مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الكرنفال البطريركي
 
الدبس، ربيع
 

 

 

يعيش بعض رجال الدين كالبطريرك مار بشارة بطرس الراعي والمطران الياس عودة حالة انفصام عن الواقع الوطني ومعطياته الموضوعية في لبنان، بحيث تتراكم لهما، خصوصاً للبطريرك الماروني، خطبٌ وتصريحات صارخة في انحيازها إلى فئة لبنانية محددة، ولو كانت تتزيّا بالصفة العمومية، كالثناء على "بطل" الخيانة في اجتياح 1982، وكالحديث عن العدالة والكرامة والعنفوان وما يشبهها من الكليشيهات الباهتة لكنِ الدارجة في كيانٍ ملغوم بالشعارات المزيفة، التي لا تلتبس على أي متبصر في المضمون والتوقيت والتموضُع. فالحياد المرفوع شعاراً صار اصطفافاً مع فريق، والإصطفاف المحلي بدوره انحياز إلى محور إقليمي ذي بُعدٍ خارجي ضد محور آخَر. لكنْ لا بأس طالما أن الذاكرة الشعبية المثقوبة تتناسى كل شيء إلا الثقافة الطائفية والموروث المذهبي، ولا بأس من اغتنام رياحٍ ما متى هبّتْ حتى لو جاء اتجاهها على غير ما تشتهيه السفن.

 

ولو قرأنا سياسياً، على سبيل المثال، مواقف سيد بكركي في عظات الآحاد، والتي يعلّق فيها على التطورات تعليق الطرف الصارخ في الإنحياز، لتبيَّنَ لنا أنه يُسقط الموقف السياسي الجاهز على الحَدَث الأمني المستجدّ. مَثَلنا على ذلك موقفه السلبي من معادلة المقاومة وهو موقف أسقطه بخلفياته الفئوية المؤلمة على جريمة الطيونة التي أشاد بمرتكبيها ناسباً إلى المعتدَى عليهم صفة الإرتكاب، ومشيداً بالمتهمين الذين ما زالوا قيد التحقيق معتبراً إياهم "مدافعين عن بيئتهم وكرامتهم"، كأن الطريق الذي يفصل بين الشياح وعين الرمانة هو جدار الفصل العنصري ما بين بيئة وبيئة أو ما بين كرامة وكرامة!!! أليست البيئة الوطنية واحدة، وكرامة أبناء الوطن واحدة؟!!! ونحن لو وضعنا هذا الموقف في الميكروسكوب الموضوعي لكان أقلُّ ما يقال فيه إنه غريب ومستهجَن وصادم، لأنه لا يخدم التضامن الداخلي، بل يستبق نتائج التحقيق ويستخف بمدارك الشريحة الجريحة من شعبنا وأهلنا في مجمل المنطقة المتضررة من إطلاق النار، تماماً كتضرر الجميع من تحطيم السيارات والمحلات وسقوط الشهداء والجرحى في تهديدٍ خطير للسِّلم الأهلي، ولوحدة المجتمع التي يكاد أن لا يبقى منها سوى الشعار... المُفْرَغ من أيّ مضمونٍ عملي واقعي.

 

صحيح أن القاضي النزيه تستحيل شيطنته كما أن القاضي المحايد يستحيل تحزيبه سواء كان ذلك في ملف المرفأ الدامي أو في غيره، لكن الذين حرروا لبنان من المحتل "الإسرائيلي" معروفون للقاصي والداني بِمَنْ فيهم المحتل نفسه، كما أن محرِّرِيْ لبنان من الإرهاب التكفيري هم الذين تصدوا، بالروح وبالإرادة، للتسونامي الظلامي الذي ظن حليفه الصفيق أنه يمنح جحافله الزاحفة تأشيرة دخول حين ارتكب سقطته المُدوّية بالقول: "فليحكمِ الإخوان". أما أولئك المحرِّرون الحُماة فهُمْ مواكب المقاومين الأبطال، الأحياء منهم والشهداء، الحَرِيّ بهاماتهم أن تتكلل بهالات النور، وبدمائهم أن يُستمد من حرارتها معنى الأرض وبريقُ التشبث العمليّ فيها...كل ادعاء دون ذلك باطل، وما أكثر الأباطيل في الزمن الرديء.  

 

لا شك في أن لأي مسؤول روحي في المؤسسات المسيحية والإسلامية والدرزية الحق الثابت، بل الواجب الطبيعي في تحصين رعيته ضد الأضاليل الدخيلة، وفي توجيه تلك الرعية نحو منظومة القيم الإنسانية المناقبية التي هي أثمن ما في الديانات السماوية والحركات الإصلاحية الكبرى في تاريخ البشرية. لكنّ المرجعية الدينية ليست مرجعية سياسية ولا قضائية ولا أمنية ولا إدارية، لأن ذلك من صلاحية المسؤولين الرسميين والسياسيين والأمنيين والقضائيين في المؤسسات الدستورية الشرعية ذات الصلاحية، كما هي من صلاحية الأحزاب السياسية التي تكتسب صدقيتها ومشروعيتها من حيثيتها الشعبية ومن تعبيرها الحقيقي عن الشعب بوصفه مجموعة مواطنين منتمين وفاعلين في المؤسسات الراعية، لا بوصفه تشكيلات من  الرعايا المطيّفة أو من الأزِقّة المذهبية والعصبيات المريضة...هذه هي، بلا قفازات، أبجديةُ الدولة المدنية الحديثة التي لم يعُد مجدياً للبنان "الرسالة" أن يتغنى بنقيضها أي بديمقراطيته المشوهة بالطائفية، وصيغته المريضة المفخخة بأسوأ أنواع بالفساد.

 

لقد تبدل الوضع في لبنان والمنطقة تبدلاً ماثلاً لكل ذي بصيرة، ونشأت معادلات ردع جديدة فرضت نفسها على الإقليم، بل على العالم كله. لذلك يجب التبصر بأي موقف قبل إعلانه، وبأيّ تصريح قبل تعميمه، وبأي تعبئة ثقافية مغلوطة قبل غرسها في النفوس الغضة، لأن في التربة الصالحة نفسها بذاراً فاسدة، فكيف بالتربة التي عرف شعبنا ثمارها من زارعيها معرفة يقينية؟ فهذه لا لزوم لتزيينها بالمحسّنات اللفظية أو المعنوية لأن المواسم بارَتْ قبل إجراء المحاولات العبثية لتنكير القحط بعباءات الحصاد. أليست هذه تعاليمَ السيد المسيح التي تشرّبناها صغاراً وتعمّقناها كباراً؟ ألم يحمل المعلّمُ الإلهيّ السوطَ في وجه تجار الهيكل الذين تقمصوا شخصية الهابطين في الجُب؟ ألم يكن ابن الإنسان ثائراً على الفرّيسيين الفُجّار في الأمثولة البليغة الذي جاء فيها: "بيتي بيت صلاةٍ يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لِلُّصوص"؟

 

في مطلع السنة الجديدة 2022 نعاود التأكيد أنّ على لبنان أنْ يجسد معالم قوته ويستثمر اقتدارها بدلاً من التفريط القصدي بمنجزاتها. فلبنان لم يعُد قادراً على احتمال تبعات الأصوات الكيدية التي تُقحم أنصارها في هاوية جديدة وهي ما زالت ترزح تحت أثقال إخفاقاتها وهاوياتها القديمة... وإذا سمح بعضهم بتعريض الأكتاف وادّعاء القدرة بالقول: "نقبل" أو "لن نقبل"، فذلك لا يعني أنهم قادرون على القبول أو على الرفض، بقدر ما يعني أنهم سكارى كرنفال لَعلَّهم لم يدركوا بعد أنهم قد لا يستفيقون من صداعه.          

 

 

 
التاريخ: 2021-12-27
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro