مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
جدليات الهوية والمحو
 
من مرج دابق إلى إعلان بلفور
أبو فخر، صقر
 

 

         

في 14 أيار، منذ تسعة وستين عاماً، وقف دافيد بن غوريون في قاعة متحف تل أبيب، حيث صورة تيودور هيرتسل تطل على الجميع، ليقرأ "وثيقة الاستقلال"، وأعلن قيام "دولة اسرائيل"، ثم عزفت الفرقة الموسيقية نشيد "هاتكفا" (الأمل). وفي اليوم التالي دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين، لكنها لم تلبث أن خرجت منها بهزيمة قاسية. وبسقوط فلسطين في سنة 1948 صار ما قبل ذلك التاريخ تاريخاً، وما بعده تاريخاً آخر. واليوم، غداةذكرى النكبة يُستعاد الماضي كأن لا شيءَ تغير منذ نحو سبعين عاماً، وتتكررُ الطقوسُ ذاتُها، والكلماتُ نفسُها، والمفرداتُ والعباراتُ والاحتفالاتُ بطريقة دَوَرانية، ويُعاد خطابُ الضحية ليمنحَ الضحيةَ، أي نحن، شعوراً بأننا على حق، وكأن هذا ما يكفينا.

 

لم يكن قيام اسرائيل مجرد نتيجة فورية لحرب خاسرة، بل كان ذروةَ صراع امتد ما يقارب 150 سنة بين أوروبا الناهضة وتركيا المتقهقرة؛ بين عصر النهضة الأوروبي وعصر الانحطاط العثماني الذي خضعنا له بالتبعية منذ معركة مرج دابق في عام 1516؛ بين الحداثة والمجتمع التقليدي. وكان من نتائج ذلك الصدام أن الفلسطينيين خسروا وطنهم، بينما أسس اليهود وطناً لهم. ومنذ أن انجلت تلك الحرب عن كارثة هائلة بدأ اليهود يخرجون من شبح المنفى وكابوسه، فيما راح الفلسطينيون يتحولون إلى لاجئين في المنافي الكابوسية. وقد كان قيام اسرائيل حدثاً خطيراً جداً قَلَب الأمور في بلادنا رأساً على عقب، وخلق تحدياً لا سابق لنا به. ولعل أكثر مَن فهم خطر قيام اسرائيل كان أنطون سعادة، ذلك الرائي النادر الذي قال: "إن الدولة اليهودية لم تنشأ بفعل المهارة اليهودية (...) بل بفضل التفسخ الروحي الذي اجتاح الأمة السورية ومزق قواها وبعثر حماسَها وضربها بعضها ببعض وأوجدها في حالة عجز تجاه الأخطار والمطامع الأجنبية" (سعادة، خطابه في برج البراجنة في 1/6/1949، منشور في: "مراحل المسألة الفلسطينية"، بيروت: عمدة الثقافة، 1977).

 

ما هو "التفسخ الروحي" الذي اجتاح الأمة السورية؟ الجواب يكمن، بحسب اعتقادي، في أننا طوال السيطرة العثمانية على بلادنا، منذ معركة مرج دابق حتى إعلان بلفور، لم نتمكن من بلورة هوية قومية جامعة متغلغلة في عقول شعبنا بأغلبيته الكاسحة، بينما كان عصر القوميات يغمر أوروبا شرقاً وغرباً، ويغمر كثيراً من أمم العالم بمن فيهم اليهود أنفسهم في أوروبا. أَليست الصهيونية هي، في نهاية المطاف، مشروع سياسي وأيديولوجي غايته تحويل اليهود إلى أمة؟ وقد استند ذلك المشروع إلى المفهوم الشرق أوروبي للقومية الذي يمزج بين الدين والقومية مثل روسيا والأرثوذكسية، وبولونيا والكثلكة، وألبانيا والاسلام، وأرمينيا والمسيحية. ومصدر دهشتنا وإعجابنا أن سعادة فهم الصهيونية قبل اثنين وتسعين عاماً بأعمق ما يفهمه اليوم كثيرون. ففي محاضرة له في سان باولو (البرازيل) أكد "أن الباعث على الحركة الصهيونية في الدرجة الأولى، أفكار جماعة تريد أن توجد من يهود العالم المختلفي النزعات والمشارب والمتبايني الأخلاق والعادات أمة اسرائيلية. ومع أن هذه العملية غير طبيعية، فإن انتشارها بين اليهود المضطهدين جعل لها صفة إمكانية الحدوث" (سعادة، مجلة "المجلة"، شباط 1925).

 

الوعي القومي الناقص

 

لم يكن في بلادنا طوال الحقبة العثمانية وعي قومي بالتأكيد إلا كومض هنا أو هناك لدى بعض الفئات المدينية المتنورة. لكن كان هناك وعي واضح بالفارق "القومي" بين سكان البلاد والحاكمين الذين لا ينتمون إليها. وكانت لغة بلادنا تعبر، إلى حد كبير، عن هويتها وثقافتها المغايرتين لهوية الحكام وثقافتهم. وعلى سبيل المثال، فإن العرب، بعد فتوح الشام، حكموا مدن الشام بالجنود وبحلف القبائل، لكن المجتمع بقي، خصوصاً في أريافه، وفي طابعه العام، آرامياً، ولسان بعض جنباته سريانياً. وكان تحطيم الامبراطورية الساسانية قد أفضى إلى التخلي المتسارع في فارس عن الديانة الزرادشتية وإلى الاعتناق المكثف للاسلام. بينما في الشام، فإن المسيحية ظلت حاضرة بقوة في المجتمع حتى سنة 1500. وفي هذا السياق، فإن الحدث الكبير الذي وقع في مرج دابق في سنة 1516، والذي لم يشكل انقطاعاً تاريخياً، بل استمراراً لانقطاعات متكررة مثل فتح الشام واحتلال هولاكو لبغداد في سنة 1258، أدى، هذه المرة، إلى تغييرات متدرجة انتهت إلى تغيير كيفي شامل تجلى في ما حل ببلادنا بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى.

 

المعروف أن هناك شبه قانون لموت الحضارات، ففي الفيزياء ثمة مصطلح "التأكل"، وفي البيولوجيا هناك مصطلح "الشيخوخة"، وفي الكيمياء "التحلل"، وفي علم الاجتماع "الفساد"، وفي التاريخ "التشرنق"، وفي السياسة "الانحطاط". ونحن جميعاً في هذه البلاد دخلنا في طور الانحطاط منذ سقوط بغداد قبل نحو 850 سنة، وتأكلت حضارتنا ثم دخلت في طور التحلل منذ الحقبة التركية حين سحب السلاطين الأوائل جميع المهندسين والبنائين والحرفيين من دمشق وحلب وأرغموهم على الاقامة في اسطمبول، الأمر الذي أدى إلى ازدهار عاصمة السلطنة، وإلى تدهور أحوال سوريا. ثم انحطت اللغة وأُنهك المجتمع بالتقاتل الطائفي والهجرة حتى وصلنا إلى أن نصبح مرضى أكثر من "الرجل المريض" نفسه، ما أتاح لسايكس الانكليزي وبيكو الفرنسي أن يفعلا بنا ما فعلاه من رسم وقص ولصق. وفي هذا السياق لاحظ سعادة منذ 96 سنة أن الاستعمار الفرنسي خطر يضاهي الصهيونية إن لم يكن يفوقه" (سعادة، جريدة "الجريدة"، العدد 47، سان باولو، 1/10/1921)، وكثيراً ما وجد سعادة في الخطرين الفرنسي والتركي رديفين للخطر الصهيوني. واليوم فإن الخطر التركي ما برح قائماً أمام عيوننا. أما الخطر الفرنسي فقد أخلى مكانه جزئياً للإمبريالية الأميركية. وللمغرمين بالتاريخ العثماني نتذكر أن ولاية طرابلس كانت تضم في القرن السادس عشر، أي مع بداية الاحتلال التركي، ثلاثة آلاف قرية، وقد انحطت في القرن الثامن عشر إلى 400 قرية. وولاية حلب التي ضمت في القرن السادس عشر 3200 قرية لم يبقَ منها في القرن الثامن عشر إلا 400 قرية، ولهذا تكثر أسماء الخرب في بلادنا. وكان عدد سكان روما في سنة 1526 نحو خمسين ألفاً، وعدد سكان حلب 57 ألفاً بين عامي 1520و 1530، فانخفض عدد سكان حلب إلى 45 ألفاً بين 1571  و 1580 جراء الطاعون بينما راح عدد سكان روما يرتفع حتى بلغ إلى مئة ألف في نهاية القرن السادس عشر. وكان عدد سكان مصر ثمانية ملايين في زمن الفراعنة وحتى في زمن البطالمة، ثم انخفض إلى مليونين في العصرين الفاطمي والأيوبي، ولم يزيدوا على مليونين ونصف المليون في سنة 1800، أي فيالعصر العثماني. ولاحقاً، في عهد الاستعمار الانكليزي، ارتفع إلى عشرة ملايين. ولنتذكر أيضاً، خلافاً للمبتهجين بتركيا الاسلامية إن الخلافة العثمانية لم تتحرك لمنع نابليون بونابرت من احتلال مصر في سنة 1789 مثلما لم تتحرك امبراطورية بني عثمان لانقاذ الأندلس في سنة 1492. وسكتت دولة الخلافة على احتلال فرنسا للجزائر في سنة 1830، ولم تلتفت إلى احتلال بريطانيا عدن والخليج العربي في سنة 1839، أو احتلال فرنسا لتونس سنة 1878 واحتلال ايطاليا للبلاد الليبية. ولنتذكر أن تركيا الكمالية ضمت إليها كيليكيا خلافاً لرغبات سكانها وفيها مرسين وأضنة وطرطوس وميناء جيهان، وضمت منطقة الجزيرة العليا السورية وفيها ماردين وعينتاب ومرعش وأورفة (الرها) وبيره جيك وسَعَرْت وديار بكر. ثم استولت على لواء الاسكندرون الذي ظل دائماً جزءًا من ولاية حلب، وفيه تقع أنطاكيا التاريخية عاصمة سورية القديمة.وعلاوة على ذلك سلب الأتراك مدناً سورية أخرى كالريحانية والسويدية وبتياس وبيلان وملاطية وقرقخان وحران وديار بكر وسميساط وخربوط وغيرها.

 

السياق الامبريالي

 

لم تظهر الدول الحديثة في بلادنا في سياق تاريخي طبيعي، بل على أيدي المستعمرين، وفي سياق الاقتحام الاستعماري وتقسيم المنطقة على أسس دينية وإثنية ومصالح اقتصادية واستراتيجية. ففي العراق، على سبيل المثال، حاول البريطانيون تأسيس العراق الحديث على أساس الروابط الطائفية والعشائرية، أي ضد الهوية العراقية الجامعة. لكن الملك فيصل الأول أراد تأسيس العراق على هوية موحِّدة للعراقيين هي فكرة العروبة، وهي فكرة بديلة من الهويات الممزِّقة (شيعي، سني، صابئي، أشوري، كردي، تركماني، ايزيدي). وقد بنى الملك فيصل دولة لها جيش وملك يرمز إلى وحدة العراقيين. لكن عبد الكريم قاسم قضى على الملكية، وقضى الأميركيون على الجيش العراقي أول مرة في سنة1991، ثم قضوا علىالجيش والدولة معاً في احتلالهم العراق سنة 2003، ومزقوه بين عرب وأكراد وتركمان وسنة وشيعة.

 

أسست اتفاقية سايكس – بيكو (16/5/1916) البدايات الأولى لظهور الدول الحديثة التي راحت تظهر تباعاً بعد الحرب العالمية الثانية. وواكبت تلك البدايات محاولات أيديولوجية محمومة لتأسيس "تواريخ جديدة" لهذه الدول باعتبار كل واحدة منها دولة – أمة من الطراز الأوروبي. وراح الأيديولوجيون يجوسون في جغرافيا المنطقة باحثين عن هويات قومية لهذه الدولة أو تلك، فيما كان معظم الهويات يستند لا إلى التاريخ أو الجغرافيا أو الحضارة، بل إلى الاثنيات والديانات والطوائف المذهبية. أما اتفاقية سايكس – بيكو فلا يمكن فهمها إلا في مسار الاتفاقات اللاحقة مثل إعلان بلفور (2/11/1917) ومؤتمر سان ريمو (15/4/1920) وصك الانتداب على فلسطين (24/7/1922). واتفاقية سايكس – بيكو هي الحل الاستعماري للمسألة الشرقية orient question. وهذه المسألة بدأت مع فشل حصار الجيش العثماني لفيينا في سنة 1683، وتحفزت أوروبا للرد على هذا التحدي، فجرى تحرير بودا عاصمة المجر في سنة 1688. وفي الأثر بدأت سلسلة من الهزائم التركية في مقدونيا واليونان وصربيا، إلى أن تحررت بلغراد من الاحتلال التركي في سنة 1716. وفي خضم ذلك الصراع الأوروبي – التركي جاءت حملة نابليون بونابرت على مصر وفلسطين. ومنذ ذلك الحين بدأ التفكير في هزيمة الامبراطورية العثمانية التي كانت الشيخوخة قد دبت في أوصالها، وفي اقتسام الأقطار الواقعة تحت نفوذها. وبالتدريج احتلت بريطانيا مصر بعد انهيار حكم محمد علي، واحتلت فرنسا تونس ثم الجزائر، واحتلت إيطاليا ليبيا.

 

انتهت الامبراطورية العثمانية نهائياً مع اندلاع الحرب العالمية الأولىى في سنة 1914، وشرع الاستعماريان فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس في التفاوض لوراثة الرجل المريض في 9/11/1915، وانتهت المفاوضات في آذار/مارس 1916، ووقعا اتفاقيتهما سراً في 16/5/1916، ولم يُكشف النقاب عنها إلا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917. وهذه الاتفاقية اعتبرت سوريا أسلاباً يجب تقسيمها بين بريطانيا وفرنسا على أسس متداخلة منها الاقتصاي ومنها الطائفي، فنالت فرنسا سوريا (ومن ضمنها لبنان) حيث المدارس اليسوعية والكاثوليك والموارنة وميناء بيروت والاسكندرون وتجارة حلب. ونالت بريطانيا العراق حيث النفط وكركوك، واستولت فلسطين حيث ميناءي حيفا ويافا والأراضي المقدسة. وكان من نتائج اتفاقية سايكس – بيكو شبه الفورية تقسيم سوريا على أسس مذهبية إلى أربع دويلات هي دولة العلويين ودولة الدروز ودولة دمشق ودولة حلب، علاوة على سنجق الجزيرة وسنجق الاسكندرون، وكذلك قيام دولة ذات طابع مسيحي في لبنان.وكان ذلك تمهيداً لقيام دولة يهودية في فلسطين بموجب إعلان بلفور. وبعد مئة سنة على هذه الاتفاقية ها نحن مازلنا نعيش عقابيلها كلها بالتفصيل.

 

بلفور الاستعماري

 

حين صدر إعلان بلفور Belfour Declaration في 2/11/1917، أي منذ مئة سنة، بات الشعب الفلسطيني معلقاً على صليب الاستعمار. ومنذ مئة سنة بالتمام لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن الكفاح في سبيل الحفاظ على وطنه. ومنذ نحو سبعين سنة وهو يقاتل لاسترجاع وطنه. ويشكل إعلان بلفور نقطة البداية في المشروع الاستعماري البريطاني – الصهيوني. أما الحدث الحاسم في تاريخ فلسطين الحديث فليس إعلان بلفور في حد ذاته، والذي يصفه سعادة بأنه "أسوأ العهود الدنيئة في تاريخ الدول (...) وغدر صادر عن أسمى مقام سياسي في أوروبا (مجلة "المجلة"، أيار/ مايو 1925)، بل انتقال السيادة على فلسطين من الدولة العثمانية إلى بريطانيا؛ تلك السيادة التي استمرت 400 سنة متواصلة، أي منذ معركة مرج دابق حتى الهزيمة في القدس سنة 1917. ولا يمكن فهم إعلان بلفور إلا في سياق هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من نتائج كارثية تجسدت في صك الانتداب سنة 1922 الذي نص على تهيئة فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود. وكانت صدرت تصريحات متناقضة آنذاك في شأن عبارة "وطن قومي" التي وردت في إعلان بلفور وفي صك الانتداب معاً، وحاول الكتاب الأبيض البريطاني لسنة 1922 التخفيف من وقع العبارة على الفلسطينيين، فاحتال في الشرح ليقول إن إعلان بلفور يرمي إلى ايجاد مركز يهودي في فلسطين. لكن هذا "المركز" صار دولة بعد ثلاثين سنة على صدور الإعلان، وبعد خمس وعشرين سنة على صدور صك الانتداب.

 

لم يكن اللورد آرثر جيمس بلفور أول مَن دعا إلى توطين اليهود في فلسطين، فقد سبقه الوزيران شافتسبري وبالمرستون. وقبل بلفور، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت وعود كثيرة في هذا الشأن؛ فقد وعد لويد جورج في سنة 1904 يهود أوروبا بأوغندا لتكون موطناً لهم، وتدارس كثيرون الأمر واقترحوا العريش في سيناء لتكون موطناً آخر لليهود. لكن وقوع فلسطين على تخوم طريق التجارة البحري إلى الهند (السويس) كان السبب المرجِّح لاختيارها ضحية للمصالح البريطانية. وقد وصف اليهود إعلان بلفور بـِ "الوعد" مثل وعد الله للنبي ابراهيم ونسله بإعطائهم أرض فلسطين بحسب الرواية التوراتية. وقد قُيض لهذا الاعلان أن يصبح حجر الزاوية في المشروع الصهيوني. وتضافرت عناصر سياسية كثيرة لتجعل المشروع الصهيوني حلقة مهمة في سلسلة المصالح الأوروبية التي أقضت مضجعها المسألة اليهودية من جهة، وهاجس الإمساك بخطوط التجارة العالمية بين البحر الأبيض المتوسط والهند، بما في ذلك نفط شبه الجزيرة العربية، من دون أي مزاحمة أو تهديد.

 

 بلفور المعادي لليهود

 

نشأت كراهية اليهود، أو معاداة السامية، في ألمانياً أولاً، وبالتحديد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر جراء تدفق اليهود من روسيا وبولندا إلى ألمانيا، وتشكُّل طبقة وسطى يهودية ربوية راحت تنافس الطبقات الوسطى الأوروبية، وحُمِّل اليهود المسؤولية عن تدهور أوضاع تلك الطبقات النامية. وكانت المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى مجتمعات زراعية وتجارية، وفي هذه المجتمعات يتولى الغرباء والهامشيون والمنبوذون المهن "الوضيعة" مثل الربا الذي حرّمته الكنيسة. وهكذا صار اليهود أسياد الإقراض والفائدة. لكن، مع تحوُّل أوروبا إلى الرأسمالية الحديثة ازدادت أهمية عمليات الإقراض والتمويل، وصار الربا إحدى دعائم الاستثمار، ويدر ثروات كبيرة، الأمر الذي أثار غيظ المستثمرين الآخرين، أي المسيحيين، فعملوا على إزاحة اليهود من الأسواق. وهذا هو أحد أسباب نشوء معاداة السامية في العصر الحديث. وقد أفاض كارل ماركس في شرح ذلك في كتابه الصغير، لكن العظيم الأثر، "المسألة اليهودية".

 

بلفور نفسه كان معادياً لليهود، وكثيراً ما هاجم اليهود المهاجرين إلى بريطانيا في أثناء توليه رئاسة الوزارة بين 1903 و 1905، وقال عنهم إنهم لا يندمجون بالسكان، وأصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية (قانون الغرباء). وكان يرى أن اليهود، كمجموعة عضوية، لا يمكنهم أن يحلّوا مشكلتهم من داخل التشكيل الحضاري، أي بالاستعمار. وبلفور اسكتلندي مثقف ومولع بالكتاب المقدس (العهد القديم أي التوراة، والعهد الجديد أي الأناجيل) ومحافظ سياسياً، وله عدد من المؤلفات مثل: "دفاع عن الشك الفلسفي" (1879)، و "أسس الاعتقاد الديني" (1893)، و "الإيمان بالله" (1923). ومهما يكن الأمر، فإن مسودة إعلان بلفور بدأ إعدادها في تموز/ يوليو 1917، وكتبها في البداية ناحوم سوكولوف بالتعاون مع مارك سايكس، وكانت الصيغة الأولى تنص على تأمين ملجأ لليهود في فلسطين. وقد نُقِّحت مرات عدة إلى أن وصلت إلى صيغتها النهائية في 31/10/1917 التي تتضمن إقامة وطن قومي لليهود، وصدرت رسمياً في 2/11/1917 في صورة رسالة من بلفور إلى ليونيل والتر دي روتشليد. وقد اعترض على ذلك الإعلان كل من مجلس ممثلي اليهود البريطانيين والاتحاد الانكلو – يهودي والوزير اليهودي إدوين مونتاغو الذي قاد حملة عن يهود بريطانيا ويجعلهم مواطنين في دولة أخرى. ولهذا أُضيفت إلى النص الأصلي للاعلان العبارة التالية: "إن الإعلان لن يؤدي إلى الإخلال بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى".

 

من غرائب التاريخ أن بريطانيا وهي دولة مسيحية، احتلت بلداً مسلماً، أو ذا غالبية اسلامية، ثم منحته لليهود. ومن مظالم التاريخ أيضاً أن واحدة من أقوى الأمم، أي بريطانيا، أقدمت على وعد جماعة قليلة من السكان، أي اليهود، بمنحهم بلداً يخص أمة ثالثة هو فلسطين. والفارق بين هتلر وبلفور، في هذا الميدان، أن بلفور لديه مستعمرات، ومنها فلسطين، فأرسل اليهود إليها للخلاص منهم. أما هتلر فلم تكن لديه مستعمرات فتخلص منهم بالإبادة. أما الضحية الحقيقة لبلفور ولهتلر معاً فكان الفلسطينيون والعرب، وما زلنا ندفع ثمن ذلك منذ مئة سنة.

 

التشبث بالأرض

 

بعد مئة سنة على النضال الفلسطيني ضد الصهيونية منذ إعلان بلفور، وبعد 52 سنة على انطلاقة الكفاح المسلح، أي منذ إطلاق حركة فتح الرصاصة الأولى في 1/1/1965، ما زلنا، على ما يلوح لي، في موسم الزرع، ولم نصل بعدُ إلى مرحلة الحصاد. وفي هذه الأثناء لم يترك الفلسطينيون وسيلة إلا استعملوها للعودة إلى بلادهم: "نخرطوا في الأحزاب القومية التي تنادي  بتحرير فلسطين كالبعث والسوري القومي الاجتماعي والناصرية. وانخرطوا في جماعة الاخوان المسلمين للسبب ذاته، وأسسوا حزب التحرير الاسلامي الذي تبين انه لا يدعو إلى تحرير فلسطين بل إلى تحرير المسلمين. وأسسوا أهم حركتين سياسيتين في المشرق العربي في النصف الثاني من القرن العشرين هما: حركة القوميين العرب وحركة فتح. ثم قاتلوا اسرائيل بما امتلكت أيديهم: عبر الحدود ومن البحر والجو والأنفاق ووجهاً إلى وجه. وجربوا التفاوض العلني والسري في آن واحد. أشعلوا انتفاضتين كبيرتين في سنة 1987 وسنة 2000. خطفوا الطائرات ومارسوا العمليات الخاصة والدهس والطعن، واعترفت بقضيتهم وعدالتها دول كثيرة في العالم. أخطأوا وأصابوا، ومع ذلك مازالت قضية فلسطين بلا حل.

 

انتصرت جميع ثورات التحرر الوطني في العالم إلا في فلسطين. لماذا؟ لأن الثورة الفلسطينية أصعب ثورة في التاريخ، فهي واقعة بين النفط والمسألة اليهودية، وفوق ذلك ليست مجرد ثورة تحرر وطني ضد جيش احتلال أجنبي، إنما هي ثورة مسلحة ضد جيش ودولة ومجتمع؛ ضد دولة احتلال احلالي استيطاني حوّلت الفلسطينيين من أكثرية في بلدهم، باعتبارهم السكان الأصليين، إلى أقلية صغيرة، وطردت الباقين إلى خلف الحدود. ومبكراً، كان هناك مَن فهم هذا التحول الخطير فقال: "إن محق الدولة الجديدة المصطنعة هو عملية نعرف جيداً مداها. إنها عملية صراع طويل شاق عنيف يتطلب كل ذرة من ذرات قوانا، لأن وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمد الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها" (سعادة، خطابه في برج البراجنة، 1/6/1949).

 

 بعد تسعة وستين عاماً وصلنا إلى عجزين: عجز الإسرائيليين عن إطفار شعلة التحرر الوطني لدى الشعب الفلسطيني، وعجز الفلسطينيين عن تحرير وطنهم. والحد الأدنى للمطالب الفلسطينية، أي دولة مستقلة على الأراضي التي احتلت في عام 1967 على أن تكون مدينة القدس الشرقية عاصمة لها، وحل مشكلة اللاجئين طبقاً لقرارات الشرعية الدولية بما فيها القرار 194، بات مستحيلاً. إذاً، ما المخرج؟ إخال ان الصمود في المكان والتشبث بالأرض هما من مقومات المستقبل. والبقاء في المكان هو المعجزة الفلسطينية، وهو تذكير يومي بأن الشعب الفلسطيني لم يهزم تماماً، بل إنه ما برح يشكل الخطر الفعلي أمام الاسرائيلين. ومن الواضح أن من المحال تحقيق إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة السديمية. والانتظار الايجابي ربما كان خياراً واقعياً وممكناً اليوم. الانتظار السلبي كمن يقف في محطة القطارات ملوحاً بالمناديل، بينما الانتظار الايجابي كمن يجهز الحقائب ليصعد إلى القطار في اللحظة الملائمة. غير أن اللافت في أحوال بلادنا هو عودة المسألة الشرقية: تركيا لحماية السُنة (ومعها السعودية وداعش والنصرة)، وأميركا لحماية الأكراد واليهود، وإيران لحماية الشيعة، والمسيحيون والصابئة والأرمن إلى المهاجر البعيدة.

 

هكذا صارت اسطمبول تصوغ سياسات بعض القوى السياسية في بلادنا. والأخطر من ذلك أن الفيدرالية، قد تصبح هي العنوان السياسي المقبل في المنطقة العربية: ليبيا دولة فيدرالية (طرابلس وفزان وبرقة)،والعراق دولة فيدرالية (إقاليم للشيعة والسنة والأكراد)، واليمن دولة فيدرالية (شمال وجنوب)، والمغرب مملكة فيدرالية (الصحراء ومراكش وحكم ذاتي ثقافي للأمازيغ). لماذا لا أحد يعرض الفيدرالية على اسرائيل مثلاً أو على تركيا أو على ايران؟

 

أود أن أختم بالقول إن صراع الدول العربية مع اسرائيل ما عاد يدور على الأرض؛ فقد أعادت اسرائيل الأراضي المصرية كلها إلى مصر في سنة 1981، كذلك فعلت مع الأردن وإن كانت استمرت في وضع اليد عليها بالاستئجار. وأعادت الأراضي اللبنانية إلى الدولة اللبنانية مرغمة ما عدا تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، وهي مستعدة، أو أنها كانت مستعدة، لإعادة معظم الأراضي السورية إلى سورية. الصراع إذاً يدور اليوم على فلسطين. وهناك مقتل اسرائيل. ومن غرائب ما ابتلينا به أن العرب كانوا، في الماضي، في حالة حرب ضد اسرائيل. وقد قدموا لاسرائيل مبادرة سلام في عام 2002، فرفضها الاسرائيليون. الموقف الطبيعي في هذه الحال هو أن يعود العرب إلى حالة الحرب. لكن العرب يريدون السلام "بالعافية" بحسب اللسان المصري، حتى من دون أن يقدم الاسرائيليون أي شيء. إنها المهانة بعينها. ولهذا صارت هناك عدة دول اسرائيلية في العالم العربي كما كان يردد سميح القاسم: واحدة تتكلم العبرية، والباقي يتكلم العربية، الأمر الذي يحتاج منا جميعاً أن نعود إلى تعميق الجواب عن السؤال التار يخي الحاسم: "مَن نحن؟".

 
التاريخ: 2017-05-16
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro