مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
مقدمات عقائدية وخلاصات صراعية
 
رعد، انعام
إعداد: منشورات عمدة الإذاعة والإعلام
 

 

 

الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ

منشورات عمدة الإذاعة والإعلام

العقيدة السورية القوميّة الاجتماعيّة

 

  1

الصف الإذاعي المركزي

 

 

 

الطبعة الأولى

آذار 1989

 

 

 المقدمة

 

"مقدمات عقائدية وخلاصات صراعية" هي محاضرة ألقاها الأمين إنعام رعد عضو المجلس الأعلى، عميد الإذاعة والإعلام في الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ، في الصف الإذاعي المركزي الذي نظّمته عمدة الإذاعة والإعلام وعقدت الدورة الأولى منه بين 7 و9 تشرين الأول 1988 تحت شعار "إعادة التأصيل والتأهيل في البناء الداخلي".

 

وقد حضر هذه الدورة نظّار الإذاعة في منفذيات الكيان اللبناني إضافة إلى عدد مختار من الكفاءات الإذاعية.

 

وهذه المحاضرة هي جزء من سلسلة محاضرات تشكّل بمجموعها منهجاً إذاعياً متكاملاً يتناول شؤون العقيدة والدستور ونظام المؤسسات والأزمة الحزبية بأبعادها الدستورية والعقائدية والمسلكية، كما يتناول استراتيجية الصراع عند سعاده، إضافة إلى قراءة في تاريخ الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ.

 

وعمدة الإذاعة والإعلام، إذ تصدر هذه المحاضرات في سلسلة كتيبات تحمل عنوان "دروس الصف الإذاعي المركزي"؛ فذلك لأن توحيد المنهج الفكري والدستوري والقراءة الموضوعية لتاريخ الحزب باتا ضرورة ملحّة، في هذه المرحلة، ينبغي تعميمها وتعميق البحث فيها. وذلك عبر تنظيم الصفوف الإذاعية المحلية في مختلف المنفذيات التي تشكل هذه الدروس مادتها الأساسيّة.

 

عمدة الإذاعة والإعلام

 

 

 

القسم الأول، في المقدمات العقائدية:

 

 

1 اقتران الوعي بالصراع منذ التأسيس وحتى الاستشهاد.

 

أبدأ محاضرتي بمخطط أرجو أن نتابعه في هذه الدراسة وهو أننا سنعمد إلى جمل من الزعيم، مقتبسَات منه نعتبرها مفاصل مفروض أن يحفظها القوميّ الاجتماعيّ وأن يفهم أبعادها وأن يسلّطها على حركة الأحداث والصراع. وفي هذا الصدد لا بدّ من القول بأن حفظ أقوال الزعيم يشكل مادة تثقيفية هامة للوعي العقائدي والعمل التثقيفي. ولكن في مراحل كثيرة كان يجتزَأ من الزعيم ما يُلهب الوجدان في خطبه وأقواله. وهذا ضروريّ جداً لأن الوجدان أساسيّ في الصراع القوميّ الاجتماعيّ، ولكن إلى حد بعيد مفروض أن يقترن ذلك بما يصقل العقل ويطرح المفاهيم الأساسيّة التي يتأسس عليها الوجدان في شفافيته. فنحن في الأساس حركة عقائدية، حركة مفاهيم جديدة. وطمس المفاهيم أي الجمل والمقاطع والفقرات من سعاده التي تشكل البنيان العقائدي والمتماسك، كان جزءاً من عملية الجهل أو التجهيل في الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ التي علينا أن نتصدّى لها بالعودة إلى هذه المفاصل الأساس في فهم عقيدتنا وحركة صراعنا القوميّ الاجتماعيّ.

 

انطلاقاً من هنا نؤكد في المقولة الأولى لهذه الدراسة بأن عقيدتنا السورية القوميّة الاجتماعيّة تنطلق من كونها عقيدة تحرير وتوحيد الأمة في وجه عملية تفتيت واستعباد الأمة في المؤامرة الصهيونية الاستعمارية، فهذا هو الإيجاب في وجه السلب. وهذا ما ألح إليه سعاده في أكثر من قول مفصلي من تعاليمه وأقواله. أكتفي هنا بالإشارة إلى قولين على تباعد الزمن بينهما، قول قبل التأسيس في مقاله الشهير في الحركة الصهيونية في شباط العام 1925 عندما اعتبر أن الحركة الصهيونية سائرة إلى النجاح رغم أنها تدور على محور غير طبيعي هو محور الباطل ما لم تقُم في وجه الخطة الصهيونية الخطة القوميّة المعاكسة. بهذا حدد سعاده مسار الصراع والغرض من إنشاء الحركة السورية القوميّة الاجتماعيّة على أنها استجماع قضية الامة وقوتها لمجابهة الخطة المستهدفة وجودنا القوميّ بالتفتيت والدمار والإفناء. فهي حركة الحياة في وجه حركة الموت وهي حركة الانبعاث في وجه حركة تدمير حياتنا ووجودنا. وهكذا اقترن الوعي بالصراع منذ مراحل التأسيس الأولى.

 

في 1949 في بيان الأول من أيار وقبيل استشهاد الزعيم بشهرين يقول حول الوعي القوميّ: "إن انعدام الوعي القوميّ أفقدنا الأرض والموارد". فالوعي القوميّ عند سعاده هو منطلق الصراع لاستعادة الأرض وتثبيت السيادة عليها. ومن هنا يتأكد هذا التواصل في فكر سعاده من 1925 حين اعتبر الخطة القوميّة المعاكسة ضرورية وواجبة الوجود للتصدي للخطة الصهيونية وحين اعتبر قبيل استشهاده في 1949 أي بعد ربع قرن أن انعدام الوعي القوميّ أفقدنا الأرض والموارد، وبالتالي إن استعادة الوعي القوميّ غرض نضاليّ صراعيّ لاستعادة الأرض والموارد. فلا طريق لاستعادة الأرض والموارد بتوحيد البلاد وتحريرها إلا انطلاقاً من الوعي القوميّ.

 

والوعي القوميّ كما يتأكد لنا لاحقاً هو وعي قوميّ اجتماعيّ، وعي قوميّ مقترن بمضمون اجتماعيّ ثوريّ يطيح بأنظمة التميّز والقهر، أنظمة الفتنة الطائفية القائمة على الحرمان والتميز، لأن الوحدة القوميّة كما يحددها المعلم لاحقاً لا يمكن أن تتحقق ضمن نظام اجتماعيّ سيئ أو نظام اقتصاديّ سيئ. هذه هي الشمولية القوميّة الاجتماعيّة في أسسها العقائدية. من الواضح إذاً أن عقيدتنا لم تأت في فراغ من الزمان والمكان والمرحلة التاريخية، بل هي عقيدة أمة منهوبة أراضيها مغتصَبة أجزاء منها مهدّدة بوجودها معتدَى عليها مجزّأة بمؤامرة استعمارية ومجزّأة اجتماعيّاً بفعل عصر الانحطاط الذي عصفت بها خلاله العصبيات الجزئية القبلية والطائفية والعنصرية فغيِّب تراثها وشخصيتها القوميّة التي باتت تفتقر إلى الوعي بالهوية القوميّة الواحدة الموحدة.

 

في مثل هذه الحال كانت العقيدة السورية القوميّة الاجتماعيّة، وبالتالي تأسيس الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ، هو رد أمتنا النهضوي الثوري الصراعي على هذه الحال. وعندما يقول سعاده بأن انعدام الوعي القوميّ أفقدنا الأرض والموارد فهو إذاً يعود إلى الأساس بتأسيس الوعي القوميّ لنستردّ أرضنا ومواردنا. فالمنطلق هو معرفة الذات انطلاقاً من أن المجتمع معرفة والمعرفة قوة، كما قال سعاده، ومعرفة الذات تؤدي إلى استجماع قوة الذات القوميّة لمواجهة العدو المستهدف كل الوجود. والوعي أي معرفة الذات يطرح مع سعاده "سؤال من نحن"؟.

 

 

 

عملية التجهيل الكبرى لهويتنا وشخصيتنا القوميّة

 

 

في مواجهة عملية التجهيل الكبرى في هويتنا القوميّة يكفي أن نشي هنا إلى تصريح اللورد بلفور الشهير بإقامة "الوطن القوميّ اليهودي" في سورية الجنوبية، حيث نصَّ في الإشارة إلى شعبنا، على أنه الفئات غير اليهودية، أي أننا لا هوية لنا، نعرَّف بالسلب انطلاقاً من المقارنة مع اليهود، فهم الوجود حسب التخطيط الاستعماري ونحن انطلاقاً من هذا الوجود، الفئات غير اليهودية أي ليس لنا اسم ولا هوية في المخطط الاستعماري التجهيلي لهويتنا نحن غير اليهود أما اسمنا فمشطوب.

 

في الآونة الأخيرة، في السنوات العشرين الأخيرة، تسمعون بمشكلة الشرق الأوسط. أيضاً تعبير فضفاض ولا يُقال بأنها مشكلة صراع أمتنا السورية مع الغزوة الاستيطانية اليهودية، وفي كتاب التاريخ يكتب الغرب عن "تاريخ الشرق" أو "تاريخ الشرق القديم". وهو يعني حضارتنا السورية في بابل وفي "ايبلا" وفي "ماري" وفي أرض كنعان، حضارتنا السورية الجامعة لكل عطاءات أمتنا الحضارية في مختلف الحقب تسمّى بتاريخ الشرق أو تاريخ الشرق القديم أو تاريخ الشرق الأدنى. من هنا كان إطلاق الحقيقة السورية هو تفجير هذا الوعي الذي طال طمسه بالمؤامرة الاستعمارية المستمرة. وفي ضوء هذا نفهم أن المدخل لمبادئنا الأساسيّة التي تؤكد على عقيدة وحدة الأمة وهويتها وتؤكد الاسم السوري في كل المبادئ الأساسيّة الثمانية، إنما هو الردّ على عملية التجهيل الاستعمارية الصهيونية هذه لهويتنا القوميّة، فالمبدأ الأول سوريا للسوريون أمة تامة، إن الوطن هو للأمة ولو لم تكن الأمة لما كان الوطن لها.

 

والقضية السورية هي قضية قوميّة. هي ليست قضية قبائل أو عناصر أو فئات. هي قضية الأمة. هي قضية قوميّة قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى. وفي المبدأ الثالث القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري. وفي المبدأ الرابع الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي. هي ليست شأناً طارئاً بل هي وجود تاريخي مستمر للجماعة البشرية الموحّدة على أرض الوطن في تفاعلها مع بيئتها وفي اندماج عناصرها في مزيجها الموحّد. والمبدأ الخامس "الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية وهي ذات حدود جغرافية تميّزها عن سواها. تمتدّ من جبال "طوروس" في الشمال الغربي وجبال "البختياري" في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص". والمبدأ السادس الأمة السورية مجتمع واحد والمبدأ السابع تستمدّ النهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة روحها من مواهب الأمة السورية القوميّة وتاريخها الثقافي السياسي القوميّ والمبدأ الثامن مصلحة سورية فوق كل مصلحة.

 

 

 

* مفاصل أساسيّة في فهم مبادئنا الأساسيّة

 

 

نتوقف عند هذه المبادئ الأساسيّة التي تشكل أساس عقيدتنا، فكما قلنا بأن تعيين الهوية القوميّة وإعادة الاعتبار لسوريتنا التي طمسها الاستعمار والصهيونية هما منطلق الوعي القوميّ، ولكن لنتوقف عند مفاصل أساسيّة في دراستنا للمبادئ الأساسيّة.

 

 

أولاً: الأساس الحقوقيّ القوميّ: وحدة الأمة والوطن.

 

أولاً: حين وضع الزعيم المبادئ القوميّة، كان يرد على هذا السلخ بين أرضنا التي توهب مشاعاً بالإرادة الأجنبية القاهرة والمستعبِدة للأمم الأخرى أو الجماعات المستوطنة، فتارة أجزاء منها توهب إلى تركيا وطوراً يقام عليها كيان الاستيطان الصهيوني ومرة تتقاسمها بريطانيا وفرنسا وتغير في الحدود هنا أو هناك كأنما أرض الوطن مشاع من هنا وهناك. وكان هذا الرد المحكم في مبادئنا الأساسيّة بتأكيد وحدة الأمة والوطن، وفي ذلك يقول سعاده بأن الفكرة الأساسيّة الجامعة لمبادئنا الأساسيّة هي فكرة الترابط بين الأمة والوطن "فكرة وحدة الأمة والوطن".

 

وفي هذا يؤكد سعاده عقيدة الوطن فيواجه عقيدة الاستيطان. إذاً فإن الاستيطان والاستعمار من قبلُ قد قام على أساس فصل الأمة عن الوطن لأخذ الوطن، بعد أن يُهجّر الأمة أو يستعبدها وكأن ليس للأمة إرادة في مصير الوطن، فإن العقيدة السورية القوميّة الاجتماعيّة في مبادئها الأساسيّة تؤكد الترابط بين الأمة والوطن فلا وطن بدون أمة ولا أمة بدون وطن. والأمة والوطن هما وحدة قوميّة لا انفصام بينهما ولا يمكن تجزئتها لأنها حقيقة كلية غير قابلة للتجزئة.

 

والزعيم في "نشوء الأمم " يعتبر الوطن هو العامل الأساسيّ في القوميّة فإلى الوطن وبريته يعود المرء ليستذكر ولاءه القوميّ وانتماءه وحيث ولد وحيث ترعرع وحيث ولد أجداده واستمروا.

 

من هنا كانت عقيدة الوطن في وجه الاستيطان الذي يقوم على سلخ الوطن لاغتصابه عن الأمة.

 

وحين وضع سعاده المبادئ الأساسيّة كان يردّ أيضاً على هذا التسيب الاستعماري في التعاطي مع أرضنا ومواردنا ومصيرنا القوميّ، كان يرد على 1916 في اتفاقية "سايكس – بيكو" التي تصرفت بالوطن وفق المصالح الاستعمارية والصهيونية لاحقاً في 1917، وعد بلفور، كان يؤسس الأساس الحقوقيّ للقضية القوميّة في ترابط الأمة والوطن وفي إيضاح هوية الأمة وحدود الوطن وبيئته الطبيعية. كان يردّ على تصرف الاستعمار بوطننا فجزّأه إلى كيانات على قياس مصالح أتباعه. فمرة عرش لفيصل في دمشق وحين يتناقض ذلك مع القرعة التي اقترعها الاستعمار الفرنسي والبريطاني في الشام فيدخلها الجنرال غورو بعد معركة ميسلون الباسلة فيعطي فيصل عرشاً في العراق، ويعطي عبدلله عرش إمارة في ما يعرَف بشرق الأردن فتصبح فلسطين جزءاً منها إمارة والجزء الآخر للكيان الصهيوني الاستيطاني، ولبنان يقتطع ككيان طائفي لطمأنة المسيحيين وتخصيصاً المارونية في ظل الحماية الأجنبية. هكذا يجري التصرف الكيفي بقضية الأمة والوطن من قبل الاستعمار وأتباعه وأكثر من ذلك فمراسلات مكماهون للملك حسين ملك الحجاز وقبل وعد بالفور ثم بعده تأتي لتعطي من مشاعات يعتبرها الاستعمار نهباً لإرادته، فمملكةٌ للعرب بعد أن تحفًّظ مكماهون على أساس اتفاقية سايكس - بيكو "فيما لا يتناقض مع مصالح فرنسا" و"مصالح إقامة كيان يهودي" في جزء من أرضنا.

 

كان هذا هو الردّ على "سيفر" و"لوزان" ومن قبل على سايكس - بيكو، وبلفور ولم يكن هناك كما يقول سعاده في رسالته إلى الأمة في 1948 قضية سوريا واضحة لأبناء الأمة يدافعون عنا على أساس وحدتها وتكاملها، بل كانت هناك قضايا أخرى بحيث أصبحت قضية أمتنا مشاعاً.

 

وتأتي نكبة 1948 فيحذر الزعيم منها بعد أن أدان ما حصل في 1939، كيف أن الملوك العرب أخمدوا ببيان منهم ثورة 1936-1939 في فلسطين والتي فجّرها قادة من كل أرجاء أمتنا بينهم القائد القوميّ الاجتماعي سعيد العاص، أخمدها الملوك العرب ببيان يمارس أيضاً المشاعية والوصاية على إرادة أمتنا وشعبنا باعتبار أن الحليف لهم بريطانيا تواجه ظروف الحرب فيجب أن نكون معها "شرفاء" وهي التي خانت الشرف وأعطت فلسطين لليهود.

 

وفي 1948 يحذر الزعيم في "المحاضرات العشر" من صفقات تعقدها مصر فاروق في ذلك الحين والسعودية مع أميركا على حساب فلسطين. ويؤكد أن القضية السورية يجب أن تكون قضية قوميّة مستقلة مسؤول عنها الشعب السوري صاحب الحق في تقرير مصيره وفي تقرير مصير وطنه. وهذا الخط لم يزل مستمراً، ماذا فعل السادات في كامب دايفيد؟ وماذا يفعل حسني مبارك اليوم الذي يطوف العواصم العربية ببيعه ما يعتبره ملكاً له من قضية فلسطين لتصفيتها مقابل تخفيف الديون عن مصر التي بلغت فوق الـ 44 مليار دولار؟ القضية تباع في المشاع ومن هنا تأكيد أن القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري وأنها قضية قوميّة قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.

 

هذا الكلام كان من الممكن أن يثير وأثار في الماضي الجدل والمشاحنات العقدية والفكرية والسياسية مع أطراف قوميّة عديدة في بيئتنا السورية. ولكن حركة الصراع واستراتيجية الصراع القوميّ والدفاع عن الوجود القوميّ إزاء الغزوة الصهيونية التي لم تعد مشروعاً، كما كانت عند تأسيس الحزب أو حتى عند استشهاد الزعيم وقيام الكيان الصهيوني على جزء من أرض الوطن، بل أصبحت إمبراطورية أو مشروع إمبراطورية صهيونية يخطط لاغتصاب أرضنا من الفرات إلى النيل يمدّ يده لاغتصاب الأرض ويمدّ يده الأخرى بصهينة في الداخل لتمزيق المجتمع وتفتيته إلى ممالك الطوائف وإماراتها المتناقضة المتنافرة. في وجه الخطر الدائم بعد التجارب المريرة للوحدوية الشاملة للمنطقة العربية من الخليج إلى المحيط، تجمّع الوعي الاستراتيجي في مركز القرار القوميّ في دمشق يمارس على الأرض ما يتفق مع التوجهات الأساسيّة لمبادئنا في أن القضية السورية هي قضية قوميّة، هي قضية الأمة والوطن، هي قضية مهما كانت صلات العروبة بها وشيجة، ومهما كانت حميمة ودافئة، ومهما كان التضامن العربي واجباً وضرورياً، كما سنوضح لاحقاً إلا أنها قضية مختصة بالسوريين والمساندة العربية تأتي لدعم القرار القوميّ في سوريا.

 

ومن حرص الشام على قرارها القوميّ في لبنان ألَّا تتدخل معه إرادات عربية أخرى ومن هنا حرصها على المسألة الفلسطينية ألًّا تكون مشاعاً تدخل إليه قضايا أخرى. وهذا الحرص العملي يتفق مع الحرص المبدئي الذي هو جوهر مبادئنا الأساسيّة.

 

من هنا تنامى الوعي القوميّ رغم الكوارث بقيام مركز القرار القوميّ في دمشق ووعي الفصائل الوطنية الفلسطينية والأحزاب الوطنية اللبنانية لوحدة الخندق القوميّ الذي نقاتل فيه الغزو الصهيوني الاستعماري ولوحدة المصير.

 

وهذا الوعي الذي شمل العالم العربي بأقطار شقيقة عزيزة، كما يحصل اليوم في المغرب العربي، إذ تقوم الوحدة المغربية بعد أن قام مجلس التعاون الخليجي وكلها ظواهر تؤكد بأن المسار نحو الوحدة العربية لا يمكن أن يكون انفلاشياً، كما حصل في الماضي، ولا رومانسياً، بل لا بد أن يتأسس في الجغرافية في الأرض ولا بد أن يتأسس في المجتمع الذي يقوم في الجغرافيا عبر التاريخ الطويل.

 

من هنا أن المسألة تحولت إيجابياً في السنوات الأخيرة بهذا التمحور العربي على البيئات الطبيعية ومجتمعاتها ولإسقاط التناقض بين التوجه للاتحاد العربي والرابطة العربية وبين قيام الوحدات الطبيعية، بحيث لم يعد الجدل الحاد حول عوامل تكوين الأمة سبباً في الخلافات التناحرية التي كانت قائمة في الخمسينيات أو الأربعينيات. بل أصبحت تعاليم عوامل تكوين الأمة ونشوئها هي وعي عقائدي فكري نستمرُّ به في المجال الثقافي والتثقيفي دون أن يؤدي هذا إلى جدال تناحري مع القوى التحررية في أمتنا والعالم العربي التي اتجهت عملياً صوب الوحدات الطبيعية ومجتمعاتها وأخذت تدرك أن ليس من تناقض بين هذا المسعى التأسيسي بقيام الوحدة وبين استهداف الاتحاد العربي كغرض أوسع أو أبعد.

 

إن حقائق المجتمع والصراع قد فرضت نفسها موضوعياً، ونحن باعتبارنا قد انطلقنا من الحقائق العلمية الموضوعيّة نهلل لهذه النتيجة نتآلف مع كل من أقام استراتيجيته الصراعية قوميّاً أو عربياً على أساس هذه الحقائق الموضوعية.

 

 

 

ثانياً: الوعي بالجذور:

 

 

  1. دحر العملية الصهيونية الاستعمارية تشويه حضارتنا وطمسها.

 

ويهمنا هما أن نذكر بأن عملية تشويه وطمس الحضارة السورية العظيمة كانت هي المؤامرة الاستعمارية اليهودية التي استمرت حقباً وأجيالاً، ولا سيما حتى السنوات الأخيرة فكُل اكتشاف أثري لحضارتنا تقابله حملةٌ يهودية حاقدة في العالم. وكلنا يذكر تلك الحملة التي تجاوبت في الغرب على صفحات مجلة "التايم" الأميركية وغيرها من الدوريات السياسية التاريخية ضد مكتشفات "إيبلا" قبل سنوات التي كانت ضوءاً جديداً ينير من جهةٌ ترابط حضارة الهلال السوري الخصيب شرقيةً وغربيةً. فـ"إيبلا" المتصلة بـ"ماري" وبـ "أوغاريت" على الساحل هي نفسها "ايبلا" المتصلة بالرافدين وحضارة المدن التي أقيمت ما بين النهرين. فهي تمثل وحدة الحضارة السورية. ومن جهة ثانية إنها ضوء بعض الأساطير البابلية التي دوّنت التوراة في بابل على يد الكاتب عزرا بعد عودته من بابل. فأخذ من أساطير بابل قصة الخلق والطوفان وغيرها من الأساطير. إنها ضوء جديد من إيبلا يكشف الكثير مما ورد في التوراة على أنه هو مقتبَس أو هو منسوخ أو مشوَّه من حضارتنا. إنه كشف زيف الحضارة اليهودية يتجلّى في كل ما جادت أرضنا بمكوّناتها عن حضارتنا الأصلية التي كانت دفينة في بواطنها.

 

ولا ننسى هنا كيف نهب الغزاة الصهاينة الكثير من آثار صور وكيف نهبوا آثار أريحا. فيشوّهون حضارتنا. يقومون بغزو حضارتنا كما يقومون بغزو أرضنا ومياهنا ومواردنا لأنهم يريدون تشويه حقيقتنا.

 

والمدرسة الرومانية الإغريقية الاستعمارية الحاقدة، كما يقول الزعيم في "المحاضرات العشر" حاولت أيضاً أن تطمس أن سوريا كانت الأمّ لحضارة المتوسط. وردّ سعاده على ذلك بأننا نحن أساس حضارة المتوسط "مديترانية". فهمه البعض وكأنه يرفض أن يقول ما قاله في نص آخر بأننا أمة عربية في الوقت نفسه. لكننا أمة عربية "مديترانية". نحن أساس حضارة المتوسط، ليس المتوسط بحيرة إيطاليا، كما أشاع موسوليني، ولا بحيرة فرنسية، كما أشاع الاستعمار الفرنسي، ولا هو بحيرة رومانية بعد أن وصل قاهر جبال الألب هنيبعل إلى روما، بل هو بحيرة سوريّة. كان كذلك في زمن الكنعانيين وأصبح كذلك في زمن الأمويين حين حمل السوريون من الشام وحمص العروبة إلى الأندلس بنت الشام فكان البحر مجدّداً بحراً سورياً عربياً.

 

هذه الحقائق التاريخية يؤكدها سعاده في المبادئ الأساسيّة فيما يؤكد أن النهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة في المبدأ الأساسيّ السابع تستمد روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القوميّ. وحين يؤكد أن وحدة الشعب السوري في المبدأ الأساسيّ الرابع متولّدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي. والمكتشفات التاريخية تشير إلى ألوف السنين قبل الميلاد بل إلى أن أقدم إنسان في الأرض، في أطوار نمو الإنسان، كان في سورية، وربما ما هو مكتشف يعود إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد وما هو في طور التقدير العلمي يعود إلى مئات الألوف بل إلى أكثر من مليون عام كان الإنسان ما قبل العصر الحجري قد نشأ وتطور في أرض سورية الخصيبة العظيمة.

 

إن هذا المبدأ لا ينفي إطلاقاً عروبة سورية التي يؤكدها. فكما أننا نشدد على الجذور لأننا نريد أن نعي حضارتنا بكل تجلياتها وبالنظرة المشاهدة التاريخية الموضوعية لإنساننا منذ كانت الأرض، فإننا نؤكد أيضاً عروبة السوريين وسورية. وهذه الحقيقة المركبة هي التي نؤكد عليها في إيضاحنا هذا المبدأ والذي أوضحته مؤلفات سابقة مركزية سنداً إلى تراث الزعيم.

 

 

ب- اليقظة بالجذور الحضارية موضع اعتزاز سوري عام

 

وهنا نشير إلى اليقظة الحضارية بالجذور في بلاد الشام، حيث تتجلى هذه باعتزاز بالمكتشفات الأثرية بعد أن كان التناقض في الماضي يسود بين حضارة الجذور وبين العروبة عند القائلين بالقوميّة العربية، لكأنما حضارة الجذور هي ردةٌ شعوبية. بينما الآن وقد تكاملت المعرفة وأصبحت حضارة الجذور موضع اعتزاز سوري عام.

 

فها هي دورة المتوسط في اللاذقية 1987 تتخذ شعاراً لها السفن المقلعة في رأس شمرا وأوغاريت ويكرس ذلك خطاب الرئيس الأسد بإشارته إلى تلك السفن التي انطلقت من رأس شمرا نقلت الكنوز والمعرفة إلى العالم عبر المتوسط.

 

 

ج- سورية الحضارية أدخلت العروبة المتوسط

 

وعالم العروبة هو عالم الحاضر والمستقبل بقدر ما هو عالم حقبة مديدة في التاريخ السوري. هذه الحقيقة السورية التاريخية تأسست عليها عروبتنا ولا تتناقض معها. فسوريا الحضارية هي التي احتضنت العروبة وأدخلتها المتوسط انطلاقاً من دمشق وبغداد. وهذه حقيقة مفروض معرفتها وتأكيدها. فكما أننا أولينا حضارة الجذور كل الاهتمام، لأنها كانت مطمورة بمؤامرةٍ استعمارية صهيونية علينا أن نولي دور سوريا العربي في عصر بناء الدولة العربية وقيام الثقافة الإسلامية العربية في حواضر سوريا لا سيما عملية تمازج الحضارات التي حضنتها سوريا في العصر الأموي والعباسي كل الاهتمام الذي يستحقّ، فلماذا يُقال إن تلك الثقافة كانت وليدة تمازج الحضارتين الفارسية واليونانية بينما الجذر سوري والأرض سورية والحضارة في أساسها سورية. والهيلينية كانت إلى حد كبير متأثرة بالحضارة السورية في بعض مفاصلها مع تقدير عملية الخلق الإغريقي للأمة اليونانية.

 

من هنا، إن وعينا لدور سورية العربي هو مكمل لوعي حقيقة سورية التاريخية التي تأسس عليها الدور العربي والذي يستمرّ. فنحن نرفض الشعوبية أي الارتداد عن العصر العربي. وذلك واضح في رسالة الزعيم إلى صديقه في 1936 عندما يقول بأننا لسنا نمثل ارتداداً فينيقياً متنكراً لعروبتنا. فالفينيقية الكنعانية جزء من تراثنا وحقيقتنا. هذه الحقيقة استعربت وأعطت للعروبة الكثير من شخصيتها وعلومها وفنونها. ذلك أن من يعطِ يصبح شريكاً وشريكاً فعالاً ولا يمكن أن يتخلى عن عطائه. ثم أن عالم العروبة هو عالمنا المعاصر، عالم الحاضر والمستقبل بقدر ما هو عالم حقبة مديدة من تاريخنا السوري. فاليوم الأسر الإقليمية تتكتل وتتجمع على مصالحها المشتركة والأسرة العربية تواجه هذا التحدي، حيث تقوم مقولة الوحدة الأوروبية بعد مقولة الوحدة الأميركية والوحدة السوفياتية وقيام الأقاليم العملاقة المتجددة في أن تصوغ وحدتها ولكن انطلاقاً من الحقائق الموضوعية الاجتماعيّة والجغرافية والاقتصاديّة والتاريخية.

 

 

د- مفهوم سوريتنا وعروبتنا تكامل لا تناقض

 

لذلك لم يكن من تناقض بين صيغة الجبهة العربية التي نصّت عليها غاية الحزب وبين أن تأخذ هذه الصيغة في هذه المرحلة شكل الاتحاد العربي الذي تصوغه المجتمعات العربية انطلاقاً من تحقق وحداتها الطبيعية دون أي تناقض. نحن من المعتقدين بأن الاتحاد العربي إنما يُرسى على الوحدات الطبيعية للمجتمعات العربية وأن الجامعة العربية بشكلها الحاضر تضمّ أشلاء أمم مجزأة ولذلك كانت عاجزة عن الفعل وستبقى، عاجزة عن الفعل في وجه التكتلات الإقليمية الكبرى التي انطلقت من نواة قوميّة أساسيّة قادت تلك الاتحادات. واليوم تشكل صياغة الاتحاد العربي على أساس هذا الواقع الموضوعي للمجتمعات المتعدّدة في العالم العربي انتصاراً لمفهوم الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ الذي طرحه منذ العام 1944 في مذكرته للجامعة العربية حول قيام اتحاد عربي في شؤون السياسة والدفاع وحتى في الشؤون الثقافية والتربوية وفي الشؤون الاقتصاديّة أيضاً على أساس أن يكون هذا الاتحاد قائماً على واقع الوحدات الطبيعية وتحقيقها وغير متناقض معه.

 

فما يحصل اليوم في العالم العربي هو تأكيد الحقائق التي دعت إليها مذكرة الحزب سنة 1944، وعندما عاد الزعيم نقض الكثير من الانحرافات التي حصلت في غيابه، لكنه لم يمسّ هذه المذكرة، لأنها جاءت في إطار توجهه نحو الجبهة العربية وصيغها المتطورة في أكثر من نص له وهو الذي اعتبر أن العالم العربي هو عالمنا وأننا سيفه ودرعه وحماته، واننا إذا ما كان الأمر بينه وبين غيره من العوالم فنحن حماته وسياجه ودرعه وسيفه، وهو الذي أكد في أكثر من مصدر من مصادره على إمكان قيام صيغة اتحادية مشترطاً أن تكون المصالح المشتركة قد تطورت إلى حد أن تشكل الأساس الموضوعي لمثل هذا الاتحاد، إذا لم يقم على شراكة إلى المصالح وتطورها نحو وحدة المصالح التي لم ينفها كإمكان للمستقبل، فإنها تصبح عندها وحدة فوقية، وحدة سياسية أو دينية أو رأسمالية متسلطة لدولة على سائر الدول العربية، كم مرت التجارب الوحدوية التي فشلت في الماضي.

 

 

 

  1. : مفاصل هامة في المبدأين الأساسيّ الخامس والأساسيّ السادس.

 

 

  1. الاتحاد في الحياة والنظام الجديد

 

إن فكرة القوميّة السورية الاجتماعيّة ترتكز، كما قلنا على وحدة الأمة والوطن وعلى مبدأ التفاعل بين الجماعات البشرية في انصهارها في الجماعة القوميّة الواحدة عبر الزمن وتفاعلها منذ وجود واستقرار الإنسان أي الجماعة البشرية في الأرض مع بيئتها الطبيعية لإنتاج الحياة. ثم قيام جماعتها القوميّة أي الشخصية القوميّة التي لا تقوم إلا بامتداد دورة العمران في البيئة الطبيعية، كلها كما يرد في "نشوء الأمم" وفي شرح التعاليم كما في "المحاضرات العشر" وفي نصوص عديدة للزعيم. فالاتحاد في الحياة هو ذو دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة، كما يقول الزعيم في تعريفه للأمة في "نشوء الأمم"، وكما يرد أيضاً في إيضاحه للمبدأ الأساسيّ الخامس. يقول الزعيم في الصفحة 87 إلى 89 من "المحاضرات العشر" في شرحه المبدأ الأساسيّ الخامس الذي يحدد الوطن السوري في البيئة الطبيعية وحدودها ما يلي:

  •  

ويمضي النص لسعاده: "إن الأرض السورية بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تكمل بعضها بعضاً وصيانة أية جهة من جهاتها لصيانة الجهات الأخرى من أي اجتياح حربي للخطوط الإستراتيجية الجنوبية أو الشمالية جعل سورية الطبيعية كلها تحت سيطرة السقوط في قبضة الجيش المجتاح لأنه لا تعود توجد فواصل داخلية في أجزاء البلاد".

 

ويقول سعاده في رده على الانعزال اللبناني "وحاربنا لننقذ اللبنانيين" في كتاب "الانعزالية أفلست" ص. 137 "إن في البلاد السورية وحدة قوميّة فعلية في الحياة الاجتماعيّة والمصالح النفسية والاقتصاديّة وفي المصير الشعبي كله لا يمكن كل عوارض الحدود السياسية تقطيعها وتجزئتها. إن ترابط القرى والمدن والأوردة الزراعية في سورية الطبيعية كلها لا يسمح مطلقاً التفكير بتجزئة الأمة السورية إلى أمم والشعب السوري إلى أمم. إن وحدة الحياة السورية لأقوى من جميع عوارض الحدود السياسية".

 

يُلاحظ هنا أن شرح سعاده للمبدأ الأساسيّ الخامس الذي يحدّد الوطن السوري والبيئة الطبيعية السورية يشير إشارة حاسمة إلى ما نشأ على أرض الوطن من حياةٍ سورية، هي الحياة القوميّة وهي وحدة الحضارة السورية، كما يقول سعاده أن الأمة "أمر واقع طبيعي وتاريخي"، فالتاريخ غير منفصل عن الحياة، بل هو عند سعاده سجل الحياة، والحياة القوميّة التي نشأت في سوريا نشأت من ترابط الزراعة في وحدة الأرض وريها بالأنهر السورية أي نشأت من تفاعل الإنسان مع بيئته وإنشائه الزراعة من أجل إنتاج الحياة على أرضه. وعبارة سعاده أن هذا "واقع طبيعي وتاريخي" تشير إلى البيئة الطبيعية كأساس كما تشير إلى فعل الإنسان فيها لأن التاريخ هو سجل حركة الإنسان وفعله في الطبيعة. والزراعة ينشئها الإنسان لإنتاج الحياة وتأمين أربه مداورة. فهي عنوان التفاعل بين الإنسان والأرض. وهي أساس الحضارة السورية كما يقول سعاده. وهنا نتبين المفهوم الماديّ الروحيّ للحضارة عند سعاده. ووحدة الإنتاج السوري كما يقول سعاده بأنواعه هو أساس الاقتصاد القوميّ في سوريا، هذا التفاعل من سماته الأساسيّة إذاً، الاقتصاد، الإنتاج، الزراعة التي هي أساس وحدة الحضارة السورية. والاقتصاد هنا بمفهوم الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة أي وحدة العمران الممتدة بتفاعل الإنسان مع بيئته على مدى البيئة الطبيعية.

 

إنها كما يقول سعاده في النص الثاني الذي استشهدنا به "وحدة قوميّة فعلية في الحياة الاجتماعيّة والمصالح النفسية والاقتصاديّة وفي المصير الشعبي كله"، إنها كما يقول سعاده "ترابط القرى والمدن والأوردة الزراعية في سوريا الطبيعية". هذا هو الذي يجعل الأمة السورية أمة واحدة، والتي لا تسمح مطلقاً بالتفكير بتجزئة الأمة السورية رغم عوارض الحدود السياسية.

 

 

2 : نظرية التفاعل لا الحتم.

 

والنظرة القوميّة الاجتماعيّة المركّبة في هذا حسم نهائي بأهمية تفاعل الإنسان مع البيئة في قيام الوحدة القوميّة التي أساسها وحدة الاقتصاد القوميّ، كما يقول سعاده، وحدة الإنتاج السوري، وحدة الأرض السورية ووحدة الزراعة السورية التي تقوم عليها بالتفاعل والتي هي أساس وحدة الحضارة السورية.

 

وسعاده يحدد في "نشو الأمم" أن "الرابطة الاقتصاديّة هي الرابطة الاجتماعيّة الأولى"، ولكنه يرفض أن تكون الرابطة الوحيدة، هي الأساس ولكن ضمن مبدأ التفاعل هناك عوامل أخرى، تنشأ على هذا الأساس ولكن تؤثر فيه وتبدّله، هي نتيجة فعل العقل فالعقل ينمو بالتفاعل، وميزة الإنسان على سائر الكائنات الحية، كما يقول سعاده في "نشوء الأمم" هي في نمو عقله في عملية التفاعل الذي ينتج بواسطتها وسائل سيطرته على البيئة وتسخير المادة في سبيل الحياة. فالعقل نقيض الحتم. لذلك يرفض سعاده الحتمية الجغرافية أو الحتمية الماديّة أو الحتمية الروحيّة لأن العقل هو المتفاعل مع البيئة، المتفاعل مع المحيط

والمنتج دوماً الحياة بكل بدائلها وبكل عواملها الماديّة الروحيّة المتكاملة.

 

إن طمس هذه الفقرة المفصلية في المبدأ الأساسيّ الخامس التي تحدَّد اقتران القضية القوميّة بالنظام الجديد "الإنشاء الأساسيّ للنهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة"، كما يقول سعاده، وعدم التركيز عليها وهي التي تضمّنت شمولية القضية القوميّة الاجتماعيّة كان ثغرة أساسيّة في شمولية الثقافة الحزبية العقائدية لمرحلة غير قصيرة.

 

ومن هذه الثغرة في عدم التركيز على ما هو مفصلي وأساسيّ في عقيدتنا نفذت اتجاهات انحرافية فصلت تجريدياً "مادة الأمة" عن "روحها" وجزأت وشوّهت معنى المادة في المفهوم القوميّ الاجتماعيّ، فاعتبرت وكأنما هناك مبدأ للمادة هو المبدأ الأساسيّ الرابع المختص بالمزيج السلالي للأمة ومبدأ الروح هو المبدأ الأساسيّ السابع المؤكد على تراث الأمة ومواهبها الذي تستمد منه النهضة روحها. وكأنما القوميّة روح الأمة المجرد عن مادتها.

 

مع أن سعاده لم يفصل في عملية التفاعل وعوامل نشوء الأمة وشخصيتها القوميّة بين العوامل الماديّة والروحيّة. وفي هذا النص تحديداً يؤكد سعاده:

 

"إن أساس الحضارة السورية هو وحدة الأرض الزراعية ووحدة الإنتاج القوميّ على الأرض السورية". إن نظرة سعاده تركيبيَّة للشأن الاجتماعيّ. فالمزيج السلالي، كما عرفه سعاده في "نشوء الأمم" هو كالمركب الكيميائي، من حيث إنه معطى جديد تذوب فيه كل السلالات المتفاعلة لتندمج في مزيج غير منفصل، في تعريف سعاده، عن عملية التفاعل الأشمل التي تكتسب الجماعة البشرية خلال تفاعلها مع بيئتها الطبيعية شخصيتها القوميّة وهويتها الحضارية.

 

فليس ثمّة إنسان منفصل عن الأرض وبيئتها الطبيعية، قبل نشوء الأمة، ولا خلال نشوئها ولا بعد نشوئها. إن الإنسان إما يكون متفاعلاً مع بيئته لإنتاج حياته أو لا يكون. فالجماعات التي لم تتفاعل مع بيئتها انقرضت وزالت ولم تدخل العصر الحضاري.

 

وإن نشوء الأمة وشخصيتها وهويتها إنما هي حصيلة هذا التفاعل المزدوج بين جماعاتها وانصهارها في بوتقتها القوميّة – في المركب الجديد، وتفاعلها مع بيئتها الطبيعية والتي ينتج عنه في المحصلة النهائية لعملية التفاعل ما وصفه سعاده في مقدمة "نشوء الأمم" بـ"أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا" شخصية الأمة التي ليست هي روحها منفصلة عن المادة، كلا، على الإطلاق بل هي في تعريف سعاده الدقيق وعلى أساس نظرته المدرحية التركيبية" "مركب اجتماعيّ – اقتصاديّ - نفساني". "(نشوء الأمم) ص. 13". فإذا كانت شخصية الأمة "مركباً اجتماعيّاً - اقتصاديّاً – نفسانياً"، وإذا كان الوجدان القوميّ، هو هذا المركب المدرحي، فيعني ذلك أن لا فصل للمادة عن الروح في المدرحية التي هي نظرة مركّبة للاجتماع الإنساني وعوامله.

 

فتحديد سعاده للشأن القوميّ، كما للنظام الجديد هو على أساس مدرحي متكامل، بحيث ليس ثمّة مبدأٌ للروح ومبدأ للمادة بل كل المبادئ القوميّة الاجتماعيّة تعبر عن الحقيقة القوميّة الاجتماعيّة الواحدة.

 

 

3- الشروط الماديّة شروط الضرورة لا الحتم والعقل يقدم البدائل

 

من ضمن عملية التفاعل المركَّبة: فإن الشروط الماديّة للتفاعل والحياة مؤكدة في النظرة القوميّة الاجتماعيّة أهميتها. فهي شروط الضرورة، ولكن ليس الحتم لأن فلسفة التفاعل تقوم على قدرة الإنسان، العقل الإنساني على النمو بالتفاعل إلى حد الفعل في هذه الشروط وإخضاع العوامل الماديّة لقدرته وطرح البدائل، ولكن ذلك كله لا يحدث خارج التفاعل ضمن الشروط الماديّة الطبيعية والاقتصاديّة فبالتفاعل تنشأ القدرة على التغيير وليس خارج الشروط الماديّة التي هي شروط ضرورية.

 

وسعاده يصف هذه الشروط بأنها تقدّم الإمكانات ويرفض أن تكون الحتميات لأن الإنسان هو الجانب الفاعل وعلى قدر استجابته لمحرضات البيئة تكون نسبة التفاعل، وبالتالي نسبة تحرر الطاقة وسيطرتها على المادة.

 

 

4- الأساس المدرحي لنظرية الوعي عند سعاده لقيام النظام الجديد.

 

نعود هنا إلى مقولة الوعي القوميّ عند سعاده، انعدام الوعي القوميّ أفقدنا الأرض والموارد وعودة الوعي القوميّ أي وعينا "مَن نحن" وما نحن، هو الذي يستعيد الأرض والموارد.

 

هنا الأساس المدرحي، الماديّ والروحيّ للنظرة القوميّة الاجتماعيّة، الوعي بالمادة، الوعي بالموارد والأرض والوعي الصراعي الذي يستردّ الموارد والأرض. هكذا لا انفصال ولا انفصام في القوميّة الاجتماعيّة ولا في الماديّة الروحيّة.

 

أما النقطة الثانية الأساسيّة في فهمنا العقائدي فإن سعاده إذ يؤكد أن وحدة الإنتاج السوري هي أساس حضارتنا واقتصادنا، فإنه يدعو في المبدأ الأساسيّ الخامس إلى إيجاد نظام جديد لهذا الإنتاج وأغراضه. ويعتبر إيجاد النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الجديد للإنتاج "هو الإنشاء الأساسيّ لقيام النهضة القوميّة السورية الاجتماعيّة". وبالتالي ليس موضوع النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الجديد مسألة ثانوية، كما يروّج سطحيو الفهم المشوّهون بل هي "الإنشاء الأساسيّ لقيام النهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة"، فالقضية القوميّة في هذا المبدأ الأساسيّ من مبادئها مقترنة بالنظام الجديد ولا فاصل ولا جدار وهمياً بين المبادئ الأساسيّة والمبادئ الإصلاحيّة، بين القضية القوميّة والنظام الجديد بل إن النظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ الجديد، أي المبادئ الإصلاحيّة مشتقة من صلب المبادئ الأساسيّة ومرتبطة بها، ويرد ذلك في متن وشرح المبادئ الأساسيّة، في أهم مبدأين هما مبدأ تحديد الوطن السوري ومبدأ تحديد أن الأمة السورية مجتمع واحد.

 

وهكذا تقترن القضية القوميّة من الأساس بالنظام الجديد، فلا فصل بينهما لأن سعاده لم يؤسس قضية قوميّة مجردة كما رفض الانطلاق من قضية اجتماعيّة مسلوخة الجذور عن القضية القوميّة. فلا هو قبل بالمفهوم اليميني الرومانسي للقومية وكذلك رفض المفاهيم الليبرالية أو الفاشية أو البورجوازية. ولا هو قبل بالمفهوم الماركسي للاجتماعيّة المسلوخة عن جذورها بل هو قال بالقوميّة الاجتماعيّة التي تأتلف فيها الحقيقة بكل جوانبها. ولذلك فالاقتصاد القوميّ بحاجة إلى نظام جديد والاقتصاد القوميّ هو أساس الاتحاد في الحياة القوميّة. ووحدة الزراعة السورية هي أساس وحدة الحضارة السورية. والنظام الجديد مشتق بل هو الإنشاء الأساسيّ لقيام النهضة وهو غرض أساسيّ من أغراض نشوء هذه النهضة.

 

هذه القاعدة يعبر عنها سعاده بكلام آخر متمّم في بحثه الهام "العقيدة السورية القوميّة الاجتماعيّة وبحث الديمقراطية عن عقيدة" " الآثار الكاملة الجزء العاشر ص. 29 حتى 30 أو النص نفسه في كتابه "شروح في العقيدة" ص. 12-13 " حين يقول "إن الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ نشأ بتفكير الإبداع السوري المستقل ومؤسسه لم يكتف بالنظرة الأولية التي يتجاوزها حزب من الأحزاب في سورية والشرق الأدنى بل وفي أقسام وجماعات كثيرة في أوروبا عينها القائلة بالحرية والاستقلال أو بتحسين بعض الأمور العارضة أو الوقتية، كلا لم يكتف زعيم الحركة السورية القوميّة الاجتماعيّة بطلب الحرية والاستقلال، ففضلاً عن تعيين الأمة وتحديد القوميّة وإيجاد عقيدة وحدة الأمة، قد نظر الزعيم في مستقبل الأمة وما يجب أن تصل إليه من الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ فوضع لهذه الغاية المبدأ الإصلاحيّ الرابع من مبادئ الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ الذي يتضمن العقيدة الاجتماعيّة للسوريين القوميّين الاجتماعيّين وهو إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القوميّ على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة".

 

ويتابع في المجال نفسه: "هذا المبدأ العظيم يوجد مجتمعاً جديداً بنظرته إلى القيم الاجتماعيّة وفي حركته ونشاطه وعاداته وتقاليده وأشياء أخرى، أنه يوجد أمة حية متآلفة قلوب أبنائها وحاصلاً لها المستوى الراقي في الحياة الماديّة والروحيّة".

 

فالسوريون القوميّون الاجتماعيّون يجاهدون ولهم عقيدة كلية تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعيّة وترتفع في مثل عليا غير متناهية".

 

هنا نجد الحقيقة نفسها يُعبَّر عنها بكلام محدّد. فسعاده يقول بأنه فضلاً عن تعيين الأمة وتحديد القوميّة وإيجاد عقيدة وحدة الأمة وهي المبادئ الأساسيّة التي تحدد هويتنا السورية ووحدة أمتنا ووطننا، قد نظر الزعيم كما يقول في مستقبل الأمة وما يجب أن تصل إليه من ارتقاء وبحبوحة وعدل اجتماعيّ واقتصاديّ فوضع لهذه الغاية المبدأ الإصلاحيّ الرابع الذي يتضمن، كما يقول سعاده، العقيدة الاجتماعيّة للسوريين القوميّين الاجتماعيّين، أي أن العقيدة الاجتماعيّة هي في نظامنا الاجتماعيّ الاقتصاديّ الذي يقول سعاده بأنه يوجد مجتمعاً جديداً بنظرته إلى القيم الاجتماعيّة ويوجد أمة حية متآلفة قلوب أبنائها وحاصلاً لها المستوى الراقي في الحياة الماديّة الروحيّة".

 

هكذا تتجلى القوميّة الاجتماعيّة بشموليتها وهكذا تتجلّى النظرة المدرحية. فعلى أساس تحقيق قيام النظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ، حسب المبدأ الإصلاحيّ الرابع والذي يشكل العقيدة الاجتماعيّة للسوريين القوميّين الاجتماعيّين، "يقوم مجتمع جديد في نظرته إلى القيم الاجتماعيّة"، فالقيم الاجتماعيّة مرتكزة على تحقيق العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحقوقيّ.

 

لا قيم خارج قيم العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحقوقيّ، ولا حياة ماديّة روحيّة خارج هذا المبدأ، هكذا بنصوص واضحة من سعاده. وهذا يتعزز بقول سعاده في "الإسلام في رسالتيه" حول الإنسان في مواجهة الجوع والذي لم يتمكّن من سد جوعه الماديّ الفيزيائيّ لا يشعر بالجوع الروحيّ. والنفسية المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقوّمات الحياة (ص. 106) من "الإسلام في رسالتيه".

 

إذاً، فالقيم الروحيّة تقوم على أساس ماديّ، والقيم الروحيّة لا تنفصل عن هذا الأساس الماديّ كما أن الأساس الماديّ يبقى في مستوى منخفض ما لم تقم القيم الروحيّة التي تميّز الإنسان عن سائر الكائنات بفعل العقل والسمو طلباً للقيم.

 

5- لا فصل بين القوميّة الاجتماعيّة ولا بين الماديّة والروحيّة والمبادئ الإصلاحيّة مشتقة من المبادئ الأساسيّة ومكمّلة لها.

 

ومن الواضح هنا أن لا قيم اجتماعيّة بدون العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ، لأن سعاده في نصوص عديدة وصف النظام الرأسماليّ والنظام الإقطاعيّ بالرقّ والعبوديّة والاستعباد، واعتبر أن حالة الفلاحين ضمن النظام الإقطاعي هي حالة العبودية والرقّ والاستعباد، كما وصف النظام الرأسمالي بأنه يولّد التناقضات وحرب الطبقات وأنّه لم يعُد صالحاً للبقاء.

 

واعتبر في شرح المبدأ الإصلاحيّ الرابع، المحاضرة الثامنة، في الصفحة الأخيرة منها، بأن الذين يحوزون الآلات يحاولون أن يستعبدوا الناس بواسطتها، أي المنتجين الذين لا يحوزون الآلات. ووصف الاستعباد الداخلي في خطابه في أول آذار 1948 بأنه يتشكّل من الرأسمالية والإقطاعية والمصالح الشخصية وأنه حليف الاستعباد الخارجي الذي أفقدنا فلسطين وكيليكية والاسكندرون.

 

وفي نصّ واضح من سعاده في "المحاضرات العشر" أيضاً يعتبر عدم إمكان تحقيق الوحدة القوميّة المتينة التي اعتبر سعاده بأن غاية الحزب هي تحقيقها، "من ضمن نظام اجتماعيّ سيئ أو نظام اقتصاديّ سيئ".

 

فإذا كانت الوحدة القوميّة تواجه شرط إلغاء بوجود نظام اجتماعيّ سيئ أو اقتصاديّ سيئ فهذا يعني أن القوميّة الاجتماعيّة لا تفصل ولا تجزّئ مقولتها بين قضية قوميّة وقضية اجتماعيّة بين القضية القوميّة والنظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الجديد، بل إنها تعتبر قيام النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الجديد هو المحصّن للقضية القوميّة وهو الذي يصون الوحدة القوميّة المتينة، لأن بدونه تسقط القضية القوميّة نتيجة التناقضات الاجتماعيّة التي يصل بعضها إلى حد إفناء القضية نفسها.

 

يقول سعاده في شرح المبدأ الأساسيّ السادس من المحاضرات العشر ما يلي: "إلى هذا المبدأ الأساسيّ تعود بعض المبادئ الإصلاحيّة التي سيرد ذكرها وتفصيلها وهي: فصل الدين عن الدولة، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف المذاهب. وهذا المبدأ من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري فهو أساس الوحدة القوميّة الحقيقية، دليل الوجدان القوميّ والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها". والمبدأ كما نذكر جميعاً يقول أمة واحدة ومجتمع واحد. "الأمة السورية مجتمع واحد" كما هو نص المبدأ.

 

ويمضي سعاده في القول "ووحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح ووحدة المصالح هي وحدة الحياة وعدم الوحدة الاجتماعيّة ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية تعويضات وقتية".

 

ويضيف سعاده "لا يمكن أن نكون أمة واحدة إذا لم يكن هناك مجتمع واحد، أي إذا لم تكن الهيئة الاجتماعيّة واحدة، فإذا حصلت تجزئة في المجتمع تعرّضت الأمة لخطر الانحلال النهائي والاضمحلال". والكلام للزعيم ويتابع سعاده، "فالحركة القوميّة الاجتماعيّة تقيم بهذا المبدأ وما تعلّق به حرباً عنيفة مميتة على عوامل تجزئة المجتمع إلى مجتمعات والأمة إلى أمم، هذه العوامل التي تجعل من كل طائفة دينية ومن كل عشيرة أو طبقة مجتمعاً قائماً بنفسه وأمة منفصلة عن الطوائف والعشائر أو الطبقات الأخرى".

 

ومن هنا يتبين لنا المنهج نفسه الذي وجدناه في المبدأ الأساسيّ الخامس، حيث يشتق منه النظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ الجديد المتجلي في المبدأ الإصلاحيّ الرابع، ففي المبدأ الأساسيّ السادس الأمة السورية مجتمع واحد تشتقّ منه المبادئ الإصلاحيّة الأخرى المتعلقة بفصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة القوميّين.

 

هكذا إذاً المبادئ الإصلاحيّة أي معالم النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ مشتقة من المبادئ الأساسيّة. وهذا ما ميَّز فكر سعاده والقوميّة الاجتماعيّة. ونجد أيضاً بأنه إذا لم تكن الأمة مجتمعاً واحداً أي إذا قامت التجزئة الاجتماعيّة وهي أخطر من التجزئة السياسية، فإن الأمة تتعرض إلى الاضمحلال والفناء.

 

فالمطروح هنا هو مسألة وجود الأمة، أي أن النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الجديد هو الذي يحصن الأمة، ضد عوامل الفناء والاضمحلال التي تنتج عن التجزئة الاجتماعيّة.

 

 

6- الصهينة وعوامل تهدّد وجود الأمة داخلياً.

 

ونحن نجد أيضاً في عملية الصهينة الداخلية عملية امتداد اليهودية الصهيونية عبر التمزق الطائفي لإيجاد ولاءات طائفية متناحرة وكيانات طائفية متناحرة تمزق وحدة مجتمعنا القوميّ مما يهدد فعلاً "بالاضمحلال" والفناء في حرب الطوائف والقبائل التي يريد العدو أن تحلّ محلّ حرب التحرير القوميّة، محل الوعي القوميّ بمواردنا وأرضنا؛ وهذا نموذج حاصل على الأرض الآن.

 

وعندما يقول سعاده إن النهضة القوميّة الاجتماعيّة تشن حربها المميتة ضد عوامل الموت التي يطلقها العدو في مخططه التآمري المتحالف مع عصر الانحطاط الذي برزت فيه العصبيات الجزئية محل العصبية القوميّة. ويطلق سعاده العصبية القوميّة الاجتماعيّة لتميت وتزيل وتبيد العصبيات الجزئية في سبيل العصبية القوميّة الاجتماعيّة الواحدة.

 

هذا التكامل بين الذات والموضوع عند سعاده يحصل على قاعدة النظرة المدرحية. فالوعي القوميّ الاجتماعيّ إذاً هو علم الوجود في زمن حرب الوجود. ويرسم سعاده لهذه الحرب القوميّة الاجتماعيّة التحريرية التوحيدية صورة هي أشبه بالبانوراما فيقول:

 

"الاحتكارات الخصوصية في شعبنا. إنها الإقطاعات التي تقيم من بعض الناس سادة يستعبدون الكل، إنها رأسمالية ماديّة خانقة تقطع العامل والفلاح في هذه البلاد الذي هو كل البلاد وكل الشعب".

 

مرة أخرى يصور سعاده علاقات الاحتكارات الخصوصية والرأسمالية الماديّة الخانقة، بالاستعباد الذي يقيم سادة يستعبدون الكل. وهذا الكل كما يقول سعاده هو "العامل والفلاح الذي هو كل البلاد وكل الشعب". ويربط سعاده بين الاستعباد الخارجي والاستعباد الداخلي عندما يصف ذلك الاستعباد الخارجي بأنه أنابيب النفط المنسابة كالأفاعي في ظل سلاح أنترناسيوني جديد هو سلاح اليهودية المتصهينة، هكذا تتكامل صورة الحرب القوميّة الاجتماعيّة على الاستعبادين الداخلي والخارجي.

 

وهنا تظهر بوضوح آفاق المعركة التي يخوضها شعبنا في هذه المرحلة من تاريخه، فعلى أرض لبنان كما في فلسطين وفي كل أجزاء الوطن التي تجابه التنين الاستعماري الصهيوني المتحالف مع عنصر الانحطاط مع عصر هيمنة الرأسمال والإقطاع، مع عصر الطوائف التي انقلبت إلى إمارات ومشاريع طوائفية، مع الكانتون الطائفي المتصهين، إنها المعركة التي تخوضها أمتنا ضد الاستيطان الصهيوني، الذي يقتلع شعبنا من أرضه في فلسطين وجنوب لبنان والجولان والذي يمتد ليجزئ أمتنا أو ليلعب على تناقضات التجزئة الاجتماعيّة ليحوّلها ببثه سمه في هذه التجزئة إلى كرويات سرطانية في جسم أمتنا باتجاه اضمحلالها وفنائها فيقوم إكسير النهضة القوميّة الاجتماعيّة بتعطيل هذا السمّ في وحدة الشعب والأرض على أساس العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ وإزالة أنظمة القهر والحرمان والظلم والتجزئة الاجتماعيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

القسم الثاني: في الخلاصات الصراعيّة الواجب تأكيدها في إذاعتنا وإعلامنا

 

 

أيها الرفاق والنظار، إذا كنا قد طرحنا هذه المقدمات العقائدية فإنه لا بد من أن نتوصّل إلى الخلاصات الصراعية التي تكون محور تأملكم ومحور طرحكم في هذه المرحلة انطلاقاً من هذه المقدمات العقائدية.

 

  1. الخلاصة الأولى: تميّز سعاده بوعي مبكر رائد لخطر الانعزال.

 

إن خطر الطائفية على الأمة في أنها تشكل إمكانية تسرّب داء الانحلال والاضمحلال لكيانها القوميّ:

 

فبينما الطبقية أو الظلم الطبقي يشكل الاستغلال و الاستعباد، فإن الطائفية تشكل إمكانات التفتت الذي يؤول إلى الانحلال والاضمحلال. وهكذا يدخل العفن الروحيّ ليشكل عاملاً ليس فقط معطلاً للعامل الاقتصاديّ بل مزعزعاً للوجود القوميّ كله. مما يثبت أهمية المنهج المدرحي في فهم التظاهرات الاجتماعيّة. ومحدودية المنهج الأحادي البعد الماديّ أو الروحيّ.

 

ولقد ظهر بوضوح كيف استغلّ العدو الصهيوني ومن قبله الاستعماري المشكلة الطائفية لإحداث التجزئة الاجتماعيّة في أمتنا وقلَبَها إلى ورم سرطاني.

 

وقد تميّز وعي سعاده المبكر للانعزال ولكون الطائفية يمكن أن تشكل هذا المرتع الجرثومي للسرطان الصهيوني، ففي مقاله "الدول السورية تستفيق" في 1948 يكتب عن الانعزال الطائفي في لبنان الذي يعتبر أن قيام الدولة اليهودية هو مؤذن بقيام الدولة المسيحية على جزء من أرضنا وشعبنا ويحذّر من كتائب الانعزال على أنها تشكل مخلب القط لمثل هذه المؤامرة. كان سعاده متفرداً بهذا الوعي المبكر لخطر الانعزال وخطر التجزئة الاجتماعيّة على الأساس الطائفي المتصهين والمتهوّد.

 

وفي 1954 حصلت المراسلات الشهيرة بين بن غوريون و"شاريت" و"ساسون" حول إقامة وطن مسيحي في لبنان إلى جانب الكيان اليهودي على طريق تفتيت سورية إلى كيانات قزمية طائفية.

 

ووصلت المؤامرة في 1982 إلى محاولة إقامة المحميّة الإسرائيلية في لبنان وتنصيب رئيس جمهورية عليها بالدبابات الإسرائيلية بعد أن فصلت في العام 1978 الشريط الحدودي في جنوب لبنان بقيادة ضابط متصهين.

 

كل أدبيات الحركة الوطنية في أواخر السبعينيات والثمانينيات التي دارت حول موضوع الصهينة الداخلية، إنما جاءت بعد هذا الاستشراف المبكر والمتفرّد لسعاده في الأربعينيات.

 

لقد كان هناك غياب كلي عن موضوع الانعزال. فالميثاق الوطني كان مع الانعزال تسوية حول هوية لبنان، وبعد 1958 أشرك شهاب الكتائب في الحكم واعتبرهم ركيزة من ركائز النظام والكيان. واستقبل العرب الانعزاليين واعتبروهم الطرف المعتدل في ما وصفوه بالمارونية السياسية. منظمة التحرير الفلسطينية كان بشير الجميل وأمين الجميل من المحامين الذين وكلتهم للدفاع عن مؤسساتها. وقد بذلت الشام الجهود المضنية لإنقاذ الانعزاليين من الصهينة واستعادتهم للانتماء القوميّ.

 

ولكن الانعزال بقي في موقعه رغم كل هذا. وأثبت بأنه جزء من الورم السرطاني الطائفي الذي يستظل بالمظلة الصهيونية كما استظل في الثلاثينيات بالمظلة الاستعمارية الفرنسية. إنه جزء من هذا التفكير الطائفي والذي ألف الحماية الأجنبية واعتبرها متمّمة لوجوده، وأصرّ على هذا الموقع خارج المعادلة الوطنية والقوميّة. ومن المؤسف أن تعابير عديدة قامت في هذه المرحلة ومعادلات عديدة منها مثلاً تعبير "المسيحيين الوطنيين" ومنها تعبير "الطوائف الوطنية". وفي الحقيقة هناك وطنيون وانعزاليون وليس هناك طوائف وطنية وطوائف غير وطنية.

 

 

المشاريع الطوائفية من ردة الفعل على التصهين إلى زيادة التفتيت والتناقض

 

 

إن هذه التعابير كانت ذات خلفيات طائفية في كل الحالات. وقامت المشاريع الطوائفية كردّ فعل على وصول حزب الطائفة ذات الامتيازات إلى الحكم بعون العدو الصهيوني. مما ضاعف ذلك التفتيت الاجتماعيّ في الشعب وزاد في الاستقطاب الطائفي. ونفهم أن الضرورة اقتضت حشد كل القوى المتضررة من المشروع الطائفي المتصهين عند عقد اتفاق 17 أيار وفي مواجهة الاحتلال والغزو الصهيوني وعملية الصهينة وعملائها. فكان أن جرى تسلح الطوائف المتضررة مع الوطنيين وهي الأكثر عدداً، وقاتلت الطوائف المسلحة بقرار قياداتها الوطنية وضمن القرار القوميّ المجابه للعدو الصهيوني وعملائه. ولكن الطوائف المسلحة والمشاريع الطوائفية في السياق الإستراتيجي يتحول قتالها بعد أن ينجز التحرير إلى اقتتال، كما حصل وتحصل إرهاصات تجزيئية في المجتمع كالفرز الطائفي، مما يعطي أوكسيجيناً للمشروع الانعزالي الذي يهزم عسكرياً ولكنه يعود فيتنفّس، بعد أن يدخل غرفة العناية الفائقة بهزائمه المتكررة. وهذا ما حصل.

 

واليوم ماذا نشهد؟ نشهد مراجعة جديدة بعد أن حدث الانقلاب الانعزالي الانفصالي في جزء من لبنان وبعد أن ظهر بأن كل المشاريع لم يستطع القضاء على هذا الورم السرطاني. اليوم تعيد الأحزاب والقوى الوطنية النظر فتعلن سقوط الميثاق اللاوطني. أي التسوية الطائفية العام 1943 وتدعو إلى الجمهورية الجديدة، أي نعود إلى برنامج الإصلاح الذي طرح من قبل الحركة الوطنية 1975 والذي قدم بالنسبة للموضوع الطائفي برنامجاً علمانياً للإصلاح المرحلي دعا حزبنا إلى إكماله:

 

  1. بمحور الوحدة والتحرير القوميّين.
  2. محور الشأن الاجتماعيّ الاقتصاديّ لاعتماده كبرنامج جبهوي سياسي لتوحيد لبنان وتحريره وتحديد هويته القوميّة.

 

إن الذي أعلن سقوط الميثاق اللاوطني والتسوية الطائفية هو سعاده منذ الأربعينات، ويمكن أن نعود إلى مجموعة مقالات "الانعزالية أفلست" للزعيم ولغيرها من مقالاته، فنرى هذا الموقف الذي توَّج بثورة تموز 1949 التي كانت البرنامج الجذري المجابه للميثاق الوطني أي التسوية الطائفية والذي رد على جورج نقَّاش القائل بأن نفيين لا يقيمان دولة أو أمة، ببرنامج الثورة القوميّة الاجتماعيّة الخالية من التناقضات والمرتكزة إلى الانتماء القوميّ الواضح. لقد انحدر الوضع خلال السنوات الأخيرة بعدم الأخذ بالحل القوميّ الاجتماعيّ الجذري لوحدة الشعب والأرض وبتصاعد مؤامرة الصهينة إلى شرخ كامل، إلى النفيين المتقابلين بما هو أخطر عما كان في 1943، ففي مقابل "توحيد البندقية المسيحية" الذي يرفعه الانعزال المتصهين التقسيمي يطرح شعار أسلمة لبنان (الجمهورية الإسلامية) أو شعار العودة إلى صيغة الميثاق الطائفي اللاوطني في أحسن الأحوال. إن النقيض لمشروع التقسيم والصهينة لا يمكن أن يكون مشروعاً طائفياً من أي نوع بل مشروع الحل الجذري الذي قدمته ثورة الثامن من تموز.

 

 

انتقلوا من الانعزال إلى الانفصال

 

إن من نتائج معركة لبنان مع الانعزال سقوط فكرة "القوميّة اللبنانية" بأن أصبح الذين يتمسكون بها يدعون إلى تعددية الحضارات والإتنيات، وأصبح هؤلاء أصحاب عقيدة تقسيم لبنان بعد تقسيم سورية في سايكس - بيكو وانتقلوا من الانعزال إلى الانفصال. وهذه ظاهرة يجب أن نلحظها جيداً، وأصبحت عقيدتنا التي هي عقيدة وحدة الشعب والأرض هي عقيدة وحدة لبنان على طريق استعادة وحدة سورية كلها.

 

إننا في هذا المجال لا يمكن إلا أن نثمِّن ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية البطولية التي رغم ظاهرة التصهين في جزء من الشعب المضلل، كانت هي الظاهرة الصحية المعافاة والتي لا يمكن أن نعزل الفكر العقائدي عن تفجيرها. ولقد كان القوميّون الاجتماعيّون بقرار حزبهم طليعة هذه المقاومة الوطنية وحاولوا تطويرها إلى المقاومة القوميّة، كما في العمليات الإستشهادية التي ضمّت مجموعات من كل أنحاء الأمة.

 

إن هذه الظاهرة عادة تواجه نوعاً من الاختناق في ظل المشاريع الطوائفية، إلا أن معافاتها تكون بالعمل الذي يتأسس على وحدة الشعب والأرض، فتعطيها مقاومة العدو ترياق حياتها لأنها في الأساس تتجه لتحرير الأرض ولتأكيد سيادة الشعب كل الشعب على أرضه.

 

ونموذج المقاومة الوطنية التي تتوحد فيها الولاءات والبنادق ضد العدو على اختلاف المناطق والطوائف والعقائد هو نموذج لبنان الجديد لا لبنان الطوائف المتناحرة الذي يجب أن يسقط لمصلحة لبنان الجديد المقاوم الواحد الموحد.

 

 

2 - الخلاصة الثانية: هي أن في المفاهيم العقائدية، كما سقطت فكرة القوميّة اللبنانية وأصبحت عقيدة تقسيم لبنان، فإن الفكر التقدمي في البداية لم يلحظ الظاهرة الطائفية وخطرها على الوجود القوميّ، وعلى وحدة المجتمع بل اعتبرها جزءاً من مقولة الطبقة، إلى حد صك عبارة "الطائفة – الطبقة". وكأنما هناك طائفة طبقة تستغلّ وتسيطر وهناك طوائف طبقات مستغلة ومسيطر عليها تماماً كتصنيف الطوائف إلى وطنية وغير وطنية فصنَّفت مجدداً طبقياً. وهكذا أعطي للمفهوم الطائفي مضمون طبقي مصطنع. ولقد سقطت هذه الفكرة لأنه ظهر في الحيز العملي بأن الذين يشكلون مجموعة الاستغلال ليسوا الطائفة بل إن جماهير هذه الطائفة كجماهير كل الطوائف مستغلة ومغبونة وتخضع للاستغلال والمجاعة ولكل ما يمكن أن يخضع له الشعب الواحد. وأن الفئة المتحكمة بالامتيازات في الفئة الحاكمة وليست جماهير الطائفة التي هي وقود الحرب. وظهر بجلاء من جهة أن الطائفية عطلت العامل الاقتصاديّ حين أقامت حواجزها لتفتت وحدة نضال الشعب ضد الاستغلال ومن جهة ثانية لتؤلب الكادحين المحرومين من امتيازات المتحكّمين وقوداً لحرب هؤلاء. وظهر أيضاً بأن التمييز الطائفي وإن كان اتخذ بعض المضمون الماديّ ولكن حدود الطائفة ليست حدود الطبقة، ولا يمكن فهم الظاهرات الروحيّة العفنة كالطائفة بمنظور ماديّ، كما لا يمكن فهم الظاهرات الماديّة كالطبقة بمنظور روحيّ طوباوي ورغم تداخل الظاهرتين.

 

إن هذا الفهم الناقص يعود إلى الافتقار للقاعدة الشمولية الفلسفية العقائدية التي تقوم على تكامل العوامل الماديّة الروحيّة في التحليل والخلاصة.

 

وكان في جملة التقويمات الخاطئة اعتبار المسيحيين بمجموعهم من أهل اليمين، واعتبار المحمديين من أهل اليسار. وفعلاً سادت هذه اللغة في الإعلام الغربي لتتسرّب إلى العقل السياسي في بلادنا الذي اعتبر أن مواجهة التيار المتصهين بين المسيحيين يكون بتيار قوميّ يميني. علماً أن حزب سعاده نشأ ثورياً رافضاً للوضع القائم وأن حزبه حتى انفجار الحرب اللبنانية في 1975 كان يشكّل البديل الشعبي الأقوى عن الانعزالية في كل المناطق المسيحية. ولولا تكدّس السلاح بين أيدي الانعزاليين في تلك المناطق وشح السلاح عن القوميّين بحكم النظرة التي أدارت الصراع منذ بدء الحرب اللبنانية واعتبرت سلفاً المناطق المسيحية ساقطة للانعزال لكان كل وضع لبنان تبدّل لمصلحة الحسم في توحيده انطلاقاً من تلك المناطق واختصاراً للوقت والتضحيات والدماء واستباقاً للفرز السكاني لاحقاً وعلى أساس تغليب وغلبة القوى القوميّة الاجتماعيّة في قلب مناطق الغيتو المسيطر عليها انعزالياً بالقوة لاحقاً. وكما لم يتنبَّه الطبقيون إلى مسألة الطائفة والطوائفية، الذين لهم المعيار الماديّ الأحادي، فكذلك لم يتنبه إلى مسألة التناقضات الطبقية الذين عزلوا العوامل الروحيّة عن العوامل الماديّة، ويمكن أن نشير إلى انحراف من هذا النوع عند بعض الذين كانوا في الحزب، فقد تجاهلوا التناقضات الطبقية ووجوب استئصالها وظنوا أن ميثاقاً وطنياً طبقياً على غرار الميثاق الوطني الطائفي يمكن أن يُعقد. فتكلموا حول الوحدة القوميّة من دون مضمون اجتماعيّ جذري ومن دون استئصال التناقضات الطبقية وهو نهج الفاشيين والليبراليين الذين يتخلون عن المضمون الاجتماعيّ الاقتصاديّ.

 

إن سعاده كان جذرياً، رفض الحرمان والقهر والاستعباد في العلاقات الاجتماعيّة ودعا إلى إسقاط النظام الرأسمالي والإقطاعي وأعطى نمطاً من الاشتراكية في الاقتصاد، هو اشتراكية القوميّة الاجتماعيّة.

 

 

3 - الخلاصة الثالثة: نظرة سعاده إلى الاقتصاد في نطاق الصراع القوميّ الاجتماعيّ.

 

 

دعا سعاده إلى إسقاط النظام الطائفي وإلى إلغائه في المبادئ الإصلاحيّة الثلاثة الأولى، كما دعا إلى إسقاط النظام الطبقي في المبدأ الإصلاحيّ الرابع وفي كل كتاباته، وكما رفض طغيان أكثرية على أقلية أو أقلية على أكثرية في المضمون الطائفي ورفض التجزئة الاجتماعيّة. فقد رفض كذلك الاستعباد الطبقي من القلة المستغلة لأكثرية الشعب الكادحة المنتجة مع فارق أساسيّ يجب أن نتوقف عنده.

 

إن سعاده لم يقف مع مسيحيّ ضد محمديّ أو العكس بل وقف مع وحدة المجتمع ضد الطائفية المسيحية أو المحمدية ومع كل المسيحيين والمحمديين كأعضاء في المجتمع الواحد. أما في الموضوع الاقتصاديّ فإن سعاده، رغم رفضه للنظام الطبقي ودعوته إلى الوحدة الاجتماعيّة، إلا أن الوحدة الاجتماعيّة التي دعا إليها كانت هي التي تقوم بعد دكّ النظام الطبقي. إنه أعلن انحياز حزبه الكامل للكادحين والمنتجين الفلاحين والمزارعين والعمال والمثقفين وأصحاب المهن ضد الرأسماليين والإقطاعيين الذين وصفهم بأعداء الشعب بأعداء الأمة المستعبدين، والذين اعتبرهم جزءاً من المعادلة المعادية للقضية القوميّة الاجتماعيّة، إن هذا التمييز ضروري جداً لفهم مقولة العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ كما طرحها سعاده.

 

وهنا لا بد من أن نؤكد النقاط التالية:

 

أ - موقف سعاده المتميز من الشأن الاقتصاديّ والدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة وتوحيد الصراع القوميّ الاجتماعيّ

 

إن الانطلاق في فهم الاقتصاد القوميّ الاجتماعيّ هو في فهمنا لمقولة سعاده في الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة وفي أن الاتحاد في الحياة الذي شكل أساس وحدة الأمة يتجلى في دورة اجتماعيّة اقتصاديّة للأمة ضمن بيئتها الطبيعية.

 

1- فهمنا لهذه الحقيقة يعطي الشأن القوميّ بعده الاقتصاديّ والاجتماعيّ فتصبح قضية وحدة الأمة وتحرير أراضيها ومواردها أساس الاقتصاد القوميّ، وبالتالي ضمان مستقبل الشعب وحياة المواطنين وذراريهم فلا تعود القوميّة مسألة روحيّة منفصلة عن الأساس الماديّ والواقع الاجتماعيّ ومصالح الحياة الحقيقية.

 

وتدليلاً على أهمية الحياة الاجتماعيّة الاقتصاديّة وامتداد العمران فإنه على أساس انكفاء العمران بين شرقي الوطن وغربيه، كما يقول سعاده في إيضاح الطبعة الرابعة من التعاليم، كاد أن ينشأ فهم تاريخي مشوّه لعزل العراق خارج دورة الحياة القوميّة لولا التحقيقات التي قام بها. وعلى أساس تمزق الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة يعزو سعاده حصول النزوح والهجرة من أمتنا بملايين المواطنين الذين توزّعوا إلى أقطار العالم وأقاصي المعمورة ويعزو كل النكبات التي حلّت بأمتنا.

 

من هنا، فإن الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة التي وصفها سعاده في المبدأ الأساسيّ الخامس بوحدة الحضارة السورية على أساس وحدة الزراعة في الأرض السورية التي هي أساس الإنتاج القوميّ والذي دعا إلى إنشاء النظام الجديد لتنظيم يشكل أساس النظرة إلى الاقتصاد القوميّ الاجتماعيّ، والذين يتجاهلون الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة ومفهومها يعودون بالقوميّة الاجتماعيّة إلى كهوف العصر الحجري ويسقطون المقولة الأم للقوميّة الاجتماعيّة التي هي التفاعل بين الجماعة البشرية وبيئتها الطبيعية لإنشاء الحياة وإنتاجها.

 

إن التصدي لسلخ الوطن واغتصاب موارده يدخلان في مفهوم الثورة القوميّة الاجتماعيّة لجهة الاقتصاد القوميّ الاجتماعيّ والدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة التي يتأسس عليها الإنتاج.

 

إن مفهوم الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة الواحدة الناشئة عن التفاعل بين الجماعة البشرية وبيئتها لإنتاج العمران والاتحاد في الحياة ذي الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة الواحدة، هو مفهوم متميز عند سعاده لان على أساسه اعتبر الشأن الاقتصاديّ من معالم الشأن القوميّ، من معالم الوحدة القوميّة الأساسيّة. وهذه نقطة يجب ان يتنبّه لها وعي القوميّين الاجتماعيّين وثقافتهم وإذاعتهم وإعلامهم لأن إغفالها يؤدي إلى خلل كبير في فهمنا العقائدي وفي إذاعتنا وإعلامنا المؤسسين على الفهم. ذلك ان الاقتصاد القوميّ بمعنى الدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة هو أساس الاتحاد في الحياة القوميّة، بينما الاقتصاد بمعنى النظام الجديد هو الذي ميّزه سعاده بأنه الإنشاء الأساسيّ للنهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة لإيجاد نظام جديد للإنتاج القوميّ. فالإنتاج القوميّ، الاقتصاد القوميّ، وحدة الزراعة السورية التي هي أساس وحدة الحضارة السورية كل هذا من خصائص الأمة واتحاد حياتها، أما تنظيم هذا الإنتاج وعلاقاته وقطاعاته فهو النظام الجديد الذي نجد ملامحه في المبدأ الإصلاحيّ الرابع. وكما بيّنا الإصلاحيّ يتأسس على الأساسيّ ولا فصل بينهما إلا في الاختصاص مع كونهما مترابطين في شمولية العقيدة القوميّة الاجتماعيّة التي لا تتجزأ.

 

وأهمية أن الاقتصاد القوميّ بمعنى دورة الحياة الاجتماعيّة الاقتصاديّة هي أساس الاتحاد في الحياة القوميّة، وأن الحزب في كل برامجه وطروحاته الوحدوية منذ سعاده أكد على وحدة الامة من خلال هذا الاتحاد في الحياة، من خلال الخلل الناتج عن ان التمزيق الاستعماري والتجزئة السياسية حاولا تمزيق وحدة الحياة الاقتصاديّة في سورية ولكن هذه الوحدة استمرت رغم كل السلبيات فكانت هي الحقيقة الثابتة.

 

وأن برامج الحزب بدءاً من برنامج 1947 إلى برنامج الثورة القوميّة الاجتماعيّة الاولى إلى كل برامج الحزب لاحقاً ولا سيما في السنوات العشرين الاخيرة، أكدت على الوحدة الاقتصاديّة لسورية، على إنشاء الصيغ والأطر لتحقيق دورة الحياة السورية حتى مع بقاء الكيانات السياسية، ولكن بفرض أطر التوحيد الاقتصاديّ والثقافي والدفاعي كصيغة معبرة عن تكامل أنحاء هذه البيئة ووحدة حياتها.

 

وعلى هذه القاعدة لم يعد الفكر القوميّ كما كان قبل سعاده فكراً رومانسياً يؤكد العوامل الروحيّة للأمة وحدها بل إنه في مفهوم وحدة العمران والاقتصاد على وحدة الأرض قدّم سعاده الأساس الماديّ للحياة القوميّة، الأساس الذي تتعلق به حياة الناس، حياة أبناء أمتنا، وأنه بسبب التجزئة وحدود القطيعة والكيانية ومحاولة بناء الاقتصادات الكيانية بدل الاقتصاد القوميّ، حصلت الهجرة والنزوح والكوارث القوميّة والاقتصاد الاستنزافي للبشر والموارد. فالقوميّون الاجتماعيّون انطلاقاً من هذه النظرة مسلحون بسلاح فكري – عقائدي – إذاعي هام في إبراز فضائل الوحدة الحياتية الاقتصاديّة وشرور التجزئة والقطيعة، وحالة لبنان كحالة سائر الكيانات دليل وشاهد على صحة ذلك. كل إغفال لهذه الناحية الهامة تجريد للسوريين القوميّين الاجتماعيّين من أقوى أسلحة الحقيقة القوميّة في ربح معركة الوعي القوميّ التي ربطها سعاده بالموارد والأرض.

 

 

ب – زيادة الإنتاج على قاعدة عدالة التوزيع:

 

لقد دعا سعاده إلى توزيع غنى لا توزيع فقر بزيادة الإنتاج مشدوداً في آن إلى عدالة التوزيع وذلك على قاعدة أن المنتجين هم أصحاب الإنتاج ورفض الاستغلال والمستغلين الذين يفصلون بين الإنتاج والمنتجين.

 

يقول سعاده في خطاب دير الغزال: "هذه الأرض للأمة وليست للأفراد". ويدعو المنتجين إلى اقتسام خيراتها في ما بينهم اقتسام الأخوة القوميّة الاجتماعيّة. بذلك ألغى نظام الأجور الاستغلالي واعتبر النصيب العادل من الإنتاج هو حق العمل المبذول في الإنتاج. ولذلك أكّد أن المشاركة في الإنتاح هي المشاركة في الثروة القوميّة واعتبر أن التوازن الصحيّ بين توزيع العمل وتوزيع الثروة هو الأساس السليم للاقتصاد القوميّ الاجتماعيّ.

 

المفهوم الفلسفي الأساسيّ للقوميّة الاجتماعيّة هو الإنسان المجتمع، الإنسان المجتمع هو الذي نعطيه دماءنا، حتى الدماء التي في عروقنا هي وديعة الأمة متى طلبتها وجدتها.

 

وعلى الأساس نفسه الإنسان - المجتمع هو المالك الحقيقي لقوى الإنتاج ووسائل الإنتاج. والقيمومة فُهمت على أنها تفويض للأفراد من قبل المجتمع فهماً جزئياً.

 

من هنا يطرح الحزب فهماً شمولياً لها على أنها قيمومة من المجتمع للدولة وللأفراد. لأن المجتمع هو المطلق وليست الدولة. انطلاقاً من تحديد سعاده في "نشوء الأمم" على أن الدولة هي "المظهر السياسي الحقوقيّ". بينما الأمة هي المجتمع الطبيعي. وانطلاقاً من هنا فإن القطاعات تحدّد وفق مصلحة المجتمع.

 

فالقطاع العام الذي تديره الدولة والقطاع التعاوني الذي يديره المنتجون والقطاع الخاص الذي يمكن أن يديره الأفراد كمرحلة.

 

ويحدد كل من هذه القطاعات مجاله ونسبته من الاقتصاد القوميّ وفق مصلحة المجتمع في تحقيق الإنماء والنهوض من التخلف والتحرر من التبعية للرأسمال الأجنبي وتحقيق استقلالية الاقتصاد القوميّ وبهدف زيادة الإنتاج على قاعدة عدالة التوزيع بنوال المنتجين نصيبهم العادل من إنتاجهم على أساس المشاركة المتحررة من نظام الاستغلال والأجور وسرقة الجهد والعمل المبذولين.

 

كل هذا خاضع لمصلحة المجتمع. والمجتمع هنا يعبر عن نفسه بالشعب المنتج غلالاً وصناعةً وفكراً، بالمنتجين الذين هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الإنتاج. والدولة باعتبارها المظهر الحقوقيّ السياسي للمجتمع تكون مسؤولة تجاهه، وبتفويض منه باعتبار المجتمع هو السلطة الأخيرة، عن تنظيم هذه العلاقات والإشراف عليها وليس الحلول محلّ المنتجين بحيث تكافح رأسمالية الأفراد ورأسمالية الدولة على حد سواء وبحيث تدير الدولة القطاع العام الذي تقع فيه المرافق العامة والصناعات الاستراتيجية الثقيلة لحماية الاقتصاد القوميّ من التبعية للإمبريالية وتحقيق الإنماء السريع وفق الخطط التنموية على أن يكون للعاملين فيه نصيبهم العادل من الإنتاج، كما في كل القطاعات الأخرى.

 

أما الاقتصاد التعاوني بين المنتجين فهو بالدرجة الأولى في الزراعة، حيث حدَّد سعاده للمنتجين أن يقتسموا خيرات الأرض في ما بينهم اقتسام الأخوة القوميّة الاجتماعيّة مدركاً إدراكاً متميزاً علاقة الفلاح بالأرض. وهو ما تعود إليه الأنظمة الاشتراكية التي أمّمت الأرض لتدرك أن نزعها من الفلاح أدّى إلى تراجع الإنتاج. فإلغاء الإقطاع مفروض أن يحلّ محله المنتجون، إن الإقطاع أمر مفروض ومطلوب إلغاؤه في المبدأ الإصلاحيّ الرابع، فالبديل هو اقتصاد تعاوني بين المنتجين تحدد له الدولة السقف الإنتاجي والإنمائي على أن يتولى المنتجون عملية الإنتاج ويقتسموا أرباحه في ما بينهم مع لحظ نسبة من الفائض لمصلحة الرأسمال القوميّ الذي يشكل الاحتياط الإنمائي لتطوير الإنتاج.

 

 

ج - على قاعدة وحدة مفهوم الصراع القوميّ الاجتماعيّ تحل المشكلة الطبقية.

 

إن تميز نظرة سعاده إلى الشأن الاجتماعيّ الاقتصاديّ هو في توحيد الصراع القوميّ الاجتماعيّ ضد الاستعبادين الداخلي والخارجي. لقد رفض سعاده صراعاً اجتماعيّاً مقلوع الجذور قوميّاً، أو صراعاً قوميّاً من دون مضمون اجتماعيّ اقتصاديّ ثوري. وعلى هذه القاعدة فإن المشكلة الطبقية التي هي مشكلةٌ موضوعية يفرزها نظام رأسمالي أو إقطاعي يقوم على الظلم والقهر والاستبداد الفردي والفئوي، إنما تُحَلُّ على قاعدة الثورة القوميّة الاجتماعيّة من ضمن توحيد مفهوم الصراع القوميّ الاجتماعيّ لدك الظلم الاجتماعيّ الاقتصاديّ في سياق الثورة القوميّة التحررية. (راجع بحثنا "العمال والفلاحون في استراتيجية الثورة القوميّة الاجتماعيّة").

 

 

د – شمولية نظرة سعاده إلى المشكلة الاجتماعيّة بجوانبها الماديّة والروحيّة.

 

فعلى قاعدة القضية القوميّة ينهض العدل الاجتماعيّ الاقتصاديّ كما أن الثورة القوميّة الاجتماعيّة انبثاقاً من نظرة سعاده المدرحية هي ثورة لها طابع الشمولية تولي الاقتصاد وشؤونه اهتماماً أساسيّاً أولياً، ولكنها لا تغفل الجوانب الأخرى من حياة المجتمع، خاصةً مجتمعاً كمجتمعنا مرّ في فترة انحطاط وتفكك روحيّ ونفسي إلى جانب التخلف الماديّ والتناقضات الاجتماعيّة.

 

فإلى جانب الاستعباد الداخلي الممثل بالإقطاع المتحكم بالفلاحين والرأسمالية الفردية الطاغية الساحقة العمال والمنتجين، هذا الاستعباد الداخلي المتحالف مع الاستعباد الخارجي أي مع عصر الإمبريالية والاستعمار إلى جانبه مع الصهيونية، وهي الهستيريا اليهودية الخرافية المتحالفة مع الإمبريالية والاستعمار لتحقيق حلمها الخرافي واستيطانها العنصري الاستعماري باغتصاب أرضنا تشكل إلى جانب الإمبريالية والاستعمار، وفي ظلهما، الجانب الآخر الأخطر من الاستعباد الخارجي المستهدف وجودنا القوميّ من الأساس والذي تقوم مقولته على سلخ الشعب عن الأرض، وعلى تمزيق وحدة شعبنا بإدخال سم وباء التصهين وحقنه في التفسخ الروحيّ والاجتماعيّ لعصر الانحطاط لإطلاق هستيريا طائفية عنصرية تسلخ عن جسمنا أشلاء سرطانية تقيم منها كيانات طائفية متصهينة تمزّق وحدة مجتمعنا القوميّ، بحيث يصبح من خصائص الثورة الشاملة أن تعي أبعاد التحديات الماديّة والروحيّة والتي بعضها يقوم على الاستغلال الماديّ وبعضها يتحالف مع العفن الروحيّ لعصر الانحطاط لتحقيق تمزيق المجتمع القوميّ. من هنا كانت شمولية الثورة القوميّة الاجتماعيّة، كما حددها سعاده بالنص التالي:

 

"نهاجم الحزبيات الدينية،

 

"نهاجم الإقطاع المتحكم للفلاحين،

 

"نهاجم العقليات المحجرة المتجمدة،

 

"نهاجم النظرة الفردية - ونستعدّ لمهاجمة الأعداء الذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا، لنقضي عليهم" (المحاضرات العشر – ص. 167).

 

وإذ يؤكد سعاده شمولية الثورة القوميّة الاجتماعيّة الماديّة الروحيّة، فإنه في مسألة التناقضات الاجتماعيّة الاقتصاديّة، إذ يدرك أنها حصيلة النظام الرأسمالي أو الإقطاعي القائم على الظلم والقهر والحرمان، فإنه يرفض العدمية الطبقية التي تجرّد المشكلة الطبقية وتفصلها عن إطارها بإزالة الأنظمة الاجتماعيّة الاقتصاديّة السيئة والفاسدة الممزقة لوحدة المجتمع بهذه التناقضات.

 

وعلى هذا الأساس رفض سعاده مفهوم التآخي الأممي في النظرة الطبقية المسطحة بين العمال اليهود والعمال السوريين في نداء الأول من أيار 1949 واعتبر العمال اليهود جزءاً من معادلة العدو، لأنهم يقتلعون عمالنا من أرضهم ومنتجينا من إنتاجهم. هذه هي القواعد الأساسيّة لفهم نظرة سعاده للمشكلة الطبقية وللنظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ الجديد.

 

 

4 - الخلاصة الرابعة: محدودية النهج الأحادي البعيد وتقصيره عن إدراك أخطار الصهيونية.

 

كما تجاهل الفكر القوميّ التقدمي إجمالاً الانعزال فإن الفكر التقدمي العالمي قد تجاهل فهم الصهيونية حين ظن في مطلع الخمسينيات وأواخر الأربعينيات إمكان أن تنبت تربة عنصرية جافة واحدة اشتراكية.

 

كيف يمكن بكيان استيطاني عنصري، ولعقيدة تمييز عنصري ولخرافة توراتية أو روحيّة ثيوقراطية رجعية تشكل عفناً روحيّاً رجعياً واستيطاناً استعمارياً أن تتحوّل إلى أي شيء تقدمي؟!

 

وفي هذا المجال نرى بأن فهمنا للصهيونية عدا كونها تشكل مؤامرة وجود على أمتنا فإنها تشكل، وهذا هو البعد الجديد الذي يجب أن نؤكده، مؤامرة على كل مجتمعات العالم. وذلك بتشكيل طوابير خامسة تابعة لها. منسلخة عن مجتمعاتنا وملحقة بكيانها الاستيطاني وبعقيدتها الخرافية العنصرية. فهي من جهة تشكل جزءاً من المعادلة الإمبريالية ومخفراً أمامياً للإمبريالية الأميركية، وجزءاً من حماية المصالح الرأسمالية الاستغلالية العالمية ونهب مواردنا وموارد الشعوب لذلك ناصرت بالسلاح والخبراء الأنظمة الدكتاتورية والعنصرية في أفريقيا وأميركا اللاتينية. وهي من جهة أخرى تشكّل تحدياً خطيراً للمجتمعات الاشتراكية عبر شعارات أممية مموَّهة ترفعها لسلخ اليهود عن تلك المجتمعات تحت شعارات مزيفة حول حقوق الإنسان تُضفي على مسألة سلخ اليهود عن تلك المجتمعات وتبرير هجرتهم إلى الكيان الصهيوني ليشكلوا مدداً من الكوادر ونزيفاً من تلك المجتمعات.

 

ليس من حقنا أن نعترض على السيادة القوميّة لكل أمة أو دولة أجنبية في أن تقيم العلاقات مع مَن تشاء ولعل قطع دول منظومة الاشتراكية لعلاقاتها مع اسرائيل عشرين عاماً كان دليلاً على مدى التزام هذه المنظومة الصديقة بصداقتها لأمتنا وعالمها العربي وفي ظل التراجعات العربية، وكامب دايفيد، وتطبيع معظم الأنظمة العربية مع نظام كامب دايفيد بماذا نطالب الأصدقاء الأجانب؟ مع ذلك وضعت الدول الاشتراكية سقفاً لعودة علاقاتها الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني هو انعقاد المؤتمر الدولي، حسب رأيها وتقديرها؛ إلاَّ أن ما نشهده اليوم من تطبيع واقعي بين الكيان الصهيوني وبعض الدول الاشتراكية في زيارات كبار المسؤولين الصهاينة لعواصمهما، في انعقاد المؤتمر اليهودي العالمي فيها في الحديث عن الهجرة اليهودية، خطورته الحقيقية تنطلق من المزج بين إسرائيل ويهود تلك المجتمعات وكأنما العلاقة مع إسرائيل دليل على تحسين وضع اليهود داخل تلك المجتمعات بالذات، أو حق هؤلاء في الهجرة إلى الكيان الصهيوني، مما يؤكد نظرية أن إسرائيل كما تزعم هي "دولة الشعب اليهودي في العالم" متجاوزة بذلك حدود الأمم والمجتمعات. ونعرف الدور الذي تلعبه المصالح الرأسمالية الأميركية في دفع هذا الاتجاه لقاء وعود بمساعدات اقتصاديّة. كما نحذر من دور اليهود الداخلي في تلك المجتمعات وارتباطهم بالمركز اليهودي العالمي مما يهدد فعلاً تماسك وسيادة تلك المجتمعات الصديقة في السياق البعيد، كما أن هجرة الأدمغة والسواعد اليهود إلى فلسطين المحتلة يشكل رافداً للاستيطان الصهيوني الاستعماري وهو ما لفت مؤتمرنا العام الثالث الدول الصديقة إلى خطورتهِ.

 

 

5 - الخلاصة الخامسة: اختراقات انحرافية لحركة التحرر: في المسألة الفلسطينية والاستيطان الصهيوني

 

أ – القرارت الدولية وحركة الصراع القوميّ:

 

أما على صعيد أمتنا فمنذ 1967 بدأ اختراق لحركة التحرر تحت شعارات إزالة آثار العدوان والتسوية السلمية بالقرارات الدولية وصولاً إلى كامب دايفيد ثم وصولاً إلى المؤتمر الدولي، الذي هو خطة اعتراضية على كامب دايفيد، ولكنه كما جاء في وثيقة مؤتمر الحزب الثالث لا ينطلق على الصراع التحريري ضد الاستيطان العنصري في بلادنا بل ينطبق على تسوية الخلافات الإقليمية التي تنشأ بين أمتين أو دولتين متجاورتين.

 

ولسعاده موقف حاسم حول أن الحق القوميّ لا يزال بقرار دولي. فنحن لسنا ضد المؤسسات الدولية ولكننا نؤمن بأن حركة الصراع القوميّ هي التي تصوغ القرارات الدولية ولا تصوغ القرارات الدولية حركة الصراع القوميّ ولا تملي إلغاء الحق القوميّ أو تفرض تعايش الاغتصاب مع الحق القوميّ في معادلة حل "النزاعات الإقليمية".

 

إن بعض القرارات الدولية، القرار الصادر في 1975 الذي يدين الصهيونية: على أنها شكل من أشكال التمييز العنصري وعقيدة عنصرية يصب في المنحى الإنساني الحقيقي والحقوقيّ، ولكننا لا يمكن أن نقبل بالقرارات الدولية التي تعتبر الكيان الصهيوني دولة طبيعية لشعب له حق الوجود على جزء من أرضنا مهما كبر أو صغر. ذلك لأنها لا تخالف حقنا القوميّ فحسب؛ وهذا كافٍ بحد ذاته لترفضه حركة تحررنا القوميّ، بل لأنها أيضاً تخالف الحقائق الموضوعية، فالاستيطان العنصري الاستعماري لا يمكن أو يوصف بدولة طبيعية وعادية كسائر دول الشعوب، لأنه كيان هجرة استيطانية لم ينشأ في المكان والزمان نشوءاً طبيعياً بل نشوءاً استعمارياً.

 

إن تعاطينا الواعي والمبدئي مع حركة الصراع وانعكاساتها على الصعيد الدولي هو الذي يتيح لنا أن نفهم ما جاء ببيان عمدة الإذاعة والإعلام بتاريخ 24 آب 1988 من "أن اللاهثين وراء التسوية يختزلون حركة الصراع ونتائجها وانعكاساتها على الصعيد الدولي ليعودوا إلى ما قبل إسقاط حرب تشرين للقرار 242 ومقاومة الشعب الفلسطيني. وصدور قرارات لاحقة بينها قرار إدانة الصهيونية لاتفاقية 17 أيار وفرض الانسحاب غير المشروط على العدو، وإسقاط انتفاضة فلسطين أمام العالم هو قناع التزييف لطبيعة الاستيطان العنصري الصهيوني وفضحه ككيان غير طبيعي واستعماري استيطاني. إن حذف كل هذه النتائج والعودة إلى قرارات دولية صادرة في أعقاب الهزائم 1948 و1967 سواء قرار التقسيم 181 الذي ينص على الاعتراف والتعايش مع العدو أو القرار 242 الذي يُلغي القضية لتصبح مشكلة لاجئين، ويؤكد على تأمين الاغتصاب على حدوده الآمنة، هو في أساس نهج الانحراف والاستسلام الداعي إلى الاعتراف بالعدو، والسلام مقابل الأرض، والتنازل عن بعض الحقوق، وبالتالي عن الحق القوميّ أساساً كحق تاريخي ثابت لشعبنا وأمتنا في كامل أرضنا القوميّة".

 

وكما لخص بيان العمدة حينئذ الموقف "بأن النضال على الصعيد الدولي كان للاعتراف العالمي بحق الشعب الفلسطيني بأرضه التي شرد عنها ولم يكن يوماً يعني اعتراف الضحية بالجزار، اعتراف الشعب الفلسطيني أو ممثليه بالاغتصاب الصهيوني. فشعوب أوروبا لم تتعايش مع الاحتلال النازي وشعوب إفريقيا لم تتعايش مع الاستيطان العنصري. ولقد أكدت انتفاضة فلسطين البطولية رفض شعبنا القاطع للتعايش مع الاستيطان العنصري الصهيوني. وهي انتفاضة تحرر وتحرير لا تكيّف وتبرير وتمرير".

 

إن نهج الانحراف السياسي الذي سار في مسار التسوية والذي أخذ يدعو في الأشهر الأخيرة إلى التفاوض مع العدو، كثمن لإعلان الدولة الفلسطينية أو الدويلة الفلسطينية على جزء من فلسطين وصل إلى الاعتراف في أدبيات هذا المنحى الفلسطيني المنحرف إلى الاعتراف "بالشعب الإسرائيلي".

 

وهذا انحراف يتجاوز الانحراف السياسي الخطير إلى ثقافة مزيّفة مزورة للتاريخ والحقيقة لأن الحديث عن "الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني" على قدم المساواة هو تسليم تاريخي وقوميّ للشعب الإسرائيلي المزعوم "بحقه" في أرضنا، فلا هو استيطان ولا هجرة استيطانية استعمارية ولا كيان عنصري مغتصَب بل هو يساوينا في حقنا في أرضنا! وهنا يصل الانحراف السياسي إلى انحراف عقائدي خطير إلى أيديولوجيا كاملة للانحراف!

 

وعلى خطّ موازٍ طرحت تنظيرات ماركسوية حول "أمة يهودية في طور التَّكوين"، ما هي الشروط الموضوعية لقيام هذه الأمة الخرافية؟ وهل يمكن أن يتحوّل الاستيطان إلى وطن، والهجرات الزاحفة كالجراد من أصقاع العالم لغزو أرضنا إلى أمة؟ وكيف تتشكل أمة خارج المكان والتاريخ؟ وهل نصف قرن من تجمّع استيطاني ينشئ أمة أو يجعلها قيد التكوين؟ لماذا لم تنشأ أمة الأبارتيد في جنوب إفريقيا ولا أمة روديسيا في زيمبابوي ولا أمة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر وقد مضى على كل منها أضعاف ما مضى على الكيان الصهيوني؟!

 

لقد حدّد سعاده اليهود بأنهم كنيس وليسوا عرقاً ولا أمة. إنهم كنيس يتحوّل في الحركة الصهيونية إلى استيطان عنصري إلى هجرة استيطانية عنصرية استعمارية. لا يمكن أن يقوم تعايش معها. إننا نرفض العدوان الذي تمثله هذه الهجرة الاستيطانية على وجود أمتنا ولسنا نحن الذين يعتدون على أحد في العالم بل نحن نرد العدوان عن وجودنا وأرضنا وكياننا القوميّ.

 

إن ما ينطبق على هذا الكيان الاستيطاني كان ينطبق على كل الكيانات الاستيطانية التي كان مصيرها إلى الزوال. يكفينا القول إن حروب التحرير في إفريقيا من الجزائر إلى زيمبابوي إلى ناميبيا إلى جنوب إفريقيا كان لها نتيجة واحدة وهي زوال الكيان الاستيطاني واسترداد الشعب صاحب الحق لأرضه، لكل أرضه. فلماذا نكون نحن الاستثناء الوحيد عن حروب التحرير القوميّة ضد الاستيطان العنصري؟

 

إن هذا الفهم لحربنا التحريرية في مسار ظاهرة حروب التحرير ضد الاستيطان العنصري يحصِّنها في المستوى العالمي ويعطي خصوصيتها القوميّة التحريرية كل بعدها الإنساني.

 

إن الخلاصة التي نتوصّل إليها في المفارقة بين نهج التسوية ونهج التحرير هي أن المأزق أساساً كان مأزقاً إسرائيلياً أعلنه قادة العدو حين واجهوا بعد أربعين عاماً على اغتصاب فلسطين، النمو السكاني لشعبنا المتمسّك بأرضه الذي شكّل تهديداً للدولة العبرية من الداخل وحين أعلن المستر مورفي أن انتشار الصواريخ في المنطقة يهدّد الكيان الصهيوني استراتيجياً سارعت واشنطن للضغط للحدّ من هذا الانتشار بينما تتضخم الترسانة النووية الإسرائيلية من دون حدود أو رقيب.

 

ولكن كيان الهجرة الاستيطانية كيان شديد التعرَّض فأدنى النكسات تزلزله من الداخل، إن واحداً بالألف من الصواريخ والدمار الذي أصاب مدننا لو أصاب مدينة صهيونية لتبعثر الصهاينة في كل صوب من العالم. وكذلك فإن الدولة اليهودية على لسان قادتها مهدّدة بأن تفقد هويتها وصفاءها إزاء تزايد سكان شعبنا في نطاقها بعد عقد أو عقدين من الزمن. فكيان الهجرة اليهودية لا يتحمّل نكسة واحدة، لأن الهجرة تصبح معاكسة. المأزق الإسرائيلي كان هو المأزق الاستراتيجي، أما اللهاث وراء التسوية فهو المأزق التكتيكي الذي يحوله أصحاب نهج التسوية إلى مأزق استراتيجي لقضيتنا القوميّة.

 

 

خامساً: الانتفاضة المجيدة في فلسطين تعبير مميَّز عن مخزون التحرير القوميّ ووحدة المصير والعراك القوميّين ضد العدو.

 

ولا بد في هذا المجال أن نؤكد على أهمية الانتفاضة في فلسطين كظاهرة مجيدة لنضالنا القوميّ ولمخزون التحرر والثورية في شعبنا الفلسطيني الذي كابد وصابر وناضل، وهو يدق اليوم سجن الاستيطان بقبضة حديدية تهزه ليس فقط في الأراضي المحتلة العام 1967 بل في الأراضي المحتلة العام 1948 ويؤكد وحدة الشعب والأرض ويعيد الاعتبار للتناقض الأساسيّ مع الاستيطان الصهيوني.

 

إن هذه الانتفاضة العظيمة خيَّبت ظنون ومراهنات العدو من جهة المستسلمين ومن جهة أخرى الذين كانوا يتوقعون انطفاءها منذ الشهر الأول، لكنها تشرف بعد قليل على انطواء عامها الأول وتضيء شمعة التحرير.

 

إن ظاهرة الانتفاضة العظيمة هي جزء من صراعنا القوميّ. وهذا هو المفهوم الصحيح، هي جزء من انتفاضات فلسطين المتتالية وإن كانت أعظمها، وهي متمّمة لصراعنا القوميّ على ساحاتنا القوميّة الواحدة. فهناك صلة رحم بين المقاومة الوطنية على أرض لبنان التي زعزعت جيش الغزو وألحقت به الهزائم مرَّغت سمعته في الوحل وصولاً إلى العمليات الاستشهادية التي تردّدت أصداؤها في كل فلسطين وأسقطت اتفاقية العار اتفاقية 17 أيار. وبالتالي شكلت منعطفاً في أن الغزو الإسرائيلي لا يعود دائماً بنتائج باهرة وبفرض اتفاقات بالتنازل عن الحق القوميّ بل أنه يمكّن أن يُهزم وبالمقاومة المسلحة لشعبنا.

 

إن الانتفاضة شكلت منعطفاً تاريخياً في الصراع مع العدو الصهيوني لأنها فاجأته وهو مطمئن إلى دوام احتلاله بإبراز التناقض اليومي الحاد مع هذا الاحتلال وتصديع أمن استيطانه، بحيث بات كل كيانه أمام قلق المصير وكوابيس الزوال.

 

إن استثمار مثل هذه الحركة الشعبية التاريخية لتحقيق تسوية جزئية مستعجلة بحجة التأقلم مع الشرعية الدولية هو إجهاض لنتائج الانتفاضة العظيمة. إن مثل هذا النهج المنحرف أساسه انزلاقة تمركزه في توهم فصل ساحات الصراع مع العدو بعضها عن بعض؛ فالعدو الطامع بكل أرضنا لا يواجَه إلا بجمع قوة أمتنا في حرب التحرير لا بفرز مسألة كل كيان على حدة أو على أساس التناقضات والكيانات.

 

إن معادلة المقاومة الوطنية في لبنان المستندة إلى عمقها القوميّ في الشام المتآخية بندقيتها مع البندقية الفلسطينية المقاتلة تشكل هذه المقدّمة الضرورية لفهم تكامل ساحات الصراع في ساحتنا القوميّة الواحدة بين الصراع في لبنان والصراع في فلسطين والصراع في سورية كلها.

 

 

ب: الجبهة السورية الشمالية الشرقية في مواجهة العدو:

 

من دون قيام هذه الجبهة ستبقى الانتفاضة مكشوفة. ولقد أفشلت قيادة المنظمة النافذة قيام مثل هذا المحور القوميّ مع دمشق، لأنه يسدّ أمامها باب القاهرة الذي توسّلته للتسوية الأميركية.

 

أما النظام العراقي الذي استنزف إمكانات العراق في حرب الخليج فبدل عودته إلى جبهة المواجهة مع العدو الصهيوني كما دعاه المخلصون مراراً بعد انتهاء حرب الخليج عاد إلى الجبهة الشمالية الشرقية ليس لمواجهة العدو بل عبر لبنان وبدعم القوات الانعزالية والانفصالية المتصهينة لمحاربة الشام والوطنيين اللبنانيين المدافعين عن القضية القوميّة في أخطر مؤامرة على القضية القوميّة. إن هذه الحقائق يجب أن تبرز في أذهاننا وإعلامنا وتقويمنا للحالة.

 

 

سادساً: بعث تراثنا القوميّ سلاحاً في وجه المؤامرة وموقع الدين في حضارتنا وفهمه الصحيح.

 

إن مسألة بعث تراثنا القوميّ يشكل الرد الحقيقي على المؤامرة الصهيونية لطمس حقيقتنا القوميّة. وبالتالي للحيلولة دون انفجار وعينا القوميّ. إن الخرافة اليهودية التي ركزت على أن لها حقاً في فلسطين انطلاقاً من وجودها التوارتي تسقط أمام حقيقة أمتنا الحضارية المستمرة، والتي كانت فيها فلسطين أرض كنعان ولم تكن يوماً أرض إسرائيل. وكانت الغزوة اليهودية لفلسطين في التاريخ القديم غزوة لم تستمرّ بأكثر من الغزوة الصليبية الافرنجية لشواطئ أمتنا بما فيها فلسطين. فهي طارئة وزالت وبقيت الأمة المستمرة في أرضنا وتاريخها، ولا يمكن أن تكون هناك صلة بين تلك الغزوات وبين المستوطنين اليهود الآتين من أوروبا والذين لا يمتون بصلة رحم لتلك الغزوة، عدا فاصل الألفي عام الذي لا يمكن أن يشكل تفاعلاً بين الإنسان والأرض.

 

وهنا نعود إلى أهمية مقولة التفاعل بين الإنسان والأرض وديمومة الوجود القوميّ على الأرض.

 

وإن مسألة تراثنا الروحيّ مسألة بالغة الأهمية، لأننا إذ نرفض الطائفية فإننا نفهم الدين كجزء من تراثنا الروحيّ، كما ميَّز ذلك سعاده "في الإسلام في رسالتيه". وكما ميَّز ذلك في المبدأ الأساسيّ السابع حين ذكّر آباء الكنيسة الأنطاكية وذكّر بالنسبة لموقعهم في هذا التراث. وإن فهمنا للإسلام في رسالتيه المحمدية والمسيحية فهم حضاري لتفسير روح أمتنا المسكوني ورسالتها إلى العالم هو الفهم الصحيح لحضارتنا المستمرة منذ فجر التاريخ حتى اليوم. وهذا الفهم هو الذي يعيد إلى المسيحية انتماءها القوميّ في أمتنا، فهي أنطاكية سورية مشرقية ولا يمكن أن تكون انعزالية متهوّدة، كما يعيد للإسلام معناه الحضاري المنطلق من سوريا إلى العالم. فلا يمكن أن تستورد إلى سوريا حركات تخرج سوريا عن محورها القوميّ لتنشئ فيها جمهوية إسلامية أو تتبعها للإخوان المسلمين أو سواها من الحركات الهدامة الممزقة لوحدتها الاجتماعيّة.

 

إن وحدة سوريا القوميّة الاجتماعيّة هي وحدة الشعب والأرض وإن التراث الديني هو جزء من التراث القوميّ المتكامل. إن المجتمع ووحدته هو معيار النظرة إلى التراث الديني وليس تعددية الأديان معيار النظر لتجزئة المجتمع القوميّ.

 

 

سابعاً: المفهوم المدرحي للعلاقات الإنسانية والاجتماعيّة في المستويين القوميّ والعالمي.

 

من هنا نفهم ماذا عنى سعاده بالماديّة – الروحيّة المدرحية. إنها نظرة سعاده إلى التطور الاجتماعيّ في مستوييه: نشوء الأمة أي نشوء المجتمع ضمن التطور الاجتماعيّ وعوامله الماديّة الروحيّة المتكاملة والنظام الاجتماعيّ الجديد. ولا معنى للمدرحية خارج هذا المفهوم للعلاقات الاجتماعيّة. ليست المدرحية مزجاً للمادة بالروح كما يفهم بعض السخفاء، وليست المدرحية نظرة إلى الماهية الإنسانية وإلى ماهية الطبيعة أو إلى ما وراء الوجود. إن بعض هذه التحليلات التي ظهرت هنا وهنالك لا علاقة لها بمفهوم المدرحية عند سعاده الذي هو مفهوم وحدة العوامل الماديّة الروحيّة في فهم الظاهرات الاجتماعيّة.

 

على قدر نخع الوجود بالمؤامرة على هذا الوجود كان التحصُّن بالوجود في نظرة فلسفية شاملة وحركة ثورية جذرية. لذلك حركتنا كانت بهذه الشمولية. إنها أصلية تعود إلى أصالة الأمة ولكن على أساس ثوري جديد ومعاصر. لا تجترّ المراحل، بل تستمدّ، كما قال سعاده، مواهبها من تراث الأمة لتصوغ دورة حضارية جديدة هي القوميّة الاجتماعيّة في عصر القوميّات الاجتماعيّة وتفهم التضامن الإنساني على أنه تضامن حركات التحرير والأمم والشعوب لا إلغاء الأمم والشعوب وحركات التحرير في أيّ مبهم مطلق. ومن هنا يحسن بنا أن نتدبّر التراث الثوري المعاصر فنجد كيف يتجه نحو مقولات أساسيّة في القوميّة الاجتماعيّة. ولو قرأنا مثلاً بعض أدبيات ميخائيل غورباتشوف لا سيما في الذكرى السبعين للثورة البلشفية حين يدعو إلى إعادة التوازن بين القيم الماديّة والروحيّة وإلى أهمية الإنسان الفاصلة في صياغة التاريخ وإلى ما يشبه انكفاء الحتم في سبيل التفاعل، أو إذا أخذنا أدبيات الصين الأخيرة بعد مؤتمرها الثالث عشر وتشديدها على أهمية القاعدة القوميّة للاشتراكية أو الأساس الصيني في التجربة الاشتراكية أو لو أخذنا ما قاله "فيديل كاسترو" في خطابه هذا العام في ذكرى الثورة الكوبية في 26 تموز الماضي حين يقول: "إن الثورة الكوبية أصلية ولا تنسخ عن الثورات الأخرى" وإذ يحيي "البيرويستريكا" يقول إن الثورة الكوبية قامت بحركة تصحيحها قبل سنوات وإن مواجهتها للإمبريالية تشكل ظروفاً مختلفة من تجربة المجتمعات الاشتراكية في أوروبا.

 

كلّ هذا يشير إلى أننا في عصر القوميّات الاجتماعيّة، مهما تباينت العقائد والمنطلقات الفكرية. فالواقع الاجتماعيّ يعود ليفرض نفسه والواقع الاجتماعيّ هو واقع ماديّ وروحيّ متكامل. هو تراث الأمة الذي يفعل في النظام الجديد، كما أن النظام الجديد يشكل إطاراً، كما قال سعاده، لتنظيم المجتمع في مستوى التفاعل في كل مرحلة جديدة.

 

 

ثامناً: نصل هنا إلى أن نطرح مسائل أساسيّة تتعلق بحزبنا. الأصالة والأصولية.

 

  • استعادة الموقع الثوري التحريري الأصيل لحزبنا بعد طارئ الانحراف:

 

إن حزبنا قد عُزل عن حركة التحرر التي تصدّرها سعاده قائداً وشهيداً وأراد حزبه أن يكون طليعتها في الخطة القوميّة المعاكسة للخطة الصهيونية، وذلك حين عزلت الحزب قيادات عن هذه الحركة الصراعية التي هي جوهر أساسيّ من وجوده. حصل ذلك عندما قدّمت حرب العقائد المجتزأة المشوّهة على حرب المصالح القوميّة في مرحلة التحرير والتوحيد. وإن عودة حزبنا إلى وجدان الأمة كان عبر عودته إلى مواقع الصراع القوميّ كطليعة فاعلة في الكفاح القوميّ المسلح. ومنذ ذلك الحين عاد حزبنا إلى وجدان الأمة بعد أن عزلته مراحل سابقة عن هذا الوجدان فعلى قاعدة اقتران الوعي بالصراع يصبح الزوغان عن محور الصراع القوميّ كطليعة فاعلة في الكفاح القوميّ المسلح. ليس خطأ سياسياً بل خطأ عقائدياً كذلك. من هنا إن عودة الحزب كطليعة فاعلة في الكفاح القوميّ المسلح الذي أسقط كل تلك الفواصل والعوازل بدماء شهدائه في الموقع القوميّ المتقدّم الصراعي السليم. ولم يكن ذلك صدفة بل باستعادة فكر سعاده الثوري الذي قاد مجدداً إلى الموقع الثوري انطلاقاً من مسيرة بدأ فيها تلمُّس هذا الخط الصراعي في الستينيات وصولاً إلى مؤتمرات الحزب وإلى رسم استراتيجيته النضالية واستعادة أصالته العقائدية الصراعية.

 

إن الفكر الذي عزل الحزب عن موقعه الصحيح لا يمتّ إلى فكر سعاده الثوري الشمولي بصلة، إنه الطقسية والكهانة المعادية للثورية وللأصالة، وإن فهم دور الحزب الطليعي في حركة التحرر القوميّ، ودور حركة التحرر القوميّ كطليعة في حركة التحرّر العالمي يشكّل فهماً لخصوصية الحزب وفرادته في حركة التحرر القوميّ، ولكن هذه الخصوصية والفرادة لا تعزلانه بل تبوّآنه المكان الطليعي.

 

فالأصالة والأصولية القوميّة الاجتماعيّة تجعل حزبنا متميزاً ومتفرداً في موقع الصراع ولا تجعله النمط الشاذ المنكفئ عن هذا الموقع.

 

أن يكون لنا مفهومنا الخاص والخصوصي للتقدم، أمر لازم لطبيعة نهضتنا الفريدة، ولكن أن نتخلى عن موقعنا الطليعي في التقدم فتلك هي الكارثة.

 

أن ننطلق من فهم التراث وليس من اقتباس الآخرين هي الأصالة الحقيقية وبين أن نكون ذاتنا في موقع الصراع والتحرر والتقدم والتحرر فتلك هي أصالتنا القوميّة الاجتماعيّة، كما حدّدها سعاده.

 

إن سعاده كما انطلق هذا البحث بالاستشهاد بأقواله قد أكد اقتران الوعي بالصراع. فكل فصل بين الوعي والصراع كالفصل بين القوميّة الاجتماعيّة أو بين الماديّة والروحيّة، خروج وانحراف. ذلك أن الوعي عند سعاده ذو غرض وغاية صراعية تحررية توحيدية للأمة والوطن.

 

من هنا خطل الاتجاهات والأفكار التي تظنّ أن درس العقيدة منفصلة عن موقعها القوميّ التحريري ممكن.

 

إن هذه الاتجاهات الخاطئة والضّالة كانت وراء تصوّر أن بإمكان أمتنا أن تتحالف مع الغرب بالشروط القوميّة رغم استعماره وإمبرياليته ومصالحه المشتركة مع الصهيونية، وهي التي رفضت التحالف مع الشرق بسبب الصراع الفكري. وحين نتحدث عن المرحلة نتحدث عن مرحلة حرب التحرير القوميّة الممتدة منذ مطلع هذا القرن حتى تتوحّد أمتنا ويتحرر كل وطننا وليس عن أية مرحلة سياسية عارضة.

 

وحتماً لا يقابل هذه الاتجاهات الخاطئة التوهم أن شراكتنا النضالية لأصحاب العقائد الأخرى يفرض علينا التطابق في العقائد أو التقارب كما هو التطابق في المواقع.

 

والحقيقة أن أصحاب عقائد مختلفة قد يلتقون على مصلحة قوميّة واحدة أو تحريرية مشتركة بين أمم عدة وليس العكس. الوعي له تحديد واضح عندنا. إنه الوعي القوميّ الاجتماعيّ المؤسس على مبادئ وتعاليم ونظرة أنطون سعاده السورية القوميّة الاجتماعيّة وقواعد الفكر التي أرسى دعائمَها وأسسها. وليس لدينا وعي بالتجريد.

 

وحين نقول اقتران الوعي بالصراع نعني تحديداً ما علمنا إياه سعاده من أننا حزب صراع بالمبادئ التي نحمل وبها نؤمن. وحين نحدّد المرحلة التاريخية وأهمية وعيها لنحدّد مواقع حزبنا الذي نشأ على أساس تحدّياتها والفعل فيها، فنعني تحديداً مرحلة حرب التحرير القوميّة، مرحلة مواجهة الخطة الصهيونية بالخطة القوميّة المعاكسة، مرحلة الصراع القوميّ حتى تحرير كل شبر من أرض الوطن المحتل والمغتصب وحتى يتوحّد الوطن بإرادة الأمة السورية الموحّدة.

 

وهذه هي المرحلة القوميّة التي تقاس المواقف وتحاكم على أساس موجباتها في حرب التحرير القوميّة والتي تتحدّد في ظل موجباتها الصراعية، الترجمة العملية لمبدأ مصلحة سورية فوق كل مصلحة. فلا يترك هذا المبدأ العظيم خارج موجبات الصراع القوميّ في الزمان والمكان. لأن مصلحة سورية في مرحلة حرب التحرير هي في التحرير، وبالتالي هي تحدد تحالفاتها مع القوى المساندة للتحرير وعدوانها للقوى المساندة للاغتصاب والعدوان.

 

من هنا، إن مفهوم المرحلة هو مفهوم الصراع القوميّ وليس مفهوم مرحلة سياسية عابرة أو مرحلة طارئة حتى يُقال باطلاً "عقيدة المرحلة" و"عقائد المرحلة" تسفيهاً لمنطلقات هي منطلقات سعاده في اقتران الوعي بالصراع في المفهوم القوميّ الاجتماعيّ.

 

إن عقيدة سعاده كانت عقيدة حرب سورية القوميّة التحريرية والتوحيدية. وفصل العقيدة عن موجبات هذا الصراع القوميّ التحريري هو الذي يبيح في انفصام الفكر عن الممارسة شطط الممارسة وزوغانها.

 

لقد قدّم هذا المفهوم المنحرف عن سعاده الصراع العقائدي داخل الأمة على المصالح القوميّة. وحاول بلوغ المصالح القوميّة بانطلاقة منحرفة من التركيز على الصراع الداخلي ضمن الأمة وسحبه على العلاقات الدولية. هذا خطأ عقائدي ويُتم فكري منسلخ عن نهج سعاده أوصل إلى نتائج سياسية كارثية.

 

وإذا كان للأشخاص دور في إبراز هذا الاتجاه أو ذاك، فالمؤسسة الحزبية هي التي تفصل في الاتجاه وتقرره.

 

فتاريخ هذه المراحل هو في الأخير، تاريخ التجربة والخطأ في الحزب والنقد والنقد الذاتي وحدهما أساس التصحيح، لكن المشكلة تصبح فادحة حين يتمّ الإصرار على تبرير المواقف الخطأ بذريعة تنزيه المسيرة الحزبية عن الخطأ، كأنما العصمة هي سمة إنسانية. وفي الحقيقة إنه الحرص على عصمة الأفراد والذين لا يتواضعون أمام تاريخ حزبهم. فإذا كان الحزب بعد سعاده مرّ في حالة يُتم فكري وقيادي رغم جهاد القوميّين الاجتماعيّين وبطولاتهم ودفاعهم عن عقيدتهم ومؤسساتهم وحزبهم، فإن طفولة الحزب بعد سعاده لا تستمرّ بعد ثلاثين عاماً لأنه عندها يصبح الارتداد إلى تلك المواقف لتبريرها بعد كل التجارب موقفاً رجعياً لا مبرر له. فالحزب لا الأشخاص هو المعيار. والحزب بتكامل مراحله ومسيرته هو القادر أن يجتاز التجربة وقد أكد ذلك في مؤتمراته بدءاً من ملكارت وصولاً إلى المواقع السليمة التي هي مواقع حدّدها زعيمه وعقيدته وصراعه الأول. فهي الأصلية وكل ما عداها طارئ!

 

إن نقدنا الذاتي وبمعيار ثورية سعاده لنهج سياسي معيّن في الخمسينيات. اتسم بسوء تقديره للمرحلة وإرباكاتها، لا يعني إطلاقاً عدم نقد أخطاء الآخرين بل إن هذا النقد الذي مارسناه مراراً لفكر الآخرين وسلوكهم إنما يصبح أكثر نجاعة وموضوعية حين يلاحظ الخطأ والخلل في النهج السياسي الذي اعتمدته قيادتنا في تلك المرحلة. لأن القفز فوق ذلك يجعل نقدنا للآخرين مفتقراً إلى الصدقية والثورية القوميّة الاجتماعيّة. ثم إن نقد الذات هو دليل الثقة بالنفس وبالأساس العقائدي والنهج الثوري الأصيل لحركتنا التي هي معيار كل تقويم.

 

إن تسفيهنا الفكر الرومانسي الديني واللغوي ونقدنا لما صاحب ثورة 1958 التي تملّقت في الأغلب واجهات الإقطاع السياسي في لبنان نقيضاً لثورة عبد الناصر الاشتراكية - (راجع نقدنا هذا في "صباح الخير" في 1975 في خطاب في صيدا) – لا يعني أن تحالف الحزب مع الرجعة واليمين وتبريره التحالف المشروط مع الغرب في تلك المرحلة كان سليماً أو صائباً أو يمكن تبريره.

 

فنحن لا ننقد النفس من أجل أخذ البراءة من الآخرين، لأن نضال الحزب وشهداءه هم براءتنا وفخرنا بل لأن معيار ثورية سعاده وحده لا يقبل بذلك النهج الخاطئ والمغاير لثورية سعاده ونهجه القوميّ الاجتماعيّ. وهذا هو الأساس والمقياس الذي اعتمده نضال الحزب في العقدين الأخيرين.

 

إن العودة إلى مواقع سعاده في الثورة والكفاح المسلح وفي طليعة حرب التحرير بعد الانحراف الذي ساد في الخمسينيات ومنذ اغتيال العقيد المالكي لم يحصل طفرة واحدة بل كان حصيلة تراكمات شقت الطريق نحو العودة إلى ثورية سعاده وبدأت إرهاصاتها في مطلع الستينيات بشكل توجّهات لم تتبلور بمضامين واضحة حول يسارية الحزب وعروبته مروراً بالكتابات الثورية من السجن في أواسط الستينيات وصولاً إلى مؤتمر ملكارت الذي رسم في 1969 الخط الاستراتيجي، ثم تبلور ذلك في نهج فكري ونضالي قوميّ اجتماعيّ واضح منذ أواسط السبعينيات وصولاً إلى مقاومة العدو بالكفاح المسلح في الثمانينيات.

 

ولعل أحد النماذج الواضحة والحاسمة في وقت بدأت فيه هذه الإرهاصات التي طرحت الافتراق عن الانحراف السياسي والجمود الفكري للعقيدة الصراعية بطرحها مواقف تغاير هذا الانحراف والدعوة إلى "التعاون الأوثق مع السوفيات" في 18 كانون الأول 1960، في الحسم في الخط السياسي، على أساس أن المصلحة القوميّة هي في مواجهة العدو الصهيوني المتحالف مع الاستعمار الغربي؛ ولذلك لا بد من الاتجاه للتعاون مع السوفيات على أساس لقاء المصالح في مواجهة الحلف الإمبريالي الصهيوني وذلك تطبيقاً لنظرة سعاده إلى أن العلاقات الدولية تقوم على لقاء المصالح، لأن صراع المبادئ هو داخل المجتمع الواحد بهدف تنظيمه ولا تنسحب على العلاقات الدولية.

 

يقول مقال "من أجل تعاون أوثق مع السوفيات" الصادر في 18 كانون الأول 1960 "ليس أحقّ من القوميّين الاجتماعيّين في هذه الأمة من مصافحة السوفيات، لأنّهم وحدهم يتمتعون بالمناعة العقائدية ضد التغلغل الشيوعي" وينقل هذا التوجّه التركيز على الخطر من "الخطر العقائدي" إلى خطر الوجود الذي تمثله الصهيونية عدو أمتنا فيقول "إن أهم خطر يتهدّد أمتنا في هذا العصر هو الخطر اليهودي، خطر اليهودية العالمية المتمركزة في جزء من وطننا والطامعة في التوسّع عبر سائر أجزاء الوطن والسيطرة عليها... وهو بات متحصناً اليوم أكثر من أي وقت آخر في الجهاز الحاكم في الولايات المتحدة الأميركية... ولقد أدى في الماضي حصار الاحتكارات الغربية للأسلحة، المضروب حول العالم العربي إلى صفقة الأسلحة التشيكية، وها هو اليوم الغرب تعلن أنديته أن إسرائيل على وشك امتلاك القنبلة الذرية..".

 

وبعد الإشارة إلى التناقض بين الشيوعية الأممية والقوميّة يقول المقال "نعرف كل هذا، ولكننا لا ندعو أحداً ولا ندعو أنفسنا، إلى تبني المفهوم السوفياتي لإسرائيل ولليهودية، فللسوفيات مفهومهم الأممي في هذا السبيل ولنا مفهومنا".

 

ولكن ندعو "إلى الاستفادة من الموقف السوفياتي لمصلحتنا وضد إسرائيل وضد الغرب، فطالما الغرب يحتضن إسرائيل، فإن السوفيات باتوا أميل لمساعدة شعوب العالم العربي.. " والفارق بيننا وبين السوفيات هو أن إسرائيل هي عدوتنا الأولى وشراكة عدوّينا تحتمّ علينا الصداقة مع السوفيات فمن خلال حربهم ضد الحلف الأطلسي وأصدقائه يصبّون جام غضبهم "على إسرائيل".

 

"إن المزيد من التعاون مع السوفيات لمجابهة استعمار الغرب وربيبته إسرائيل بات أمراً أساسيّاً وفي كل سياسة خارجية عربية".

 

إن هذا التوجه في مطلع الستينيات هو نقيض كل مرتكزات بيان 1955 حول شراكتنا مع الغرب في حرب الشيوعية على مستوى عالمي، وهو ما لم يدعُ له سعاده إطلاقاً في إصراره إبَّان الحرب العالمية الثانية على تقديم المصالح القوميّة في المستوى الدولي على الانحياز المجرّد لدول المحور خلاف النهج الذي استبعد التحالف مع المنظومة الاشتراكية بسبب الخلاف العقائدي، وتوهّم واعتبر التحالف المشروط مع الغرب هو السبيل الوحيد لانتزاع حقوقنا القوميّة منه. كما أنه توجّه تجاوز حتى دعوة "لسنا مع الشرق من أجل الشرق ولا مع الغرب من أجل الغرب" التي توّجت البيان الرئاسي في 1960، بدعوة صريحة إلى التعاون والتحالف مع الشرق! وهذا التوجّه الحاسم في "التعاون الوثيق مع السوفيات" ومحاربة الاستعمار الغربي المتحالف مع الصهيونية يأتي نقيضاً وناقضاً لخط كتب عنه في بعض المذكرات أنه كان مرتبطاً بالغرب وعلى علاقة مع أميركا. ومع ذلك فهذا التوجّه المتقدم يبقى بداية خطوة مع خطوات أخرى في الاتجاه السليم نضجت جميعها في السنوات اللاحقة وأنضجها الحزب لا سيما في أواسط الستينيات وصولاً إلى مؤتمر ملكارت 1969، حيث جرى الحسم في الخط النضالي والسياسي المعبِّر عن التوجهات الثورية للعقيدة السورية القوميّة الاجتماعيّة.

 

 

ب – مرحلة البناء الداخلي وفهم الذات

 

إن هذه المرحلة هي مرحلة بناء داخلي لفهم الذات وصولاً إلى فهم الآخرين، فلا يمكن أن نفهم الآخرين ما لم نفهم ذاتنا ولا يمكن أن نكون في موقع التقدّم كامتداد للآخرين، بل انطلاقاً من ذاتنا ومقولاتنا وفلسفتنا القوميّة الاجتماعيّة، وهذه هي الأصالة الثورية وفي الموقع الثوري.

 

لماذا لم ينتصر هذا الحزب إذا كان العصر يتجه إليه وإلى قضيته وعقيدته، إذا كانت العقائد تتجه إليه بعد تجاربها العديدة، وإذا كانت الوحدات الطبيعية أصبحت مقولة الوحدة في العالم العربي وإذا كان الاتحاد العربي مرتبطاً بتحقيق الوحدات الطبيعية. إذا كانت الاشتراكية في العالم تتأقلم قوميّاً، إذا كانت القيم الماديّة لم تعد وحدها كافية من دون القيم الروحيّة ولا القيم الروحيّة كما يؤكد العلم والعصر بقائمة من دون الحقائق الماديّة.

 

إذا كانت الحقائق القوميّة تؤسس في الحقائق الإنسانية. فلماذا لم ينتصر هذا الحزب وهو السؤال الذي لا نختصر الجواب عليه. ولكن نقول إن المؤامرة كانت كبيرة على هذا الحزب لجذريته وثوريته وشموليته، لأنه حزب وحدة الشعب والأرض في وجه مؤامرة تفتيت الشعب والأرض واغتصاب الأرض واقتلاع الشعب.

 

ولكن ذلك لم يكن وحده السبب، فهذا عامل موضوعي. أما العامل الذاتي فكما سبق وأشرنا لأن الحزب في مرحلة ما بعد سعاده أضاع بوصلة الصراع واعتبر أن ثمة بديلاً عن موقعه في طليعة حرب التحرير القوميّة. ثم أن ثمة تحدياً آخر لهذا الحزب العظيم ولعقيدته الشمولية الاجتماعيّة هي الفردية عدوة الاجتماعيّة. فإلى أيّ حد انتصر هذا الحزب العظيم الذي قدّم مئات الشهداء وألوف الشهداء الأحياء الذين أنكروا نفوسهم في سبيل أمتهم وقضيتهم وحزبهم؟ إلى أي حد انتصر على الفردية التي تغلغلت أو مدّت برأسها بين الفينة والأخرى في هذا المستوى أو ذاك؟

 

إلى أي مدى انتصرت المؤسسة على الأفراد؟ هذا هو السؤال والتحدي لأن سعاده يعلمنا أن النزعة الفردية أخطر من الاحتلال الأجنبي!

 

 

تاسعاً: نظام المؤسسات من صلب تعاليم سعاده

 

خلافاً لكل طرح مجتزأ ومشوّه ليست مسألة المؤسسات إطاراً شكلياً بل هي جزء أساسيّ من عقيدة الحزب والغرض من نشوئه.

 

أولاً: فسعاده لم يؤسس كتلة عقائدية متحجرة ولا أنشأ نادياً فكرياً بل فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها، والفكرة والحركة عرفهما سعاده "بالمنظمة العقائدية التي تفعل إدارة وسياسة وحرباً".

 

في العبارة الأولى وصف الحزب بأنه "المنظمة العقائدية"، فالعقيدة مجسّدة في منظمة أي في مؤسسة هي الإطار الوحيد لممارسة أصحاب العقيدة الواحدة نضالهم في سبيل انتصارها. فلا فصل هنا بين العقيدة والنظام. وكل فصل هو تجريد منافٍ لغرض الحزب كمنظمة عقائدية والذي حدّده سعاده بأنه "يفعل إدارة وسياسة وحرباً". من دون هذا الترابط الكلي بين العقيدة والنظام يتعطل فعل المنظمة العقائدية في المجتمع. يتعطل صراعها "إدارة وسياسة وحرباً". أي تتعطل الخطة القوميّة المعاكسة التي اعتبر سعاده قيامها هو الرد القوميّ الوحيد على "الخطة الصهيونية النظامية" التي تسير إجراءاتها إلى نجاح رغم دورانها على محور غير طبيعي ما لم تقم في وجهها الخطة القوميّة النظامية المعاكسة، "المنظمة العقائدية التي تفعل إدارة وسياسة وحرباً. هنا يرتبط قيام "المنظمة العقائدية" بالغرض والغاية القوميّين.

 

ثانياً: وسعاده في محاضرته في المدرّسين القوميّين الاجتماعيّين العام 1948 يقول بأن مشكلة المؤسسات هي أعقد المشاكل التي واجهتها النهضة في المجتمع لإنشاء مؤسسة صالحة لحمل أعباء النهضة ويتكلم عن المؤسسات القديمة، ويقول لم توجد مؤسسة واحدة جديرة بالحياة، لذلك كان لا بد من إنشاء مؤسسة النهضة. فالنهضة من دون مؤسسة تواجه مؤسسات المجتمع القديم الطائفية والقبلية والعنصرية وتكون كما يصف المؤسسات في إحدى رسائله من دون عصب لأن المؤسسات يعتبرها سعاده عصب النهضة.

 

ثالثاً: وهذا مفهوم يؤكده سعاده في خطابه المنهاجي الأول حين يقول بأن عقيدتنا قد وحّدت اتجاهنا ونظامُنا قد وحّد عملنا. وعلى الأساس نفسه يقول سعاده في خطابه الهام في الأول من آذار 1938 بأن المؤسسات هي التي "تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل"، بمعنى أنه بدون المؤسسات لا تُصان "وحدة الاتجاه" التي هي وحدة العقيدة ولا "وحدة العمل" التي هي وحدة الصراع في سبيل انتصار العقيدة. فالاستهتار بوحدة المؤسسة هو استهتار بوحدة العقيدة – وحدة الاتجاه، وبوحدة العمل، وحدة الصراع. ونعرف أن القضايا التي تمزّقت مؤسساتها تعدّدت مذاهبها وتناقضت لأن الضابط والحافظ "لوحدة الاتجاه ووحدة العمل" هي المؤسسات.

 

رابعاً: إن المؤسسات القوميّة الاجتماعيّة تحصين لفلسفة الإنسان - المجتمع حيث الديمومة والاستمرار التي تتخطى الأفراد، وحيث كما يقول سعاده في شرحه فلسفة الإنسان – المجتمع إنه إذا غلط أمرؤ صحّح خطأه امرؤ آخر. وهذا لا يجري إلا في إطار المؤسسات التي تشكل الاستمرار والديمومة باعتبارها "تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل". ولقد نشأ جدل لفظي حول استمرار السياسة والخبرة، كما ورد النص عند سعاده بمعنى أن ذلك لا يعني الحزب، لكن عبارة السياسة هنا لا تعني العمل السياسي POLITICS بل تعني النهج المقرر POLICY فيُقال سياسة ثقافية، وسياسة اقتصاديّة، وسياسة إذاعية، وسياسة حزبية، ويعني ذلك النهج والخطة وليس العمل السياسي الفني. والمقصود هنا من النص الهام لسعاده هو أن أعظم أعماله بعد وضع العقيدة هو إنشاء المؤسسات ووصف مهام المؤسسات بأنه بدونها لا يستمر النهج ولا يستفاد من الخبرة فهي المصهر الحاضن لاستمرار خط الحزب وخططه وللإفادة من الخبرة، وهذا شرط أية حركة مصارعة.

 

ولأن المؤسسات هي المؤسسات السورية القوميّة الاجتماعيّة، أي "المنظمة العقائدية" أي "الفكرة والحركة" فإن سعاده يكمل هذا النص بأن المؤسسات هي التي تحفظ "وحدة الاتجاه ووحدة العمل". وهذا هو التعبير الأمثل غير المنفصل عما سبقه بل المتمّم له والمضيء جوانبه.

 

ونص سعاده حول المؤسسات القوميّة الاجتماعيّة في خطاب أول آذار 1938 يضع المؤسسات لا في وجه العقيدة، كما أراد المنشقون عنها باستمرار منذ 1957 ولاحقاً، كما سنرى بل يجعل المؤسسات في وجه المطامع والنزوات الشخصية التي "لولا المؤسسات لكانت سخّرت جهاد ألوف السوريات القوميّات الاجتماعيّات لمآربها".

 

وهنا بيت القصيد وخلاصة القصد. فالمؤسسة هي الضامن والضمانة في وجه النزعة الفردية المتفلتة من وحدة النهج والفكر والنظام.

 

خامساً: وعلى هذا أصر الأفراد المنشقون على تسفيه المؤسسات والنظام، لأن هذا هو الحائل دون نزعاتهم ومآربهم، وتاريخياً حاولوا الفصل بين العقيدة والنظام بادعاء أنهم حماة العقيدة في وجه النظام الذي خرجوا عليه. هكذا أعلن عبد المسيح في 1957 أنه يمثل خط العقيدة والصراع وهكذا أعلن كل من سار على هذه الدرب، فافتعل تناقضاً بين العقيدة والنظام مناقضاً لفكر سعاده الذي حتّم على صاحب العقيدة أن ينتمي للحزب ويؤدي قسم العضوية الذي بموجبه يخضع لنظام الحزب حتى يصبح عضواً فيه.

 

إن تأكيد سعاده على الأساس العقائدي للمؤسسة لا يعني، كما أراد المنشقون، باستمرار أن ذلك يعني تجريد الأساس العقائدي عن المؤسسة لإقامة "مؤسسة جديدة" باسم الحفاظ على العقيدة. كلا. بل إن سعاده إذ شدد على الأساس العقائدي للمؤسسة فإنه كان يدحض دعوات الذين أرادوا اقتباس نظام الحزب من دون عقيدته من دعاة الإصلاح اللبناني. أو غيره من الانحرافات ليؤكد أن هذا النظام من دون العقيدة لا يفيد شيئاً. ولكن هذا لم يعن أن العقيدة مستغنية عن النظام وعن المؤسسات لأنه لو كان كذلك لما أسس الحزب ولترك أصحاب العقيدة يجتمعون كيفما كان.

 

وأخيراً فعندما يُقال بعد كل هذه المشادة وفي 10 آب 1987 (مجلة الشراع) "أن لا خلاف فكرياً أو عقائدياً أو سياسياً في الحزب" تسقط كل حجة تذرعت بعكس ذلك للتمرد على نظام المؤسسات. أما أن العصابات والشركات والمافيات يمكن أن تنشئ مؤسسة فصحيح. ولكن هذه ليست "المنظمة العقائدية" التي أنشأها سعاده والتي تنبثق منها المؤسسات الدستورية في استمرارها. وأن أي بحث في "الإصلاح الدستوري" هو الذي يلتزم بأحكام الدستور وإلا كان كمن يدّعي إصلاح بناء عن طريق نسفه بالكامل.

 

وكل مشروع أو خطة للحزب لا تنشأ ولا تقوم بدون الحزب الذي هو ينشئ المشروع ويقر الخطة.

 

 

عاشراً: الوعي العقائدي والعمل الجبهوي على أرضية حرب التحرير.

 

أما النقطة الأخيرة التي أودّ أن أطرحها فهي أنه في مرحلة حرب التحرير يشكل العمل الجبهوي إطاراً موسعاً لائتلاف القوى ذات البرنامح المرحلي المشترك للنضال القوميّ التحريري.

 

وإذاً من هنا لا يمكن إلا أن نكون كما في السنوات الأربع عشرة الأخيرة متشبثين بالعمل الجبهوي، ولو سقط سعينا للنهوض به فلا يمكن أن ننكفئ عنه. ولقد أثبتت الأيام والتجارب والمحن صدق وصوابية هذا التوجه الجبهوي لحزبنا وفشل كل رهان آخر. ذلك لأن حشد القوى والطاقات أساسيّ في معركة التحرير.

 

 وإذ نؤكد أن العمل الجبهوي يضمّ بالضرورة أصحاب عقائد مختلفة وأن أحداً لا يتصوّر فرض عقيدته على الآخر وأن التمييز بين العمل العقائدي والعمل الجبهوي أساس نجاح الإثنين. فإننا في الوقت نفسه لا نستطيع تجاهل حقيقة موضوعية هي أن المجتمع وهو الحقيقة الثابتة الأساسيّة وحركة صراعه لا سيما في حرب التحرير يشكل المحك والمعيار لكل العقائد. وأنه على أرضية الصراع وخلال حركة الصراع يحصل ما هو أبعد من البرنامج المرحلي في الحد الأدنى لعقائد متباينة، إذ تتولد على أرضية الصراع القوميّ وتحدياته مواقع متقاربة تصدر عنها إضافات هامة نابعة من صميم الواقع المجتمعي وحركة صراعه القوميّ.

 

فانتصار فكرة الوحدة السورية بوجدان أمتنا نتيجة هذا الصراع المرير وسقوط كل صيغ التجزئة ونشوء مركز قرار قوميّ لسورية، وثبوت أن الصراع المسلح وحده طريق التحرير. وحصول اقتناع على صعيد لبنان أن علاقته بعمقه القوميّ في سورية الحية والمصيرية هي أساس كل برنامج وطني، وبروز عملية الصهينة الداخلية كخطر يتلمسه الجميع ويتصدّون له، وهو ما لم يكن ماثلاً مثول الإجماع الوطني قبل عقود، وسقوط الطائفية والفكر الديني السياسي كأساس أو مضمون للقوميّة، وثبوت أهمية الوحدات الطبيعية منطلقاً وحيداً للتحرك الوحدوي العربي، مما يسقط كل فكر رومانسي تجاهل العوامل الماديّة، الأرض ودورة العمران والدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة، أساساً لوحدة المجتمع القوميّ ولمشروعه الوحدوي، كما يسقط كل فكر ماديّ بحت أغفل العوامل الروحيّة وأهميتها في بعث التراث القوميّ وفي فهم الظاهرات المضادّة كالطائفية والانعزالية والصهيونية، كل هذا يشكل ثراءً فكرياً هاماً نابعاً من حركة الصراع القوميّ، وجامعاً مشتركاً ومقرباً بين عقائديين ومناضلين على اختلاف اتجاهاتهم على أرضية هذا الصراع القوميّ.

 

وبالنسبة لنا كسوريين قوميّين اجتماعيّين مفروض أن نعي أن هذا التقاطع واللقاء الثوري المتولد من شراكة نضالية حقيقية إذ يجري على أرضية حربنا التحريرية القوميّة التي هي المجهر المجسم للحقائق التي آمنا بها أساساً والمنسجم مع أسس عقيدتنا القوميّة الاجتماعيّة يشكل انعطافاً تاريخياً فاصلاً.

 

إن هذا لا يوهن طرحنا العقائدي بل يعززه. وأودّ هنا أن أشير إلى ندوتين في طرابلس الشام 1986 في ندوة للحزب الشيوعي اللبناني حين طرح عميد الإذاعة والإعلام في الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ نقداً موضوعياً للفكر الأحادي البعد الماديّ الطبقي ولأهمية العوامل الروحيّة في فهم المعادلة الاجتماعيّة المركَّبة سواء في موضوعة الصهيونية التي هي عفن روحيّ وخرافة روحيّة تمظهرت في عصر الإمبريالية والمصالح الماديّة، أو الفكر الانعزالي الذي يشكل تجسيداً للطائفية والتجزئة الاجتماعيّة، أو في ندوة طرابلس الغرب 1988 في البحث حول أزمة حركة التحرر العربي حول افتقار العقائد التي طرحت الوحدة العربية في الأربعينيات والخمسينيات للعوامل الماديّة، الأرض والدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة ودورة العمران في تحديد المجتمع أو فهم المشكلات الطائفية والقبلية في التجزئة الاجتماعيّة.

 

من هنا فإن وعينا العقائدي الجذري لهذه الشؤون مسألة بالغة الدقة والخطورة. فنحن إذ نصوغ تحالفاتنا الجبهوية نحافظ على فكرنا العقائدي، ولكن ليس من موقع التناحر مع القوى الحليفة بل من موقع التصحيح والنقد والنقد الذاتي الموضوعي العلمي الهادئ.

 

إن تلاقينا مع التيار الوحدوي العربي بعد التطورات الاخيرة التي جعلت الوحدة بالنسبة إليه تنطلق من الوحدات الطبيعية. من وحدة سورية التاريخية الطبيعية ومن وحدة المغرب العربي الكبير وصولاً إلى الاتحاد العربي مما يشكل افتراقاً عن النهج الرومانسي السابق الذي اعتبر الوحدة العربية نقيضاً للوحدات الطبيعية واعتبر إمكان تحقيقها بالقفز فوق الواقع الجغرافي – التاريخي – الاقتصاديّ الاجتماعيّ للعالم العربي.

 

إن هذا التلاقي يجعل المسألة العقائدية مسألة في نطاق الحوار العقلاني والعلمي الهادئ غير التناحري، نتمسك فيها نحن القوميّين الاجتماعيّين بمدرسة سعاده العلمية ونظرته إلى نشوء الأمم وعوامل تكوين المجتمعات القوميّة، ونعمل على تثبيت هذه المفاهيم العلمية بعيداً عن مناخ التناحر الذي ساد المرحلة السابقة لأنه وأياً كان الاختلاف في المنطق، فالتلاقي العملي والنضالي على نهج الوحدة انطلاقاً وتأسيساً على الوحدات الطبيعية يشكل إنجازاً هاماً.

 

وفي هذا المجال نحن نصرّ على ألا نكتفي بإدانة الفكر الرومانسي السابق، فكر الحصري وعفلق وسواهما، بل أن نتقدّم ببرنامجنا القوميّ الاجتماعيّ للوحدة القوميّة والاتحادية العربية، كما أوصى مؤتمرنا القوميّ الاجتماعيّ الثالث.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سلسلة دروس الصف الإذاعي المركزي

  1. مقدّمات عقائدية وخلاصات صراعية                      إنعام رعد
  2. نظام المؤسسات                                             أسامة سمعان
  3. أضواء على أزمة الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ   توفيق مهنا
  4. قراءة في تاريخ الحزب السوري القوميّ الاجتماعيّ     عايد خطار
  5. الاستراتيجية القوميّة الاجتماعيّة                           وليد زيتوني
 
التاريخ: 1989-03-01
 
إضغط هنا لتحميل هذه الدراسة
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro