مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
جوليات المير سعاده
 
الأمينة الأولى والمرأة القدوة
النزق، زكية سكاف
 

 

 

 

في ذلك اليوم الجميل رغبت جوليات المير بالذهاب في مشوار في الطبيعة، بدلاً من الجلوس مع ضيوف العائلة والتعرّف على الزائر الجديد الذي أخبرتها شقيقتها ديانا أنه زعيم حزب، لكن شعور داخلي وإحساس عميق دفعاها للدخول إلى صالون المنزل، حيث أهلها وضيوفهم يشربون الشاي. كان أحد الضيوف رجلاً شاباً مميزاً لفتَ نظرها بتعابير وجهه الجذّابة، وشخصيّته الأنيقة، ونظرته الشريفة العميقة، واحترامه ولباقته. كما لفتَ اهتمامها أنها عندما صافحته شعرت بطمأنينة في يده، وحينما حادثته أحسّت بعظمة نفسه وهدوء صوته. وعندما وضع لها السكر في فنجان الشاي أحسّت أنه وضع لها حلاوة الروح في قلبها.. وبحديثه عن مبادئ حزبه وقضية وطنه والنهضة التي يريدها في نفوس شعبه، شعرت أنه فتح لها آفاقاً واسعة في مداركها، وآمالاً كبيرة في رغباتها لحياة عز جديدة وافقت حقيقة نفسها، وانسجمت مع طموحاتها.

 

حينما قرأت جولييت كتاب مبادئ هذا الحزب ازداد فكرها نضوجاً وقلبها إيمانا بهذه النهضة. فانتسبت إلى الحزب مقتنعة بقضية سامية تساوي الوجود.

 

في الوقت الذي اهتم عقلها بالأفكار والمناقشات مع الزعيم، كان قلبها يخفق حباً واحتراماً لباعث النهضة الذي بادلها مسروراً هذه المشاعر الغالية الراقية. كانت ابتسامة شفتيه تملأ عالمها سروراً، وبريق النظرة من عينيه يشعّ في قلبها نوراً، ولطفُ كلامه يغمر صدرها حبوراً. أما عندما حدّثها بكلماته العميقة عن مشاعره وحب قلبه لها طالباً منها أن تكون شريكة حياته، قائلاً: "... وأنا قد أحببتك كثيراً وأحببت أكثر شيء فيك نفسك العظيمة.."[1]، حينها شعرت جولييت بفرح قلبها وحرارة حبها، مما زادها تقديراً للزعيم لأنها عرفت مكانة نفسها في قلبه، وأهمية وجودها في حياته. فوافقت مع يقينها بحساسية الموقف وخطورة المسؤولية، لأن الزعيم لا يعيش لشخصه فقط بل وهب فكره وحياته لأمته.

 

 كانت تلك الشابة الرائعة تنظرُ إلى جوهر الأمور لا إلى قشورها.. إلى شموخ هامة الزعيم لا إلى جيوبه.. وإلى إدراك عقله وسموّ عنفوانه لا إلى مظاهر تَرَفه ومقتنياته. كانت قد عرفتْ قيمةَ أخلاقه وغنى نفسه، فاعتبرته ثروة عمرها وألماسة حاضرها ولؤلؤة مستقبلها.

 

قال لها: "ألا تعجبك هذه المحابس البسيطة في تلك العلبة"؟

 

أجابته: "بلى ولهذه رمز بعيد وكبير."[2]

 

بهذه المحابس البسيطة طفح قلبيهما فرحاً، وامتلأت الدنيا حولهما زهوراً، فعزما على السير معاً بصدق وإخلاص في طريق الحياة الحرة السامية.

 

كانت تلك الخطيبة العاشقة التي تتفهم حبيبها وتقف إلى جانبه في لحظات حضوره، كما تؤثر في روحه في أوقات سفره.

 

وكانت الحبيبة الزكية التي تعلّمت اللغة العربية إرضاءً لرغبة زعيمها الذي لم يرضَ أن يقرأ رسائلها إن كتبت بغير العربية.

 

كانت واثقة من نفسها ومن حبه وإخلاصه لها وثقته بها، وقالت: "كانت ثقته بي أكبر وديعة في حياتي."[3]  بل وكانت تعرف أنها هي النور في حياته والضياء في قلبه. فحبهما الرائع الصافي يكمن في عقليهما الناضجين المدركين، وينعش نفسيّهما الواعيتين لحقيقتهما والمترفعتين فوق المصالح المادية، كما يغمر هذا الحب قلبيهما غبطة وسرور باعثاً فيهما الآمال والرغبات في الحياة معاً في عقد زواج قائم على الحب الأسمى والتعاون الصميم بمنتهى الصدق والنبل والوفاء والمسؤولية لتحقيق الخير والمثال الأعلى في حياتهما، وقد تم هذا الزواج في أوائل سنة 1941 وابتدأت حياتهما الزوجية.[4]

 

 عندما أصبحت زوجته زادت تتيّماً به وإعجاباً بشخصيّته الفذّة، فروت أفكارها من ينابيع أخلاقه العالية، وشدّدت عزيمتها من صلابة إصراره الفولاذي، وخصوصاً أنه كان يتعمّد محادثتها عن القضايا الخطيرة قائلاً لها: "إن المرأة تملك الحاسة السادسة وهي تحس بقلبها ما لا يدركه الرجل بعقله."[5] 

 

شاركت جولييت الزعيم صعوبات الحياة وشدائدها قبل يسرها، وقامت بالعمل خارج المنزل قبل داخله، واهتمّت بمتطلبات زعيمها وقضيته قبل حاجاته الشخصية. شاركته رؤيته الإنسانية ونذرت نفسها لها، وجسَّدت إنتمائها للحزب وتماهيها بالمؤسس متحمِّلة معه كل الصعوبات وأكدّت: "مررنا بصعوبات كثيرة منها المادية ومنها الحزبية،..."[6] 

 

عندما رزقا بطفلتيهما البكر "صفية"، أفعمَ الفرحُ قلبيهما، وزادت الحياة سعادة في منزلهما، ونبتت المسؤولية في إحساسهما، مما زادهما قوةً وإصراراً على مثابرة العمل لمواجهة صعوبات الحياة والكفاح لتأمين الحاجات العائلية وخصوصاً بعدما أن ازدادت عائلتهما طفلة جديدة أسمياها "أليسار". ففي تلك الظروف تدفق حب جولييت، وغزُرت تضحياتها وفاض عطاؤها لكل أفراد عائلتها.

 

حينما قرر الزعيم العودة إلى الوطن تحقيقا لمصلحة الأمة والقضية، كانت جولييت مُشجعةً له ومحفِّزاً لإرادته. في الوطن، أثبتت جدارتها كزوجة لزعيم الأمة من خلال عظمة شخصيتها، وهدوء نفسيتها، واتساع مداركها، وقوة إيمانها، وصلابة إرادتها، وروعة تواضعها، وسمو قيمها، وضياء نفسيتها، ورقيّ أخلاقها. وأبرزت قدرتها في إدارة شؤون بيت الزعامة، الذي كان مفتوحاً ليلاً ونهاراً للقوميين، وفي تنظيم أموره متحمّلة متاعب جمّة. كما برهنت أنها الأم المثالية لبناتها التي أصبحنا ثلاثة بعد ولادة "راغدة". فكانت تحافظ على علاقاتهن مع الزعيم الذي لم يترك فرصة ليراهنّ ويسعد بلقائهنّ إلا واغتنمها. وأيضاً كانت تهتم بتفاصيل حياتهنّ اليومية، وتغوص في أعماق أفكارهنّ لتبذر نواة الحق والخير والجمال في مفاهيمهنّ، كما تنير في نفوسهن شعلة الإيمان بالصراع من أجل حياة كريمة، وتشجعهنّ على الإعتماد على العقل في مواجهة صعوباتهن.

 

كانت الملاذ الأمين للزعيم في أجمل اللحظات وفي أتعسها، والصديق الوفي له في أصغر الإستشارات وفي أخطرها. تحدّت معه الشدائد لمواجهة مخططات أعداء الأمة والوطن منذ بدء حياتها معه وحتى ساعة استشهاده الذي سحقَ قوتها وهدم حياتها. قالت عندما سمعت الخبر: "فإذا كان هذا الخبر صحيحاً فالدنيا كلها هُدمت أمامي والبلاد خربت بوجهي."[7]  فكانت صدمتها صاعقة وجراحها أليمة لكنها تغلّبت على معاناتها، واستعادت قوتها لتتابع مسيرة زعيمها وتقوم بواجبها القومي نحو أمتها. فكانت تلك المرأة التي عهدها الزعيم في حياته كما في غيابه، فلم تكن الأم لبناتها فحسب، بل كانت أماً لكل القوميين، وكان بيتها بيت الزعامة مفتوحاً لهم جميعاً.

 

 ولكن ما إن تداوي الأمينة الأولى جرح حتى يدميها الزمان بجراحِ أعظم. لقد شطر قلبها الدهر عندما فرّقت الشرطة بينها وبين بناتها مصطحبةً إياها إلى سجن المزة، الذي بقيت فيه سنوات طويلة ومن ثم نُقلت إلى سجن القلعة لتمضي ما تبقى من فترة سجنها هناك. كان كل تفكير هذه الأم الحزينة في مستقبل بناتها ومصيرهن، كما كان تفكيرها كأمينة أولى بمصير الحزب ومستقبل الرفقاء. إن هذه القدوة أضاءت ظلام السجون بنور النهضة، وتحدّت قساوة العذاب بوميض الحرية، كما أفشلت مؤامرات السّجّانين عليها بحدة ذكائها، وفرضت إحترام شخصيتها بنبل أخلاقها.

 

نالت الأمينة الأولى حريتها المشروطة بمغادرة البلاد التي أحبتها، فخرجت من بوابة السجن لتدخل في باب الطائرة التي حملتها إلى باريس لتلتقي بفلذة كبدها أليسار ومن معها. ولكن ما إن سنحت لها الفرصة للعودة إلى لبنان، كما تقول الأمينة أليسار، حتى "عادت والشوق يغمرها .. تريد أن تمضي ما تبقى من العمر في ربوع بلادها التي أبعدت عنها قسراً، تارة بالهجرة، وتارة بالسجن، وأخرى بالإبعاد.... ودخلت والدتي مجدداً في صراع مع المرض انتهى بوفاتها في 24 حزيران 1976."[8]

 

غادرت الأمينة الأولى الحياة بجسدها، لكنها بقيت خالدة في المجتمع بإخلاصها لمبادئ زعيمها وبأعمالها التي قامت على التضحيات والعزم والثبات وممارسة واجبها القومي، وهدفت إلى خير هذا المجتمع وتحقيق مثله العليا، معبّدة درب النضال المستقيم بجرأة وعزة نفس.

 

فكانت الحبيبة الأولى، والزوجة الأولى، والأم الأولى، والمناضلة الأولى، والأمينة الأولى.

 

[1] مذكرات الأمينة الأولى، جولييت المير سعادة، الطبعة الأولى 2004، بيروت، ص 58

[2]  نفس المصدر، ص 62

[3]  نفس المصدر، ص 61

[4]  نفس المصدر، ص 65

[5]  نفس المصدر، ص 68

[6] نفس المصدر، ص 67

[7]  نفس المصدر، ص 114

[8]  نفس المصدر، ص 8

 
التاريخ: 2021-07-01
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro