مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
سعاده المعلّم - القدوة
 
ملحم، ادمون
 

 

حالات الفقر والجوع والإذلال، إضافة إلى المآسي التي يتعرّض لها شعبنا اليوم في لبنان وفي كل كيانات الوطن، وبالرغم من قساوتها، ليست حالات غريبة على هذا الشعب الذي جُرِّدَ من ماله ورزقه ولقمة عيشه وكرامته وتُرِكَ في العراء يئن ويتوجع ويستغيث طالباً العون والمساعدة من دون طائل. فالويلات والأوجاع ترافق هذا الشعب منذ زمن طويل ولا تبرحه .. ولعل تلك المآسي والمجاعة الظالمة التي طالته إبان الحرب العالمية الأولى في ظل الإحتلال العثماني، وما بعدها، ما زالت في ذاكرته، وهي التي أدّت إلى موت الآلاف من البشر جوعاً واضطهاداً وإلى هجرة أعداد كبيرة من أبناء شعبنا إلى مجاهل الأرض بحثاً عن الرزق والعمل لإحياء الأهل وإعلاء شأن الوطن.. كما دفعت بالشاب أنطون سعاده الذي مرَّ بتجارب قاسية مع اشتداد المجاعة في جبل لبنان ليطرح على نفسه السؤال التالي: "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟"[i]

 

سعاده تألم نفسياً وحزنَ لما شاهد وشعرَ وذاقَ مما مُنِيَ به شعبه من مصائب وأسَى وشقاء ومما قاساه من جوع وإذلال وآلام وأوجاع. فهو عايش المأساة التاريخية التي "مثَّلَ فيها الجَوْر دوره أيما تمثيل"[ii] – مأساة موجعة أبطالها أطفال لجأوا إلى المآوِي، ومات شيوخ وعجائز وفتيان وعذارى "أذل ميتة"، ماتوا من الجوع والشدّة، كما يقول جبران خليل جبران، "لأن الثعبان الجهنمي قد الْتهم كل ما في حقولهم من المواشي، وما في أَهْرَائِهِمْ من الأقوات.. ماتوا لأن الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأَرْزِ وعطور الورود واليَاسَمِيْن.."[iii] وكما يقول سعاده: "أصبحوا بالمذلة متسربلين وفي القبور المظلمة الرهيبة ثاوين."[iv]

 

سعاده الفتى درسَ واقع أمته الأليم – الأمة المظلومة، المجزأة إلى دويلات صغيرة والمفسّخة روحياً ومادياً نتيجة استفحال الرجعية الإجتماعية والسياسية البغيضة وفساد تفكيرها الإنحطاطي- الإستسلامي، ورفض أن يُمضي حياته في همٍ وشجنٍ وندبٍ سائراً مع القطعان البشرية ومستسلماً لواقع أمته المتعذِّبة والمغلوبة على أمرها.. رفضَ أن يستكين في ظلال ِالصمت والطمأنينة، وخمول ِالسلامة والتردّد والكسل منشغلاً بتوافه الحياة وصغائرها، وقررَ أن يلبي نداء الوجدان والواجب القومي.. قررَ أن يفعل شيئاً ما لينقذ شعبه من معضلاته وان يكتشف "الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب الويل."[v]

 

وبتفكيره الراقي باشرَ سعاده بالبحث والتنقيب مدفوعاً بحب كبير لوطنه وأهله وبإرادة عظيمة بالنجاح في "تخطيط حياة جديدة ورسم مُثُل عليا بديعة لأمة بأسرها."[vi]

 

ووجدَ سعاده الحل الإنقاذي بمشروع النهضة القومية الاجتماعية التي تعيّن الإتجاه والغاية وتخرجنا من التخبط في وُحول الطائفية وقضايا المصالح الخصوصية القبلية والعائلية وتجمع الشعب حول قضية كلية "فيها كل الخير وكل الحق وكل الجمال.."[vii]

 

وأرسى سعاده نهضته على نظام بديع من الأفكار والقواعد المتوهّجة والمكوِّنة لفلسفة كاملة، عميقة، معبّرة عن آمال أمته وأحلام بني قومه ومستهدفة النهوض بالأمة من قبرها في التاريخ ودفعها للسير على طريق التقدم والإرتقاء لتكون لها حياة "أرقى وأفضل وأجمل."[viii]

 

وبتفكيره العقلاني المرتكز على ثقافة واسعة، أوجدَ سعاده المؤسسات القومية الصالحة لتحقيق مشروعه النهضوي، وراحَ يَنشد الخروج من الواقع المرير ليبني مستقبلاً جميلاً للأمة منطلقاً من رؤيته المستقبلية الهادفة لتحقيق حياة أجود في عالم إنساني أجمل تسوده أجمل القيم وأسماها.[ix]

 

ونذرَ سعاده حياته من أجل القضية المقدسة رافضاً المغريات ومتنازلاً عن المنافع المادية التي كان بإمكانه ان ينالها، فلم يكن همه في أي وقت من الأوقات منفعة شخصية او الحصول على منصب ما، بل كان هاجسه ‏الدائم والوحيد خدمة أمته والنهوض بها، وكان ‏يحدوه الأمل بأنه إذا تحقق الوعي القومي في مجتمعه سيجلب لأمته ولأجيالها الخير والسعادة والمجد والفلاح.  

 

هذا الرجل ذو النفس العظيمة المترعة بالآمال الكبيرة كرّسَ حياته لنهضة الأمة ولتحقيق حياتها الجديدة زارعاً الإيمان واليقين والأمل والفضائل في النفوس وواعداً بتحقيق الطموحات الكبيرة والأماني العظيمة والحياة الجميلة الممتلئة حباً ونوراً وجمالاً. ومشى سعاده في الحق مجاهراً ومعلّماً ومدافعاً عن حقوق أمّتِهِ وحرّيّتِها وسيادتها على نفسها ومحتقراً الذينَ تخلّوْا عن طريقِ الحرّيّةِ والصراعِ واختارُوْا طريقَ العبوديّةِ والعيشَ الذليل.

 

سعاده المعلمُ – القدوة رأى ان أمل الأمة بإصلاح شؤونها النفسية والاجتماعية والمادية منوط بالعناصر القومية المجدِّدة - بالطلاب، الذين "يكونون دائماً نقطة انطلاق وارتكاز في العمل القومي الاجتماعي"[x]، وبالطليعة المتنورة في الوطن والمهجر، وبالصحافة الراقية التي تقع عليها مسؤولية كبرى في خدمة التنوير الفكري وقي تنمية القوة الفكرية في الأمة لأن "الفكر هو قوة غير محدودة"[xi]، وأي إهمال لهذا الشأن، سيؤدي إلى "ضلال بعيد وانحطاط مديد."[xii]  

 

ولكن هل يمكن تحقيق التنوير الفكري بدون التربية الخلاّقة وحرية الفكر والتعليم وبناء الطاقات البشرية والعلمية القادرة على إحداث تغيير في المجتمع؟

 

هل يمكن تحقيق التنوير الفكري بدون فعالية العقل وبناء الشخصية الاجتماعية الواعية والعقول المبدعة القادرة على تبديّد الظلمات وتذليّل الصعاب؟

 

لقد آمن سعاده بأهمية العقل الذي هو جوهر الحياة الإنسانية وميزة الإنسان الأساسية والتفسير الكبير والصحيح لوجوده. فالعقل، برأيه، هو "الشرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة.."[xiii] فإذا "تلاشت ميزة الإنسان الأساسية"[xiv] وعطلنا الفكر والعقل، يقول سعاده: "عطلنا الإرادة، عطلنا التمييز وأنزلنا قيمة الإنسان إلى قيمة الحيوان."[xv]

 

وسعاده بنى نظامه الفكري على مناهج العلم وحقائقه وحثَّ على "محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والإستهزاء بالتعاليم على الإطلاق."[xvi] ودعا إلى معالجة قضايا الأمة بالعقل والعلم الصحيح والمعرفة اليقينية البنّاءة، المرتكزة على الحقائق الموضحة لا الأوهام السقيمة، من أجل تغيير المجتمع وتطويره. "فالعلم، برأيه، قوة لا بد منها من أجل التقدم إلى الأمام وغايته "هي جعل الحياة جميلة مجيدة حلوة."[xvii]  أما المعرفة، فاعتبر أنها "سلاح وعدة"[xviii] تستوجب عدم إغفال الحقائق الاجتماعية والتاريخية والعلمية وتشويهها بل الكشف عنها وإيضاحها لأن معرفة الحقائق هي قوة للمجتمع و"هي طريق ارتقاء الأمم الوحيدة من جميع الأديان."[xix]

 

وفي حركته القومية الاجتماعية الإصلاحية التي اعتبرها "حركة تجديدية في المناقب والأخلاق"[xx] والتي أرادها ان تكون "حركة الشعب العامة"[xxi]، زوّدَ سعاده تلاميذه بالتعاليم المناقبية ليصارعوا بها الرذائل والأمراض النفسية والمثالب الفاسدة المتفشية في المجتمع نتيجة خضوعه لعصور التقهقر والانحطاط، وقال: "إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في ‏الحياة قبل كل شيء آخر." [xxii]

 

والحق نقول أن التعاليم المناقبية التي جاء بها سعاده رمت لبناء مجتمع أمثل قائم على المحبة القومية والوحدة الروحية والإجتماعية وخالٍ من كل أشكال التفرقة والعصبيات والإنقسامات. ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من الإصلاح الرافض للأحقاد والضغائن والفتن الدينية والساعي إلى تآلف القلوب وتقريب النفوس وتحريرها وتوجيهها نحو غاية الأمة العظمى وقضيتها ودفعها للتضحية والبذل والعطاء ولمحاربة النزعة الفردية والأنانيات الحقيرة "التي تريد أن تأخذ ولا تعطي."[xxiii] فبدون العطاء وفضيلة التضحية وتأدية الواجب القومي لا يمكن ان تتحقق الغاية وتنتصر الدعوة القومية الإجتماعية.

 

وهذه التعاليم المناقبية أحيتْ في النفوس الإيمان والأمل والرجاء والرغبات السامية وزرعت فيها حباً نقياً صادقاً يولّد الهمم والعزائم الصحيحة ويحرّر النفوس من عبودية "النزعة الفردية" القبيحة وخصوصياتها المظلمة وينقذها من الإنهزام واليأس والإستسلام ويرتقي بها إلى رحاب المجتمع الواسعة حيث تتجلى جماليات النفس البشرية تعاطفاً وتعاوناً وتسامحاً وعطاء.

 

وهذه التعاليم المناقبية أضرمت في الصدور نار الإيمان البطولي الواعي ودعت إلى اعتماد البطولة المناقبية سلاحاً وحيداً في معركة الحياة. والبطولة المناقبية هي بطولة واعية ومؤيدة بصحة التعاليم، هي بطولة مُدركة وقائمة على الوعي والمعرفة والإيمان وعلى محبة المجتمع وخيره وحريته.. هي بطولة متجلّية في نصرة الحق وسحق الباطل، في فعلِ الخير والإقدام عليه، وفي تقديمِ ما ينفع المجتمع والخير العام حتى لو أدى الأمر للجُود بالنفس والتضحية الفردية.

 

إن البطولة الإجتماعية التي أيقظها سعاده بتعاليمه السامية جسَّدَها في مسيرة حياته تفكيراً وكتابة ومواقف. جسّدها في المدرسة، في السجن، في المحكمة، وفي مواجهة الطائفيين وسلطات القمع والطغيان.. وجسّدها في صبيحة الثامن من تموز، في وقفة العز على رمال بيروت، وهو يستخف بالموت ويتلقى رصاصات الغدر مكرراً ما في التاريح من أساطير الفداء.. في تلك الليلة الكالحة الظلماء، تجلّت البطولة النادرة في مواجهة العملاء المارقين والساقطين في مستنقعات الذل والخيانة والعبودية والعار.. حيث أكّدَ القائد الجريء أنه "لا يبيع الشرف بالسلامة ولا العز بتجنب الأخطار."[xxiv] وقبل دقائق من اختراق رصاصات الغدر لصدره، كان يردد الكلمات التالية: "أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت ... كلنا نموت، ولكنّ قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة."[xxv]

 

واقتداء بوقفة العز التي لا مثيل لها في التاريخ أمست البطولة الواعية نهجاً واضحاً للأجيال المتعاقبة وللمصارعين المؤمنين الذين تربوا في العز والذين وضعت النهضة القومية الإجتماعية على أكتافهم عبئاً كبيراً عظيماً، لأنها تعرف أن أكتافهم أكتاف جبابرة وسواعدهم سواعد أبطال.[xxvi]

 

في هذا الزمن الرديء، زمن الأوجاع والآلام والمآسي.. أوجاع الفقر والبؤس والجوع، وآلام النزوح والتشرّد والقهر والإذلال.. كم نحن بحاجة لنستلهم الدروس من رجل القضية، من ذي النفس الكبيرة الممتلئة حباً وإخلاصاً وجمالاً ورؤًى، من سعاده الذي لم يأبه للشدائد والأهوال والذي جسّدَ أسمى معاني التضحية والبطولات في مسيرة حياته التي ختمها بقيمة الفداء.. كم نحن بحاجة لنتمسك بإيمان هذا الرجل وبمحبته وصدقه وإخلاصه وبمناقبه الجديدة التي تعلِّمنا أن نرفض العيش الذليل وأن ندُوس على المثالب المنحطّة ونسير إلى المعركة لسحق التنين الشرير سحقاً نهائياً.

 

 

 


[i] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 48.

[ii] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول – مرحلة ما قبل التأسيس - 1921-1932، "ذكرى الوطن والأهل، عمدة الثقافة، بيروت،1975، ص 49.

[iii] جبران خليل جبران، العواصف، دار العرب للبستاني، القاهرة، 1920، ص 87.

[iv] أنطون سعاده، "ذكرى الوطن والأهل، ص 49.  

[v] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 43.

[vi] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 30.

[vii] المرجع ذاته، ص 21.

[viii] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 173.

[ix] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 69.

[x] خطاب الزعيم في الطلبة القوميين في الجامعة الأميركانية 16/05/1949.

[xi] "الصحافة السورية"، المجلة، بيروت، المجلد 8، العدد 1، 1/3/1933.

[xii] المرجع ذاته.

[xiii] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 127.

[xiv] المرجع ذاته.

[xv] المرجع ذاته، ص 156-157.

[xvi] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، سلسلة النظام الجديد 5، عمدة الإذاعة، الطبعة الرابعة، بيروت، 1977، ص 57.

[xvii] كلمة الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 6، 15/2/1948.

[xviii] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، عمدة الثقافة، بيروت، 1976، ص 117.

[xix] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، ص 115.

[xx] سعاده، "الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقبل المثالب"،  الزوبعة، بويُنس آيرس، العدد 79، 12/8/1944. منشورة في أنطون سعاده في مغتربه القسري، الآثار الكاملة، الجزء 12 (1944-1945)، ص 23.

[xxi] خطاب الزعيم في العيد القومي، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 71، 15/1/194.

[xxii] إعلان وإيضاح العلاقة مع جبران مسوح، الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 82، 4/11/1944.

[xxiii] خطاب الزعيم في مأدبة أبناء طرابلس، منشور في أنطون سعاده في مغتربه القسري - 1939، الآثار الكاملة، الجزء 6، ص 76.

[xxiv] المرجع ذاته.

[xxv] سعيد تقي الدين، حدثني الكاهن الذي عرّفه.

[xxvi] خطاب الزعيم في البقاع الأوسط، 23/04/1948، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 3، 1/5/1948.

 
التاريخ: 2021-07-08
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro