خلال فترة السجن التي امتدت من 5 تشرين الاول 68 الى منتصف شباط 69 مرت علينا ذكرى تأسيس الحزب، فقررنا انه يجب ان نحتفل بها. عمل الشباب على تجويف حبات البرتقال دون جرح القشرة الخارجية، ثم وضعنا في كل حبة بعض الزيت وصنعنا من خيطان المناشف فتيلاً وحصلنا من صديق لنا على كبيرتة اشعلنا بها الفتيل ثم ابتدأ الاحتفال بالوقوف في حالة تأهب وتأدية التحية الرسمية، وبعد ذلك جلس كل واحد في مكانه والقى الامين عبدالله محسن كلمته ومن ثم اعطي لكل واحد منا بضع دقائق ليتحدث عن معنى هذا العيد وكيف يفهم دور الحزب والالتزام به والبعض تحدث عن تاريخ النضال والتضحيات الكبيرة التي قدمها رفقاؤنا قبلنا وعما لا يزال امامنا من طريق طويل وتضحيات لا حدود لها. ولم يغب عن الاحتفال قالب الحلوى و"جاط " كبير من سلطة الفواكه الفاخرة اهدتنا اياه الامينة هيام محسن ممزوجا ببعض المشروبات الروحية، وظللنا نتذكره كلما زرناهم في بيتهم بمنطقة " الحدث " او في المركز.

مرت ايام الاسر ثقيلة وطويلة لكننا عملنا على تخفيف وطاتها القاسي، ولما حان وقت خروجي قبل رفقائي اقاموا لي حفلة وداع قي الليلة التي تسبق العودة الى الحرية، وحمّلوني وصايا الى القوميين والى اهلهم، واتذكر كم كانت كلماتهم مؤثرة وكم ترقرقت عيوننا بالدمع وهم يودعونني، على امل ان نلتقي قريبا في مناخ الحرية. كانت الاخبار السياسية ترد الينا عن مصير موضوع العفو العام ، وقد سارت الامور حسب التوقعات ، وكان رئيس الجمهورية الاستاذ شارل حلو متجاوباً مع المشروع ورئيس الحكومة تقي الدين الصلح ايضاً، وفي منتصف شباط 1969 طرح المشروع على التصويت في مجلس النواب برئاسة صبري " بيك " حماده، وبرفع الايدي، وبسرعة فائقة ارتفعت ايدي غالبية النواب فعدّها دولة الرئيس حماده واعلن ان المشروع نجح ثم ضرب مطرقته على الطاولة وقال " صُدّق" وهنا علا التصفيق من بعض النواب ومن اهالينا والقوميين الذين سُمح لهم بحضور تلك الجلسة التاريخية. هكذا فتحت ابواب السجون وخرج القوميون الى الحرية بعد سبع سنوات من الاسر والعذاب. وقد شهدت باحات السجون حشوداً من المواطنين واهالي الاسرى كما حصلت في القرى والمناطق احتفالات شعبية وحزبية ظهرت خلالها قوة الحزب الشعبية والتنظيمية وهو ما فاجأ الاجهزة الامنية والمراقبين السياسيين حول حزب تعرض لهذا الكم من الضغوط والترهيب فخرج اقوى مما كان ...

لا استطيع الآن ان اصف شعوري عندما نادى حاجب السجن على اسمي وقال " ضبّ " ... هذه الكلمة في قاموس السجون تعني اجمع اغراضك لتخرج . عانقت الجميع وخرجت واتذكر ان قدميَّ كانتا تركضان ولا استطيع ان اضبط سرعتهما... كنت امشي ولكن اشعر انني اطير عن الارض. في الخارج كان والدي بانتظاري فعانقته واعتذرت منه على ما سببناه له من عذاب وقلق، ثم عانقت اخوتي ورفقائي الذين حضروا لاستقبالي على باب السجن ورافقوني الى البيت، وهي لحظات كالتي تفصل بين الظلمة والفجر.

هكذا عدتُ الى الحرية وبدأت مرحلة جديدة من حياتي، فيها تحديات المستقبل الذي ضاع جزءٌ منه، واسئلة عن المصير والالتزام بقضية قلنا انها تساوي وجودنا، وعن اكمال السير في طريق صعب لمسنا بالتجربة مقدار ما فيه من اخطار ومصاعب .

بالطبع لم اتردد وتابعت طريق الحياة التي لا يصمد عليها الا ابناء الحياة ورجال النهضات الكبرى التي تتصدى للتاريخ وتدخل لعبة الخطر لتغيير مساره وبناء حياة جديدة للأمة تقيها الاخطار والفوضى والمصائب التي نشهدها طيلة هذه الحقبة من الصراع المصيري.

في الحلقة القادمة احكي عن مرحلة ما بعد السجن وعن الجامعة والعمل في جريدة النهار والنشاط الاذاعي والنظامي الذي انتقل من السرية الى العلنية. فالى اللقاء...