مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
القيم الجماعية وحرب تفتيت المجتمع
 
السبعلي، ميلاد
 

تتميز الجماعات البشرية بمجموعة من القيم المشتركة التي تنمو نتيجة تفاعل أعضائها مع بعضهم، وتترسخ من خلال العادات والتقاليد والممارسات. والقيم يمكن أن تكون فردية تتكون نتيجة تجارب او موروثات ذاتية، أو تكون جماعية عند جماعة معينة في مجتمع ما، أو جماعة عابرة للمجتمعات، وعندها يمكن الحديث عن الوعي الجماعي والذاكرة الجماعية والخيال الجماعي والهوية الجماعية والشخصية الجماعية، إذ يضيف الفرد الى وعيه بذاته وعيه باندماجه في جماعة ينتمي اليها ويتحرك من خلالها وينظر الى المجتمع والكون من خلال نظرتها وقيمها.

 

ويمكن أن تمتد القيم فيما بين الافراد والجماعات بالمحاكاة أو بالإكراه أو بالضغط أو بالتجاوب الإيماني أو بالتفاهم العقلاني الناتج عن التفاعل الحياتي، يضاف اليه مجهوداً عقلانياً للتفكير في القيم الموجودة والنقاش حولها وتحويلها الى قيم مشتركة أو إيجاد قيم مشتركة بديلة عنها مستمدة منها، مع اعتماد قانون حق الاختلاف واحترامه. ومع الوقت تتشكل للجماعة خصوصية متعددة المستويات، تنعزل أو تندمج مع الجماعات المتجاورة بحسب تقارب القيم الناتجة عن الاشتراك في الحياة أو المجهود الفكري-العقلاني.

 

ففي المجتمعات التي حصل فيها الوعي القومي باكراً، نرى الجماعات تقاربت فيما بينها داخل المجتمع، وعززت خصوصيتها القومية المتمايزة عن قوميات أخرى مجاورة. بينما في مجتمعات أقل تماسكاً، نرى الخصوصية قوية فيما بين الجماعات داخل المجتمع، لا بل أن هذه الجماعات قد ترى امتدادات لها خارج المجتمع أقوى من علاقاتها مع الجماعات المجاورة في المجتمع، التي تشترك معها في حياة واحدة لكن تحافظ كل منها على منظومة مختلفة من القيم.

 

وتتنوع هذه الجماعات بحسب قيمها ومعتقداتها والبيئة التي تنشأ بها. وقد شهدنا عبر التاريخ أن الجماعات الدينية أو المذهبية، التي تفرض على أعضائها منظومة موحدة من القيم والمعتقدات، حتى ولو تطورت ببطئ مع الزمن، تبقى من أكثر الجماعات مقاومة للذوبان أو التأقلم، برغم تفاعلها الحياتي مع جماعات أخرى في دورة حياتية واحدة، أو امتدادها في عدد من المجتمعات والبيئات المختلفة.

 

وقد اعتقد الكثير من العلماء والمفكرين أن مجرد التفاعل وتنامي المصالح المشتركة مع جماعات أخرى تشترك معها في الدورة الحياتية المجتمعية الواحدة كفيلة مع الوقت بصهر هذه الجماعات وبتشكيل قيم اجتماعية مشتركة. غير أن التجارب التي شهدناها في العقود الماضية، خاصة في مجتمعنا المتنوع دينياً وطائفياً ومذهبياً واثنياً، أثبتت أن ما اعتقدناه انصهاراً وطنياً واجتماعياً لم يكن سوى "تعايشاً" فيه الكثير من الباطنية والتكاذب والاحتفاظ بالكثير من القيم الخاصة بالجماعات المتنوعة، والتي بقيت قيماً ومعتقدات خصوصية قصرت عن التحول الى قيم مجتمعية موحدة جامعة، خاصة في المتحدات التي قل فيها الوعي وغابت عنها الأنشطة الفكرية العقلانية.

 

ومن الجماعات المتماسكة ايضاً من حيث القيم هي الجماعات الأيديولوجية، او التي تمتلك نظرة عقائدية موحدة لذاتها وللمجتمع والكون. وقد أثبت البعض من هذه الجماعات، مثل الجماعة القومية الاجتماعية أو الجماعات اليسارية والقومية الأخرى، قدرتها على تفعيل عملية التفاعل فيما بين أعضائها، الذين تجمعهم منظومة قيمية وعقائدية موحدة عابرة لخلفياتهم الدينية أو الطائفية أو الاثنية. غير أن مقاربة هذه المجموعات لمسألة الوحدة الاجتماعية في ظل التنوع والاختلاف الديني والإثني تختلف من مجموعة لأخرى. فاليسار بشكل عام عالج مسألة الدين بالرفض والتهميش، فنرى أن القيم الأساسية لهذه الجماعات تركز على المصالح الاقتصادية الاجتماعية، فيما مقاربة الشأن الديني غالباً ما كانت تتجه الى نوع من أنواع الإلحاد ورفض الموروث الديني والقيم المرافقة له برمته. فيما الجماعات القومية العربية أو المحلية في بلادنا، سايرت الواقع الديني والاثني، الى حد مزج القومية العربية بالإسلام المحمدي، ومزج القومية اللبنانية مع المسيحية، ودمج القومية الكردية بالإثنية الكردية مع مسحة إسلامية، والقومية الأشورية بالإثنية والكنيسة الأشورية. فيما الجماعة القومية الاجتماعية فصلت بشكل تام بين الدولة والدين، ودعت الى تحجيم دور وتأثير رجال الدين في السياسة والقضاء، والى إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، وسعت الى تأسيس قيم مجتمعية مشتركة مستمدة من التراث التاريخي والروحي المتنوع للأمة، مع ترك الحرية للأفراد في معتقداتهم الدينية، على قاعدة الاحترام المتبادل وعدم السماح لهذا التنوع بتشكيل متاريس واساسات للانقسام الاجتماعي. فيما انتشرت حركات الإسلام السياسي التي دعت بشكل مباشر الى استعادة الدولة أو الخلافة الإسلامية وتطبيق قيمها وأحكامها فيما خص الجماعات الأخرى في المجتمع والمحيط الاوسع. وبرغم أن نظرتها الى الغرب لطالما كانت عدائية، معتبرة أنه مصدر الشر والكفر، لكن المفارقة أنها نشأت بمعظمها في كنف الغرب واستفادت من تمويله وحتى دعمه السياسي المباشر أو من خلال حلفائه في المنطقة...

 

ومع التطورات العالمية باتجاه عولمة الاقتصاد ووسائل الاعلام والتواصل، سعت الليبرالية الغربية لتسويق قيم الغرب على أنها قيم كونية عابرة للقوميات والأمم. ونشأ في كل أمة ودولة، جماعات متأثرة بهذا النهج الليبرالي، متسلحين بفكرة الانفتاح العالمي ومسوقين للتطور الغربي على أنه الطريق الوحيد والاساسي لتطوير أممهم ومجتمعاتهم ودولهم. وقد سوقت لهذا التوجه السفارات الغربية والمنظمات الدولية وأغدقت المساعدات للبلدان من خلال هذه المجموعات الليبرالية والمنظمات المدنية وغير الحكومية لترسيخ وتعزيز هذا التوجه.

 

وأدى تعدد هذه النماذج من الجماعات وتضاربها، في مجتمع متنوع كمجتمعنا، الى مقاربات مختلفة لمسألة وحدة القيم ووحدة المجتمع. فركنت القومية العربية التي حكمت الشام والعراق مثلاً، الى الاعتماد على القيم الاسلامية العروبية كقيم مشتركة، فأقصت من جهة الجماعات الغير إسلامية عن المشاركة الفاعلة في بناء مجتمع موحد القيم والمفاهيم، وأصبحت من جهة أخرى عرضة للإختلافات فيما بين المذاهب الإسلامية المتناحرة على مدى قرون، من سنية وشيعية وعلوية ودرزية واسماعيلية وغيرها. فأهملت الى حد كبير توحيد القيم المجتمعية، وركزت على بعض القيم المشتركة المتعلقة بوحدة مصالح الحياة، معتقدة أن ذلك كافياً لتعزيز الوحدة الاجتماعية. غير أن ما حصل فعلاً أن الجماعات الدينية بقيت منعزلة عن بعضها، في العمق، ولكل منها قيمها وعاداتها وتقاليدها المتمايزة الى حد كبير مع الجماعات الأخرى التي تشترك معها في حياة واحدة على مر مئات السنين، والمتمايزة حتى في نظرتها الى الدولة ومفاهيم الحرية والعدل والكرامة والوطنية، فيما تتلطى بشعارات وطنية براقة خادعة أثبتت انها أعجز من مواجهة الأعاصير والتلاعب الخارجي. فيما لم تهتم الجماعة القومية العربية بتنمية قيم موحدة وتسويقها أو إقناع الناس بها، أو ممارستها كنموذج يحتذى. بل على العكس من ذلك، نخرت تجربتها العملية كل آفات الفساد والتخلف والمحسوبيات والتسلط التي وجدت هي للقضاء عليها اصلاً. مما خلق هوة قيمية بينها وبين الجماعات العقائدية وحتى الدينية الأخرى في البلاد، تغطيها الممالقة وتبادل المصالح الخاصة.

 

والجماعات اليسارية بقيت أسيرة تناقضاتها خاصة بعد سقوط الراعي السوفياتي وتجربته، وتفرقت الى فرق تتحالف مع جماعات أخرى متناقضة فيما بينها. وعند اندلاع الازمة في الشام، توزعت المجموعات اليسارية بتحالفات شملت كل الطيف السياسي من النظام الى الوسط الى "المعارضة الخارجية".

 

والجماعة القومية اللبنانية، التي ترتكز في نظرتها الى المجتمع وفي قيمها الى الدين المسيحي، لم تستطع تطوير نظرتها وقيمها الى نظرة وقيم مجتمعية موحدة، شاملة لكافة الجماعات التي يتشكل منها المجتمع، فبقي النظام اللبناني مثلاً منذ الاستقلال وحتى الحرب اللبنانية، نظاماً قائماً على الامتيازات الطائفية المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً. وبعد الحرب، لم تستطع الجماعات اللبنانية الطائفية من تطوير نموذج مدني جامع للدولة وموحد للمجتمع، بل ركنت الى الحد الأدنى الذي وزع موارد الدولة على زعماء الميليشيات الطائفية، أو ما سمي بالأقوياء في طوائفهم. مما أنتج نظاماً هجيناً يشكل فدرالية طوائفية غير معلنة، كلما اتفق رموزه تكون النتيجة استغلال موارد الدولة، وكلما اختلفوا يعطلون عملها، فيما كل جماعة طائفية تعمل على تعزيز مصالحها على حساب مصلحة المجتمع الموحد.

 

والجماعة القومية الاجتماعية، برغم عملها الدؤوب لتأسيس قيم مجتمعية واحدة مشتركة، اقتصر عملها على المجموع القومي الاجتماعي، مع تأثير محدود في المجتمع الواسع، نتيجة عقود من الاضطهاد والسياسات المجتزأة والتسوية على قيمها الجذرية، في خضم تحالفات سياسية مع قوى طائفية او قومية فضفاضة. وهذا ما أدى مع الوقت الى انقسامها الى جماعات متناحرة كل واحدة منها تتمسك بجزء من منظومة القيم الشاملة التي قامت عليها.

وفي ظل استمرار عجز هذه الجماعات عن بناء نموذج حديث للدولة ومجتمع موحد، تنشط الجماعات الليبرالية، مدعومة من الغرب، بحجة أن الليبرالية والقيم الكونية هي الحل لتطوير الدولة وعصرنة المجتمع وتحقيق التنمية الشاملة والاندماج مع التوجهات العالمية المعولمة.

 

كما تنشط في المقابل جماعات الإسلام السياسي، مبسطة الأمور بشكل شعبوي، ومعتبرة أن تخلفنا سببه ابتعادنا عن الدين الحنيف، وأن الإسلام قادر على حل كل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية وإعادة توحيدنا واستعادة أمجادنا السالفة. وبالتالي تسعى الى رفض كل ما هو قائم وتقويضه، والدعوة الى أنماط متعددة من الدولة الإسلامية، تبدأ بتطبيق الشريعة وتحديد دين الدولة، وتنتهي بدولة الخلافة.

 

نتج عن هذا الواقع مجتمع مفتت باطني ودولة غير عادلة وغير كفوءة ينخرها الفساد والتخلف والمحسوبيات والاستنسابية. وصارت نفس القيم تعني أشياء مختلفة لأبناء المجتمع الواحد من جماعات متعددة. فالوطنية والعدل والحرية والتسلط والحق والخير والجمال والابداع والبطولة والعمالة والمقاومة والتبعية والنصر والهزيمة والواجب والقوة والحكمة والتسلط والبطش والنظام والمحسوبية وغيرها، تعني أشياء مختلفة للجماعات المختلفة. لا بل أن بعض القيم تحمل معاني متناقضة لكل جماعة. فما يراه البعض قوة ومقاومة وحرية يراه البعض الاخر تسلطاً وبشطاً وتبعية. ما يراه البعض عدلاً ونظاماً وخيراً وواجباً وحكمة يراه البعض الاخر هزيمة ومحسوبيات وعمالة، الخ.

 

بهذا الواقع المهلهل واجه مجتمعنا الحرب الكونية التي هدفت الى تدميره من الداخل، مرتكزة الى ما يختزنه من عوامل تفجير مؤجل. فكان أن استثمر الغرب في تأمين الصواعق ومد الجماعات المتناقضة بالمال والسلاح والغطاء السياسي الدولي، وكانت جماعات الإسلام السياسي رأس حربة في هذه الحرب، كونها الأكثر عدائية لما هو قائم، والأكثر عدداً واحتقاناً، والأكثر نهماً الى السلطة، بهدف تحقيق الأفضل للجماعة، بحسب رأيها.

 

الحرب في الشام

 

لا شك أن هذه الحرب على الشام كان لها الكثير من الأسباب الخارجية التي هي خارج نطاف هذا المقال. لكن هناك ايضاً أسباب ونتائج داخلية لا تقل خطورة عن الأسباب الخارجية، لا بل أنها شرعت الأبوات للتدخل الخارجي وإعطائه مشروعية محلية.

 

فقد سمعنا الكثير من المديح قبل الحرب، خاصة من قبل الموالين للنظام القائم، للوحدة الاجتماعية والدولة المدنية العادلة الحديثة والاستقرار الداخلي والقوة والمناعة والقدرة على الصمود. في المقابل، كان هناك الكثير من المرارة الصامتة والأحقاد الدفينة والقيم المختلفة والنظرات المتناقضة للذات والمجتمع والكون. وقد أهمل النظام مسألة بناء انسان جديد موحد الهوية والانتماء والقيم والمعتقدات الأساسية، وتجاهل مسألة نظرة الجماعات الى بعضها البعض والى دورها في المجتمع. وقد أدى التركيز على بناء التوازن الاستراتيجي في القرن الماضي مع العدو، والاهتمام بالملفات الكبرى، الى إهمال كبير لهذه المسائل الداخلية الجوهرية، وتوهم الكثير من القيمين والمسؤولين أن حالة الاستقرار أصبحت عصية على المساس بها. ومع الانفتاح الذي شهدته البلاد بدخول الالفية الثانية، برغم كل الأنواء المرافقة، انشغل الكثيرون بشؤون الاثراء السريع ومكافأة أنفسهم والمقربين والمحاسيب، بعد عقود المواجهة، مهملين ما انتجه الانفتاح والتضخم من ضرب لمصالح الكثير من الجماعات والمناطق، خاصة الفقراء وذوي الدخل المحدود، مما زاد الاحتقان والحسد والحنق والتطلع الى تغيير الواقع.

 

على هذه الأرضية بنت الدول الغربية والعربية استراتيجيتها لضرب النظام، والاستثمار في الانقسامات المجتمعية واستغلال الشعور الدفين بغياب العدالة والتسلط والمحسوبيات والفساد، خاصة في ظل غياب المفاهيم الموحدة للأولويات والقيم المتعلقة بالسياسات الخارجية للدولة ومفاهيم الصمود والمقاومة والممانعة والمواجهة، التي حولها الاعلام المعادي الى مصالح لجماعة بعينها وتحالف مذهبي في المنطقة يمتد من طهران الى بيروت.

 

خلال الأزمة، تم استغلال الاختلافات في القيم والمفاهيم والأولويات بين الجماعات الدينية والمناطقية الى أقصى حدود، ورسمت الوعود الخلبية باستلام السلطة وهزيمة جماعات وصعود جماعات أخرى، وتم اللعب على أحلام وتطلعات بعض الجماعات الى دور أكبر في السلطة أو الى حكم ذاتي واستقلال وتحكم بمناطقهم. وعبثاً حاول النظام وآلته الإعلامية مواجهة هذا التهييج الإعلامي والطائفي، وغالباً ما وقع في فخ الطائفية المضادة، خاصة بعد استجلاب عشرات آلاف المقاتلين من فئة دينية معينة للمساهمة في اسقاطه. فاضطر أن يخوض حرباً على الإرهاب الذي الصق بتلك الفئة الدينية، وتمت الاستعانة بحلفاء من جماعات دينية متناقضة لها، مما عمق الشعور بأن الحرب هي فعلياً حرب مذهبية، وهذا ما أراده الغرب بالدرجة الأولى.

 

كل ذلك أدى الى تعميق الانقسام الداخلي وضرب النسيج الاجتماعي الواحد. وبرغم ما حصل من مصالحات وتسويات محلية في مئات القرى والمدن، أدت الى وقف التقاتل وعودة الهدوء، لكن هذا يشبه التوافق الشكلي والتعايش السطحي الذي كان قائماً قبل الأزمة، والذي بدى أو سوق له أنه وحدة وطنية متينة عصية على الاختراق، واستقراراً ثابتاً قادراً على الصمود وحماية المواجهة.

 

ما حصل هو توافقات مصلحية محلية. ما يجب أن يحصل هو تخطيط طويل الأمد، لبحث كيفية استعادة وتمتين وحدة النسيج الاجتماعي، والذهاب أبعد من تشابك المصالح بين ممثلي الجماعات، بينما تبقى كل منها محافظة على منظومة قيمها، التي قد تكون في العمق، متناقضة حتى مع حق الجماعات الأخرى في الوجود.

 

لذلك، مرحلة ما بعد الأزمة ليست فقط مرحلة إعادة إعمار ما تهدم من مبانٍ وبنية تحتية ومراكز خدمات عامة. بل يجب أن تكون في الأساس، مرحلة تحليل وتقييم عميق لما حصل، وأسبابه، وكيفية وضع استراتيجية جديدة لتطوير مفهوم المصالحة الوطنية من حده الأدنى المطلوب لوقف الحرب، الى وضع الآليات والأسس والخطط الكفيلة بحوار حقيقي بين الجماعات المتعددة، الدينية والعقائدية وأبناء المجتمع الذين يعتبرون انتماءهم الوطني يسبق ويعلو على أي انتماء جماعي آخر، من أجل تضميد الجراح وإعادة انتاج مفاهيم موحدة لمنظومة قيم مجتمعية واحدة، تؤسس لمجتمع موحد فعلا من اساساته الى قيمه وخططه وأولياته المستقبلية، وترسيخ ذلك من خلال تطوير منظومة تربوية ثقافية جديدة.

 

أحياناً تنتهي الحروب بغالب ومغلوب، فتفرض قيم المنتصر على المهزوم، وهذا ما كان يحصل في التاريخ السحيق نتيجة التناحر الداخلي الأولي بين الجماعات في مجتمع معين، وكما كان يحصل في الماضي القريب نتيجة غزو أمم لأمم أخرى، أو حروب اقليمية أو عالمية..

 

وأحياناً أخرى تنتهي الحروب، خاصة الداخلية منها، بشعار لا غالب ولا مغلوب، فتزال المتاريس، ولكن تبقى الجماعات متقوقعة داخل حبوسها الفكرية والقيمية.

 

نحن اليوم نتجه الى بداية نهاية العدوان على الشام، خاصة بعد انتصارات الجيش والقوى المساندة له واستعادة معظم المناطق باستثناء ادلب، وريف حلب والمنطقة الشرقية. ومن الواضح أن هذه المناطق خاضعة للتفاوض على النفوذ بين مجموعة دول من اميركا الى روسيا. غير أن مسائل إعادة الاعمار وعودة النازحين وانسحاب القوى الأجنبية المعتدية والمسلحين الأجانب الذين تدعمهم، والحل السياسي وإعادة الاعتراف بالحكومة السورية من قبل الدول الغربية والعربية التي قاطعتها على أساس أن النظام ساقط حكماً، إن كل هذه المسائل مرتبطة بتسويات دولية ومحاولات التأثير على الانتخابات الرئاسية القادمة في الشام في 2021.

 

لكن مسألة إعادة البناء الداخلي للقيم والمفاهيم المشتركة، وتخطي مآسي الحرب، والمصالحة والعدالة والمسامحة، وتفادي أخطاء وخطايا الماضي، خاصة لجهة بناء جيل جديد على أساس قيم جديدة موحدة قائمة على العلم والاختصاص العصري المحصن بالمسؤولية المجتمعية والوجدان الاجتماعي والوعي القومي العملي وتخطي سجون الجماعات الموروثة، واساليبها الغرائزية اللاعقلانية... إن هذه المسألة هي داخلية بامتياز، وبحاجة لرؤية جديدة وتوجه جديد ومشاريع جديدة. بل هي بحاجة الى ثورة في الفكر والوعي والعمل العقلاني لاختراق حصون التقاليد والعادات والقيم الجماعية المغلقة والخصوصية والتي غالباً ما تحقر او تكفر الاخر المختلف.. من أجل إعادة تحصين المجتمع في العقود القادمة تجاه اية خضات مماثلة بأشكال متنوعة، سيتابع العدو اليهودي وحلفاؤه الغربيين جهودهم لخلقها في مجتمعنا في سبيل المزيد والتفتيت والاقتتال وحرب المجتمع على ذاته، معتبرين أن ذلك هو الطريق الوحيد لهم للانوجاد في بلادنا وشرعنه الاحتلال والاستيطان وتأبيده والاعتراف به..

 
التاريخ: 2021-05-15
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة النهضة - دمشق، العدد 801، بتاريخ 31/7/2019
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro