[عندما التقيته في عيادة الدكتور فايز شهرستان – وهي من أعجب الأمكنة التي من له غرض ما أو حظ، تردد عليها ذات تاريخ وتنعّم بميزاتها -، في وسط دمشق، في ربيع العام 1988، شعرت مباشرة، وكأنني وصلت إلى ما أبحث عنه، فرددت وتمتمت في داخلي: الأمينة الأولى… سامي الجندي… نعم. هذا الرجل هو ضالتي، ودون أي إبطاء توجهت إليه بالتساؤل التالي: دكتور، أنا أعرف قصتك مع الأمينة الأولى، وما كان موقفك من سجنها وقرار إخراجها، وبالطبع لستُ الوحيد الذي يعرف ذلك، بل الغالبية العظمى من القوميين الاجتماعيين يتداولون اسمك باحترام وتقدير ومحبة – كان ينظر إليّ وهو ساهم قليلاً – فهل يمكن أن تكتب لنا مقالة عنها، لننشرها في ذكرى وفاتها في حزيران القادم؟
أنهيت كلامي، لأجد الدكتور سامي الجندي، وقد انتصب واقفاً، وظننت لوهلة، أنّه ربما سيغادر غير مكترث بطلبي، غير أنّه وقف في وسط غرفة المكتب، متوجهاً نحوي، بما يشبه الاحتجاج والاستنكار وربما التأنيب، قائلاً: مقالة عن الأمينة الأولى!! مقالة وحسب!! أنا الذي يعرفها ويعرف من هي… – وتابع بلهجة قاطعة -أنا يمكنني أن أكتب مجلّداً عنها.
عاد إلى كرسيه، مواصلاً كلامه الذي بدأ يأخذ إيقاعاً متوتراً، بلغةٍ مزيجٍ من الفكر والأدب الشخصي والمرارة من تاريخ، ليس فيه ما نعتّز به سوى آلامنا وأوجاعنا وصبرنا على الظلم! لم يكتف سامي الجندي، في تلك الجلسة، باستخدام قدراته الأدبية في الحديث المسهب عن الأمينة الأولى وسعادة والظروف التاريخية التي رافقت قصتهما التراجيديّة، بل ترك لعينيه أن تدمعا … ليصيبني بعدوى التأثر، فسقطت دموعي، وكأني أبكي على مشهد كنت فيه، وهو مستمر في حديثه بإيقاع كربلائي لا يرحم، ما أجبر الأمين الدكتور فايز على التدخل بمنحنا (شفّة كونياك) لنلتقط مشاعرنا قليلاً، ولنستعيد برودة التفكير ولغته ومنطقه.
الحديث عن سامي الجندي يطول ويطول لكثافة المعاني التي تكتنفها سيرته، وتلك الجلسة طالت وتشعبت، ولكنها انتهت بوعدٍ منه، بأن يرسل مقالته بحدود أسبوع. وقد فعل ذلك، وحمل الأمين نورس مرزا المقالة من سلمية وسلّمني إياها في دمشق، وأعددناها للنشر، حيث ظهرت في مجلّة البناء – صباح الخير، العدد 637، تاريخ 25 حزيران 1988.
هذا النَصّ، الذي كتبه سامي الجندي، استثنائي، بأشخاصه، بمن كتب عنها: جولييت المير سعادة. بكاتبه: الدكتور سامي الجندي. بلغته ومستواها، بمضمونه ومحتواه. أكاد أقول هو نَصٌّ / ندٌ، أو هو موازٍ وشقيقٌ لنَصّ (حدثني الكاهن الذي عرّفه)، للاستثنائي في كل الأوقات، سعيد تقي الدين.
في العام 2019، صدر كتاب باللغة الفرنسيّة للسيدة ريجينا صنيفر، عن الأمينة الأولى، بعنوان: امرأة في مهب رياح (زوبعة) سورية الكبرى / Une femme dans la tourmente de la Grande Syrie ، والكتاب لم يكن أن تكتبه السيدة صنيفر لولاّ أنَّ (إشراقة نورانيّة) حدثت لها ذات يوم.
قبلها، وفي مطلع ستينيّات القرن العشرين، السجين سامي الجندي التقى السجينة جولييت المير سعادة، في مشفى سجن المزة، وبعد لحظات من تعرّفه إليها يقول:(شيئاً فيَّ تبدّل). هي نفسها (إشراقة نورانيّة) عصفت به، وهو القادم من موقع (المُختلف) بل (الخصم)، وليصل إلى موقع السلطة بعد وقت قصير، ويمسك بـ (السوط نفسه) الذي جُلد فيه ألاف المساجين الأبرياء، وهو نفسه كان منهم في يومٍ ما.
تبدّل شيء ما في سامي الجندي، عندما قابل الأمينة الأولى، فتبدلت أسئلته الكبرى، وليرمي السوط، من يديه عندما كان في السلطة ويحترف الحرية.
لم يتمكن سامي الجندي، من كتابة مجلّد، عن الأمينة الأولى، كما قال في (لقاء العيادة)، ولم يتمكن من وضع باقة نرجس على قبرها، غير أنَّ النَص الذي كتبه، وننشره هنا بمناسبة مرور 45 عاماً على وفاتها، أوسع من مجلّدات، بمعانيه وفرادته، وأجمل وأبقى، من باقة نرجس، يقطفها (سيّاف الزهور) ويقتلها الوقت.
مقال الدكتور سامي الجدني
كانت البهيمة تسعى في ديارنا، تمرّغ رؤانا بهوى الانهيار التاريخي… العناء الذي نكابده لا يمكن أن يكون سوى تعبير عن الانحلال. عواطفنا نفسها، بعضٌ منها. القاتل والقتيل، السجين وحامل السوط: كلاهما مدمِّر، حيّ دون أن يحيا. كلاهما فيه نفس السمات. نفس التعبير عن المرحلة… كلاهما غير أهل للسمو ما لم ينفصل عنها…
عذابنا، أننا كنا نتوخّى يقظة الفجر وهو لا يستيقظ…!
كانت البهيمة تسري في دمائنا، وحال الوطن، بنظري، أكوام خرائب وغباراً تُعمى له الأبصار. تساءلت أكثر الأسئلة جدية، وأحسست برعدة في كياني:
لو أمسكت أنا نفسي بالسوط، ماذا أفعل؟
كانت خشيتي ألاّ تؤدي آلامنا جميعاً، إلاّ لانتقال السوط إلى أيدينا ونغدو نحن المُعذِّبين.
وتحوّل عندي كل شيء إلى رمز: أي رمز؟ ذلك الذي يعبّر بشكل ما عن صورة من صور المصير.
صلوات جاري الخائف، غدت نغماً افتقده ولو أني منذ زمن يشبه أمداً تاريخياً حنثت بكل الآمال التي تتطلع إلى المجرّات، ووجهت صلواتي للأرض مبدعة الأحزان والقتام وحارسة القيامة… بلى القيامة، التي نُعدّها بضنى أجسادنا وسقام عواطفنا… قتامي نفسه كان مصدره الخوف من أن أغدو صانع قتام، وأن يتحول رفضي إلى إقبال على ما يتمخض به القطيع من ثغاء ونفاق وشراسة.
كان يقلقني سؤال ممض: أليس بعضنا على الأقل خارجاً على المرحلة؟ ألا يوجد بعض عصاة رفضوا كل قوانين المجتمع، كأنهم أجسام لا تخضع لعوامل الجاذبية؟ أنا، ألست من أولئك العصاة؟… ألم أرفض في عقلي وقلبي وسكناتي كل ما تقادم عليه المجتمع المنحلّ؟ ألا يمكن للرفض أن يكون نقيض كل خضوع، حتى الخضوع لقوانين التطور؟
كل شي غدا لدي… الحارس الذي يحصي عليك أنفاسك لعل سيده يصغي لتقريره وينقده ثلاثين دانقاً غير مقدسة… وحامل السوط الممرَّغ بالدم وعضلاته المفتولة وتوقّعه لصراخ الأنبياء الصغار الذين لم يكن كفرهم بما تقادم عليه الإنسان… والمحقق الذي يحلو له السهر قريباً من انبلاج الفجر، عدو النعاس والطمأنينة… متى ران أحدهما فَقَدَ خيط الجريمة… أية جريمة؟ جريمة اختيار العذاب مقدمة لاختيار الانتحار… لكن الرمز المقدّس كان نحن، رغم كل شي… كل ما عدانا إكراه ونحن اختيار.
ويؤسفني أننا اخترنا أن نكون قدوة لا شهداء… أما إذا حان الحين وفُرضت علينا الشهادة (نعم فُرضت) فقد كان فيما بيننا شبه اتفاق ألّا نفرّ منها أو نتنكر لمصير الأمة الشهيد.
قلت للحارس (صار يُسمح لنا بأن نكلمه بعد أن صرنا أصدقاء لطول العشرة وأكل الخبز والملح معاً): ما تفعل في الممر؟
قال: أضع فيه سريراً لامرأة سوف تجيئنا الآن.
مشفى سجن المزة(1) أفضل بكثير من ذلك البناء الشبيه بقلعة، الراسخ على قلب جبل ليس فيه ذرة من شمم الذرا. من فضائله (أعنى المشفى) أنك تستطيع أن تتكلم أحياناً فتسمع صوتك وتحس بإنسانيتك.
قلت: امرأة بين الرجال… كيف؟
وذهب الممرض / الحارس فكلّم عريفه في الأمر ثم جاء بالموافقة فانتقلت إلى الممر… أصبحت أقرب إلى الشجرة التي تحاذي الحائط وتتجاوز فروعها العليا الطبقة الثالثة…
منذ أيام أحلم بالنوم تحت ظل الشجر، كما كنت أفعل في القرية حين تشبع بقرتنا “نجومة” وتفيء هي أيضاً إلى ظل شجرة صفصاف على الساقية.
بعد قليل جاءت امرأة… أف!! أعرفها… من صور المجلات… أعرف كل حكايتها منذ أن خفق قلبها بحكاية العشق، حتى آب إلى وداعة الصبر…
وضعت أشياءها القليلة على السرير ثم جرّت كرسياًّ على حافة النافذة… عجيب…! إنها صورة جدتي التي علّمتني أول ما علمتني الحوقلة والبسملة وسائق الأظعان بعد أن حشرت فيها أخطاء النحو جميعاً. ورنّ في أذني صوتها شجناً ذا وجع كربلائي…
سائق الأظعان يطوي البيد طي
منعماً عرج على كثبان طي
ابن الفارض والحنين الحزين إلى ما لا يوصف ولا يرقى إليه…
قالت: صباح الخير… واستأنت قليلاً، وأضافت: مين حضرتك؟
هممت بأن أقدم لها اعترافاً كاملاً بخطئي وصوابي وخطيئتي ومعصيتي وسجاياي. أن أقول لها من أنا عارياً عن كل زيف وغرور. لكني اكتفيت بالقول: سامي الجندي وكأني أُعرّف على سواي.
كدت أقول لها والآن باتت معرفتي أفضل. كأنك جدتي العزيزة التي كنت أشكو لها إذا ضربني أبي.. لست بحاجة لمعرفة اسمك… وتملّت عيناي من وجهها. درست خطوطه وتعابيره في لحظات. بعض الوجوه تظل خفية عليك قرناً كأنها طلسم، وبعض تحزر كل ملامحه ومخبآته، في لحظات.
قلت في نفسي وقد زال أيّ شك فيها: هذه المرأة لا يمكن أن تقتل…!
جدتي بلغت ما يقارب التسعين عاماً، لم ترتكب خلالها خطأ… لم تتلوث يداها بأي دم. وها هو وجهها أمامي على حافة النافذة، سوى أنه اليوم أكثر كآبة واحتراقاً، ملفّع بطمأنينة الصبر والزهد بكل شيء حتى بالحرية… كنت أقرأ في ملامح جدتي الغضب والفرح والحزن… أمّا الآن فقد بت أميّاً أمام هذا السفر الذي يضن على الصديق الجديد بمخبآته. له طريقة خاصة بالبوح أدركت منها كل شيء… عين جدتي كانت زرقاء لامعة، ربما كان ذلك بريق الحرية في عيون البسطاء. أما هنا فقد أضفى التحديق الذي لا تفصح عنه، بأزمة غياب الوطن عن واقعه، على الزرقة شجياً، بهياً بذبوله. عين جدتي كانت كعيون الجدّات في ضيعتنا مولعة بالدموع، تتجاوب مع عتابا الدفن والجنازة… فتتراكض اللآلئ على صفحة وجنتها الطفولية… لكن العين التي تنظر إليّ على بعد مترين، تبدو لي جافة. نسيت فن الدموع والبكاء… اقتربتُ أكثر من عينيها… كأني اكتشفت أرضاً جديدة… وراء الشبكية مستودع الدموع… كأني استطعت أن أنفذ إلى أعماق الجسد فأرى السبيل الذي تسلكه من القلب حتى تصل أطراف الجفن… مملكة شاسعة بين قطبين بعيدين يتمكن خلالها الصبر من ردع العين عن البكاء… ترى، ألم تكن تبكي جولييت سعادة في ساعات الأرق الطويلة الفارغة من أحلام الأمل؟ ألم تذرف الدموع أمام ذكريات عشقها الأبدي، وسقف السجن ينظر إليها بعيون رسمها شحّار الدخان، فغدت قادرة على أن توقظ التمزق الذي ينهش الفؤاد بأنياب سرطان حقود؟
ضبابة حزينة ترين على العين، غامضة… فما تعرف أحزينة هي من أجل القتيل، قتيلها، أم من أجل القاتل الذي قتل دون أن يدرك من قتل ولماذا قتل؟
تثيرني أحياناً المغفرة المسيحية فأدعو للحقد والضغينة، ثم أرتد إلى المنطق الذي يجب أن يتبناه من يعتبر نفسه مسؤولاً أمام التاريخ… لكن القتلة ليسوا من التاريخ… حكم الإعدام، أي حكم بالإعدام منذ الصليب، بل قبله وحتى الساعة، هو خارج على منطق التاريخ، لأنه من غير منطق الحياة… أحاول أن أدرك من أين ورثه الإنسان… من أي جيل بشري؟ من أية حقبة؟ ويضلّ بي البحث لأن معالم اللؤم تظل خفيّة على براءة المفكر.
لكن، في عينيها كبراً لا يخلو من الغرور… كبراً منحها إياه قتيلها نفسه. موته هو ميراثه الخالد الذي خلّفه لها ولكل من ادّعى أنه من ذريته… التضحية بالدم إرث يتركه لأنقياء القلب واليد…
حين ذلّ الأذلّون وهوى الأنبياء الكذبة أمام حذاء الطاغية(2) المُضطَهِد وأرّخوا لأنفسهم أدنأ تاريخ، ووقعوا أسود صحفة، ظل قتيلها صافي العين والفكر والروح إلى أن قضى دون أن يندّ عن أية بادرة يأس.
لا أدري – لما رأيتها – لماذا شغلتني المقارنة بين إرثي وإرثها، فأطرق غروري استيحاء أمام ذكرى صفحة حقيرة، وخط أعرفه وعليه توقيع لم تحمرّ وجنته خجلاً، لأن صاحبه كان يتحلى بوقاحة النسيان… والسياسة حادة الذاكرة، تظل يقظى لأنها ما تنفك تقدم كل لحظة حسابها للتاريخ.
قلت لها: ما الأمر؟
أرتني كتلة في أسفل عنقها لصق أعلى الصدر… أعرف هذه الكتلة… قضت بها جدتي… إنّه السرطان، سرطان الأحزان…
دخلت جدتي إلى غرفة ابنها الذي في السابعة عشرة، فوجدته ميتاً. وانتقلت إلى غرفة ابنتها التي في التاسعة عشرة فإذا بها أيضاً ميتة… طاعون الحرب العالمية الأولى… خرجت إلى الإيوان الذي بين الغرفتين فأحسّت بأن زلزالاً يتقاذفها، فقعدت وانفجر الزلزال في أسفل العنق، لصق الصدر، لكنها قاومته ستاً وثلاثين سنة… لكم تعذّبت في سنتها الأخيرة. كان أنينها يشبه انسحاق العظم على حجر. أزهر النرجس على أنينها، كان دواءها المهدئ الوحيد. حملنا لها الباقات من البريّة كي تضعها على جسدها فيخف الألم…
أما جدتي الثانية فلن تعيش كل تلك المدة… رأيت في عينيها جنازة… أية جنازة؟ لم أستطع أن أجد لها اسماً… الموت لا اسم له غير الموت.
في ساعات الكآبة يرهف الحدس فتصدق النبؤات… كم رغبت في أن أعينها في بلواها. نادوها فغابت نصف ساعة ورجعت.
قالت: رأي اللجنة الطبية، مثل رأي الطبيب الذي فحصني هناك. أستودعك الله.
ورجعت إلى سريري ووحدتي، لكن شيئاً فيّ تبدل… ربما يكون موقفي من السرطان. أليس القدر سرطاناً، أليس القدر ضد النبل؟ صبرها الرواقي العجيب بدا لي فوق طاقة البشر… هل أختار أنا الصبر؟ وما أفعل بنزقي؟ لقد استنتجت أن الرفض المطلق يجب أن ينبثق عن الصبر لا عن النزق… عن أناة المتأمل وغضبه، لا عن سورات العبث العابرة.
قلت في نفسي: سوف يخرجونها من السجن. لا يمكن أن يبقوها فيه ما دام هذا مرضها. صرت أسأل عمّ حلّ بها؟ لم يأخذ أحد على نفسه المسؤولية.
خرجتُ من السجن بسند كفالة، وورائي قضية أقل حكم فيها عشر سنوات وأكثر، من يدري؟ وفتق غضروفي، ظننت في السجن أني لن أشفى منه، وأنا لم أشف منه حتى الآن. تعايشت معه.
لم نتخل عن القضية. تابعنا في السر وأحياناً في العلن. ملآنا الشوارع بالمظاهرات الطيارة وبياناتنا واستمررنا بالتآمر مع كل القوى… القوميون الاجتماعيون لم يكونوا إلى صفنا، ولا أدري إن كانوا يومئذ إلى جانب الحكم…؟ ولم أنس زيارتها للمشفى… ظل مصيرها يقلقني…
وتراخى الحكم، ثم ما لبث أن هوى تحت ضرباتنا الموجعة. وأصبحت في أول وزارة تلته وعضواً في المجلس الوطني لقيادة الثورة، ناطقاً رسمياً باسمه(3).
بعد عدة شهور. أقدّر في أيلول من نفس العام. زارني صديق قومي اجتماعي(4). بعد أن تحدثنا في أمور مختلفة، قال:
قدرت أنه يريد أن يسألني ما رأيك في سجنها؟
قلت: ليست قاتلة… ولا متآمرة.
قلت: “الضمانة الوحيدة التي أهتم بها هي الموقف الأخلاقي العادل. إن إنقاذ المواطنين مما يحيق بهم هو واجب المناضل، وليس البقاء وزيراً. فلتتقدم بطلب إلى المجلس الوطني لقيادة الثورة…”.
بعد أيام جاءني المرحوم الدكتور عبد الخالق نقشبندي زميلي في الدراسة والبعث والوزارة والمجلس الوطني. قال: “اقرأ… منذ سنين لم أبكِ، أما اليوم فبكيت…
كان عاطفياً، حنوناً سخي العين واليد… لا يتردد عن المكرمة…
قرأت: عريضة وقّعتها بنات الأمينة الأولى…
قلت: حولها إلى المجلس…
وفي الجلسة الرسميّة توليت شرح القضية والدفاع عنها، وأشهد أن الأعضاء جميعاً دون استثناء وافقوا على اقتراحي بإخلاء سبيلها…
**************
في باريس(5)، قالت لي السكرتيرة: سيدة تطلب مقابلتك…
إنها هي… محياها مازال سجيناً. لكن، بعض مرح طفولي يطل من بؤبؤ العين. كان لقاء ذوي قربى مضى على فراقهما أمد طويل…
أحسست باستيحاء شديد: “على ماذا؟”.
لم تجب. انتقلت إلى مواضيع أخرى… لم تذكر شيئاً عن السجن. لم تذكر شيئاً عنه في كل مقابلاتي لها. لم تذكر حرفاً عن كل الإهانات التي لحقت بها. كانت بريئة من الحقد… تحب فحسب… تحب من كل أعماقها…
قبل أن تنتهي الزيارة. رنّ جرس الهاتف. تناولت السماعة. تقول السكرتيرة أن نقيب المحامين في فرنسا يريد أن يكلمني.
نقيب المحامين هو سلطة في فرنسا. لا يُسأل مثل هذا السؤال. كانت أزمة قضية كوهين في الأوج والهاتف لا يهدأ وطلبات المقابلة عديدة من مختلف المستويات. زوجة كوهين من بينها… كلها تريد أن أطلب من حكومتي الرأفة به.
قال: سأكرر، أنا نقيب المحامين…
لما انتهت المخابرة، رجعت إلى جلستي معها… تورّد وجهها ورجعت بنت عشرين أو أقل.
ودعتني إلى أن أزورها في بيتها في الحي اللاتيني…
ذهبت … بيت متواضع ونظيف، ومعها أليسار وصور أحبائها على الجدار.
كانت راجعة من أفريقيا… قدمت لي غطاء سرير من حرير مشغول (أظن إذا لم تخني الذاكرة أنه من شغلها) ورأساً من عاج أفريقي… أما الغطاء فمخبأ، وأما الرأس فكلما نظرت إليه ذكرتها.
حين دخلتُ سجن القلعة العتيد. زاد احترامي لها. كانت تزعجني فيه أصوات جناح النساء: بغايا وسارقات وصياح… قلت: أيّ عذاب تعذبته في رفقتهن جولييت المير سعادة؟ سألت عريفاً قضى ردحاً من الزمن هناك:
ضحك العريف وقال: “لقد حولتهن إلى نساء مهذبات لا يرفعن صوتاً. تقوم كل منهن بواجب الخدمة في جناحهن والمطبخ… ويصغين إلى حديثها دائماً… جعلت منهن وطنيات متحمسات يناقشن في السياسة”.
وتبدلت الأحوال واضطررت إلى أن أسكن بيروت. رآني أحد القوميين فقال:
أخذت رقم الهاتف وطلبت منها موعداً. كنت أمر في أصعب فترات حياتي. أبحث عن الصديق فلا أجده. أبتعد عنهم خشية إحراجهم… كان استقبالها حاراً أخوياً أعاد لي الإحساس بأن بلادنا في خير. أكدت لي ضرورة أن أعتبر بيتها بيتي… وكذلك فعلت… تماديت قليلاً، لأني اعتبرت كل بيوت القوميين بيتي ولو أني لست منهم.
وأتت أحداث بيروت والدم والدمار وبات السفر إلى بيتها صعباً (نعم السفر لأن الذهاب من حي إلى حي قمين بأن يكون النهاية) وحل الهاتف محل الزيارة. كل أسبوع أسأل عن صحتها وأحوالها حتى إذ “أبطأت” سألت هي.
ثم السرطان مرة أخرى، والأوجاع، وعدم السماح بزيارتها، والخبر الأخيرلأل على الصفحات الحزينة.
أحسست أن وريداً مني بتر وأنّ إطاراً أسود مما تزدان به صور الموتى قد توضع حوالي القلب… كم وددت لو أضع على سريرها الأخير باقة نرجس.
ذات مرة، كنت في المقهى مع عدد من الأصدقاء… مرت أليسار. حانت منها التفاتة فرأتني. رَجِعت على عجل كي تحيي. سلّمت كما تسلّم البنت على أبيها بعد غياب.
قال قومي كان معنا: الله الله أليسار سعادة وسامي الجندي!!
استغربت، أنّه استغرب!!
—————————————–
هوامش
1-اللقاء الأول بين الأمينة الأولى والدكتور سامي الجندي، حدث في مشفى سجن المزّة، عندما كان معتقلاً، بسبب نشاطه السياسي، بعد سقوط الوحدة مع مصر.
2-يشير سامي الجندي هنا، إلى عهد حسني الزعيم (آذار – آب 1949)، وتحديداً إلى حادثة استدعائه للزعماء السياسيين، وإذلالهم في باحة القصر الجمهوري، عندما تُركوا ينتظرون وهم بوضعية دائريّة، إلى أن أطلّ عليهم حسني الزعيم بعصا الماريشالية، ليتعهدوا بالطاعة له.
ميشيل عفلق، تم سجنه وأرسل لحسني الزعيم رسالة استرحام شهيرة – ورغم الادعاء لاحقاً بأنها انتزعت منه قسراً، إلاّ أن الجندي لا يأخذ بهذا القول-، وفي ذلك ما يفسر شعوره بالعار، وهو أحد المؤسسين للحزب الذي زعيمه عفلق.
3-وصل البعث إلى السلطة في الثامن من آذار 1963، وتم تعيين سامي الجندي عضواً في قيادة الثورة وناطقاً باسمه، فضلاً عن تنكبّه حقيبة وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
4-إن مَن قابل سامي الجندي في أيلول 1963، طالباً منه المساعدة في الافراج عن الأمينة الأولى، هو الرفيق المعروف نقولا خوري.
5-استقال سامي الجندي من مسؤولياته، واعتذر عن تشكيل الحكومة، إثر حركة جاسم علوان، واختار أن يكون سفيراً في باريس، حيث قابل الأمينة الأولى للمرة الثانية في مقرّ السفارة. ومن ثم توطدت علاقته معها، وخصوصاً في بيروت، بعد أن أصبح ملاحقاً من حكومة البعث في دمشق.
—————————————————————————————
جولييت المير سعادة
تعرّفت جولييت المير، على أنطون سعادة في العام 1939، في مغترب الأرجنتين، وارتبطت معه بعلاقة قوية توجت بالزواج في العام 1941. عادت إلى الوطن بعد أن سبقها سعادة في العام 1947. بعد استشهاده في 8 تموز 1949، انتقلت مع بناتها صفيّة وأليسار وراغدة، إلى دمشق، ومع اغتيال العقيد عدنان المالكي في نيسان 1955، في حادثة معروفة ومدبرة، اعتقلت إلى جانب الآلاف من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، وظلت في السجن، إلى أن أفرج عنها في 26 أيلول 1963، بعفو خاص صدر عن مجلس قيادة الثورة، بعد عرض قدمه الدكتور سامي الجندي. كتبت مذكراتها في العام 1966، ولكنها لم تصدر إلاَّ في أواخر تسعينيّات القرن الماضي. حازت على رتبة (الأمينة الأولى)، فيما كان زوجها الزعيم يناديها: ضياء. كانت وفاتها في 24 حزيران 1976، بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان.
سامي الجندي
سياسي وأديب وطبيب أسنان، ولد في مدينة سلميّة في العام 1920. تعرّف إلى زكي الأرسوزي، وكان معجباً به. كان من بين المؤسسين الذين عقدوا المؤتمر التأسيسي لحزب البعث في العام 1947. كان عضواً في مجلس قيادة الثورة بعد نجاح البعث في استلام السلطة في 8 آذار 1963. تم تعيينه كسفير في فرنسا عام 1964 وظل في مهمته حتى العام 1968. استقرّ في بيروت مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، ثم عاد إلى سلميّة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان علم 1982. له كتب سياسية وأدبية عديدة، منها (البعث)، (عرب ويهود)، (أتحدى وأتهم)، (كسرة خبز)… كما ترجم العديد من الكتب والروايات منها (مائة عام من العزلة) لماركيز و(بيت الأرواح) لإليزابيت الليندي. كانت وفاته في العام 1995.