مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
المنظومة الأخلاقيّة في حضارة وادي الرافدين
 
نصوص أدبية: حكم ووصايا
السّواح، فراس
 

مدخل

لم تنتج الثقافة الرافدينية نصاً مقدساً من شأنه تنظيم وتنميط الحياة الدينية في المجتمع، وسنّ قواعد أخلاقية تحكم سلوك الأفراد والجماعات، إلا أنها رسمت من خلال أدبياتها الغزيرة منظومة أخلاقية متكاملة، عبَّرت عما تمتع به إنسان الشرق القديم من حساسية خلقية مرهفة، وتمسكٍ بقيم الحق والخير والجمال. وسبيلنا إلى تلمس هذه المنظومة هو تتبُّعها في نصوص الصلوات ونصوص الحكم والوصايا بشكل خاص، وهذا ما سوف أبْسُطه باختصار لا يغني عن إطالة:

-1-

نقرأ في صلاة لإله الشمس المدعو ” شَمَشْ” هذه الأسطر التي اخترتها من نحو مائتي سطر يركز معظمها على السلوك الأخلاقي القويم:

أيا مبدد الظلام وقاهر الشر في الأعلى وفي الأسفل.

يا من تحاسب بالحق الصالح وتحاسب الشرير.

يا من يرمي بأشعته كشبكة فوق البلاد والأصقاع.

تنشر شبكتك لتمسك بالرجل الذي يشتهي زوجة صاحبه.

تكسر شكيمة فاعل الإثم وتقطع دابره.

وتذهب بمال من يتلاعب بالحسابات.

تودي عدالتك بالقاضي الفاسد إلى السجن.

وتُنزل عقابك بالمرتشي الذي يعرقل سير العدالة.

أما المستقيم الذي يرفض الرشوة وينتصر للضعيف، ففؤادك يفرح به، تُثْري حياته وتزيد في أيامه.

ما الذي يجنيه المرابي الذي يوظف أمواله بربح فاحش؟

إنه يكذب من أجل ربح آني، ولكنه يخسر ثروة طائلة.

ما الذي يجنيه من يغش في الكيل والميزان؟

إنه يكذب من أجل ربح آني، ولكنه يخسر ثروة طائلة.

-2-

ونقرأ في نص سومري جمع فيه كاتبه ما راقه من الأمثال المتداولة هذه المقتطفات:

من بنى بيتاً كبيوت الأمراء عاش مثل عبد، ومن بنى بيتاً كبيوت العبيد عاش مثل أمير.

ليس القلب من يصنع العداوة بل اللسان.

عندما تتعود على الكذب لن يصدقوك عندما تقول الحقيقة.

الكلمة الحلوة صديق لكل يوم.

القلب المحب يبني البيت، والقلب الكاره يهدمه.

المال مثل السنونو الطائر. لا يجد مكاناً يحط فيه.

-3-

ومن أدب الوصايا البابلية نقرأ هذه المقتطفات من وصايا رجل حكيم لابنه:

اكبح جماح فمك وراقب كلماتك، واحفظ شفتيك مثلما يحافظ الغني على ثروته.

لا تتفوه بما لا يفيد، ولا تعط نصيحة في غير محلها.

لا تصنع بخصمك شراً.

ومن يبادرك بسيئة كافئه بحسنة.

واجه عدوك بالعدل ولا تظلم.

أعط الطعام لسائله، وشراب البلح لطالبه، ولا ترد طالباً لصدقة أو ثوب.

لا تُغلط في الكلام، ولا تفترِ على أحد.

لا تتفوه ببذيء الكلام، بل قل أحسنه، وإذا وعدت فأوف بوعدك.

-4-

ومن أدب الحكمة الآرامي نقتطف هذه الأقوال لأحيقار الحكيم:

راقب فمك، لأن الكلمة مثل الطير إذا أرسلتها لن تستطيع اصطيادها ثانية.

إذا اقترضت لا يهدأ بالك قبل سداد القرض.

القرض لذيذ عند الحاجة إليه، ولكن سداده مؤلم.

جمال المرء بصدقه، وبشاعته بكذب شفتيه.

لا تكن حلواً فيبتلعونك، ولا مراً فيبصقونك.

إن أعداءك سيموتون، ولكن لا بسيفك.

لا تفسق بامرأة صاحبك لئلا يفسق الآخرون بامرأتك.

لا تغتم لخير يناله عدوك ولا تفرح لشر يصيبه.

إذا جابهك عدوك بالشر جابهه بالحكمة.

إذا سمعت كلمة سوء ادفنها في الأرض عمق سبعة أذرع.

-5-

حوارية السيد والعبد:

في مقابل هذه النصوص التي تعلي من شأن السلوك القائم على منظومة أخلاقية راسخة في المجتمع، لدينا نص بابلي يبدو لأول وهلة وكأنه يشكك في وجود قاعدة ثابتة يرتكز عليها الخيار الأخلاقي. والنص موضوع في صيغة حوار بين سيد وعبده. ففي كل مرة يقول السيد لعبده أنه مزمع على القيام بعملٍ ما، يعمد العبد إلى تزيين ذلك العمل لسيده ويعدد الفوائد التي ستعود عليه منه. وعندما يقول له بعد ذلك أنه أقلع عن القيام بذلك العمل، يعمد العبد إلى صرف نظره عنه وتعداد مساوئه وسلبياته. وهذه ترجمتي للنص الكامل، وهي تقريبية في بعض المواضع بسبب غموض في النص الأكادي.

– أيها الخادم، أصغ لما أقول وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– جهز لي عربة وشُدَّ إليها الجياد، لأني سأتوجه إلى القصر الملكي.

* اذهب يا سيدي إلى القصر، اذهب. فهنالك سيكون الملك كريماً معك ويحقق كل رغباتك.

– كلا أيها الخادم، لن أذهب إلى القصر.

* لا تذهب إلى القصر يا سيدي، لا تذهب. فهنالك سيرسلك الملك في مهمة إلى بلاد لا تعرفها. عندها ستقع في الأسر وتقضي ليلك ونهارك في عسر ومشقة.

– أيها الخادم، أصغ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– أحضر لي ماءً لأغسل يديَّ وأتعشى.

* تعشَّ سيدي تعشَّ. إن تناول العشاء بانتظام يفرح القلب، الإله شَمَشْ يكون حاضراً أثناء العشاء الذي يؤكل بسعادة وبأيدٍ مغسولة.

– كلا أيها الخادم لن أتعشَّ.

* لا تتعشَّ يا سيدي، لا تتعشَّ. فمن الأفضل للإنسان أن يأكل فقط عندما يجوع، ويشرب فقط عندما يعطش.

– أيها الخادم، أصغِ إليَّ وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– أحضر لي عربة وشُدَّ إليها الجياد، فإني لذاهب في نزهة خلوية إلى البراري.

* اذهب إلى البراري يا سيدي، اذهب إلى البراري. فهنالك بطن الصياد دوماً ممتلئة، و… …

– كلا أيها الخادم، لن أذهب إلى البراري.

* لا تذهب إلى البراري يا سيدي، لا تذهب إلى البراري. فذهن الذي يذهب إلى البراري يتعكر ويتبلبل، و… …

(عدة أسطر في النص مشوهة وغير واضحة)

– أيها الخادم، أصغِ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– سوف أتجاهل وأَسكت عما يقوله أعدائي ضدي.

* اسكت سيدي، اسكت. فالصمت أفضل من الكلام.

– كلا أيها الخادم، لن أسكت عما يقوله أعدائي ضدي.

* لا تسكت سيدي، لا تسكت. لأنك إذا لم تتكلم ] .. .. [

– أيها الخادم، أصغِ إلى وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– سوف أتمرد وأقوم بأعمال خارجة عن القانون.

* افعل ذلك سيدي. وإلا فمن أين لك ما يقيم أود جسدك، ومن أين لباسك وما يملأ معدتك.

– كلا أيها الخادم، لن أتمرد أو ألجأ إلى العنف.

* لا تتمرد يا سيدي ولا تلجأ إلى العنف، لأن من يفعل ذلك إما أن يُقتل أو يُسلخ جلده، أو تُسمل عيناه ويُلقى في السجن.

– أيها الخادم أصغِ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– أريد أن أحبّ امرأة.

* افعل ذلك سيدي، افعل. فإن الحب يُنسي الرجل همومه ومتاعبه.

– كلا أيها الخادم، لن أحب امرأة.

* لا تحب امرأة يا سيدي، لا تحب. فالمرأة حفرةٌ وشركٌ. إنها خنجر حاد يحزّ رقبة الرجل.

– أيها الخادم، أصغِ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا مولاي.

– اجلب لي ماءً لأغسل يدي وأُقدم قرباناً لإلهي.

* قدّم قربانك سيدي، قدّم قربانك. إن من يقدم قرباناً لإلهه يعطيه قرضاً وينام مرتاح البال.

– كلا أيها الخادم، لن أقدم قرباناً لإلهي.

* لا تقدم قرباناً لإلهك سيدي، لا تقدم. لأنك إن لم تفعل سيتعلم إلهك أن يتبعك مثل كلب، طالباً منك إقامة الشعائر أو استطلاع الفأل، وما إلى ذلك.

– أيها الخادم، أصغِ إلى وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– سوف أقدم للناس قروضاً من الحبوب.

* قدم للناس قروضاً يا سيدي، قدم لهم قروضاً. فمن يقدم قرضاً يحافظ على رأسماله ويجني فائدة عليه.

– كلا أيها الخادم، لن أقدم للناس قروضاً.

* لا تقدم للناس قروضاً يا سيدي، لا تقدم قروضاً. إن الحصول على القرض ممتع كما هو الجماع عند المرأة، ولكن سداده مؤلم مثل الولادة عندها. سوف يفيدون من قرضك ثم يتذمرون عليك، ولن تجني بعد ذلك فائدة بل وتخسر ما أقرضت.

– أيها الخادم، أصغِ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا مولاي.

– سأقوم بعمل صالح لبلادي.

* افعل ذلك يا سيدي، افعل. إن من يقدم خدمه لبلاده يجزيه بها الإله مردوخ.

– كلا أيها الخادم، لن أقوم بعمل صالح لبلادي.

* لا تفعل ذلك يا سيدي، لا تفعل. اذهب إلى خرائب المدن القديمة وتجول بينها. انظر إلى جمجمة ميت وضيع وإلى جمجمة ميت عظيم، هل تستطيع التفريق بينهما؟ هل تستطيع التمييز بين من قدم خدمة لبلاده ومن قدم سيئة؟

– أيها الخادم، أصغِ إلي وأطعني.

* سمعاً وطاعة يا سيدي.

– فيم الخير إذن؟

* أن تُدق مني ومنك العنق ونرمى في النهر. فمن يستطيع أن يتطاول فيرقى إلى السماء، أو يتسع فيحيط بالأرض؟

– كلا أيها الخادم، سوف أقتلك أولاً وأجعلك تسبقني.

* إذا فعلت ذلك فإنك لن تعيش بعدي أكثر من ثلاثة أيام.

معنى النص ورسالته:

تقدم لنا هذه الحوارية على بساطتها نصاً على درجة عالية من الإشكالية، تعيد إلى الأذهان تلك الإشكالية التي يتسم بها سفر الجامعة في كتاب التوراة. فموضوعها على ما نفهم من التساؤل الأخير للسيد عندما قال: “فيم الخير إذاً”؟ هو تلك المسألة التي عالجتْها كل الفلسفات والأديان عبر التاريخ، وأعني بها مشكلة الحق والباطل. ولكن جواب مؤلف النص على هذه المشكلة ليس على ما نشتهي من المباشرة والوضوح. فلربما أراد القول بعدم وجود مرجعية أخلاقية ثابتة للسلوك، وكل عمل يقوم به الفرد شراً كان أم خيراً سيكون له من المبررات ما يدعمه ويعطيه المشروعية، وما من حقيقة ثابتة في هذا الوجود سوى الموت، على ما نفهم من جواب العبد على سؤال “فيم الخير إذن”؟ عندما قال: “أن تُقطع مني ومنك العنق ونرمى في النهر”. ولكني أعتقد اعتماداً على تلك المنظومة الأخلاقية التي صاغتها النصوص الرافدينية، وعلى القبول الرسمي لهذه الحوارية ضمن الأدبيات الكلاسيكية، وذلك بوجودها في أرشيف مكتبة الملك المستنير آشور بانيبال، أن رسالتها تكمن في صيغة بسيطة مفادها أن على الإنسان أن يقوم بما يتوجب عليه القيام به ويراه صواباً، دون النظر في عواقبه وفيما يعود عليه من منفعة وضرر.

 ——————————————-

المراجع:

* النصوص السومرية:

– F. J. Stephen, Somerio- Akkadian Hymns and Prayers. In: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Princeton, New Jersey, 1969

– S.N. kramer, The Sumerians, University of Chicago Press, 1963

– S.N. kramer, from the Tablets of Sumer, Wing Press, Colorado, 1956

* والنصوص البابلية:

– R.H. Pfeiffer, Akkadian Proverbs and Council of Wisdom. in: j. pritchard, op. cit

– R.D. Biggs, Dialogue of pessimism, in:j. pritchard, op.cit

————————————-

تنويه: ينشر سيرجيل هذه المقالة، بإذن خاصٍّ من المؤلف، والمقالة موجودة على مدونته تحت عنوان: من أدب الشرق القديم – حوارية السيد والعبد، وكانت الجريدة الألكترونيّة ناسنيوز قد نشرتها أيضاً. nnasnews

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: سرجيل
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro