مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المُصَمِّمة
 
ملحم، ادمون
 

 

 

لا نحتاج إلى عناء تفكير لنبرهن أن واقعنا الراهن مليء بالمشاكل والأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وبكل أشكال الكوارث والمآسي التي يتخبط بها شعبنا. وما نصبو إليه هو ان نُغيّرَ هذا الواقع المؤلم ونحقق واقعاً جديداً نحيا فيه برفاهية وكرامة وننهض بأمتنا إلى المكان اللائق بها تحت الشمس... ونقطة الانطلاق في عملية التغيير لا بد من أن تبدأ بخطوات أساسية أولها تسليط الضوء على واقعنا الأليم واعتماد البحوث العلمية - الاجتماعية لاكتشاف مشاكله وتعقيداته والبدء في مجابهة جدّية صحيحة معتمدة على لغة العقل الناقد وعلى منهجية عقلية - علمية تحليلية تؤدي بنا إلى وضع الحلول الناجعة تحقيقاً لتغيير هذا الواقع وتجاوزه. فإن لم نلجأْ إلى مِيزةِ الإنسانِ الأساسيةِ، إلى قوةِ العقلِ، مَوْهِبَةِ اللهِ في الإنسانِ والشرعِ الأساسيِ الأعلى الذي بواسطتِه نعي ونفكرُ ونُميّزُ ونُعيّنُ الأهدافَ ونرسمُ الخِططَ ونفعلُ في الوجودِ... وإن لم نعتمد العقل شرعاً أعلى وأداة للتمييزِ والإدراك ونسلَّط نورَه على ما يعتري مجتمعَنا من مشاكلَ وأزماتٍ، فلن تتبيَّنَ لنا بوضوحٍ أسبابُ المصائبِ والويلاتِ التي تمزِّقُ مجتَمَعَنا وتزيدُ حالةَ أمتِنا سوءاً وتدهوراً وتخلفاً وكلها عوامل تنعكس على حياتِها ومصالِحها، بينما عدُّوُنا المترّبصُ بنا شراً ينتهزُ جَهلَنا وتفكُّكَنا وإنقساماتِنا ويعملُ بتخطيطٍ دقيقٍ على اجتثاثِنا من أرضِنا وتحقيقِ حُلمِهِ التوراتي.

 

وتغيير واقعنا المزري لا يتم بخطوات ارتجالية ومحاولات عشوائية تزيد تخبطنا تخبطاً، بل يتم بمشروع نهضة حقيقية تشق طريق الوحدة القومية والاجتماعية وتضع الأساس لبناء نفسي ـ اجتماعي ـ سياسي جديد فلا نبقى كيانات سياسية متخاصمة وجماعات دينية وقبلية متضاربة في مصالحها ومتنافرة في غاياتها. النهوض الحقيقي لا يكون إلا بنهضة تحرّر النفوس من عبودية الاستسلام للحال الراهنة والخضوع لحوادث التاريخ وتُوَلِّدُ روحاً جديداً في الشعب وإرادة قومية واحدة تنقذ حيوية الأمة من فوضى التجزئة والضعف وتقيم في المجتمع "نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية"[1] وتوحّد قوى الأمة وإمكانياتها وعقولها ومواهبها المخزونة وتجعل منها قوة فاعلة قادرة على تحقيق ما تريد.

 

وتغيير واقعنا لا يتم بإصلاحات شكلية وترقيعية وبخلع الحلل على الإدارات بل يتم بتغيير القواعد المتبعة والمنتجة لعوامل الفساد والتدهور والانحطاط وبإعتماد قواعد مناقبية وروحية جديدة "تدفع الأمة في طريق الخلق والإنشاء والتغلب على الصعوبات والتفوق في صراع الحياة."[2] وهذه القواعد الجديدة لا تقدمها إلا نهضة قومية صحيحة تكون عنواناً لحياة جديدة تسير إلى الأمام نحو المطامح السامية التي تتوق إليها ملايين الأنفس. وبهذا المعنى يعتبر سعاده ان النهضة "هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة."[3]

 

وتغيير واقعنا المأروم لا يتم بالوعود الكاذبة الآتية من الخارج، بل يتم بمشروع نهضة حقيقية، بنّاءة، تنبع من صميم مجتمعنا، من داخلنا ومن نفوسنا، وتسعى إلى بناء النفوس بناءً جديداً في العقيدة الصالحة، وإلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى ‏والمثالب وتعمل على تجديد معالم حياتنا وعلى أرساء أسس الدولة العصرية الديمقراطية العلمانية.

 

نحن نؤمن أنه لا يمكن إحداث نهضة حقيقية تجديدية بدون اعتماد اتجاه جديد في التفكير – هو التفكير العلمي والعملي المرتكز على المنطق وحقائق العلوم وعلى موهبةِ العقلِ المُبدعِ ِالإرادي الفاعل في الوجود. فالعقل يمثل القوة الخلاقة المبدعة وهو الأساس ومفتاح القضية التنويرية. والعقل المجتمعي هو قوة الأمة الحقيقية وهو طريقها إلى التقدم والفلاح.

 

إن ما توصلت إليه الإنسانية من تقدم مذهل في جميع المجالات هو نتيجة الإنفتاح العقلي والتفكير العلمي والبحث العميق وإجراء التجارب والاختبارات.  إن الأمم الطامحة للسير على طريق التقدم والرقي لا بد لها من توظّيف العلم والمعرفة وتشجيع التجارب والأبحاث واعتماد أفضل الطرق في التعليم والتربية والتدريب. إن الدول الغربية تعتمد الآن بنوك العقول الإلكترونية ومراكز الأبحاث في جميع مجالات الحياة. وهذه المراكز تقوم بالدراسات والبحوث العلمية والتطويرية والميدانية وتضع التصورات للمستقبل وتقدّم الخدمات الإستشارية للحكومات والمؤسسات ورجال الأعمال وتساهم بترقية المعارف وزيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي واحراز المزيد من التقدم.. أما شعبنا ما زال يتلهى في عالم الخرافة والأشباح والأوهام والمعتقدات الخاطئة وفي قضايا دينية وغيبية ويرتع في حقول من الجهل المُطبِق والتخلف العقلي والجمود الفكري والتحجر العقائدي والركود الثقافي، حقول يسيطر عليها المنافقون المرائون والنفعيون والإقطاعيون والرجعيون الجهلاء والسفهاء، ذوو العقول المتحجّرة معارضو التحديث والتجديد. إن دولة العدو تمدّدت وحققت تفوقها العسكري والصناعي والتكنولوجي والنووي وتسعى لأن تكون امبراطورية لها ثقلها ونفوذها في العالم العربي المجزأ بفضل إرادتها السياسية لتخصيص الإنفاق اللازم ولتوجيه الموارد إلى بناء مراكز أبحاث ومعلومات ولحماية الطاقات والأدمغة بدلاً من قتلها أو تهجيرها، لا بل هي تسعى لجلب العلماء اليهود من أقاصي المعمورة لتسخير مواهبهم في خدمة مشروعها. فهل من الصعب علينا ان نسير في مثل هذا الإتجاه وأن نهتم بقضية العلم ونوليها إهتماماً أكبر؟ إن الأمم المتحضرة وصلت إلى ما هي عليه من المدنية والحياة الحديثة نتيجة اهتمامها بالعلوم. واليوم نجد أن أمم العالم بأسره تتسابق للأخذ بنتائج العلوم ولإستخدام الوسائل العلمية لإصلاح أمورها الداخلية وتحقيق ازدهارها.

 

ونحن لا يمكننا أن نواكب هذا العصر بإنجازاته واختراعاته والإمساك بتلابيبه ما لم نعمل على تأمين مناخ علمي في مجتمعاتنا نعتمد العلم ومناهجه المنضبطة ونقيم المراكز العلمية البحثية التي تجري التجارب المتنوعة وتعتمد البحث المنهجي المنظّم والقواعد المنهجية والتحديدات والمناهج الكمية وتقوم بتجميع المعارف بطريقة منظمة توخياً لفهم المجتمع ومشكلاته والوصول إلى اليقين العلمي بواسطة الإستنباط العقلي المبني على أدلة منطقية مقتعة للعقل. فالعقل هو الذي يقود الإنسان في كل تصرفاته وفي جميع مجالات حياته وهو الذي يدفعه للعمل والسعي لتحقيق مطالبه في الحياة ليحيا بعز وكرامة وحرية وإبداع.

 

إن كل التحديات الداخلية والخارجية التي نواجهها يجب أن تشكل حافزاً قوياً لنا لكي نعي حقيقتنا القومية ونعرف أنفسنا معرفة صحيحة ولكي نستفيد من العلم ومناهجه ومن التفكير العلمي ومبادئه ونستعيد مكانتنا في قافلة العمران والإرتقاء البشري ونكون مبدعين ومنتجين ومتفوقين لا مجرد مستهلكين لنتاج الغير. إن "التاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع."[4]

 

إن ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المصممة التي تدفعنا إلى التخطيط والعمل المنظّم والإجماع على مشروع نهضوي بناء يوّحد اتجاهنا في الحياة ويحرّر "أفكارنا من عقائد مهترئة وأوهام قعدت بنا عن طلب ما هو جدير بنا، كالوهم الذي يدعو إليه فريق من ذوي النفوس السقيمة والعقول العقيمة، وهو أننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شيء ولا أمل لنا بتحقيق مطلب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلِّم بعجزنا ونترك شخصيتنا القومية تضمحل من بين الأمم ونقنع بكل حالة نصير إليها."[5]

 

إن تحقيق الطموحات الكبيرة يكون بالثقة بالنفس والشجاعة والتعاون والتآخي والتخطيط المنظّم والتصميم والإبداع والعلم النافع والبحث والتقصي والعمل الجاد والمثابرة، وليس بالفوضى والعجلة والإرتجال والجهل والخمول والمماطلة والخوف من المجهول وعدم الثبات في وجه المصاعب والإتكال على الصدف.

 

 

 


[1] أنطون سعاده، شق الطريق لتحيا سورية، الجمهور، بيروت، السنة 1، العدد 41، 12/07/1937.

[2] أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، "الأمة نريد نهضة لا حلة".

[3] أنطون سعادة، المحاضرات العشر 1948، ص 16.

[4] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، --ص 31.

[5] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 33.

 
التاريخ: 2022-03-24
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro