مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
اللقاء السنوي السابع مع سعاده 2015 - تحية إلى محمد البعلبكي
 
ضهور الشوير - العرزال
إعداد: مؤسسة سعاده للثقافة
 

 

 

كرمت مؤسسة سعاده للثقافة ضمن فعاليتها السنوية "اللقاء السنوي السابع مع سعاده 2015" نقيب الصحافة السابق الاستاذ محمد البعلبكي في ضهور الشوير، حيث قدمت له درعاً تكريمياً بالمناسبة. في البداية، كانت كلمة لرئيس المؤسسة الأستاذ حليم فياض وقال:

 

 

 

كلمة الأستاذ حليم فياض

 

 

 

أرحب بكم أجمل ترحيب في هذه الأجواء المثقلة بالرموز والعابقة بالعطور، ففي رحاب سعاده، نستلهم سيرته والقدوة ونستنير بعقيدته وفكره.

 

بهذه المناسبة أود أن أنوه بنشاطات مميزة قام بها بعض أعضاء المؤسسة.

 

فالسيد جهاد حسان تولى تجديد وتأهيل بيت الاستقلال في بشامون. والسيد جواد عدره استعاد قطع أثرية فلسطينية ستقوم المؤسسة بعرضها في 2 و3 و4 تشرين الثاني هذا العام.

 

كما أتوجه بالتحية لروح الأعزاء المؤسيسين الدكتور هشام شرابي والدكتور منير خوري والسيدين أديب نضر وغانم خنيصر.

 

وبعد،

 

يتساءل المرء ونحن في رحاب مؤسسة ثقافية، ما الجدوى من هكذا مؤسسات  في خضم الأزمات الوطنية والسياسية والاجتماعية المتفاقمة. باعتقادي ان الجدوى تتأكد في مثل هذه الأجواء القاتمة. من أوصلنا الى هذا الدرك  اليسوا هم طغمة الجهلة الذين  يتحكمون  بالعباد والبلاد؟ وكيف السبيل الى مكافحتهم اإا بالعلم والفكر والثقافة.

 

رجال الفكر والعلم والثقافة لهم من القيم التي انطبعوا عليها ومن الأخلاق التي تشربوها ما يعصمهم عن الصغائر والكبائر. أما أولئك الجهلة فقد أعمت أبصارهم كل مفاسد الدنيا من لصوصية وإنتهازية وأنانية.هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟.

 

لقد تنكرت هذه الطغمة لأمانة العمل من أجل مصلحة الشعب – هذه الأمانة التي أوكلت لها بحكم المواقع التي احتلتها زوراً في هيكلية المجتمع والدولة. هذه الطغمة السياسية، بإستثناء عدد قليل من العاملين في الحقلين الوطني والسياسي، قد لفظت أنفاسها الأخيرة بفعل سرطان النفايات. لقد ماتت هذه الطغمة ولم تدفن بعد. ترى أليس إكرام الميت دفنه  ولكنها لا تستحق حتى الإكرام اوالكرامة.

 

السيدات والسادة

 

استمحيكم عذراً لإقحامكم في مثل هذا القول. ولكن الواقع ان الحالة المزرية التي نعيش قد اقحمتنا جميعاً في جوالشكوى ودفعتنا الى تشخيص الداء والإدانة القاطعة لمسببي هذا البلاء وكل بلاء آخر. سرطان النفايات -  الزبالة – يجب ان يودي بالطغمة الحاكمة الى مزبلة التاريخ.

 

السيدات والسادة

 

هذه المناسبة هي لتكريم الصديق العزيز النقيب محمد بعلبكي الذي أمضى حياته الحافلة عاملاً من أجل قيام مجتمع معافى ودولة قادرة تقينا مما وصلنا اليه. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.

 

يحضرني في هذه المناسبة ببيت من الشعر من قصيدة نهج البردى:

 

مدحت العالمين فزدت قدراً          وحين مدحتك أجتزت السحابا

 

وشكراً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة النقيب محمد البعلبكي

 

 

ثم القى النقيب محمد البعلبكي محاضرة تحت عنوان: "ذكرياتي مع سعاده"، تحدث فيها عن العلاقة التي كانت تربطه بالزعيم أنطون سعاده واللقاءات بينهما وقال:

 

بدأت أكتشف شخصيّة الزّعيم أنطوان سعاده من خلال المقابلة الأولى ومن ثمّ من خلال المحاضرات التّي كان يلقيها وكنت أحضر معظمها. وكنت أحضر هذه المحاضرات بعدما كنت عدت من رحلتي إلى بريطانيا، وسبق أن ذكرت أنّي نشرت مقالاً أحدث ضجّة، وأفسح مجال المناقشات الكثيرة. هذا المقال كان عنوانه: "هؤلاء الأربعون مليونا". لكنّ ما  انتهى هذا النّقاش لنتيجة حاسمة. وكنت لا أزال عضواً في حزب النّداء القومّي فعلى أثر حضوري لسلسلة المحاضرات التّي كان يلقيها الزّعيم سعاده في رأس بيروت  وسبق وذكرت أنّه كان ملاحقا ًورفعت مذكّرة التّوقيف بحقّه. والسّلطة اللّبنانية كانت تفرض نوعاً من الحظر على أخبار أنطوان سعاده في الصّحف وحتّى على اسمه يعني كانت توحي للصّحف بذلك بصورة غير رسميّة ولم يكن هناك إذاعات ولا  تلفيزيونات. من هنا كانت الصّحافة وسيلة الإعلام  الأولى والوحيدة فتوحي السّلطة للصّحف أن لا يذكروا شيئا ًعن أنطوان سعاده ولا عن نشاطه فكان هناك تعتيم كامل  حتّى على إسمه  إنّما بصورة غير رسميّة  أيّ بإيجاءات غير مباشرة. وبالحقيقة فلقد كنت أحترم الرّجل بنظري في مستواه وفي أسلوبه في معالجة الموضوع الفكري في الشّأن القوميّ. يعني استوقفني هذا الأمر كثيرا وتساءلت بيني وبين نفسي: لماذا يكون هذا الحظر على  فعل هذا الرّجل. صحيح إنّه حزبي ورئيس الحزب، وصاحب دعوة معيّنة، لكن لماذا لا يكون هناك نقاش حرّ في هذا الشّأن ولماذا لا يفسح المجال لرجل من هذا النّوع  والمستوى أن يدلي برأيه بحريّة؟ فكان أن دعوت الزّعيم سعاده إلى نشر مقالات في "كلّ شيء". فاستغرب الرّجل في المرة الأولى، وكان لقاؤنا الأوّل في منزل ركن الحزب صديقي الأستاذ عبدالله القبرصي. وتمّ اللّقاء الثّاني في بيروت بينما كان أوّل لقاء في ضهور الشوير فاستغرب الزّعيم سعاده أن يسمع من أحد الصّحافيين رغبة بإفساح المجال له أن يكتب مقالات. فقال أنت تعرف أنّه يوجد نوع من الحظر وإن كان غير رسميّ فهل أنت مستعدّ أن تكسر هذا الحظر؟  فقلت: أنا عم أطلب منّك لأنّي مؤمن بحريّة الفكر. وكان الرّجل يبثّ أفكاره  بشكل سرّي عبر هذه المحاضرات فلماذا لا يبثّها بشكل علنيّ وتكون محل مناقشة حرّة عامّة بين الناس فإذا كانت مخطئة فلتصوّب وإن كان فيها صواب فليعرف هذا الصّواب. وسبق أن ذكرت كم كانت كارثة فلسطين فاعلة في نفسي فعل الزّلزال فدعوت إلى نشر مقالات في صدى لبنان فوعدني بأن يدرس الموضوع وإذ بي أفاجأ في يوم من الأيام بمقال أرسل إليّ من قبله وحتّى دون توقيع وعنوانه  الحزب القومي حزب أجنبيّ. وهو الّذيّ وضع العنوان بنفسه وهوعنوان يلفت النظر ويجذب القارئ. ممكن أن يظهر بأنّه حملة على الحزب القوميّ إنّما القصد الحقيقي كان تبرئة الحزب القومي من هذه التّهمة. لأنّ الحزب القومي تعوّد أن يتّهم بأنّه تارة حليف النازيين وتارة حليف الفاشيين ومرّة حليف الإنجليز يعني كان دائما يتّهم بأنه عميل لقوة خارجية. فأراد زعيم الحزب رفض هذه الإتهامات من العنوان لهذا المقال على هذا الشكل... غير انه ارسله بدون توقيع وكأنه صادر عن الجريدة او ما ورد من الزعيم انطون سعاده شخصياً. فنشرنا المقال واذ بنا بعد نشره نتلقى سيلاً من الرسائل كلها شتائم وتعريض للكرامة وتهديد وتأنيب !!

 

لماذا ؟

 

أتتهمون الحزب القومي بأنه حزب أجنبي؟، طبعاً صدرت هذه الرسائل من حزبيين شباب متحمسين. فأخذت يومها هذه الرسائل وعرضتها على انطون سعاده. قلت له يا أخي ان هذا الأسلوب الذي احببت ان تتبعه سيورطنا بأمر لا أنت تريده ولا نحن. ولا هذا كان القصد من دعوتك للكتابة ونشر المقالات. فضحك، قال: أنتم صدركم رحب وهؤلاء شباب متحمسين لم يدركوا ابعاد المغزى الذي في المقال، رأوا العنوان قبل ان يقرأوا المقال فرأساً تحمسوا. فقلت: شوف. اذا بتريد تستمر في هذا الأمر يجب ان تكون المقالات موقعة بأسمك بشكل صريح حتى يكون فيه تحمل المسؤولية، ويعرف ان كاتب هذه المقالات هو زعيم الحزب. فوافق على ذلك وقال لي: لا يمكن. هذه المقالات تستفز الناس لأنها عبر ما يشتهون من الأفكار، فكري انا غير فكرهم، ومن الجائز ان تضعكم في موقف حرج بعلاقاتكم مع الآخرين... لا أريد ذلك. فقلت له: نحن مستعدون ولكن بشرط ان نقرأ المقال بعد ان ترسله الينا فإذا كان لدينا ملاحظات نتنافش وخصوصاً فيما يتعلق بأحكام القانون.

 

لن نتدخل في جوهر فكرك، الذي تحب ان تعرضه في هذه المقالات، ولكن اذا تضمن ما يتعرض للقانون ويعرض الجريدة للملاحقة وللتعطيل القضائي نتباحث فيه قبل نشره. فوافق الرجل وبدأ برسل لنا المقالات. ومن أهم المقالات التي صدرت مقال عنوانه "العروبة أفلست؟" وكان يقصد ان الفكرة القومية العربية هي ان كل هذا العالم العربي أمة واحدة وقضية واحدة لكن هو يختلف بتفكيره، اذ يعتبر ان العالم العربي مجموعة أمم عربية، وهناك قضية عربية. صحيح، ولكن القضية القومية مخلتفة حسب إختلاف الأمم.

 

وتابع سعاده كتابة مقالاته حتى نشر له بعد فترة مقال: "العروبة افلست" فكان له دور كبير وأحدث ضجة في الأوساط المؤمنة بالقومية العربية وخصوصاً أوساط (حزب النداء)، الذي كنت لا أزال منتسباً اليه. فأخذ الأخوان ينافشونني ويلمونني لفتح مجالٍ من هذا النوع في جريدتي. فقلت لهم انه صدر لي في العدد نفسه في "كل شيء" مقال لي في مكان آخر بعنوان "العروبة لم تفلس".

 

وناقشت انطون سعاده وحاولت ان اناقش تفكيره بالمنطق، وبطبيعة الحال لا بالتهجم ولا بالإنفعال بل الجدال الفكري، إيمانا مني بأني كنت لا أزال عضواً في حزب النداء وأدعو الى هذه المناظرة والمناقشة والصراع الفكري الحر، فلم تسوه الأمور، وانتهى الأمر بانفصالي عن حزب النداء وكنت صريحاً ولم ينته الأمر بالخفاء، ودعوت يومئذ الى إعادة النظر في كل الأفكار لتعميقها وتبيان مواضع النقص والخلل. واستمر الأمر بنشر مقال لأنطوان سعاده اسبوعياً. وسلسلة هذه المقالات التي صدرت في "كل شيء" هي آخر ما كتبه انطون سعاده كرجل فكر وكمؤسس للحزب القومي. وآخر ما كتبه في حياته قبل إعدامه. وكذلك تعتبر أهم المراجع الفكرية والحزبية بتاريخ الحركة القومية الإجتماعية ومجال التعرف على حقيقة فكر سعاده. ومقال "العروبة افلست" اعقبه سعاده بمقال آخر بعنوان "والإنعزالية اللبنانية افلست" وبطبيعة الحال قامت قيامة الفريق الآخر وأحدث ضجة كبرى وتابعنا ننشر هذه المقالات ولما روجعنا من قبل اصدقائنا الذين كانوا في الحكم، كان موقفنا واضحاً وصريحاً اذ اننا ننشر المقالات تمسكاً بحرية الرأي وافساح المجال امام كل انسان ان يقول ما يشاء ويعبرعن فكره بحرية كي تتصارع كل هذه الأفكار فيما بينها وينشأ منها الفكر الأقرب للصواب خدمة للقضية الوطنية وبصورة خاصة للقضية القومية بعد كارثة فلسطين عندما كان يفتش الجميع عن السبيل الأصوب لخدمة القضية العربية وقضية فلسطين بشكل خاص...

 

وهكذا كنت مؤمناً بالحوار الفكري ومؤمناً بأن هذا الحوار هو السبيل الحضاري الأصح لمحاولة بلوغ الحقيقة. فمن غير الحوار الصريح العلني الحر غير المقيد بأي عقد والمتنزه عن اي عقدة نفسية اوفكرية سابقة، ممكن تفهم الآخرين او محاولة بلوغ الحقيقة، وأقول "محاولة" لأن بلوغ الحقيقة ليس بالأمر الهين. واني اعتبر الحوار شأناً اساسياً في الحياة. خصوصاً بين اللبنانيين وهذا الحوار ممكن ان يكون متسعاً لدرجة يشمل كل المواضيع التي يمكن ان تبحث في العالم العربي، وهذا البلد تبقى له قيمة اذا بقي الحوار فيه حراً وبقي له متسع عندنا. وهناك بيت شعر قديم احب ان اذكره في هذه المناسبة وهذا القول يعود الى 1300 سنة لا اذكر من قاله فهو شاعر قديم قال:

 

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها                         ولكن اخلاق الرجال تضيق.

 

فالبلاد تتسع للجميع، شرط ان يحترم المواطن حق المواطن الآخر بالحرية وحقه في الحوار. وكما استشهدنا ببيت شعر قديم نستشهد بيت شعر حديث وهو القائل:

 

ما دمت محترما حقي فأنت اخي                  آمنت بالله أم آمنت بالحجر.

 

فهذا الجو هو الذي يوفر الإحترام المتبادل بين المواطنين ويوفر الأجواء الديمقراطية لتأمين التقدم الفعلي في كل مجالات الحياة سواء الفكرية او السياسية او الإقتصادية او التربوية... في كل مجالات الحياة واني مؤمن بهذا المبدأ من ذلك الزمن. لا أخفي بأن هذا الإيمان جعلني اتحمل بعض نتائج سؤ الفهم من أخوان أعزاء عليّ. وذكرت كيف صار انفصالي عن حزب "النداء القومي" علماً بأن هذا الإنفصال لم يؤد الى انفصام عربي المودة والأخوة بيني وبين إخواني في حزب النداء بإعتبار ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فهذه المقالات "مقالات انطون سعاده" كان لها دور كبير واثر بالغ وافسحت المجال لمناقشات علنية بين مختلف الفرقاء. واذكر انه تصدى للزعيم انطون سعاده زميلنا الكبير الأستاذ محمد النقاش، واخذ يناقشه في جوهر الموضوع. كما تصدى له ايضا المرحوم الأستاذ انيس النصولي في جريدة "بيروت". وكان من نتائج هذه المقالات ان اقدم المفكر العربي الكبير ساطع الحصري على وضع مؤلفاته في التوعية العربية لتوضيح أسسها. يعني كان لهذه المساجلات نتائج إيجابية من الناحية العامة. ثم من ناحية خاصة فيما يتعلق بشخصي: هذا الأسلوب الذي اتبعناه مع صاحب هذه المقالات، وهنا أريد التوضيح بأن لم يكن وحده يكتب في "كل شيء" بل على العكس كان هناك كتّاب من مختلف المراجع الفكرية، يعني مثلاً كان يكتب لنا الدكتور جورج حنا من أقطاب الحزب الشيوعي، والمهندس انطوان ثابت كذلك من أركان الحزب الشيوعي. وكان يكتب ايضا العلامة الشيخ عبد الله العلايلي المعروف بإتجاهاته الفكرية وكذلك كان يكتب في "كل شيء" شباب من الجامعة الأميركية من أصحاب الفكرة العربية القومية. يعني كانت "كل شيء" منبراً فكرياً حراً. وهذا الأسلوب اعتمدناه مع مؤسس الحزب القومي اذ وافق على ان ينشر مقاله الأسبوعي بعد ان نعيد النظر فيه في جلسة خاصة كما افسح المجال لعقد جلسات طويلة فكرية كل اسبوع. وكان هذا المقال مناسبة لإعادة النظر، فكانت الجلسة فكرية تستمر ساعات وساعات ويتشعب فيها الحديث في الشأن الفكري والشأن العام.

 

وكان يحضر هذه الجلسات بعض أركان الحزب. مثلا اذكر السيد جورج عبد المسيح – المرحوم فؤاد ابوعجرم - الأستاذ سامي نجار من أركان الحزب ولم يكن هناك تحديد لعدد الحاضرين، انما حسب ما يكون عند الزعيم من زوار. لكن لم يكن بين الحضور من كانت لهم انتماءات أخرى. كلا لأني كنت اقصد الزعيم الى منزله في رأس بيروت حيث اليوم شارع المكحول مقابل كنيسة السيدة الأرتوذكسية وكنت اقصده الى منزله بموعد معين ومحدد دائماً وكان هذا يوم الأربعاء بعد الظهر، لأن الجريدة كانت تصدر ظهر الخميس. وكان مقاله يصدر في الصفحة الأولى مع آخر ما يهياً للطبع وكانت "كل شيء" جريدة اسبوعية امتيازها يومي. فكانت هذه الجلسات تستغرق ساعات وساعات يعني تنطلق من عبارة واحدة وكان لي ملاحظات عليها من ناحية قانونية او بعض الإستيضاحات من ناحية فكرية. فننطلق من هذه العبارة او من هذه الفكرة لنتناول مواضيع فكرية عميقة تتشعب معنا. وفي هذه الجلسات اكتشفت في انطون سعاده رجل فكر كبيراً جداً وقديراً في النقاش وعنده القدرة على الإقناع. وهذا لا يمنع انه كان يقتنع مني احياناً بضرورة حذف بعض الفقرات او تبديل بعض العبارات بحيث يصدر المقال من غير ان يؤدي الى ملاحقة قانونية او تطاله أحكام قانون المطبوعات.

 

الجلسات الطويلة، كانت بالحقيقة ذات اثر كبير في فكري في تلك الآونة، اذ اطلعتني على أفكار اخرى غير الأفكار التي كانت شائعة وغير الأفكار التي آمنت بها. وهذا دفعني الى ان اتبع الطريقة "الديكارتية" اي طريقة "ديكارت" الذي عمل وانطلق من الشك، في كل الأفكار السابقة اذ اعتمد ما يسمى "دابل راز"، وان تقبل على المواضيع المطروحة بذهن متجرد ومنفتح، لتفهم كل فكر آخر. هذا امر مهم جدا جعلني بالنتيجة اتكل على دراسة مبادئ جميع الأحزاب وأفكار جميع الحركات والإتجاهات ليس فقط في لبنان والعالم العربي بل في العالم حتى اقدر ان اثقف نفسي في هذا المجال تثقيفاً اشمل وأكمل وسعياً وراء الحقيقة التي يمكن ان تقنع فكري حتى تناول هذا الأسلوب شأن المعتقدات التي تتعلق بما وراء الطبيعة، يعني رجعت ابحث حتى في موضوع الألوهة والوحي وسائر الأفكار. يعني رجعت الى اللاهوت؟ لكن لم تكن  لدي الرغبة لإنكار الإيمان إنما رغبة في تفهم الموضوع بشكل أعمق.

 

وفعلاً هذه المرحلة كانت ذات فائدة كبيرة وأحب في هذه المناسبة ان أقول اني استمرِت على هذا المنوال الى ان حصل عام  1949 حادث إصطدام بين الحزب القومي وحزب الكتائب. اذ كان للحزب القومي جريدة اسمها "الجيل الجديد" وتطبع في مطبعة في مجلة الجميزة، وكان سعاده يتوجه يومياً الى هذه المطبعة، ليكتب مقاله الإفتتاحي في الجريدة من غير توقيع وكان يشرف على شؤون الجريدة ويكتب المقال الذي يريد ان يكتبه. ولكن في يوم من الأيام حصل الإصطدام بين الكتائب وبين الحزب القومي ووقع بعض الجرحى وتمكن سعاده في ان يخرج من المطبعة ويعود الى منزله لكن اصدرت الحكومة يومئذ قراراً فورياً يحلً الحزب القومي وملاحقة رئيسه وأركانه، مما جعل سعاده يتسلل من لبنان ويلجأ الى دمشق. صدر الحكم ليس فوراً بعد الحادث. يومها صدر قرار من الحكومة بحلِّ الحزب السوري القومي الإحتماعي وملاحقة زعيمه وأركانه. بطبيعة الحال هذه الملاحقة أدت الى توقف سعاده عن نشر مقالات في كل شيء أولاً لأنه متعذر عليه عملياً لأنه صارت تعتبر مقالاته مخالفة للقانون. يعني رجل ملاحق قانوناً والحزب محلول، وهذا صار يشكل مخالفة للقانون في هذه الفترة – وهذا حصل في أوائل حزيران 1949 وفي هذه الفترة كان حسني الزعيم أجرى انقلابه في دمشق وقبض على زمام الحكم واصبح رئيس الجمهورية. وكان هناك صراع بينه وبين الحكم اللبناني بإعتبار ان الحكم اللبناني كان على صلات تعاون مع الحكم السوري الذي اطاح به حسني الزعيم – اي حكم الرئيس شكري القوتلي. ففكرت بزيارة لدمشق في هذه الآونة. وفي أحد الأيام قال لي مدير المطبوعات في ذلك العهد – وكان رحمه الله – الدكتور صبري قباني صاحب ومنشئ مجلة "طبيبك"... المجلة اتي اخذت دوراً كبيراً وانتشاراً واسعاً – والدكتور صبري قباني كان رجلاً فاضلاً ومن أحاديثي معه أيقنت انه على صلات ود مع الحزب القومي وقد يكون منتسباً فإذ به يسألني في احدى الزيارات: ألا تريد ان تزور انطون سعاده؟ فقلت له: "وهل بالأمكان؟" هذا شأن اعتبره هاماً جداً. أولاً لأن الرجل صديقي وثانياً ممكن ان اجري معه سبقاً صحفياً. تصور اني بصدد إجراء حديث مع زعيم حزب ملاحق في لبنان، فقال لي: "اذا كنت تريد المقابلة فأنا مستعد ان اؤمنها لك". مددت إقامتي في الشام ورتّب لي الموضوع وإذ به يأخذني (اي الدكتور صبري قباني) ومعه مدير الشرطة في تلك الأيام العقيد ابراهيم الحسنبي وكان موقعه مهماً هناك. ذهبنا آنذاك الى أحد المنازل وتبين لنا بعدئذ انه منزل مدير فندق (اوربان بالاس) السيد نجيب الشويري، الذي كان من أعضاء الحزب وكان يستضيف في منزله الزعيم انطون سعاده قبل انتقاله من الفندق. فدخلنا على الزعيم مستأذنين فرحب بنا الرجل وشكر قدومي وحرصي على مقابلته وأخذنا نتحدث عن الوضع في لبنان وعن الملاحقات، وكانت الحكومة في البداية أوقفت أكثر من ثلاثة آلاف شاب من شباب الحزب القومي، إنما مثل كل شيء يبدأ في البلد كبيراً ويعود يصغر مع الوقت. فقلت له: "طيب يا أخي تنزل على العدلية ويستجوبك النائب العام بكلمتين وبعد ذلك تلغى مذكرة التوقيف. هكذا سبق ان حصل. وأذكر ان قلت له: والله الأمور تتحسن يمكن ما عاد فيه توقيفات من كل هؤلاء الآلاف الذين أَدخلوا السجن سوى عشرين شخصاً ومع الوقت تعود الأمور لتبرد وكل شيء له حل. فما عليك الا ان تصبر وتعطي الوقت والمجال لحل المشكلة. فقال لي: "أهكذا ملاحظ انت؟ وانشاء الله خيراً واني كتير مسرور... فلم أخذ حديثاً لأنه لم يكن  بالإمكان ذلك.

 

وتذكرت بعد ان أعلنت الثورة وبعد عودتي من دمشق بثمانية ايام فقط اننا سمعنا ان سعاده أعلن الثورة المسلحة ضد الحكم اللبناني، واخذ القوميون يهاجمون المخافر والتلفاز في المناطق. وذكرت ان أول ما دخلت على سعاده في منزل نجيب الشويري لاحظت في مدخله شباباً عاكفون على خرائط كبيرة وعندهم حقل مساطر كأنهم كانوا على باب قوسين من عمل استراتيجي فكري. وفهمت بعد إعلان الثورة انهم كانوا يدرسون على ما بدا كيف انهم سيتحركون عسكرياً وأين يجب ان يهاجموا او أن  يشنّوا المعارك. وفي تلك الحال لم يقل لي شيئا الزعيم سعاده، او يعرب عن نية إعلان الثورة. واعتقد انه لو كاشفني بالأمر باعتبار اني لم أكن قد انتسبت للحزب فهذا امر سري للغاية ولا يمكن حتى لأعضاء كثيرين من الحزب الإطلاع عليه، فما أورد شيئاً على الإطلاق في موضوع الثورة المسلحة. ولو أطلعني على شيء من هذا الموضوع لكنت بالتأكيد طلبت إليه ان يعدّل عن رأيه لأن الأمور كما سبق وذكرت كانت آخذة في الحلحلة وكانت الدعوة للثورة مفاجئة. وفي نهاية اللقاء يومئذ حصل انتسابي للحزب امام زعيم الحزب لذلك ولما بعد ثلاثة أيام أعلنت الثورة كانت مفاجأة لي أولاً، ولكن تفهمت لماذا لم يطلعني لأني لم اكن انتسبت بعد الى الحزب. واني أعتقد اني حتى فيما لو كنت انتسبت للحزب فأنا لا ازال حديث العهد وعضواً عادياً فليس مألوف ان يطلعني على مثل هذا الموضوع الخطير. فتفهمت هذا الامرُ وما استمرت الثورة الا 48 ساعة وقضي عليها في المهد لأن الأسلحة التي زوّد بها حسني الزعيم الحزب كانت فاسدة وغير ذات جدوى. وبعد ذلك انتهى الأمر بتسوية بين حسني الزعيم وبين الحكومة اللبنانية بتسليم انطون سعاده للحكم اللبناني واشترط حسني الزعيم ان يعدم انطون سعاده على الفور حتى لا تنكشف عملية التسليم. وفي الوقت الذي سلّمَ فيه انطون سعاده كانت جريدة "كل شيء" أول جريدة تنشر الخبر في صدر صفحتها الأولى وقد سلم فجر الخميس وأحيل للمحاكمة العسكرية فوراً قبل ظهر الخميس وعلمنا نحن ان انطون سعاده صار في المحكمة العسكرية وقيد الإعتقال فنشرنا الخبر في الصفحة الأولى يعني سبقنا كل الصحف وكان للخبر طبعاً اهمية محلية ودولية. وحصل ما حصل بعدئذ في المحاكمة العاجلة التي لم تراع فيها الأصول القضائية. واعتذر يومئذ المحامي الكبير الأستاذ اميل لحود الذي طلبه سعاده ليدافع عنه. اعتذر عن المرافعة لأنه وجد ان جو المحكمة لا يفسح في المجال لحرية الدفاع القانوني الأصولي وان الأمر مدبّر ولا بد من الإنتهاء من هذا الرجل بشكل او بآخر. وهكذا صدر الحكم بالإعدام ونفذ بالرجل في فجر اليوم التالي. وافاق الناس صباح ذلك اليوم وفي الصحف خبر إعدام انطون سعاده زعيم الحزب القومي الاجتماعي . طبعاً فعل هذا الأمر الكثير في نفسي خصوصاً اني كنت قبل بضعة ايام موجوداً عنده وانتسبت لحزبه في ذلك الظرف.

 

الآن بطبيعة الحال صار الحزب يلقى تعاطفاً من الناس نظراً الى طريقة إعدام سعاده. أما أنا فكنت لا أزال عضواً عادياً. ولكني أمارس الصحافة في جريدتي إلى ان حصلت حادثة إغتيال الضابط السوري الكبير عدنان المالكي على يد بعض الشباب القوميين في دمشق. فهذا الحادث حين حصل كنت في الولايات المتحدة كما سبق ان ذكرت والجريدة تصدر بإشراف رفيقنا الأستاذ سعيد تقي الدين للدفاع عن الحزب. لكن وقع الحادث مهم جداً هو حادث إغتيال الضابط السوري غسان جديد الذي كان عضواً في الحزب القومي وبعد حادث المالكي لجأ الى بيروت، وأخذ ينشط مع الحزب وطبعاً ضد الوضع القائم في دمشق. فهذا الحادث حصل في شارع السادات واني لا ازال اتذكر ان غسان شديد كان يرفض ان يكون معه مرافقون او حراس وكان يتنقل بصورة جد عادية وربما هذا سهل إغتياله على يد أحد الأشخاص الذي انتحل صفة بائع خضار وانتظر حتى صار خارجاً من المكتب فاغتاله في الشارع وكان للحادث ذيول لأنه حصل في عهد الرئيس شمعون بعد ان انتهى عهد الرئيس بشارة.

 

 

وتلا المحاضرة أمسية فلكلورية بعنوان "سهرة من بلاد الشام" أحيتها فرقة "اماكن" بقيادة المايسترو اندريه الحاج. ثم أولمت المؤسسة على شرف البعلبكي في عشاء تكريمي.

 

 

 

 

 

 
التاريخ: 2015-08-22
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro