانت حاجته ماسة إلى الأساس القانوني

 

الذي يجمع بين قبائله المتشعّثة ويضمن العلاقات ويحدد طرق المعاملة، فلا تكون معلّقة على تعاليم الفلسفة المناقبية التي علّمها المسيح وجعلها تاجا للشريعة وحكما عليها، وكانت الانتصار الأول للثقافة النفسية على حدود الشرع الجامدة. فانتصار العقل على الشرع حدث أولا بظهور المسيحية.

 

"لا تحكموا حسب الظاهر لكن احكموا حكما عادلا"يوحنا 24:7

 

السيت جعل لأجل الانسان لا الانسان لأجل السبت". جنون الخلود 99 

 

ويورد أمثلة من الانجيل تظهر انتصار العقل على جمود الشرع.

 

المرأة الزانية: حسب الشرع يجب أن ترجم، ولكنه قال: من منكم بلا خطيئة فليرجمها أولا بحجر... إذهبي ولا تخطئي بعد. جنون الخلود 100

  

"يختلف الإنجيل عن التوراة والقرآن في أنه ليس شريعة، بل تعاليم فلسفية مناقبيةلا تحكم أحكاما جزائية ولكنهاتقول إن الارتقاء نحو حياة أفضل أو الحياة المثلى لا يكون إلا بها، أي بمعانيها الروحية". جنون الخلود 117

 

"المسيح جاء حاملا رسالة مناقبية للقضاء على مثالب المجتمع الذي تشبث بقوانين صارت جامدة، وأجاز أفراده لأنفسهم الخمول وارتكاب جميع أنواع الموبقات التي لم تنص الشريعة على كيفية معاقبتها. وهذا أيضا شأن محمد. إلا أن الفرق بين المسيح ومحمد أن المسيح لم يكن محتاجا لأن تكون رسالته تشريعية لأن المجتمع الذي نشأ فيه كان ذا شرائع سبكتها الموسوية في شكل إلهي. وإن محمدا وجد أشد ما تحتاج إليه جماعات بيئته هو التشريع فأدى هذه الرسالة وأضاف إليها تعاليم مناقبية من النوع المسيحي عينه، إلا أنه تناول بها أيضا أمورا كثيرة مختصة بأهل بيئته فضلا عن الأمور العامة.

 

الكلام الإلهي في القرآن يوافق كل الموافقة تعليم المسيح المناقبي.

 

"فلسفة المسيح لا تقف عند حدود الشرع، الشرع وظيفته سلبية، القانون يعاقب على الجرم ولكنه لا يعيّن الفضائل، هو يضع الحد ولكنه لا يشق طريق الارتقاء. إنه يحفظ نظام المجتمع ولكن ترقية نفسيته تبقى من مهام التعاليم المناقبية والنظرات الفلسفية في قواعد الحياة الاجتماعية ومثلها العليا". جنون الخلود 128

 

"مبدأ زينون الرواقي القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة الانسانية. هذا المبدا يمثل النفسية السورية.

 

حدث في المجتمع السوري تصادم عنيف بين النفسية السورية المستندة الى مبدأ زينون والشرع الموسوي الذي أخذ يقوى على عامل العقل بسبب قوة فكرة الله التي استند اليها والتي أخذت تتغلب على فكرة آلهة الأساطير القديمة والأصنام. وهذه الفكرة أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل الانساني تجاه حكمة الله وتدبيره.

 

الرسالة المسيحية أعادت النظرة السورية الى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى التاريخ، وأن ميزة الانسان الأساسية هي الفكر.

 

يرى سعادة أن المسيحية هي انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية اليهودية القائلة بتحديد الحياة الإنسانية وفاقا للشرع الموسوي". جنون الخلود 129

 

بدأ المسيح تعاليمه بمهاجمة الوقوف عند حدود الشرع والاكتفاء بالفرائض. قال:"قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل فإن من يقتل يستوجب الدينونة. أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة. فهذاالتشديد بوجوب ترك الجمود المحدد بالشرع ليس تشريعا جديدا ينص على معاقبة الذي يغضب على أخيه، كما نص الشرع الموسوي المأخوذ عن الشرع الكنعاني على معاقبة القاتل بالقتل، بل هو تعليم يقول بالحكم المناقبي المستمد من النظرة الفلسفية الجديدة. جنون الخلود129

 

القواعد المناقبية هي للترفع عن الشهوات الحيوانية والاتجاه نحو المثال الأعلى التمدني، وهي موجودة في المسيحية وفي الاسلام، ولكن الاسلام مع تفضيله لهذه القواعد اخذ بعين الاعتبار بيئة العربة والضغوطات التي تفرضها.

 

الإسلام الذي نشأ في إقليم حدّد الحياة البشرية تحديدا شديدا، فضّل أن يتزوج الرجل امرأة واحدة في حين أباح تعدد الزوجات نظرا لمقتضيات البيئة. جنون الخلود 130

 

المسيح قال بوجوب الجهاد في سبيل العقيدة ولكنه خاطب أبناء بيئته بلغتهم فالسيف الذي جاء ليلقيه هو سيف العقيدة الروحي، وليس قتالا بالسيف والرمح. ذلك أن العراك الفكري هو الأكثر انطباقا على الأمم المتمدنة كسورية. أما في بلاد العرب فالعراك الفكري في الأمور العقائدية لا سبيل إليه

 

ولذلك لم يكن بد من الالتجاء إلى القتال بالسيف والرمح. جنون الخلود 144

 

 

أسباب التأخر

 

أسباب جمود أمم العالم العربي حتى الأمس لم تكن عائدة إلى ترك السيف بل إلى ترك تعاليم المحبة والتساهل والدفع بالتي هي أحسن. جنون الخلود 142

 

التراحم الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد ألا يخرب وهذا هو التعليم المسيحي الكلي. فالمسيح علّم المحبة لمنع الانقسام. والتعليم المحمدي لم يحد قيد شعرة عن التعليم اليسوعي، فسيف محمد كان لتعزيز العقيدة وهذه هي الطريقة المسيحية. جنون الخلود 143

 

يجب العمل بتعاليم التساهل والمحبة التي قال بها المسيح وأيدهاالإسلام في القرآن والحديث. وليس بترك هذه التعاليم.

 

التساهل يكون من قبل الأفراد لسلامة المجتمع وفلاحه، ولم يقصد به أن يتنازل المجتمع، أي مجتمع، عن حقوقه السياسية والاقتصادية والروحية، لأن هذا التنازل معناه سقوط المجتمع، لاقيامه، والمسيح أراد قيام المجتمع، لا سقوطه. جنون الخلود 145

 

سقوط الأمم يكون بسبب فقدها القوة الروحية والمبادىء المناقبية، والسيف بدون هذه القوة الروحية يرتد دمارا وويلا على المجتمع لأنه يتحول الى الداخل بدل أن يتوجه إلى الخارج ضد أعداء الأمة.

 

لا يمكن النهوض بدون مبادىء مناقبية متينة. إذا فقدت هذه المبادىء واعتمدت السيف فقط فإن السيف يأخذها ولا يعود يقوم لها قائمة. جنون الخلود 152

 

 

الجنسية الدينية والجنسية الاجتماعية

 

الأمم المسيحية لم تنهض إلا بترك مبدأ الجنسية الدينية ومبدأ الدولة الدينية. والأمم الاسلامية لا تزال متأخرة، لأنها لم تجتز طور العمل بمبدأ الجنسية الدينية. المبدأ القومي لا يعني تخلي المؤمن عن دينه وتعاليمه. جنون الخلود 161

 

القول في خلاف المسيحية والإسلام وتفضيل هذا الدين على ذلك ليس مجرد قول يقوله أحمق، بل اعتقادات شاعت في أوساط واسعة بين المسلمين والمسيحيين. يغذي هذا الاعتقاد عدد من المفكرين الرجعيين الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين.

 

مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد كرد علي ومن تلامذتها شكيب ارسلان وغيره الذين يريدون الرجوع الى الدولة الدينية ويرون أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها

159جنون الخلود

 

ردا على أصحاب الدعوة الى الدولة الدينية ومحاربة الأديان الأخرى يطرح سعادة السؤال التالي حول غرض الدين الاسلامي:

 

أصحيح أن الدين الاسلامي لا يتم إلا بإعلائه على الأديان الأخرى وبيع المسلمين أنفسهم حتى يتم انتصار الاسلام ويعم العالم؟ وأن هذا هو غرضه الأساسي؟ جنون الخلود 162

 

 

الدعوة الى المكاشفة

 

الأجنبي المتيقظ لقوميته ومصالحها، يستفيد من استحكام الاعتقادات الباطلة والعداوات بين أبناء المجتمع الواحد والنتيجة كما يقول سعادة هي العبودية الحتمية التي يشترك المسلمون والمسيحيون في جريمة دفع بعضهم بعضا إليها. وما هو السبب؟

 

السبب هو الاعتقادات الفاسدة والاجتهادات المغرضة من الفريقين، المبنية بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهية أو لاهوتية هي أيضا فاسدة أو لا موجب حتمي لها من الوجهة الاجتماعية-الدينية.

 

ويدعو الى المكاشفة حسب قول النبي محمد"لو تكاشفتم لما تراقبتم" ويرى في هذا القول حكمة اجتماعية كبيرة تسهل الكثير من الصعوبات. فتعلم كل فئة ما تضمر لها الفئة الأخرى بكل ما فيه من جميل وقبيح. فإذا تكاشفتم فهو أول الطريق الى إصلاح حالكم وإقالة عثاركم. وحل كل قضية يتطلب معرفة جميع أضلاعها وإلا كان حلا فاسدا لايثبت. جنون الخلود 164

 

من أقوال المتعنتين المسيحيين: لقينا الكثير من الاضطهاد من المحمديين، وحرمنا مساواة الحقوق....

 

إعدام المستقبل بسبب جهالات الماضي هو أسوأ الضلال. ماذا كان يحدث لألمانية لو ظل بروتستانتيوها وكاثوليكيوها يقولون مثل هذا القول، أي أنهم لا يستطيعون نسيان الأحقاد والاضطهادات القديمة بين تينك الشيعتين التي ولدت بينهما ما يعرف في التاريخ بحرب الثلاثين سنة؟ جنون الخلود 266

 

الأمة يجب أن تحيا للحاضر والمستقبل وليس للماضي، إذا نظرنا إلى الماضي فهو لأخذ العبر وليس للرجوع الى حالته المؤسفة. جنون الخلود 267

 

رجال الدين ورجال السياسة

 

"لا نوافق رجال السلطة الروحية من الملتين ولا رجال النفوذ السياسي المبني على المذهب والملة. فرجال الدين من الملتين لا يقبلون الاعتراف بأن الدينين صحيحان. فكل فريق يدّعي أنّ دينه هو الصحيح وأن خلاص النفوس لا يتم إلا به. ومما لا شك فيه أن هذا البحث ليس موجها الى رجال الدين أنفسهم، بل الى الخاصة والعامة من العلمانيين". جنون الخلود 199

 

إذا كانت آيات القتال ونصرة الله لا تبطل آيات الدعوة بالحكمة والموعظة والاكتفاء بالإرشاد والإنذار وسلك طريق الإقناع، فهل تبطل هذه الآيات الأخيرة آيات القتال ونصرة الله؟

 

وجوابنا: كلا وألف كلا. فبعض آيات الكتاب لا يمكن أن يبطل بعض آياته إلا للذين لا يتدبرونه،

 

إن القتال فرض على المسلمين لإقامة الدين حيث يوجد من يريد إبطاله، أي حيث يكون نزاع ديني كالذي جرى في العربة مع أهل الشرك. أما حيث لا يوجد شرك وحيث النزاع قائم بين مجتمع ومجتمع، بين أمة وأمة، بالمعنى الاجتماعي، فالدعوة الى الجهاد الديني لا تدل إلا على عقلية كعقلية العرب الذين لم يفهم معظمهم من المسيحية غير شرب الخمر ولا من الإسلام غير طلب الغنائم". جنون الخلود 206

 

المسيحية والاسلام دينان إلهيان يتفقان في أغراض الدين الأخيرة ويثبت كل منهما الآخر، فيجب أن لا يكون بينهما اصطدام ولا نزاع، بل محبة واتحاد.

 

المسيحية والاسلام يتممان أغراضهما الأخيرة بدون حروب ومنازعات، بل بالتساند والانتشار كل منهما في البيئات الأكثر موافقة لتعاليمه وقبولا لها. فمن قبل الاسلام دينا فقد اهتدى الى الله، إذا كان الله هو غرض الدين الأخير، ومن قبل المسيحية فهو مؤمن مهتد الى الله، "وما اختلفتم من شيء فحكمه الى الله" "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب". "لا تدينوا لئلا تدانوا". جنون الخلود 195""

 

 
التاريخ: 2022-04-23
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro