مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
صورٌ من تاريخ الحزب
 
حاج إسماعيل، حيدر
إعداد: كليّـــة سعاده - معتمدية استراليا ونيوزيلاند
 

 

                               

 

 

التحدّي الأول: وقفة العز القومية عام 1936.

 

اسمي حقّي.

 

 

عندما نودي على الزعيم في المحكمة المختلطة في كانون الثاني من العام 1936، بعد الإعتقال الأول إثر إنكشاف أمر الحزب، وكان سعاده في قفص الإتهام، يداه مغلولتان، جرى الحوار التاريخي التالي بينه وبين محكمة الإستعمار الفرنسي:

 

- المحكمة:    أنتوان سآدي

 

- الزعيم:     (لا جواب)

 

- المحكمة:    (بصوتٍ عالٍ) أنتوان سآدي

 

- الزعيم:     (لا جواب)

 

الجماهير المحتشدة داخل قاعة المحكمة أصابها العجب، لعل هذا الشاب قد عقد الخوف لسانه، أو أنه مجنون لا يهاب الإستعمار.

 

تابعت المحكمة نداءها وسعاده لا يجيب، فما كان من القاضي الفرنسي إلّا أن يسأل محامي الزعيم، الأستاذ الوطني حميد فرنجية، عن سبب عدم رد الزعيم على نداء المحكمة. بعد لحظات قليلة جرى خلالها حديث بين سعاده ومحاميه، وقف المحامي فرنجية ليقول أن سعاده أفاد أنه لم يسمع أحداً يناديه بإسمه. فعادت المحكمة إلى النداء بصوت أعلى:

 

- المحكمة:    أنتوان سآدي

 

- الزعيم:     (لا جواب)

 

- المحكمة:    أنتوان سآدي..أنتوان سآدي.. أنتوان سآآآدي.

 

- الزعيم:      (رابط الجأش لا يردّ)

 

 

بعد مداولة بين القاضي ومحامي الزعيم الأستاذ فرنجية، طلب القاضي أن يُسأل الزعيم عن عدم ردّه على مناداة المحكمة:

 

 

- المحكمة:    لماذا لا يجيب المُتّهم على النداء؟

 

- الزعيم:    إني لم أسمع أحداً يناديني بإسمي.

 

- المحكمة:    ما إسمك؟

 

- الزعيم:    اسمي ليس أنتوان سآدي. إن اسمي هو: أنطون سعاده.

 

 

فما كان من المحكمة إلّا أن كلّفت لبنانياً بمناداته بإسمه: أنطون سعاده.

 

ماذا قصد سعاده بهذه الوقفة التاريخية؟

 

إنه أراد أن يقدّم لشعبه درساً في الحقوق هذا مفاده:

 

أيها الشعب السوري العظيم،

 

أنظر إليّ وأنا فردٌ كيف أقف متحدياً القوة الغاشمة للإستعمار، ذلك لأني صاحب حق. أنظر إليّ كيف أنتصر على الإستعمار لأني صاحب حق. إسمي هو حقي وإني لست بمتنازل عن حقي لأية قوة في العالم مهما كانت متجبّرة.

 

أيها الشعب السوري العطيم،

 

كذلك أنت، إسمك هو حقك فلا تتنازلن يا شعبي العظيم عن حقك في إسمك السوري العظيم لأية قوة في العالم.

 

أجل، لقد كانت وقفة سعاده التاريخية، درساً في الحقوق القومية، عظيماً.

 

 

 

 

التحدّي الثاني: وقفة العز الثانية

 

أنا لا أتكلم بغير لغتي القومية، العربية.

 

 

وتابعت المحكمة أعمالها.

 

- المحكمة:    هل تجيد اللغة الفرنسية؟

 

- الزعيم:     أجيدها

 

- المحكمة:    إذن أجب على أسئلة المحكمة باللفة الفرنسية.

 

- الزعيم:       أنا في بلادي، وفي بلادي أرفض أن أتكلم بغير لغتي القومية، اللغة العربية.      

 

 

درسٌ آخر في الحقوق أراده سعاده لشعبه. كأني به مخاطباً شعبه:

 

أيها الشعب السوري السوري العظيم،

 

لغتك هي حقك. فلا تتنازلن عن حقك في لغتك العربية العظيمة لأية قوة في العالم لئلا تكون من الخاسرين.

 

 

 

التحدّي الثالث: وقفة العز الثالثة

 

إني أعلن أن سورية للسوريين وليست للفرنسيين.

 

 

وتتابع المحكمة أعمالها،

 

- المحكمة:    أنت متهم بأنك أسست حزبا سرّيا لتهدد سلامة الشعب ووحدة الوطن.

 

- الزعيم:       أنتم تقولون ذلك. أما أنا فأدينكم أنتم الفرنسيين والإنكليز. قد تآمرتم على أمتي ووطني، فمزقتم بلادي السورية وفرّقتم شعبي في معاهدات سان ريمو ولوزان وسايكس – بيكو وسيفر. إني كزعيم للحزب السوري القومي الإجتماعي، أعلن لكم وللعالم أن سورية للسوريين وليست للفرنسيين.

 

 

درسٌ في الحقوق القومية ودفاعٌ عن الحقوق القومية لم يحصل قبله مثيل في تاريخ أمتنا الحديث. كأني بسعاده يقول لشعبه العظيم:

 

أيها الشعب السوري العظيم،  

 

لا تنسى يا شعبي أن سورية وخيرات سورية وثروات سورية هي ملكك أنت، هي حقك القومي. فانهض يا شعبي العظيم للدفاع عن حقك القومي وطرد المستعمرين.

 

منذ تلك الوقفات التاريخية ظهرت حقيقة الحزب السوري القومي الإجتماعي أنه حزب الإستقلال القومي والسيادة القومية والحقوق القومية.

 

ومنذئذ، راح الإستعمار الفرنسي يخطط لوقف تيار الوعي القومي الذي ولّده الحزب في جسم الأمة، فشجّع تأسيس الأحزاب الطائفية لقطع الطريق على سعاده. فكان حزب الكتائب للموارنة والنجادة للسنّة والطلائع للشيعة والغساسنة للأرثوذكس. كل طائفة لها حزبها الذي يحميها. وتوّهم الإستعمار الفرنسي أنه بذلك يوقف إنتشار أنوار النهضة القومية الإجتماعية. ولكن أصالة أمتنا كانت أعظم من مؤامرة المستعمرين، فانتشر الحزب في كل الفئات وفي كل بقعة من سورية، وهو الآن الحزب القومي الحقيقي الذي يجمع في صفوفه العمّال والفلاحين والطلاب والموظفين، وبابه مفتوح وسيعاً لجميع طالبي النهوض القومي والتقدم الإجتماعي على خطة المبادئ القومية الإجتماعية العظيمة.  

 

 

 

قضيّة فايز صايغ:

 

ديكتاتورية فرديّة واستقلاليّة شاذة

 

 

يقول الزعيم في المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر، ملخِّصاً قضية فايز صايغ بأن هذه القضية قضية شخصية من حيث أنها خصّت شخصاُ وأنها كان لها اشتراكات من حيث أن أشخاصاً آخرين (غسان تويني ويوسف الخال مثلاً) كان لهم علاقة بها.

 

ويشرح الزعيم انحراف فايز صايغ المتمثل فيما تقدم، بالقول:" إن قضية فايز صايغ لم تبتدئ بعد عودتي، بل ابتدأت قبل عودتي عندما وصلت إليّ للمرة الأولى، نسختان من العدد الأول والثاني من "نشرة عمدة الثقافة". ففي العدد الأول استلفت نظري ناحيتان:

 

- خروج على كل القواعد الدستورية

 

- خروج على كل الأساس العقائدي الروحي للحركة القومية الإجتماعية."

 

ويضيف سعاده: "حالما قرأت هذه العبارات الأولى الواردة في كلمة عمدة الثقافة والفنون الجميلة، التي قدمت بها نشرة الثقافة "إلى القارئ"، "يشرف على هذه النشرة عميد الثقافة" وأنه هو "المسؤول النهائي عنها" وأن النشرة تنطبق عليها "سياسة العميد" اللادستورية، بدلاً من سياسة الزعيم المنصوص عنها في الدستور، وأن للعمدة رسالة ثقافية خاصة غير مندمجة في رسالة الحركة السورية القومية الإجتماعية الثقافية."[1]

 

إن إعلان فايز صايغ أنه هو المرجع النهائي للثقافة، وهو موظف مرؤوس Public Servant، في الحزب عليه أن يتقيّد بخطة رئيسه حسب الدستور، يدلّ على بروز نزعة "دكتاتورية فردية" لا ترى إلا نفسها ولا تأخذ بعين الإعتبار إرادة عامة ولا دستوراً واضح البنود والقوانين.

 

هذا لجهة الخروج الدستوري النظامي. أما لجهة الخروج العقائدي، فقد تجلّى في البيان الأساسي لعمدة الثقافة والفنون الجميلة المنشور في العدد الأول من "نشرة عمدة الثقافة" نفسه. في البيان المذكور، نزع فايز صايغ بصورة تعسفية عن الثقافة معناها القومي الإجتماعي وجعلها شأناً شخصياً خاضعاً لميول الأفراد وأهوائهم، كما اعتبر عمدة الثقافة عمدته هو، وأن هذه العمدة (التي هي عبارة عن دائرة حزبية مرتبطة بدوائر حزبية أخرى تحتها وفوقها، في سلّم النظام القومي الإجتماعي) ليست مسؤولة أمام أية جهة حزبية نظامية كانت أم عقائدية، وإنما مسؤوليتها تقع مباشرة تجاه ما سمّاه "القيم العليا" التي لا تعيين لها ولا تحديد، إلا ما يراه شخص واحد أحد صمد، هو فايز صايغ.

 

إن خلاصة الحالة الإحرافية هذه، هي أن الحركة القومية الإجتماعية التي هدفها النهوض بالمجتمع، لا خير فيها وأن قضيتها خالية من كل أمل بتأسيس حياة جديدة أفضل من الحياة التي يرزح تحت مثالبها شعبنا.

 

إن مثل هذا الإنحطاط العقلي الظاهر في عدم الثقة بقدرة أمتنا على معرفة أسباب النهوض والإرتقاء والشك بقدرتها على النضال في سبيل أهدافها ومصالحها، هو حكمٌ على أن أصحابه لم يعودوا قادرين ولا مؤهلين أن يكونوا أعضاء في المنظمة القومية الإجتماعية.

 

 

 

الحق والخير والجمال: القيم المطلقة النسبية

 

من المهم هنا أن نشير إلى نظرة سعاده إلى القيم. إن المطلقات التي تكلم عنها فايز صايغ وسمّاها "القيم العليا" أي "الحق المطلق" و"الخير المطلق" و"الجمال المطلق" تثير أسئلة ومشكلات فلسفية هامة وشائكة منها: وصفه هذه القيم بأنها "عليا"، يجردها من إطلاقيتها ويردّها إلى النسبية. فهي "عليا" بالنسبة لمستوى معيّن أو نقطة معيّنة، فيمكننا أن نفهم مثلاً وصفاً يفيد بأن القيم المجتمعية هي "عليا" بالنسبة للقيم الفردية التي هي قيم "دنيا". ثم هنالك مشكلة "الإطلاق"، ماذا يقصد بالقول أن القيم مطلقة؟ من أي إعتبار أو أي شيء هي مطلقة؟ هل هي خارج الإنسان؟ خارج المجتمعات؟ أين مقامها؟ وإذا كانت مطلقة، فكيف أمكن لفايز صايغ إدراكها أو الإشارة إليها؟ أليس في مجرد ذكرها من قِبَل فايز صايغ تقييد لها؟ إذن هي مطلقة إلا بالنسبة لعقل فايز صايغ؟ ولكن نسبتها إلى عقل فايز صايغ تُجردها من إطلاقها وتردّها نسبية؟ وتكون النتيجة واحدة في كل محاولاتنا وهي: إن القيم مطلقة وغير مطلقة (أي نسبية أو مقيدة)، وما أبهرها من نتيجة.

 

لقد وصف سعاده في المحاضرة الأولى مثل هذه السفسطة المضمرة بقوله: " من أغرب الأمور أن الذين كانوا يسألون، كانوا يظنون أنهم على مستوى فلسفي يؤهلهم للبحث. ولكنهم كانوا ينظرون إلى الأمور بالمقلوب وهم أبعد الناس عن النظر في القضايا الأساسية".[2]    

 

 

 

الفلسفة الفرديّة.

 

شرحنا قضية فايز صايغ من الناحية الدستورية النظامية، فبيّنا أن تلك القضية يمكن تلخيصها بالقول أنها قضية الموظف Public Servant الذي اعتبر نفسه مرجعاً نهائياً، وهو الشذوذ بعينه عن نظام الحزب المركزي التسلسلي.

 

نبادر الآن إلى معالجة نفس القضية، لكن من المنظور العقائدي، فنقول منذ البداية، أن فايز صايغ، بتبنّيه الفلسفة الفردية، قد شذَّ عن العقيدة القومية الإجتماعية التي تنظر إلى الإنسان وشؤون حياته، من مبدأ المجتمع ومصلحته وخيره.

 

لكي يمكننا فهم ذلك الشذوذ العقائدي، سنعمد، أولاً، إلى تشخيص الزعيم للحالة الفكرية التي وجد فايز صايغ واقعاً في لجّها، ثم نتقدم إلى إعطاء فكرة عن الفلسفة الفردية التي إتجه إليها ذلك المطرود.

 

يقول سعاده:

 

وقد عنيت في الـمدة الأخيرة بعد شعوري بالاتـجاه نحو السلم بالوقوف على ما نشأ في غيابي، ضمن الـحركة أو في الأدب الـمتداول في أوساطها، من أدب وتيارات فكرية جديدة. فقرأت في كتابكم البعث القومي ووجدت، لدهشتي، أنه ما خلا بحث «الأمة - جوهرها - مقوماتها - خصائصها» الـمبني على نشوء الأمـم والـمستمد منه، وبحث «النظام الـجديد - الـمجتمع الـجديد» الـمنسجم مع اتـجاه الـحركة القومية الاجتماعية، وما خلا بعض فقرات في معظم الكتاب لها هذا الانسجام، فإن الأبحاث الرئيسية الـمثبتة في الكتاب التي تتناول الأساس العقائدي الاجتماعي - فلسفة الـحركة القومية الاجتماعية - تعاليمها الأساسية، مبنية على عقيدة غير عقيدتها - على عقيدة مناقضة لها.

 

إنّ الأبحاث الـمذكورة واتـجاه نشاطكم الأدبي والإذاعي تـحمل، كلها، نظرة برديايف وكركيغارد إلى الإنسان والـمسائل الإنسانية. ونظرة "كركيغارد" و "بردياييف" الشخصية الفردية، التي ترى الشخصية الفردية الـجوهر والغاية والتي تترجمون عنها في الهدف بقولكم «إنّ شخصية الإنسان (الفرد) ونـموها هي غاية الـمجتمع الرئيسية» أي أنّ الـمجتمع ليس سوى واسطة لهذه الغاية، وبقولكم إنه لـخطأ القول بشخصية للمجتمع وإنّ الـمجتمع «عدد من البشر ليس إلا»، هي نظرة مناقضة كل الـمناقضة لنظرة سعاده التي بها نشأت الـحركة القومية الاجتماعية وعلى خططها تسير.

 

إنّ ترجمة النظرة البرديايفية أو الكركيغاردية إلى العربية وتعريف الفكر السوري إليها قد لا يكون شيئاً يوجب الإعتراض. ولكن يوجب التدخل والتوقيف محاولة إحلال النظرة الشخصية الفردية الـمذكورة محل التعاليم القومية الاجتماعية، ونظرة النهضة القومية الاجتماعية، واستخدام أجهزة الـحركة القومية الإذاعية لبثّها بدلاً من تعاليم الـحركة نفسها، التي نشأت تلك الأجهزة لها خصيصاً والتي تدور على محور الـمجتمع وليس على محور الفرد أو الشخصية.

 

لسـت بـداخل هنا في أسـاس النظـرة الكركيغاردية أو البرديايفية الـمنعوتة بالوجودية أو الكيانية. إذ ليس هذا الكتاب مجال مثل هذا البحث. ولكني أريد هنا أن ألفت نظركم إلى أنّ واجباتي الأولية عدم إجازة التناقض التعليمي والتوجيهي في صلب الـحركة وقيادتها وعدم السماح بتشعب النظرة إلى الكون في هذه الـحركة أو بلبلة تفكيرها.

 

إنّ اجتهادكم الشخصي في تعليم النظرة البرديايفية من مراكز الـحزب العالية التي وصلتم إليها يدل على أنكم لم تهتموا بدرس العقيدة القومية الاجتماعية ونظرتها ولم تأخذوا بعين الاعتبار أنّ الـحركة نشأت على عقيدة أي فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في الـمبادىء وفي كتابات الـمعلم وشروحه في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته. وإنّ الواجب الطبيعي لهذه الـحركة تثبيت عقيدتها وانتصارها ككل حركة في العالم تقوم بتعاليم أساسية.

 

هذه الـحقيقة الأساسية لا تتضارب مطلقاً مع مبدأ الـحرية الذي يعني إجازة انحياز كل أصحاب عقيدة ما بعضهم إلى بعض للسعي لتحقيق عقيدتهم، ولا يعني مطلقاً وجوب إجازة العمل ضمن نطاق العقيدة الواحدة لعقيدة غيرها، مخالفة لها أو رامية إلى هدمها.[3]

 

نحصّل من هذه المقاطع من رسالة الزعيم، الفوائد التالية:

 

أولاً، إنّ فايز صايغ قد ضمّن كتابه "البعث القومي" بحثين حول الأمة والنظام الجديد. وأنه في هذين البحثين كان منسجماً مع إتجاه الحركة القومية                          الإجتماعية. وعلى وجه التحديد، يقول الزعيم أن بحث الأمة كان مبنياً على ما ورد في كتاب "نشؤ الأمم".

 

ثانياً، إعتراض الزعيم كان على الأبحاث الفلسفية الواردة في كتاب فايز صايغ المذكور، التي لم يؤسسها على الأساس العقائدي الإجتماعي، الذي هو جوهر الفلسفة القومية الإجتماعية، بل على الأساس الفردي وعلى وجه التخصيص، على أساس فلسفة "نيقولاي بردياييف" الشخصية وشقيقتها، وجوديّة "كيركيغارد" الفردية.

 

ثالثاً،  لم يعترض الزعيم على مبدأ الإطلاع على الثقافات المختلفة، حتى لو كانت متناقضة للفكر القومي الإجتماعي، ولكنه اعترض على مبدأ "الإزاحة الفكرية"، وأعني بذلك إزاحة العقيدة القومية الإجتماعية وإحلال عقائد غيرها مناقضة لها مكانها، في حين أن واجب عمدة الإذاعة والثقافة كان يقضي بالدفاع عنها وصونها ونصرها في معركة صراع العقائد.

 

رابعاً، يميّز سعاده بين مبدأين هما: مبدأ حرية الإعتقاد ومبدأ الإلتزام. ويرى أن المبدأين لا يتناقضان عندما يقوم الإلتزام على أساس الحرية.

 

لقد انتمى فايز صايغ إلى الحزب السوري القومي الإحتماعي على أساس الإيمان بصلاح العقيدة القومية الإجتماعية، بعد أن درس العقيدة وناقش دعاتها بكل حرية. فالتزامه انطلق من مبدأ حرية الإعتقاد. وهو في التزامه رضى مختاراً أن يعمل لنشر العقيدة ونصرها. لذلك يكون سلوكه شذوذاً إذا إتجه إتجاهاً مناقضاً لها وعاملاً على هدمها.

 

رغم كل ذلك، كان سعاده مثالاً في الرفق مع فايز صايغ لأنه اعتقد أن القضية يمكن معالجتها بالمباحثة الفكرية وشرح أبعاد الفلسفة القومية الإجتماعية وأهميتها لنهوض شعبنا وتقدمه. لذلك لم يعمد الزعيم إلى إقالة فايز صايغ من مسؤولياته المركزية فور وصوله إلى الوطن في 2 آذار 1947، بل تركه يمارس صلاحياته كعميد للإذاعة والثقافة. وهذه الحقائق نقع عليها في مطلع رسالة الزعيم إليه المؤرخة في 1/12/1947:

 

"إلى حضرة عميد الإذاعة والثقافة، الرفيق فايز صايغ،

 

حضرة العميد الـمحترم

 

أهنئكم بعودتكم سالـماً معافى من رحلتكم إلى منفذية الشاطىء الذهبي وإني أنتظر الوقوف على تقريركم وأعمالكم الإذاعية هناك لأبدي تقديري."[4]

 

بعد ثمانية أشهر من عودة الزعيم إلى الوطن، اكتفى بالطلب من فايز صايغ أن يتوقف عن التوجيه الى الفلسفة الفردية وحصر الإذاعة الحزبية بما له صلة بالعقيدة القومية الإجتماعية. وهذا ما نجده في ختام الرسالة إذ ورد: 

 

"في هذه الأثنـاء، وإلى حين النظر الأخير في بيـانكم، أطلب منكم التقيد في كتابكم وتوجيهاتكم الإذاعية بما يلي:

 

1- تـرك التوجيه بأية طريقة وبكل الطرق، إلى التعـاليم الكركيغارديـة البرديايفية التي لم تعرض على مجالس الـحزب وعلى الزعيم للنظر والبتّ فيها.

 

2- الاقتصار على الإذاعات عن الـحركة القومية الاجتماعية وما يـمكن اعتباره معبّراً عن حقيقتها أو موقفها بكل ما في هاتين اللفظتين من معنى.

 

3- وإني مستعد لـمباحثتكم شخصياً في جميع الأصول الفكرية التي تساعدكم على إعادة نظركم في اتـجاهاتكم الشخصية ضمن الـحركة القومية الاجتماعية وفي مسؤولياتها، وفي جميع القضايا التي يـمكن أن تكون موضع قلق لتفكيركم. و

 

إني أعتقد أنّ مصيركم في الـحركة القومية الاجتماعية يجب أن يكون غير مصير الاهتمام بقضية الشخصية الفردية التي تبقى شخصية بحتة مهما عممت، ونحن في مجال قضية الـمجتمع وليس قضية الفرد أو الشخصية الفردية.

 

وتفضلوا بقبول سلامي القومي ولتحيى سوريه."[5]

 

 

 

الفلسفة الفردية ل "بردياييف"

 

الآن نتقدم إلى محاولة إعطاء فكرة عن فلسفة "بردياييف" الفردية. هذه الفلسفة نقع على مبادئها في كتاب "العبودية والحرية" لنيقولاي بردياييف. تقول هذه الفلسفة بالمرتكزات التالية:

 

  • كل فرد هو شخص منبثق رأساً من الله.

 

يقول بردياييف: "الشخصية (الفردية) ليست جزءاً من المجتمع كما أنها ليست جزءاً من السلالة". ويقول أيضاً: "الشخصية (الفردية) لا تنشأ من العائلة والنظام الكوني. إنها ليست مولودة من أب وأم، إنها تنشأ من الله فهي تظهر من عالم آخر."

 

  • إتحاد الفرد في المجتمع ونظامه قضاء على شخصيته.

 

لذلك يجب رفض الإتحاد في المجتمع والتمرد على واجباته فيصبح المرتكز الثاني لهذه الفلسفة، هو السلبية الإجتماعية المتطرفة. هذا هو مبدأ "خالف تُعرف وخالف دائماً تُعرف دائماً". الشخصية الفردية، عند "بردياييف" هي المركز الوجودي المطلق. أما ما هو المجتمع وما هو الكون؟ يجيب "بردياييف" أنهما جزءان من الشخصية الفردية.

 

  • ولاء الفرد لنفسه فقط - لشخصيته وحدها.

 

يقول: "الشخصية (الفردية) هي غاية في نفسها، لا واسطة لغاية، فهي توجد من ضمن نفسها". ويقول أيضاً: "إتها تخلق نفسها وتوجد بمصيرها الخاص." وهذا إنكار لما تقدم من أن الشخصية (الفردية) إنبثاق من الله رأساً.

 

  • الفوضى المطلقة.

 

يقول "بردياييف": بالفعل، ولا يمكن تعريفها بأنها سيارة للعقل". ويضيف هذه الحكمة الفذة عندما يقول: "إنها الشذوذ وليست القاعدة".[6]

 

أما فلسفة "كيركيغارد" الوجودية الفردية، فأهم مقولاتهاهي مقولة Den Enkelte ومعناها الفرد الأحد الصمد. هذه المقولة نقع عليها في كتاب:

 “The point of view for my work as Author”

هذا الفرد "الكيركيغاردي" هو كيان مستقل كل الإستقلال، منفصل كل الإنفصال عن الكائنات الأخرى. فهو له عالمه الخاص، وليس من علاقة له إلا العلاقة المباشرة بالله.[7]

 

من هنا نرى أن الفلسفة الكيركيغاردية هي شقيقة فلسفة "بردياييف" من حيث منحاها الفردي الصرف. ومن هنا نلاحظ صحة إعتقاد سعاده، بأن مثل هذه الفلسفات لا تصلح أن تكون أساسا لحركة إجتماعية عموماً ولا لحركة قومية إجتماعية على وجه الخصوص. إذ أن من جواهر الحركات القومية الإجتماعية الإتصال لا الإنفصال، والوحدة لا الفرقة، والتعاون لا الإنغلاق. ومن هنا صحة إعتبار سعاده أن إتجاه فايز صايغ الفلسفي كان اتجاها مناقضاً للإتجاه الفلسفي للحركة القومية الإجتماعية.

 

لماذا قضيّة فايز صايغ؟    

 

يستوقفنا الآن السؤال الهام التالي: لماذا كل هذا الإهتمام بشخص إسمه فايز صايغ ما دام المجرى الرئيسي لبحثنا هو شرح "المحاضرات العشر"؟ وما دمنا قد قلنا منذ البداية أن المحاضرات العشر عبارة عن قضية واحدة هي قضية التعريف بالحزب السوري القومي الإجتماعي، بطبيعة هذا الحزب، بمبادئه وتعاليمه وغايته وكل ما يتصل به من نظام وتاريخ؟

 

الجواب على هذا السؤال يتألف من ستة وجوه:

 

الوجه الأول:

إن مسألة فايز صايغ قد ورد ذكرها على لسان سعاده في محاضرته الأولى. في تلك المحاضرة أراد سعاده أن يشرح أهمية الثقافة الحزبية (المعرّفة بالحزب) وكيف أن غياب تلك الثقافة نتيجة إهمال الإدارة المركزية إبّان غيابه القسري في المغترب قد كان السبب الرئيسي في شذوذ بعض الأفراد شذوذا نظامياً وعقائدياً. من أولئك الأفراد كان فايز صايغ.

 

الوجه الثاني:

إنّ مسألة فايز صايغ هي من ناحية الحكم فيها من قبل سعاده، معرفة جديدة بالحزب.

 

فالحكم الحزبي الذي صدر عن مؤسس الحزب السوري القومي الإجتماعي وباعث النهضة القومية الإجتماعية، لا بد أن ينطوي على فكرة عن هذا الحزب النهضوي، فكرة تظهره (كما تم حتى الآن عبر شروحنا) أنه حزب، خلاف الأحزاب السياسية الإعتيادية، وأنه لا يقبل في مؤسساته إلا حكم النظام والعقيدة، فلا يسمح مثلا بالتفلت والشذوذ عن القوانين المرعية ولا يسمح بالتناقض التعليمي في داخله ما دام كيانه قد نشأ بطريقة التعاقد الإفرادي بين صاحب الدعوة (أنطون سعاده) والمقبلين على الدعوة (أبناء الشعب)، هذا التعاقد الإفرادي الذي هو أرقى وأسمى ظاهرة ديمقراطية في تاريخ أمتنا الحديث، لأنه لم يتم بالإكراه ولا بالواسطة ولا بنفوذ أو مداخلات إقطاعية أو مالية أو أجنبية، ولأنه قام على قاعدة خطة تعميرية واضحة البنود، سواء لجهة قوانينها أو تعاليمها.

 

الوجه الثالث:

إن مسألة صايغ تتصل بتاريخ الحزب. فدرسُها تنصبّ فوائده في باب التعريف بالحزب من حيث أنه حركة بعد تمام التعريف به من حيث هو فكرة.

 

الوجه الرابع:

إن مسألة فايز صايغ درسٌ في الإدارة الحزبية قوامه مبدأ التطهير. وهو المبدأ الإداري الذي أعلنه سعاده منذ أول حادثة طرد قانونية، ألا وهي طرد شارل سعد الذي كان منفذاً عاماً لمنفذية بيروت في الثلاثينات. فالحزب مستعد أن يلفظ كل شذوذ. والحزب لا يقبل بالتسويات والمساومات. فإذا كانت المسألة مسألة النظام والعقيدة من جهة، والأشخاص من جهة ثانية، فالحزب يترك الأشخاص لمصيرهم الهالك مهما شمخوا أو تشامخوا ويعتصم أبداً بحبل العقيدة والنظام.

 

لذلك، تعرف الإدارة في الحزب، أن الحزب يجب أن يبقى نقياً من الشوائب. يجب أن يظل نواة شعبية مناقبية عقائدية نظامية حتى يتمكن من تحقيق غايته العظمى. إن فايز صايغ واحداً قد انتهى، ولكن فايز صايغ آخر قد يظهر بوجه جديد، فالحزب حانئذ لافِظُهُ حتماً.

 

وعودةٌ سريعة إلى مبدأ التطهير، نقول أن النواة الشعبية النقية الموجودة داخل الحزب، تنشأ عن طريق الإدخالات في الحزب من أوساط المواطنين، بعد عمليات دقيقة في شرح العقيدة والنظام، يتم بعدها إنتقاء الفاهمين الصالحين الذين تمكنوا من كسر أغلال الطائفية والطبقية والعرقية وسحق أمراضها ومثالبها. ولكن إذا كانت النواة الشعبية النقية في الحزب تبدأ بالإدخالات المدروسة الدقيقة، فإنها لا تنتهي هناك، بل لا بد من صونها إذا ما ظهر أن إحدى الإدخالات أو بعضها، لم يثمر وعياً ونضالاً في الحزب، بل عادت أعراض المجتمع القديم تتحكم فيه، عندئذ يعمل مبدأ التطهير فيطرد الشاذون.

 

الوجه الخامس:

أن مسألة فايز صايغ درسٌ في المناقب الجديدة التي جاء بها الحزب مفاده أن العقيدة لا تكون عقيدتين والنظام لا يكون نظامين. فالقانون يُطبّق على الرئيس والمرؤوس سواء بسواء.

 

الوجه السادس:

إن مسألة فايز صايغ تشرح لنا كيف أن الحزب هو مجتمع وهو دولة. هو المجتمع الجديد الراقي للأمة السورية وهو دولة الأمة السورية الجديدة الديمقراطية.

 

كل مجتمع له مجموعة من التقاليد (أو المبادئ)، لذلك فإنّ الحزب السوري القومي الإجتماعي، إذا ما نُظِر إليه من زاوية الجماعة ذات التعاليم الجديدة، هو مجتمع جديد. ولكن كل مجتمع له نظامه الظاهر في مؤسساته السياسية والحقوقية والإدارية، أي له دولة. لذلك فالحزب السوري القومي الإجتماعي، إذا نُظِر اليه من زاوية نظامه المتجلّي في مؤسساته المتنوعة، هو دولة المجتمع السوري الجديدة. إذاً ترانا عندما نقول أن الحزب عقيدة ونظام، نقول أن الحزب هو مجتمع ودولة.

 

إنّ مسألة فايز صايغ كانت مسألة شذوذ عن عقيدة الحزب ونظامه. لذلك كان شذوذ فايز صايغ عن إرادة الجماعة الظاهرة في تقاليد حياتها الجديدة (نزعة فردية) وشذوذ عن دولة الجماعة الظاهرة في قوانينها. ولذلك كان طرده عملية شعبية ديمقراطية اقتضتها تقاليد المجتمع الجديد وقوانينه.

 

إنه لمن المؤسف حقاً أن نجد أكثر المتعلمين في بلادنا، من الرهط الذي ما أن يصيب نجاحاً في أحد حقول الإختصاص، حتى يصاب بدوار، أحبّ أن أسميه، دوار جنون الخلود (مستعيراً تعبير "جنون الخلود" الذي وصف به سعاده، المحرّض الطائفي رشيد سليم الخوري المعروف بالشاعر القروي).

 

من ذلك الرهط كان فايز صايغ وأقرانه، يوسف الخال وغسان تويني ويوسف نويهض، ممن جاء على ذكرهم الزعيم في المحاضرة الأولى، وغيرهم كثيرون ظهروا بعد استشهاده.

 

 

قضيّة نعمه ثابت:

 

خروج على العقيدة في شذوذ عن تحديد الأمة.

 

يحدد سعاده قضية نعمه ثابت، وكان رئيساً للمجلس الأعلى في الحزب، بأنها قضية شذوذ عن التحديد القومي للأمة السورية، فهي إذن قضية خروج على عقيدة الحزب القومية حصراً.

 

الوثيقة التي اعتمدها سعاده للتدليل على ذلك الخروج، هي الخطاب الذي كتبه نعمه ثابت وألقاه في إجتماع في بلدة بعقلين في شوف لبنان 1944. في هذا الخطاب برزت ظاهرة جديدة هي ظاهرة الكلام على ما أسماه نعمه ثابت "بالواقع اللبناني" و "الأمة اللبنانية". في هذا الخطاب غمس نعمة ثابت كل عقيدة الحزب في ماء لبناني فقامت بين يديه قيماً لبنانية، وتراثاً لبنانياً، وثقافة لبنانية، وتاريخاً ورسالة لبنانيتين، على عامل مشترك هو "الواقع اللبناني" أو "الأمة اللبنانية". الحجة التي اعتمدها نعمه ثابت للدفاع عن موقفه كانت حجة محض سياسية. فقد استند هذا الرجل إلى مقدمة فاسدة مفادها أن التركيب الإجتماعي اللبناني الذي قوامه الخوف والإنعزال، يتطلب أن يكون الإنسان سياسياً – دبلوماسياً مرناً في التوجه إليه ومعالجته. وبهذه المناسبة تُروى الحادثة التالية:

قيل أن الحوار التالي قد جرى بين نعمه ثابت وسعاده، فور عودته إلى الوطن في 2 آذار 1947:

 

سعاده: ماذا فعلت بحزبنا يا أمين نعمة؟

 

ثابت:   حضرة الزعيم، أنت تعرف الوضع في لبنان. فاللبنانيون المسيحيون، الموارنة   خاصة، يتخوفون من عبارات مثل "سورية" و "لتحي سورية" و "السوريون" ألخ... وما حصل هو مجرد اسلوب سياسي دبلوماسي لجعل النفوس تطمئن الى الحزب وترتاح إلى أعمال رجاله.

 

سعاده: لكن يا أمين نعمة هناك طريقان لعدم إخافة الناس وجعل نفوسهم تطمئن للحزب. هناك الطريق التي اتبعتموها والتي كانت نتيجتها خسراننا لعقيدتنا وحقيقتنا. ذلك لأن المبدأ الإذاعي الذي اعتمدتموه يؤدي إلى تلك النتيجة، وهذا المبدأ مفاده أن نكون لبنانيين مع اللبنانيين، أردنيين مع الأردنيين وأكراد إذا وُجِدنا في وسط كردي، فنُفصَّل على قياس الإنقسامات الكيانية كلها والعرقية كلها والمذهبية كلها. فتكون النتيجة الباهرة التي ذكرناها، وهي خسران في خسران لعقيدتنا وحقيقتنا وقضيتنا القومية الوحدوية النهضوية. ويبرز آنئذ السؤال التالي: لماذا كل هذا العناء؟ لماذا كل هذه الحركة القومية الإجتماعية؟ لماذا الآلام والسجون والتشرد؟ لماذا الحزب السوري القومي الإجتماعي إذا لم تكن قضيته حقيقة تساوي وجودنا وحياتنا ونهوضنا وتقدمنا؟      

 

فخطابكم يا أمين نعمة عن الواقع اللبناني معناه خطابكم عن موت الحزب السوري القومي الإجتماعي وإحياءً للأفكار الإنعزالية والكيانية. إن السياسة من أجل السياسة ليست عملاً قومياً، أما الطريق الثاني يا أمين نعمة، لجعل النفوس تطمئن، فهو أن تتوجهوا إلى شعبنا بالتعاليم القومية الإجتماعية التي جوهرها حقيقته ومصلحة حياته وتقدمه، فتظلوا تنادون ب"حياة سورية" وب"سورية للسوريين"، فيجفل بعض الأفراد، وينفر أفراد آخرون، ويتخوف فريق ثالث من الحزب، لكن كل هذه المظاهر ليست سوى ردود أولية عاملها الجهل بالحزب وقضيته القومية الإجتماعية، سرعان ما يتبدد عندما نكرر نداءنا الشعبي ونكرر تعاليمنا السورية، إذ لا بد أن تألف آذان الناس في النهاية أصواتنا. وهذه مسألة نفسية هامة. بعد حصول هذه الإلفة لأصواتنا "الناشزة" بالنسبة لآذان الرجعيين، يبدأ الناس باستيقافنا وسؤالنا عما نقصد بتلك النداءات وتلك العبارات وتلك المبادئ، عندئذ نشرح لهم حقيقة أفكارنا وأننا لا نعني "بالسوريين" جماعة مذهبية معينة، وإنما نعني بالسوريين كل أبناء أمتنا، فهناك سوريون من لبنان وسوريون من الأردن الخ.. بإتباعنا هذا الطريق نكون قد حفظنا عقيدتنا وحقيقتنا وربح شعبنا قضيته القومية الإجتماعية. فأي الطريقين تبعت يا أمين نعمة؟

 

نعمة: حضرة الزعيم، طريق السياسة اللبنانية.

 

سعاده: أتعرف يا أمين نعمه سبب ذلك؟

 

نعمة: لا أعرف كيف حصل ذلك.

 

سعاده: كان سبب ذلك إغفالكم درس عقيدة الحزب وتاريخه. فبالدرس يظهر لكم عظمة القضية القومية الإجتماعية ويظهر لكم أهمية الإعتصام بحبلها مهما كانت تلك التضحيات. كان يجب أن تهون كل التضحيات دون العقيدة. ما حصل هو أنكم ضحيتم بالعقيدة لمصلحة الأفكار اللبنانية الإنعزالية. فبالإضافة إلى خروجكم العقائدي، تَسجَّل عليكم عدم قيامكم بواجبكم ألا وهو الحرص على حصول الثقافة القومية الإجتماعية العميقة لكم ولأعضاء الحزب، الذين قبلوا الخروج العقائدي بعامل النظام والجهل لما حصل منكم، وليس بسبب الرضى عن شذوذكم العقائدي.

 

ننهي كلامنا في هذه الحلقة بالقول، أن الرواية التي ذكرناها والتي تدور في بعض أوساط الحزب والتي رواها أحد قادته الأوّلين، لا يؤثر في جوهرها أن تكون غير حاصلة من الوجهة التاريخية، ذلك لأنها تعبّر عن الأساس الذي استند إليه سعاده لطرد نعمة ثابت من صفوف الحزب السوري القومي الإجتماعي، لإنحرافه الذي وقع في خروجه العقائدي، وعلى وجه التحديد، شذوذه عن تحديد الأمة السورية، باتجاهه إلى القول "بأمّة لبنانية" و"واقع لبناني".

 

 

حربٌ على الرجعيّة والإستعمار

 

من مجموع الأحداث التي صنعها الحزب السوري القومي الإجتماعي في تاريخه الطويل، سأبرز أحداثاً ثلاثة فقط، مع أن الأحداث التي يمكن اعتمادها والإستشهاد بها كثيرة، ثلاثة أحداث أبرزها لكم لنستخرج منها حقيقة الحزب الثورية.

 

أولاً:   لجهة مقارعة الإستعمار في شكله الإنتدابي في وطننا: كان الحزب أول من حمل لواء مقارعة الإستعمار وحارب المستعمر المنتدب في لبنان وفي الكيان الشامي. في هذه الحرب ضد الإستعمار كان حزبكم الحزب الوحيد الذي قدم الأسرى والمضطهدين والشهداء أيضاً. إن الشهيد الوحيد الذي سقط في لبنان في معركة قتال الإستعمار، كان رفيقاً من رفقائكم ألا وهو الشهيد سعيد فخر الدين، في حين كانت الرجعية تُتَكتك وتتحلق وتتآمر لتنال الإستقلال هيّناً وملوّثاً، كما لا يزال حتى الآن.

 

ثانياً:  وهذا أيضاً البلاغ الأول الذي صدر عن مقر قيادة الثورة العليا التي أعلنها الزعيم في 4 تموز 1949. تعرفون أن الزعيم أعلن الثورة الشعبية المسلحة الأولى على النظام الرجعي في لبنان وتحالف مع حسني الزعيم قائد أول إنقلاب في البلاد العربية آنذاك، لكي يقضي على النظام الرجعي في لبنان ويحمي شرف الشعب وكرامة الأمة ويعيد لإرادة الشعب اعتبارها، بعد أن زوّرَت في الإنتخابات، ويصون حرية الفكر والعمل الني حوصرت وصودرت.

 

ولكن لم تمضِ مسيرة الثورة طويلاً حتى حصلت خيانة حسني الزعيم للثورة، همس في أذنه الأجانب والرجعيون "إذا انتصر أنطون سعاده رح يرتد عليك، دبر راسك".

 

ومما قاله الزعيم بعد أن حلل النظام الرجعي وكيف أن الحكومة اللبنانية الرجعية قد خرجت عن إرادة الشعب واستباحت كرامة الناس واستبدت بمقدرات الأمة، بعد هذا التحليل قال:" لذلك إن الحزب القومي الإجنماعي يعلن الحكومة طاغية خارجة عن إرادة الشعب، معرّضة خيره للمَحق وسلامته للخطر، ويثبت هنا ما أعلنه من قبل في صدد المجلس النيابي الذي تشكّل بتزوير فاضح للإنتخابات عام 1947، في جو مطاردة السياسيين وإرهاب المعاكسين، أي أن هذا المجلس ليس مجلسا شرعياً ولا يمكن أن يمثل حقيقة إرادة الشعب، ويعلن الثورة الشعبية العامة لأجل تحقيق المقاصد التالية، هذه أهمها:

 

أولاً، إسقاط الحكومة وحل المجلس النيابي واعتبار مقرراته التشريعية في السياسة الداخلية الناتجة عن مساومات خصوصية باطلة.

 

ثانياً، تعيين حكومة تعيد إلى الشعب حقوقه وحريته وإرادته المسلوبة.

 

ثالثا، وضع دستور صحيح ينبثق عن إرادة الشعب، يحل محل الدستور الحاضر، الفاقد الصفة الدستورية الصحيحة، ويضمن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لأبناء الشعب، ويجعل التمثيل السياسي على أساس المصلحة القومية بدلا ًمن أساس المصالح الطائفية والعشائرية الخصوصية.

 

رابعاً، عدم التعرض للوضع السياسي السابق.

 

خامساً، توطيد الإستقلال اللبناني على أساس إرادة الشعب الحرة.

 

ثم يطلب البيان تحقيق المبادئ القومية الإجتماعية التالية:

 

1- صل الدين عن الدولة

 

2- منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.

 

3- إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب في الإجتماع والثقافة.

 

4- إلغاء الإقطاع وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.

 

5- إنشاء جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.

 

ويطلب أيضاً تطهير إدارة الدولة من الرشوة والفساد والتحكم، وتخطيط سياسة اقتصادية قومية ترتكز على الوحدة الإقتصادية في البلاد السورية وضرورة قيام نهضة زراعية صناعية على أسس متينة، والمباشرة بسرعة بإزالة الحيف عن العمال والمزارعين، والقضاء على الإحتكار والطغيان الرأسماليين، وإطلاق سراح المأسورين والتعويض عليهم عن خسائرهم المادية، بسبب أسرهم غير المبرر، وإعادة كل قومي إجتماعي فقد عمله بسبب عمليات الإعتقال والإضطهاد إلى عمله، وكذلك كل من سببت له الإعتقالات فقد عمله، وإن لم يكن من أعضاء الحزب القومي الإجتماعي، وإعادة كل قومي إجتماعي صُرِف من وظيفته الحكومية بسبب إنتمائه إلى الحزب السوري القومي الإجتماعي، إلى وظيفته السابقة والتعويض عليه.

 

ثم ينتهي البيان إلى إعلان الحقيقة التالية وهي:

 

"إن الحكومة اللبنانية الخائنة حرية الشعب، العابثة بحقوق أبنائه، قد فرضت بجشعها ورعونتها الثورة للدفاع عن الحرية المقدسة وعن حياة أبناء الشعب وعن إرادته. وقد قبلت حركة الشعب الكبرى التحدي وأعلنت الثورة. فإلى الثورة على الطغيان والخيانة أيها الشعب النبيل".

مقر قيادة الثورة العليا

  1. تموز 1949

القيادة العليا

 

 

الواقع، أن المرارة التي يعانيها الشعب من حكم الرجعية المستمر حتى الآن، لا تقل عن المرارة التي كان يعانيها الشعب من حكم الأجنبي. إذ الرجعية والأجنبي معسكر واحد ضد جبهة الشعب. والبيان الذي قرأته يثبت أن حزبكم كان الحزب الوحيد الذي حمل السلاح وأعلن ثورة شعبية ضد النظام الرجعي القائم هنا. فكما أن الحزب هو ثورة على الإستعمار والإرادرات الأجنبية، هو ثورة على الرجعية بأشكالها المختلفة. وفي سبيل هذه الحرب الضروس ضد الرجعية وحلفائها الإستعماريين، قدّم الحزب الشهداء وقدّم الزعيم دمه أيضاً. وحتى هذه الساعة لم يحمل حزب في طول البلاد وعرضها، حزب مدني واحد، غير الحزب السوري القومي الإجتماعي، السلاح في وجه الرجعية وأسيادها الأجانب الطامعين. نراهم يكتبون المقالات، يتحدثون في الصالونات، أما الكفاح المسلح ضد الرجعية فكان نظرية الحزب السوري القومي الإجتماعي وحده.

 

 

فشلت الثورة الشعبية في 4 تموز 1949، فشلت الثورة الشعبية في الستينات وقد تفشل ثورة شعبية ثالثة ورابعة وخامسة، لا بأس، لماذا؟ لأن ثورية الحزب ثورية لا يحدها فشل ولا انتصار. حتى لو انتصر الحزب في ثوراته الشعبية لن تتوقف حقيقة الحزب الثورية القومية الإجتماعية، الثورية التي لا يحد مسيرتها شيء. لذلك لما ينقرض الحزب السوري القومي الإجتماعي بعد الفشل العسكري لثورة 4 تموز 1949، ولما ينته أمر الحزب بعد الثورة الستينية التي أسموها إنقلابا، ولن ينتهي أمر الحزب بفشل جديد أو إنتصار جديد.

 

هذه هي روح الحزب، الذي هو نهضة تعني خروجاً من البلبلة والفوضى والشك إلى النظام والوضوح واليقين. الخروج من الموت إلى الحياة، يقضي ثورةً وصراعاً وحرباً: ثورة لا تهدأ على الرجعية وعلى النيورجعية، وحرباً على الإستعمار وعلى الصهيونية، وصراعاً لكل المفاسد في الأمة. ويقول الزعيم في مناسبة أخرى واصفاً حقيقة النهضة:

 

"هذه هي حقيقة النهضة، صراع داخلي عنيف، ثورة فاعلة أحياناً وأحياناً بطيئة وأحياناً مستعجلة وأحياناً حارة وأحياناً باردة وأحياناً دامية، ولكن الـحقيقة الأساسية هي أننا لسنا بـمنثنيـن عن عقيدتنا وعن عزمنـا أبداً ولسنا بواضعي سلاح الـحرب إلى أن تنتصر حياة الأمة وحريتها وإرادتها على السياسة الـخصوصية والإرادات الأجنبية."[8]

 

لماذا هذا الكلام وماذا يعني هذا الكلام؟

 

الكتّاب الماركسيون والمفكرون اليساريون في الشرق والغرب يقولون: الثورة عنف فقط. وبعضهم يقول بالثورة السلمية فقط. ويدور الحوار الحاد المرير فيما بينهم. بعضهم يشدد على أن لا ثورة بدون عنف، ثورة معناها عنف، فهذه هي نظريتهم الحتمية في الثورة، وبعضهم الآخر المسالم يقول الثورة سلم وأساليب سلمية، مفاوضات الخ.. لكن الزعيم يقول: دامية أحياناً وغير دامية...، كما أسلفنا سابقا، أقول ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن العقل وراء الثورة، العقل الذي هو قانون القوانين، الذي هو الشريعة الني ليس أعلى منها شريعة، العقل هو الذي يقرر كيف يجب أن تكون صفة الثورة، لذلك جاءت نظرية الزعيم في الثورة، نظرية الدينامية، لماذا؟ لأنها تترك للعقل مجال الحرية والنظر في ظروف الواقع، ما هي الظروف؟ العقل يدرس، يفكر ثم يخرج مقرراً إذا كانت الثورة ستكون بطيئة او مستعجلة، باردة أو حارة، دامية أو غير دامية، لأن فلسفتنا القومية الإجتماعية هي العقيدة التي تعتبر العقل المدير الناظر في الظروف الموضوعية، المتأمل في المعطيات، هو المشرّع. نحن لسنا بمستعدين أن نضع نظرية لتصبح شركاً لنا أو قيداً لعقولنا وعقول أجيالنا الصاعدة. لا نقول أن الثورة يجب أن تكون دائما عنيفة، دائماً دامية، ثم نلتزم على نحو مطلق بهذه النظرية ونعطّل فعالية العقل. نحن نترك للظروف ولفعل العقل في الظروف، القول الفصل. ينظر العقل في الظروف الراهنة، ثم يخرج بالصفة المناسبة للثورة.

 

نحن الآن في ثورة، وإن كنّا في هدنة مع الرجعية والصهيونية، فالهدنة شأن حربي، وهذا الكلام يقوله سعاده مباشرة: "كل سلم بين عقيدتين أو قوّتين أساسيتين لا يكون نتيجة انتصار فاصل إحداهما على الأخرى، أو انكسار فاصل إحداهما أمام الأخرى هو هدنة، هو مجرّد هدنة."[9] ويضيف: " نحن اليوم في هدنة بالمعنى الحربي.."[10]

 

هذه هي الحقيقة الأساسية الأولى التي يمثلها حزبكم. هو حزب الثورية الحقة، الثورية المتواصلة، ثورة التقدم المستمر حتى الإنتصار، وعندما يحصل الإنتصار، التقدم نحو انتصار أعلى وأسمى، ثورة العقل الناظر في الأشياء وفي الظروف المحيطة، والمخطط لقتال ذي أهداف قومية، منها عز الأمة، ومنها فلاح الأمة وتقدمها.

 

∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞∞

 

 

 


[1] أنطون سعادة، "المحاضرات العشر"، المحاضرة الأولى- ص 10-11.

[2] المرجع السابق، صفحة 13

[3] أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد الحادي عشر 1946 – 1949، كتاب الزعيم إلى عميد الإذاعة والثقافة فايز صايغ-، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 01/12/1947.

[4] المرجع ذاته.

[5] المرجع ذاته.

[6]Slavery & Freedom” by Nikolai Berdyayev- London 1944, page 23-36.

[7] “The point of view for my work as author” by S. Kierkeegard. Translated by Walter Lowrie, New York, 1962, Page 133-134.

[8] أنطون سعادة الأعمال الكاملة – المجلد الثامن 1948 - 1949، ملحق رقم 3 خطاب الزعيم في جزين 10/10/1948.

[9] أنطون سعادة الأعمال الكاملة – المجلد الثامن 1948 - 1949، خطاب الزعيم في جل الديب (22/02/1948).

[10] المرجع ذاته.

 
التاريخ: 2022-01-29
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro