مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
تكريم الدكتور خليل سعاده
 
إعداد: مؤسسة سعاده للثقافة
 

كلمة رئيسة مؤسسة سعاده للثقافة

 

 

الدكتورة ضياء حسان   

 

                                                   

الدكتور خليل سعاده،

 

قيل عنه " إنه  جبار من جبابرة الفكر. علا بتفكيره عن عصر أمته علوًّا كبيراً.

 

همه كان دائما بلاده وخير شعبه. مواقفه وقفات عز. تحدى قنصل فرنسا ليجبره على دفع ثمن تذكرة لحضوره حفلة يعود ريعها لتحقيق مشروع د. سعاده الخيري لإنشاء مصح للسل في لبنان، ورفض ان يعتبر دعوة القنصل شرفية تعفيه عن دفع ثمن التذكرة، فتصلب القنصل الفرنسي وتصلب الدكتور سعاده في موقفه. وبقي القنصل رافضا الدفع، عندها وجه له كتاباً مفتوحاً  عبر أهم جريدة في سورية في تلك الأيام. فكان ذلك الكتاب أول صدمة من سوري وطني لذي نفوذ أجنبي في صميم نفوذه. كان الأمر عظيماً جدًّا لأنه في ذلك الزمن، كان من يقف في وجه قنصل فرنسة كمن يقف في وجه الآلهة.

 

عندما غادر الى مصر، وفى مدة قصيرة، سطع نور أدبه كما سطع في سورية ولاحقاً في العالم. بقيت بلاده دائماً هاجزه. بحث في قضايا ذات خطورة عظمى للتطور الاجتماعي والتقدم الفكري، ناقش قضايا ووضع نظريات لأبناء أمته ليستفيقوا ويستنيروا. مثل قضية التعصب الديني والطغيان وعواقبه في المجتمع الإنساني. وأظهر مدى نتائج الإختلال الاقتصادي وما يولده من الضعف البالغ أقصى حدوده. اصدر صحفا في المهجر، وكتب مقالات عديدة ليوقظ الشعور الوطني في السوريين، وعالج مسائل سورية السياسية.

 

يسرنا اليوم من خلال برنامج مشاعل النهضة في مؤسسة سعاده للثقافة وفي ذكرى مرور 87 عاماً على وفاة الدكتور خليل سعاده ان نلقي بعض الإضاءات على فكره السياسي.

 

 

 

كلمة د. علي حميه

 

 

 

خليل سعاده:

 

السابق والممهد للنهضة القومية

 

أودّ، بداية، أن ألفت انتباهكم إلى:

 

1ـ إن ورقتي عن خليل سعاده كعالم ومفكر وسياسي، وموقعه من اليقظة العلمية والأدبية في مرحلة ما قبل النهضة، تتكىء على أطروحتي الجامعية التي قدّمتها في جامعة السوربون في باريس- فرنسة، عام 1986 ونلت، على أساسها، شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف من الدرجة الأولى، ما يعني أن النصّ الذي سأدافع عنه أمامكم، اليوم، ليس نصّاً جديداً، بل هو توليفة جديدة لنصّ قديم منجز.

 

2- إن ما أقصده، هنا، بمصطلح "النهضة" ليس العبارة التي اصطلح على تسميتها بـ"النهضة العربية" أي "النهضة" أو"اليقظة" التي عاصرت حركة الإنفتاح السوري والعربي بعامة على حركة التنوير الأوروبية التي اجتاحت العالم في العصور المتأخرة، لا سيّما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إن ما أعنيه، هنا، بهذا المصطلح هو "النهضة القومية" التي جاء بها أنطون سعاده، نجل العلاّمة الدكتور خليل سعاده، مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي، فقد أوصلتني قراءاتي المتعددة في هذا المجال إلى اعتبار كل انتاج علمي أو فكري أو سياسي سبق هذه النهضة هو إنتاج سابق لها وممهد لطريقها. بهذا المعنى، فإن خليل سعاده كالبستاني والشدياق واليازجي والشميل والكواكبي وأديب اسحق وجبران وفرح أنطون ... ألخ، هو سابق على النهضة القومية ومبشّر بها، في آن واحد، وهو ما عناه أنطون سعاده في قوله في نصّ المبدأ السابع من مبادىء الحزب السوري القومي الإجتماعي:" تستمدّ النهضة السورية القومية الإجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها السياسي الثقافي القومي". وبهذا المعنى، عدّ سعاده والده وجبران وغيرهما ممن ذكرنا،  من أعلام الفكر السوري الذين سطعت أنوارهم في مرحلة ماقبل النهضة، من مواهب الأمة العظام الذين تعتزّ بهم النهضة القومية الإجتماعية. الأمر الذي عبّر عنه بصياغة أخرى، لاحقاً، الفيلسوف ناصيف نصّار في محاضرة له ألقاها في الجامعة الأميركية، في بيروت، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية للحملة الفرنسية إلى مصر وبلاد الشام(1798-1998)، عندما ميّز، بوضوح، بين ما  يسمّيها "النهضة الأولى" أي ما وصفناها، في هذه الورقة، بـ"حركة التنوير" التي تمخضّت عن الحداثة الأوروبية، و"النهضة الثانية" التي ترتكز إلى النهضة الأولى بإعادة إخضاع هذه الأخيرة، بمنطلقاتها وأفكارها وشعاراتها، إلى إعمال العقل الفلسفي فيها، نقداً وتصويباً لمطابقتها وروح العصر، بحيث تجيء كأنها صياغة جديدة، أي نهضة جديدة، لا مجرّد عملية إحياء لشعارات قديمة.

 

3- لقد تكشّف لي، في الآونة الأخيرة، أي منذ عقد من الزمن، أن رواية "الأمير مراد أو الأمير السوري" وكتاب" الطوالع السعدية في آداب اللغة الإنكليزية" المنسوبين، خطأ، للدكتور خليل سعاده، هما من تأليف الدكتور خليل سعد، ومرجعي هو مجلة "الهلال" لجرجي زيدان (المجلد الأول، السنة الأولى، 1893)، الأمر نفسه تكشّف للدكتور سليم مجاعص استناداً إلى مجلة "المقتطف" ليعقوب صروف والصادرة في القاهرة، في السنة نفسها، وكلنا يعلم أن هاتين المجلتين هما من أرقى وأعرق المجلات السورية التي صدرت (الهلال) في، أو انتقلت (المقتطف) إلى، مصر، في أصيل القرن التاسع عشر. وبناء على ما ورد في هاتين المجلتين من حقائق لا يرقى إليها أدنى شكّ، قمت بنشر مقال توضيحي حول هذه المسألة في مجلة "اتجاه" التي أشرف على تحريرها حمل عنوان:"ليس انتقاصاً من خليل سعاده بل انتصار للحقيقة"(2015)، وأعتقد أن الدكتور مجاعص فعل الشيء نفسه في مطبوعة أخرى (البناء، ربما). من المؤسف، أن معنيين كثر في هذه المسألة أولهم الرفيق بدر الحاج الذي عرّفنا، في كتاباته الأوولى، على خليل سعاده، لم يهتموا للأمر ولم يعملوا على تصحيح هذا الخطأ الذين وقعوا فيه بنسبتهم هذين المؤلفين لغير صاحبهما الحقيقي، عنيت الدكتور خليل سعد. إنني، بصفتي أحد المعنيين بتصحيح هذا الخطأ، أنتهز هذه المناسبة لأعلن أمامكم اعتذاري، من الطيّب الذكر الدكتور خليل سعد وورثته عن خطأ ارتكبته، عن غير عمد، باعتمادي على مرويات لم  أتحقق منها قبل أن أعتمدها كمصدر لمعلوماتي.

 

وبعد،

 

ما موقع الدكتور سعاده من اليقظة العلمية والأدبية التي عرفتها سورية والمشرق العربي في تلك المرحلة: ما قيمة إنتاجه، بوصفه كاتباً وسياسياً، على المستويين النظري والعملي؟ ماذا أضاف إلى الحركة الفكرية والسياسية في عصره؟ وما نسبة مساهمته في عملية الإنبعاث الأدبي والعلمي؟        

 

تميّز الدكتور خليل سعاده بثقافة واسعة، خصوصاً في المجال العلمي، واستفاد كثيراً من معارف عصره، بعد ان نهلها مباشرة من مصادرها الأصلية بفضل تمكنه من اللغات الأجنبية، خصوصاً الانكليزية، وهذا ما يفسّر ميله القوي، في المرحلة الأولى من حياته، إلى ترجمة المعارف العلمية إلى العربية وتعميمها على أوسع نطاق في بلاده، وعالمه العربي، وفي بلدان الانتشار السوري في القارة الأميركية. وفي هذا الإطار، نشر عشرات المقالات العلمية والطبية، وهو بعد طالب على مقاعد الدراسة الجامعية، فاطّلع قراء العربية، بفضله، لأول مرة، على بعض الإكتشافات الحديثة كالراديوم (Raduim)  والذرة (Atome). كما ابتكر مرادفات عربية كثيرة لعدد من المصطلحات العلمية والفنية تبسيطاً لها، بغرض تيسير فهمها واستخدامها من قبل القراء العرب. وقد اشتمل قاموسه الشهير، الانكليزي- العربي، وكتابه الطبي في السل الرئوي، على مئات المصطلحات الجديدة في شتى العلوم والمعارف والفنون.

 

وإلى جانب اسهاماته الجليلة في تجديد اللغة العربية وتطويرها لتصبح أكثر علمية، اشتُهر الدكتور سعادة أيضاً كسياسي بارع. وعلى الرغم من أن أعماله الأدبية والعلمية كثيرة ومتنوعة، فان نشاطه السياسي طبع سيرته وتقدّم على ما عداه من الأعمال الأخرى. لقد قدّم  نفسه داعية نهضوياً أكثر منه كاتباً أو صحافياً أو سياسياً عادياً، واعتبر ان كل ما أنتجه، على صعيد الكتابة والتأليف، لم يكن سوى وسيلة لتحقيق حلمه السياسي في إنشاء دولة حديثة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط يتمكن شعبه، بواسطتها، من استعادة مركزه اللائق بين الشعوب الناهضة في العالم.

 

هكذا تميّز الدكتور سعاده عن غيره من رجال عصر ما قبل النهضة الكبار: ففي حين ركز هؤلاء اهتماماتهم في نشر المعارف وخلق جيل من المثقفين ثقافة حديثة كما فعل شبلي شميل وجماعة مجلة "المقتطف"، لم يكتف الدكتور سعاده بهذا الدور التنويري، على اهميته، بل حرص، كل الحرص، على المساهمة في إعداد المسرح السياسي لجيل من الرجال المتطلعين إلى الإستقلال والسيادة القومية وبناء الدولة الحديثة، وحجته، هنا، هي ان تحصيل المعارف وحدها لا  يكفي لإحداث التغيير المنشود، خصوصاً في حالة المجتمعات التي تفتقر إلى وجود الدولة الوطنية التي من المفترض ان تتنكب، عادة، مهمة نشر العلوم واستخدامها في نهضة الأمة وتقدمها.

 

هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فقد تصدّر الدكتور سعاده الحركة الوطنية السورية في أميركا الجنوبية، كما تصدرها جبران في أميركا الشمالية، وشكري غانم في أوروبا، وشبلي شميل في مصر. وكان في الوقت نفسه محط أنظار ممثلي الدول الأوروبية، في القارة اللاتينية، المهتمة بمصير سورية ومستقبلها السياسي، كفرنسا مثلاً.

 

ونظراً لأهمية الدور الذي شغله على مستوى الجالية السورية في أميركا الجنوبية، فقد حاول كل من السياسي العتيق شكيب ارسلان، ورجل الأعمال الشهير نعمة يافث، يائسين، اكتساب تأييد الدكتور سعاده لمشاريعهما السياسية على صعيد الجالية. ونشير هنا إلى ان الرجلين كانا من "ألمع" وجوه الجالية السورية في أميركا اللاتينية، الأول لارتباطاته السياسية المتعددة الأدوار والإتجاهات، محلياً وخارجياً، والثاني لثرواته المادية الكبيرة، ولإصطفافه في صف السياسة الفرنسية الاستعمارية في سورية. كما حاولت فرنسا، بدورها، عبر ممثليها، في سان باولو وبونس ايرس، الإشتراك في هذا السباق على اكتساب الدكتور سعاده إلى سياستها في سورية، وعرضت عليه، بشهادته، أموالاً كما فعل ارسلان ويافث قبلها، ولكن محاولاتها، هي أيضاً، باءت بالفشل. فقد حرص الدكتور سعاده، طوال حياته، على ان يبقى حراً غي تفكيره وسلوكه، نظيف الكف، رافضاً كل الإغراءات التي انهالت عليه، من كل جانب. هذه الممانعة القوية، من جانبه، للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للحركة الوطنية السورية مردها إلى اعتقاده الراسخ بأن السياسة المستقلة، المتحررة من أي ارتهان، مادي أو معنوي، هي وحدها السياسة التي تخدم القضية الوطنية، وان ما عداها من سياسات تصبّ في خدمة القضايا الشخصية وأصحابها، وانه هو شخصياً، لا ينتمي إلى هذه الطائفة من رجال السياسة السوريين الذين يخلطون القضايا الشخصية بالقضية الوطنية، وينتهون في حراكهم السياسي إلى تقديم تلك القضايا على قضية الوطن وحريته واستقلاله.

 

بعد هذه الاشارة إلى أهمية الدكتور سعاده، كمفكر وسياسي ووطني، نطرح الأسئلة التالية: أين كان موقعه بين رواد عصر ما قبل النهضة؟ أين اشترك معهم؟ وأين اختلف عنهم؟

 

لقد تأثر الدكتور سعاده بالمعلم بطرس البستاني، ولا سيما بفكرته عن الوطن السوري، ومبدأ فصل الدين عن الدولة، وضرورة تعليم النساء. وهذه المبادئ الثلاث التي طرحها البستاني، لأول مرة، في المشرق العربي، وطبعت اليقظة الفكرية في القرن التاسع عشر، عرضها الدكتور سعاده في مقاله الأول عن "تأخر بلادنا وتقدمها" الذي نشره في مجلة "الجنان" لصاحبها البستاني نفسه، سنة 1879. ولكن الدكتور سعاده تميّز عن معلمه بتركيز هذه المبادئ السياسية على العلوم، وتجارب الأمم المتمدنة، وبالدعوة إلى تأسيس حياتنا القومية على هديها، فلم تعد، له، مجرد شعارات بل أصبحت عقيدة سياسية رافقته طوال حياته.

 

كا تأثر الدكتور سعاده بالإمام عبد الرحمن الكواكبي، خصوصاً بكتابه "طبائع الاستبداد" الذي نشره الكواكبي في القاهرة غداة وصوله إلى مصر، سنة 1901. وقد ظهر هذا التأثر بشكل واضح في سلسلة المقالات التي نشرها الدكتور سعاده، في مجلة "المجلة" في الأرجنتين، بعد سنوات قليلة من شيوع أمر كتاب الكواكبي، وحملت العنوان نفسه.

 

وقد جارى الدكتور سعاده، إلى حد كبير، تحليل الكواكبي لظاهرة الاستبداد ومخاطره وضرورة القضاء عليه، كما اتفق معه على تشخيص انحطاط الشرق وتأثير الدين في حالته المحزنة. غير ان مساهمة الكواكبي، هنا، كانت أكثر تأثيراً، عند نشرها، نظراً لتجربته الطويلة مع الاستبداد العثماني، ومعاناته الشخصية التي وصلت حتى التهديد بالقتل، وهو بعد في سورية قبل ان ينتقل إلى مصر، بينما نشر الدكتور سعاده دراسته التي هي عبارة عن مجموعة مقالات متسلسلة، أثناء الحرب الكبرى، وهو في الأرجنتين، خارج منطقة الضغط العثماني، وفي منأى من إرهابه وتسلطه.

 

وتأثر الدكتور سعاده أيضاً بصديقه وزميله الدكتور شبلي شميل وصار مثله نشوئياً بعد ان اطلع عبره، على فلسفة النشوء والإرتقاء، وهو طالب في سنته الجامعية الأولى، وكان شميل أول من تحدّث عن هذه النظرية في العالم العربي، وربما في الشرق كله. وفي حين انصبت الانتقادات على شميل من قبل الخصوم والمعارضين، من كتاب ورجال الدين، بسبب تبنّيه هذه النظرية، دافع الدكتور سعاده دفاعاً قوياً عن صديقه، مجاهراً بايمانه بالفلسفة النشوئية، عاملاً، بدوره، على نشرها في أوساط  طلاب "الكلية السورية الإنجيلية " (الجامعة الأميركية) في بيروت.

 

ولكن الدكتور سعاده اختلف عن الدكتور شميل في الموقف من الدين، ففي حين كان شميل ملحداً، أو هكذا بدا للآخرين، فان الدكتور سعاده لم يبلغ هذه الحالة بالتمام، مع أنه كان مثل شميل نشوئياً، ولكنه اكتفى بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وتأسيس الحياة القومية على مبادئ العلم وقيمه لا على المبادئ الدينية"المنزلة". كما اختلف عن شميل في الموقف من الاشتراكية أيضاً، ففي حين كان شميل، في نظره، اشتراكياً "متطرفاً"، فأنه اعتبر نفسه اشتراكيا "معتدلاً". وفي حين دعا شميل إلى إلغاء الملكية الخاصة، انسجاماً مع نظريته الاشتراكية الشاملة، اعتبر سعاده ان الملكية الخاصة معيار الحرية الشخصية التي لا يجب ان تُمس. فشميل، بهذا المعنى الشمولي، كان أكثر جذرية من الدكتور سعاده، وان اعترى منهجه، أحياناً، بعض الاضطراب!

 

وبعد، هل يستحق الدكتور سعاده ان يكون موضوع دراسة جديدة؟ بلى! وأكثر! فقد اتضح لي من خلال دراستي الجامعية ان الرجل برع  في أكثر من مجال: في الصحافة كما في الطب والأدب والترجمة و... السياسة أيضاً. وتوزعت كتاباته بين المقالة، والبحث، والقصة، والرواية، وظهرت مواهبه في الخطابة والمحاضرة والمراسلة، ولكنه، قبل هذا كله، كان داعية مشروع نهضوي قومي لم يتمكن هو من انجازه، فأكمل قواعده السياسية والإقتصادية والإجتماعية كما ذهب بعض الدارسين، ابنه انطون، مؤسس الحزب السوري القومي الإجتماعي.

 

وإذا كانت دراستي الجامعية قد اهتمت بالتعريف بالدكتور سعاده، بشكل عام، فان الرجل يستحق أكثر من دراسة. أما المواضيع التي تلفت الانتباه اكثرمن غيرها في انتاجه وتحتاج إلى دراسة معمقة، فهي:

 

أولاً: الأدب الروائي: كان الدكتور سعاده أحد روائيي عصر النهضة، وقد أجمعت الدراسات النقدية على انه أحد أهم هؤلاء الروائيين، فقد نشر أربع روايات، أغلبها تاريخية: إثنتان صدرتا بالإنكليزية واثنتان بالعربية ورواية واحدة صدرت باللغتين الانكليزية والعربية، غير ان أحداً لم يهتم بدراسة هذه الناحية من حياته الأدبية، كما لم يهتم بإعادة نشر الروايات المفقودة.

 

ثانياً: التجديد اللغوي: عُرف الدكتور سعاده بامتلاكه ناصية اللغتين العربية والانكليزية إلى درجة احتار فيها المؤرخون في أيهما كان أكثر براعة من الأخرى، فالانكليز اعتبروه كاتباً انكليزياً يختبئ وراء إسم مستعار، وأبناء لغته شهدوا له طول باعه في لغة الضاد، وقد استطاع ان يساهم بامتياز في عملية إحياء اللغة العربية وتجديدها، هذه العملية التي كان بدأها الشدياق وسار فيها ابراهيم اليازجي وآخرون غيرهما.

 

ومن اسهاماته في هذا الباب ابتكار المفردات العربية لمئات الألفاظ والمصطلحات الأجنبية، خصوصاً في الميادين العلمية والفنية والتقنية. ونذكر من هذه المفردات الجديدة على سبيل المثال: آداب السلوك التي ترادف عبارة (La Bienseance)، ومقياس الثقل او الضعط (La Barometre)، مقياس الحرارة (le Thermometre)، والورق المقوى (Le Carton)، معلم الآجر (Le Tuilier).. الخ.

 

ان هذه الناحية في انتاجه جديرة بالدرس وتستدعي بحثاً كاملاً في مفهومه للغات ونشأتها وتطورها وجمودها، وفي نظرته إلى اللغة العربية وقدرتها على التحول إلى لغة علمية عصرية، رداً على المحاولات الكثيرة المشككة التي كانت تعيب على العربية عجزها عن مواكبة العصر والتطورات العلمية الهائلة التي يشهدها.

 

ثالثاً: الفكر السياسي: عُرف الدكتور سعاده بوصفه كاتباً وسياسياً وعالماً، ووضع عدداً من الدراسات المتخصّصة التي برهنت على أهليته الفكرية العالية، ولا سيما دراساته في أحوال سورية والشرق عموماً، وكتاباته عن الحرب الكبرى(1914-1918) وأهوالها ونتائجها  المدمرة، ومقالاته التحليلية في أحوال العصر ومصير الأمم المستضعفة بعد الحرب، وكذلك مقالاته الجريئة عن التحولات الكبرى التي شهدها العالم، في مطالع القرن العشرين كانتصار الشيوعية في روسية، وصعود النازية في ألمانية، وقد يكون من بين المفكرين القلائل الذين استشعروا خطر الحرب العالمية الثانية قبل نشوئها بعشرة أعوام.

 

ان نظريته السياسية في "الحرب الكبرى" وأسبابها وعواملها ونتائجها، ورؤيته الواقعية الى حروب الصراع على المصالح بين الأمم، وفهمه الواقعي لطبيعة العلاقات الدولية، تجعل منه مفكراً سياسياً عميقاً، يستحق دراسة مفصلة في فكره السياسي الذي يتّسم بالجدة والواقعية.

 

هكذا منهج شقّ طريقه الدكتور سعاده إن استطعنا التأسيس له، في جامعاتنا ومراكز الأبحاث، نكون قد أسّسنا لاتجاه جديد ومعايير جديدة في الكتابة النقدية التاريخية يمكننا بواسطته من إعادة النظر في وقائع تاريخنا كله، المكتوب منها والمدفون على السواء، فنتحرر عندها من الثقافة والتربية التقليديتين اللتين نشأنا في كنفهما، ونتحرّر أيضاً من تأثير المؤرخين المزورين المتحاملين، ومن أتباعهم ومدارسهم وسياساتهم وأغراضهم، ونشق الطريق لجيل جديد من المؤرخين والباحثين، لا هو بالجيل السلفي ولا هو، بالجيل المتغرّب.. جيل يدرس الوقائع ويحللها وفق أصول البحث العلمي المشدود أبداً إلى الحقائق، والملتزم دوماً مصالح شعبنا في الحياة والإرتقاء.

 

ان دراسة "عصر ما قبل النهضة" وفق هذا المنهج تساعدنا على تعيين ما إذا كان ذلك العصر: عصر نهضة طال انتظارها في هذا المشرق، ام مجرد انفتاح على العصر مع ما يحمل هذا الانتفاح من إقبال على التيارات الفكرية المتعددة والمتضاربة، من انكلوسكسونية ولاتينية وغيرها، بدون ان يكون لنا رأي فيها وموقف واضح منها. وتساعدنا هكذا دراسة أيضاً على تعيين مدى أصالة هذا الانتاج الفكري والسياسي الذي تراكم على مدى قرن من الزمن، وبالتالي تحديد موقعه من التطور العام الذي تشهده بلادنا منذ بداية تدفق الإرساليات الأجنبية للتبشير فيها إلى يومنا هذا.

 

 

 

 

كلمة جان داية

 

 

الزميل خليل سعاده

 

 

حين تخرج الدكتور سعاده من الكلية السورية الإنجيلية _أصبح إسمها الجامعة الأميركية في بيروت إثر ولادة دولة لبنان الكبير - في العام 1883، نشر أديب اسحق في جريدة (التقدم) البيروتية التي كان يرأس تحريرها بتاريخ 4 تموز من العام نفسه ،خبرا ضمنه أسماء المتخرجين، حيث ورد التنويه التالي:" في أثناء ذلك، منحت شهادة الإمتياز إلى جناب الشاب البارع الدكتور خليل أفندي سعاده، كما كان يتوقع، لما يعهد فيه من البراعة والمهارة في دروسه الطبية ولكنه دشن حياته الصحفية قبل التخرج بمقال نشره في مجلة (الجنان) في العام  1879 لصاحبها المعلم بطرس البستاني ورئيس تحريرها إبنه سليم.


تحت عنوان (تأخر بلادنا وتقدمها)، أورد الكاتب خمسة أسباب لتأخر السوريين أولها انشقاقاتنا الداخلية" التي منها "إنقسامنا إلى عصب دينية، وكل فريق يعضد عصبته ويروم تنكيس الأخرى". واستشرف منذ 142 سنة الكارثة المجتمعية التي وصلنا إليها، حين قال: "أبشر أيها الوطن إن دمت على هذه الحال، بالخراب العاجل والفقر المدقع". وختم طبيب الأبدان والأوطان المقطع الخاص بسرطان الطائفية: "أيها السوريون، لننتهز هذه الفرصة وننبذ عنا الإنشقاقات".
*

بعيد التخرج، تولى الخليل في العام 1884، مع الدكتور بشارة زلزل وإبراهيم اليازجي، إدارة وتحرير مجلة (الطبيب) التي أصدرها أحد مؤسسي الكلية السورية الدكتور جورج بوست. ولكنهم انسحبوا من ورشتها بعد عام. فتوجه اليازجي وزلزل إلى مصر لاستئناف العمل الصحفي عبر دورية شهرية (البيان). وانتقل الدكتور سعاده إلى فلسطين لممارسة اختصاصه الطبي في المستشفى البريطاني المقدسي..


وبالمناسبة، كان بودي الإضاءة على نموذج من نتاج الدكتور سعاده في مجلة (الطبيب) البيروتية، ولكن، حال ضيق الوقت الفاصل بين طلب المحاضرة وموعد إلقائها، تحديد هوية محرري مقالات الطبيب. ذلك أن الفرسان الثلاثة الذين تولوا تحريرها غيبوا أسماءهم عن مقالاتهم فيها. فكان زهدهم غير المبرر، الثغرة الوحيدة في العصر الذهبي  لحياة تلك المجلة الطبية التي حررها طبيبان أحدهما، الدكتور سعاده الذي يعتبر قيدوم أطباء الأبدان والأوطان في سورية الطبيعية. أماالثالث، وهو الإبن البكر لشيخ الدوحة اليازجية ناصيف اليازجي، الذي شارك والده في شدشدة براغي صرف اللغة العربية ونحوها، ولكنه  تميز عنه، بكونه شاعر الجمعيات القومية السرية التي سعت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى وحدة سورية واستقلالها .


في أوأئل القرن الماضي، ترك خليل سعاده فلسطين، وهاجر إلى مصر ليعمل في نطاق تخصصه الطبي، ويمارس هواية الرسالة الصحفية، عبر الناحية التي "تخصص" فيها وتألق، وهي كتابة المقالات السياسية والطبية والثقافية وغيرها.

 

وفي العاصمة المصرية، فتح عيادتين في الوقت نفسه: إحداهما طبية، والثانية صحفية. ورغم براعته في الطب النسائي، فمن المؤكد أنه أحرز شهرة واسعة، وبسرعة، في الحقل الإعلامي. فقد تصدرت مقالاته الأسبوعية الصفحة الأولى لأهم جريدة في مصر والعالم العربي،(الأهرام) التي أسسها الشاميان - على حد التعبير المصري - سليم وبشارة تقلا في الإسكندرية صيف 1876، ثم انتقلا بها إلى القاهرة. ولعل براعته في صياغة المقالات، وغناه في المعلومات، كانا من أسباب احتلال مقالته عرش الصفحة الاولى، حتى لو كان موضوعها "معجزات الهنود" التي كان ماركو بولو شاهدا عليها.

 

وفيما يلي عينة من مقالاته في (الأهرام) التي ذيلها مع سائر مقالاته بتوقيع (الدكتور سعاده):


1_معجزات الهنود (3 حلقات) 24 و 26 تشرين الثاني  و 6 كانون الأول، 1902 .

 

2_غيبوبة الوجدان (حلقتان)، 9 و 13 تشرين الأول 1903.

 

3_مفاعيل الإعياء (حلقت نهان)، 24 و 26 تشرين الأول 1903.

 

4_إستحالة المادة ، 19 كانون الأول 1903.

 

5_التوليد الذاتي والاكتشاف الحديث، 13 تموز 1905.

 

6_حؤول الأمم، 24 آب 1905.

 

7_إطالة العمر، 30 آب 1905.

 

8_شعور تآكل، 13 أيلول 1905.

 

9_السل الرئوي، 16 تشرين الأول 1905.

 

10_ذكرى 24 تموز، 8 آب 1908.

 

11_أزمة الدولة العثمانية  (حلقتان)، 30 و31 كانون الثاني 1913.

 

12_رثاؤه لليازجي، 6 حزيران 1913.

 

13_إسترداد أدرنة، 22 تموز 1913.

 

14_هبة أحمد زكي باشا، 16 آب 1913.

 

15_مملكة المالية (حلقتان)، 18 و 20  تشرين الأول 1913.

 

16_إنقاذ السلطنة العثمانية (حلقتان)، 8 و 11 تشرين الثاني 1913.

 

17_تنازع سيادة البحار، 19 تشرين الثاني 1913.



نشر الدكتور سعاده عدة مقالات في صحف مصرية أخرى، وترأس تحرير إحداها في العام 1906. ولنتوقف عند مقالته (تراسل الأفكار) التي نشرها في مجلة (المقتبس) لصاحبها محمد كرد علي، مجلد 1906، من الصفحة 643 إلى 647 .


قال الزميل الطبيب الذي ندر أن خط مقالاً من غير أن يكون لعلم الطب قرص في عرسه: "الطريقة التي جرى عليها البشر في نقل الأفكار من دماغ إلى دماغ أو من عقل إلى عقل، هي واحدة من إثنين،وهما اللفظ والكتابة. ففي الأول يكون عضو السمع هو الواسطة في نقل الفكر إلى الدماغ، وفي الثانية يكون الواسطة عضو البصر. إلا أنه قد تبين الآن بعد طول البحث والإختيار أن هنالك طريقة ثالثة ينتقل بها الفكر من دماغ إلى آخر في الفضاء على مسافة ألوف من الأميال دون وسيلة من الوسائل المادية".

 

وقبل أن يشرح معالم "هذه الظاهرة الغريبة من ظواهر علم ما وراء الطبيعة التي لم يتفق العلماء حتى الآن على نحت مصطلح موحد لها في اللغات الأجنبية، سارع إلى نحت مصطلحها في اللغة العربية وهو: (تراسل الأفكار) الذي توج به مقالته.

 

وجارى الزميل العالم معظم العلماء في شرح الظاهرة، فقال: "إن الفكر الذي يتولد في الدماغ يحدث أمواجا خصوصية في الأثير شبيهة بأمواج النور... وكما أن النور يسير بسرعة مدهشة تبلغ نحوا من مائتي ألف ميل في الثانية حتى يتاح لنا إبصاره لحظة حدوثه، فكذلك يتاح للفكر أن يحدث تموجاته الخصوصية في الأثير سائرا بمثل هذه السرعة العجيبة. وكما يتأتى للقوة القاصرة في الدماغ أن تشعر بالنور على مثل هذه المسافة، فكذلك يتأتى للدماغ أن يشعر تموجات الفكر الصادرة إليه من دماغ آخر لحظة حدوثها، ولو كان أحدهما في جانب من الكرة الأرضية والآخر في الجانب المقابل".

 

في أواخر العام 1913، انتقل الزميل سعاده من مهجره المصري، إلى المهجر الأميركي اللاتيني حيث بدأه في الأرجنتين، وختمه في البرازيل.
في الأرجنتين، طوى صفحة الطب، وتفرغ للكتابة الصحفية باللغتين العربية والإنكليزية.

 

فور وصوله بدأ يعد العدة لإصدار مجلة (المجلة). وفي الوقت نفسه، نشر سلسلة مقالات باللغة الإنكليزية في جريدة الستاندارد (the standard) ) الأرجنتينية لا اللندنية. وكان لي شرف نبشها ونشر ترجمتها في كتابي (الدكتور خليل سعاده .. نتاجه الفكري وجهاده السياسي). وأكتفي بهذه الإشارة ألى هذا الجزء من نتاجه بلغة شكسبير، لأن الدكتور عادل بشارة سيأتي على تفاصيل مساهمات الدكتور سعاده في الصحف الانكليزية اللغة، ومنها الستاندرد.
 

والسؤال الآن:هل احتكرت (المجلة) مقالاته العربية خلال هجرته الأرجنتينية؟

 

أصدر الزميل وديع شمعون في بونس أيرس/الأرجنتين جريدة يومية باسم (السلام) بتاريخ 17 تشرين الثاني 1902. وكانت الأكثر انتشارا والأطول عمراً، بين الدوريات العربية التي أصدرها مغتربون - لن أقول منتشرين ولو علقت مشنقتي - سوريون في المهجر الأرجنتيني. وخلال عرضي لأعدادها المحفوظة في المكتبة الشرقية التابعة للجامعة اليسوعية في بيروت، عثرت على مجموعة مقالات غير موقعة، ومنشورة في الصفحة الأولى.


وإنطلاقا من مقولة الفرنسيين Le style c,est l,homme ، يمكن القول بأن المقالات التي تصدرت الصفحة الأولى من بعض أعداد (السلام) الصادرة في العام 1913 هي من نظم وتلحين الدكتور سعاده. ذلك أن الأسلوب والنهج والمضمون في أي مقال، يحدد هوية كاتبه أكثر من التوقيع الذي يذيله. ذلك أن تزوير الأسم سهل، وتزوير المسمى مستحيل.


أكتفي بهذا التنويه هنا، على أن أخصص حديثا او بحثا مفصلا عن تلك المقالات، لأن الخوض في تثبيت صحة بصمات كاتبها الآن، يخرجنا عن الموضوع.
ولنعد إلى ( المجلة) التي صدر عددها الأول في بونس أيرس بتاريخ 15 حزيران 1915، واستمرت بالصدور في الأرجنتين حتى أواخر العام 1919.
كان الدكتور سعاده محررها الأول والثاني والثالث. وكانت مقالاته مطولات تستغرق عدة صفحات. ولكن الذي يشفع بكثرتها وبطولها، أنها آسرة، لدرجة أن قارئها يتمنى لو تكون أطول وأكثر. لعل ما يزيد من جاذبيتها أن كاتبها كان يضمنها بعضا من ذكرياته.
وعلى سبيل المثال، احتلت المقالة التي كتبها بمناسبة وفاة الدكتور شبلي شميل عشر صفحات بالتمام و الكمال بدءاً من الصفحة الأولى من (المجلة)  عدد 1 شباط 1917.


ولنقرأ بعض ما ضمنه معرفته بمن "رحل عنا إلى ديار الأبدية، وقد سار إليها بقدم الجبار وقلب الشجاع ورصانة الحكيم" على حد تعبيره.


قال الخليل في سياق المقطع المعنون: "معرفتي بالفقيد: لم اعرف الفقيد إلا بعد إقامتي في القطر المصري. وكنت عرفته سماعا في بيروت". أضاف "لما أتيت القاهرة توجهت ورصيفي المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي لزيارة شميل، فكان غائبا عن المنزل. ولم ألتق به إلا بعد أشهر عديدة وذلك في السبلندد بار (مقهى شهير كان يرتاده أهل القلم المصريين والمتمصرين الشوام). ولكننا كنا نجتمع دون أن يكلم أحدنا الآخر. أما أنا فكنت أعرف من هو. أما هو فلا أدري إذا كان جهلني أو تجاهلني. ولكني عاملته كأنني لا أعرفه أو لا أعرف شيئا عنه، إلى أن اتفق وجودي وإياه ومعنا ثالث صديق لنا كلينا، فالتفت وقال: أظن لا يعرف أحدكما الآخر. ثم عرفني به، فسألني الفقيد: أأنت الدكتور سعاده رصيف اليازجي؟ فقلت: نعم. فأجاب: سمعت بك من بضع سنين وكنت أظنك كبير السن. فقلت له: الفرق بيني وبينك أنك نبغت عن كبر، أما أنا فنبوغي كان عن صغر. فضحك حتى قهقه ثم قال: لم لم تزرني؟ فقلت: زرتك والشيخ إبراهيم اليازجي، وتركت بطاقتي في بيتك، فلم ترد لي الزيارة. فأجاب أنه لم ير البطاقة. وزارني في اليوم التالي. ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين حميمين.

 

ولم ينخفض منسوب الصداقة بسبب أن الدكتور  سعاده كان من كبار الماسونيين، فيما الدكتور شميل من كبار خصومها.


وبالمناسبة يروي الخليل الطرفة التالية: "كتب إليه مرة أحد أصدقائه في طنطا يسأله أن يدخله في الجمعية الماسونية ظنا منه أن شميل كان ماسونيا. والحقيقة أن شميل لم يكن فقط غير ماسوني، بل كان يكره الماسونية. فكتب إلى صديقه يقول له: لست ماسونيا، ولكني منتظم في سلك تلك الجمعية الشاملة. وقد أراد شميل ب(الجمعية الشاملة) الهيئة الإجتماعية للجنس البشري العامة. فظن صديقه ان الجمعية الشاملة إسم علم لجمعية شهيرة. فكتب إلى شميل يقول: أرجوك أن تدخلني في سلك الجمعية الشاملة!
 

وبمناسبة زيارة الامبراطور الالماني غليوم للسلطنة العثمانية، نشر الخليل مقالة في المجلة العدد الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1916 ملأت خمس صفحات بدءاً من الصفحة الأولى. ولنقرأ ما كتبه تحت عنوان فرعي "مقابلة صاحب المجلة للأمبراطور".

 

قدم صاحب (المجلة) إلى جلالة الامبراطور صديقه الأسقف الإنكليزي على القدس والشرق... توجهنا برفقته إلى منزل قنصل المانيا العام في القدس، حيث قدمنا المطران الى جلالته. كان الامبراطور مرتدياً ثوباً بسيطاً. ولكن الناظر يمكنه معرفته لأول وهلة لأن صورته العامة المنتشرة في جميع أنحاء العالم شديدة الشبه به. وفي منظر عينيه بريق نفاذ، فإذا نظر إلى شخص خلته كأنه يحاول أن يقرأ أخلاق ذلك الرجل وما يجول في دماغه، بنظرة واحدة. كانت أخلاقه الحربية وقوة إرادته وصلابة رأيه مرسومة على وجهه كما على تمثال من البرونز. يقرأ الناظر إلى ذلك الوجه السلم المسلح الكامنة فيه نار الحرب كمون الكهربائية في بطارية. ويشعر جليسه أنه على مقربة من بركان لا يدري متى يثور. سريع الخاطر في حديثه، لطيف في كلامه. ومما قاله لنا أنه يأسف لعدم تمكنه من زيارة (أريحا) بسبب انحراف صحة الإمبراطورة. وسألنا إذا كنا قد زرناها وما رسخ في ذهننا من هذه الزيارة. أجبناه أنه لم يرسخ في ذهننا سوى لفظة (مرارة). فتربتها مرة.. وفاكهتها مرة.. وبحيرتها - البحر الميت - أشد مرارة. ولكن لها مزية واحدة مفيدة وهي أن من يقع في هذه البحيرة لا يغرق حتى لو أراد. فتبسم وقال: إذن، لم يكن علي خوف من الغرق.



وتوقفت مجلة (المجلة) عن الصدور. فانتقل الخليل إلى البرازيل، حيث أصدر جريدة (الجريدة)، وقد عاونه في إدارتها وتحريرها نجله أنطون الذي كان في السابعة عشرة من عمره.

 

في سان باولو، استأنف الخليل ما كان بدأه في بونس أيرس.

 

ونظرا لضيق الوقت، أكتفي بقراءة مقاطع من كتابه المفتوح إلى المجلس النيابي اللبناني، وإلى تأبينه لفرح أنطون.


خاطب الزميل الخليل نواب لبنان في افتتاحية الجريدة بتاربخ 26 آب 1922، وكأنه يخاطبهم في 24 نيسان 2021.


قارن في مستهل كتابه المفتوح بين نكبتين: النواب والإحتلال الفرنسي، فرأى أن "هذا عدو خارجي نعرف كيف نحاربه متى أدركنا خطره.. أما نكبتنا بكم فإنها تفوق كل نكبة اخرى، لأنها نكبة داخلية إذا لم ندرك خطورتها ونعالج خطرها بأسرع ما يمكن، انقلب علينا شر منقلب". ثم أورد لائحة من الإحتجاجات لعل ألطفها الإحتجاج التالي:" نحتج عليكم لأنكم اتخذتم ظهورنا سلما للوظائف، ووطننا ذريعة للرواتب، وسرتم بنا شوطاً بعيداً في طريق العبودية من حيث تدعون أنكم سائرون بنا في سبيل الحرية".

 

ولم يكتف بالإحتجاج عليهم. بل طالبهم بالنزول عن كراسيهم لأنهم جعلوا "النيابة هزءا وسخرية بين العالمين". فخاطبهم بهذه العبارات التي يستحقون أقسى منها: "لكم أعين لا تبصر عبودية الشعب وشقاءه ونكبته. انزلوا عن كراسيكم يا أصنام السياسة ويا أوثان الوطنية. لكم آذان لا تسمع صراخه الذي بلغ عنان السماء، وصياحه الذي شق طبقات الفضاء. لكم أرجل لا تسعى إلا إلى الذل والخيانة والعبودية. لكم ألسن لا تنطق إلا أكاذيب، ولا تروي إلا ترهات، ولا تجري إلا بكلام التزلف والتملق وشكر الطاغية الذي خرب بلادكم وقضى على حريتكم وأرهقكم وأهلككم بالمظالم والضرائب وأطلق برابرة جنوده على شعبكم يطأون رقبته بسنابك خيلهم.. دون أن يحمر لكم وجه أو يندى لكم جبين".

 

أضاف مصعداً من نقده اللاذع العادل البليغ: "تتكلمون في السياسة، وتبحثون في السياسة، وتناقشون في السياسة. أصمتوا ولا تتكلموا. لأن الجهالة الصامتة لخير من الجهالة المتكلمة، والخيانة البسيطة خير من الخيانة المتفلسفة".

 

وختم دعوته لهم بالنزول عن كراسيهم التي تربعوا عليها طيلة عامين، قبل أن ينزلهم الشعب: "انزلوا عن كراسي السياسية يا مساخر السياسة.. انزلوا عن مسرح الوطنية يا أصنام الوطنية.. انزلوا لأن الوطن يزمجر عليكم كأسد طعنتموه في جنبه، والأمة تزأر عليكم كلبوة فقدت أشبالها، فإذا لم تفترسكم اليوم افترستكم غدًا".
وبالطبع استمروا متربعين على كراسيهم المريحة حتى العام 2021، ولأجل غير مسمى، لأن الأسد لم يزمجر واللبوة لم تفترس.


وتابع الخليل في (الجريدة) ما كان بدأه في (المجلة)، سلسلة تآبينه لرواد نهضة أمته بمناسبة رحيلهم، ودائما يزرع في جزء منها مذكراته. في العام 1922 رحل النهضوي فرح أنطون. فنشر عنه تأبينا احتل صفحتين ونصف الصفحة في العدد الصادر في 11 تشرين الثاني 1922، وقد اعتبره ليس فقط شهيداً، بل شهيد الشهداء، لأن: "شهداء الأدمغة المفكرة لأكثر كثيرا من شهداء الصوارم الباترة، وشهداء الأقلام لأصبر على أفكاره من شهداء الحسام. شهيد السيف يموت مرة واحدة. أما شهيد اليراع ففي كل يوم يموت مراراً. شهيد السيف كثيراً ما يكون شهيداً إضطرارياً. أما شهيد القلم فلا يكون إلا شهيداً إختيارياً. شهيد الحسام كثيراً ما يكون شهيد حق القوة. أما شهيد القلم فلا يجوز أن يكون إلا شهيد قوة الحق".

 

وفي إطار بيت القصيد أي المذكرات، اعيد قراءة مقاطع من الفصل الأخير منها: "كان آخر إجتماع لي به في قهوة جميلة قائمة على أحد أطراف القاهرة، لأن الفقيد كان يفضل الأماكن المنفردة التي قلما يطرقها المعارف. كان الوقت نحو الساعة التاسعة مساء والأبنية والمناظر الطبيعية حولنا جميلة، والقمر مرخ أشعته اللجينية، وسماء القاهرة الصافية الزرقاء الجميلة تظللنا، والنجوم المتلألئة ترضع كبدها. دار حديثنا حول مواضيع شتى، كان آخر موضوع منها مناجاة الأرواح. من كان يظن أن أحدنا سيناجي روح الآخر بعد نحو عشر سنين في أميركا الجنوبية. وهنا، روى الخليل لفرح حكاية أخذها من وليم ستيد الكاتب الانكليزي الذي كان أبرز غرقى التيتانيك. وتنتهي الحكاية بلقاء الحبيب لروح حبيبته الميتة. ويضيف الخليل، "لما فرغت من هذه القصة، نهضت وودعت فرح أنطون، فالتفت إلي قائلاً: أإلى الغد؟ قلت باسماً: إذا بقينا أحياء. فأجابني ضاحكاً: سنجتمع أحياء كنا أم أمواتا".

 

وتوقفت (الجريدة) عن الصدور نهائياً في العام 1923. فعاد الخليل إلى (المجلة)، وسلم إدارتها وتحريرها إلى نجله أنطون، واكتفى هو بكتابة الإفتتاحية وبعض المقالات.

 

واستمرت بالصدور حتى العام 1925. ولنتوقف عند نموذج من نتاج الخليل في هذه المرحلة من حياته الصحفية.

 

تحت عنوان "الثورة طريق الرجال إلى الإستقلال" أكد الخليل "أن لبنان أرقى بلدان الشرق الأدنى كلها، وأغناها في العلوم والمعارف والمدارس". واستدرك للقول "ولكنه، بالرغم من ذلك كله، مدوس بسنابك خيل فرنسا، مستبد به ومعتدل على حقوقه أكثر من سائر أنحاء سورية". لماذا؟ لأن "العلم الوطني والمدارس الوطنية والتربية الوطنية، لا تأتي عن يد دولة مستعمرة محتلة تبذل جهدها لقتل كل روح وطني وكل شعور إستقلالي وكل عاطفة نحو الحرية وكل وسيلة لترقية اللغة العربية". وبالعكس، فالمدارس اللاوطنية "أصبحت أكبر عقبة في سبيل نيله – الاستقلال - وان المعارف أمست وسيلة العبودية". وهنا، يوجه الخليل نقداً قاسياً وعادلاً للبنانيين، يحسبه قارئه موجهاً في العام 2021، وليس قبله ب98 سنة، فيقول: "يحسب كل فرد من اللبنانيين نفسه فيلسوفاً عظيماً وأهلاً للزعامة. ولم يفقوا من شدة الغرور إلا بعد أن رأوا بلادهم مسلوبة وحريتهم مغصوبة وحقوقهم مدوية وأعراضهم مهانة، فهبوا الإعتراض والإحتجاج بعد خراب البصرة".

 

ويجزم الخليل، في سياق هذا المقال المنشور في عدد حزيران 1923، أن "الإستقلال هو السبيل الوحيد للحصول على هذه الآمال الخطيرة والمباني الكبيرة،لأن الأمة تكون إذ ذاك حرة".

 

ولكن كيف السبيل إلى ذلك، واللبنانيون كما وصفهم؟ ويجيب في آخر المقال "إن الطبيعة تخلق رجل الساعة. وكما خلقت للأتراك مصطفى كمال، وللهنود غاندي والمصريين زغلول، فإنها تخلق لكم رجلا يدعو إلى الواجب السامي". فهل كان يلمح إلى نجله أنطون الذي اختبره في الجريدة والمجلة؟ ربما. ولمن الأكيد، ان أنطون سعاده القائد الكاريزمي والمفكر المتعدد الإبداعات، والمناقبي النظيف الكف، كان ذلك القائد المنتظر.


وفي مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، تولى الزميل الخليل كتابة المقال الأول في جريدة (الرابطة) التي كانت لسان حال جمعية الرابطة السياسية الثقافية. وبقي ينشر فيها مقالاته حتى رحيله في العام 1934. ولنتوقف عند أهم مقال له فيها، الذي أكد إبنه أدوار للأمين نواف حردان أن الدكتور سعاده وجهه إلى نجله أنطون من غير أن يسميه.


تحت عنوان (العظمة الطبيعية) المنشور في العدد 106 الصادر في 13 نيسان 1933، خاطب الخليل إبنه أنطون بعد أن اختبره صحافياً في الجريدة والمجلة: "لقد وهبتك الطبيعة عقلاً نفاذاً يخترق المادة حتى يبلغ جوهر الحقيقة، وفؤاداً مملؤاً من النبالة وقلباً ينبض بالجرأة والشجاعة وإرادة من فولاذ وعزماً من حديد وإيماناً بنفسك لا يتطرق إليه الشك وثقة بذاتك لا يأتيها الباطل من أمامك ولا من جانبك ولا من ورائك وروحا كبيراً أثمن من كنوز الأرض كلها"، أضاف: "وإذا حاول العالم حولك أن يحجب عظمتك عن الأبصار، فاضحك منه كما تضحك الشمس ممن يحاول أن يحجب نورها بكفه عن عيون البشر. لذلك قلت لك في مقالة سابقة أن لا تبالي لأصحاب القلوب الصغيرة الذين يحسبون مواهبك ذنباً عليك ويعدون عظمتك العقلية سيئة إليهم من سيئات الزمان". ويختصر الأب العظيم، عظمة إبنه الذي تجلّت في مواهبه التي راقب تفجر بعضها في  البرازيل, وتوقع تفجّر غيرها في الوطن، فاختصر تفسيره لها بالعبارات الثلاث التي ختم بها المقال: "العظمة أثمن مواهب الطبيعة. العظمة تولد ولا تكتسب. العظمة تعطى ولا تؤخذ".

 

يبقى أن من مآثر خليل سعاده الصحفية، أنه كان مدرسة في الصحافة، وان أنطون سعاده الذي امتهن الصحافة وبرع في كتابة مقالاته في السياسة الخارجية، على حد ما أكده لي الزميل الكبير ميشال أبو جودة، هو خريج "كلية الصحافة" التي أسسها الزميل خليل سعاده.

 

 

 

 

كلمة الأمين احمد أصفهاني

 

 

ذكرى وفاة الدكتور خليل سعاده

 

 

كانت الكتابة عن الدكتور خليل سعاده حتى ثمانينات القرن الماضي ضرباً من المغامرة. أما إذا حدثت، فتأتي عرضاً أو في سياق مواضيع أخرى ومناسبات ترتبط بسيرة إبنه أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. وفي معظم الأحيان، تكون غالبية الذين يكتبون إما من أعضاء الحزب أو من المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي. وكان من النادر جداً أن يتم تناول الدكتور سعاده بوصفه أحد أبرز كتّاب عصر فجر النهضة، وقيدوم الذين تصدوا لخطط الاستعمار الفرنسي ـ البريطاني في سورية ما بعد الحرب العالمية الأولى. وإذا جرّت الكتابة إلى ضرورة الحديث عنه، فيكون الكلام عاماً مختصراً لا يعطيه حقه بين أقرانه من المفكرين السوريين الذين مهدوا لظهور إرهاصات النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.

 

 

تعرّض الدكتور سعاده لتجاهل مقصود ساهمت فيه المؤسسات الإعلامية والثقافية، الحكومية والخاصة على حد سواء. ولا شك في أن تغييبه عن المسرح الثقافي والفكري في الكيانات السورية، خصوصاً في لبنان، له علاقة مباشرة بالموقف من أنطون سعاده والحزب السوري القومي الاجتماعي. يُضاف إلى ذلك طبعاً أن الدكتور سعاده نفسه لم يكن أقل صلابة ووضوحاً في مواقفه الوطنية تجاه ما يحدث في سورية. فهو لم يتراجع قيد أنملة عن إدانته للعصبيات الطائفية، ورفضه المطلق لتدخل رجال الدين في الشؤون السياسية. فكان من الطبيعي أن تخشاه الأنظمة الطائفية الرجعية في بلادنا، وتسدل عليه ستاراً سميكاً من الإهمال والنسيان.

 

لكن قلة قليلة من القوميين الاجتماعيين في الوطن وفي المهجر الأميركي الجنوبي (البرازيل والأرجنتين) عملت على حفظ ذكراه لسببين رئيسيين: أولاً لأنه قامة فكرية وثقافية مميزة بحد ذاتها في تلك الفترة. وثانياً لأن المرحلة الأولى من حياة أنطون سعاده في البرازيل (1920 ـ 1930) كانت في ظلال أبيه مع كل ما يعنيه ذلك من مؤثرات في البنية الفكرية لسعاده الشاب. وهكذا بادر الأمين الراحل نواف حردان سنة 1971 إلى إصدار كتاب "الرابطة" في سان باولو، وضمّنه مختارات من مقالات الدكتور سعاده المنشورة في مجلة "المجلة" ومجلة "الرابطة" اللتين كان الدكتور سعاده يرأس تحريرهما في البرازيل.

 

وتزامن هذا العمل مع دعوات أطلقتها شخصيات قومية وثقافية تطالب بتكريم الدكتور سعاده في خطوة اعتبارية تأخرت كثيراً. غير أن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1976) أعاقت كل تلك المساعي... إلى أن هدأت الأحوال نسبياً، حيث تقرر إقامة تمثال نصفي له في إحدى ساحات ضهور الشوير. وفي 17 أيلول سنة 1981، نظم "المجلس الشعبي لمنطقة المتن الشمالي" احتفالاً خاصاً لإزاحة الستار عن التمثال. وصدر في المناسبة كتيب تضمن مساهمات من الرفقاء نصري الصايغ وبدر الحاج وجان داية، مع مختارات من كتابات الدكتور سعاده.

 

بعد ذلك أصبح الاهتمام بالدكتور سعاده أكثر تنظيماً. فقد قدّم الرفيق علي حميّة سنة 1986 أطروحة دكتوراه بجامعة السوربون الفرنسية تحت عنوان "خليل سعاده: سيرته وأعماله"، صدرت ترجمتها العربية سنة 2007 عن "دار الفرات" في بيروت. وعلى حد علمنا كانت الأطروحة الجامعية الأولى عن الدكتور سعاده. وكان الرفيق بدر الحاج قد أعد كتاباً ضمّ مقالات للدكتور سعاده صدر سنة 1987 عن دار "رياض الريس للنشر" في لندن. كذلك نشر الرفيق جان داية مقالات عدة عن الدكتور سعاده، توّجها بكتاب صدر عن "دار فجر النهضة" سنة 1996 تضمن ترجمة "لمقالات مجهولة في جريدة إنكليزية". والمقصود بذلك جريدة "ستاندرد" التي كانت تصدر في الأرجنتين باللغة الإنكليزية.

 

وفي العام 2002 نظم "تجمع النهضة النسائية" في لبنان احتفالية خاصة بالدكتور سعاده، أقيمت بالمركز الإنجيلي في ضهور الشوير وحضرها حشد من القوميين الاجتماعيين ولفيف من رجال الفكر والأدب والسياسة. وقد صدر في تلك المناسبة كراس شارك بالكتابة فيه: نضال الأشقر، صفية سعاده، بشارة مرهج، سليم مجاعص، جان داية، إيلي عون، جهاد العقل، بدر الحاج، لبيب ناصيف.

 

في هذه الأثناء، كانت قد تبلورت لدى الرفيق بدر الحاج فكرة جمع وتحقيق ونشر تراث الدكتور سعاده الذي يكاد يندثر بعامل الزمن والإهمال. وتلاقت هذه الفكرة مع اهتمامات الرفيق سليم مجاعص الذي كان يعمل آنذاك على مشروع سيرة أنطون سعاده باللغة الإنكليزية. وعكف الاثنان على كتابات الدكتور سعاده، يجمعان ما توزع منها ويصنفانها ويحققانها مع مقدمات وهوامش إيضاحية. ولم تكن المهمة سهلة نظراً إلى فقدان المراجع الأساسية، وضياع بعض من مؤلفات الدكتور سعاده، والتلف الذي أصاب مجلدات "المجلة" و"الجريدة" و"الرابطة". وعندما باتت المجلدات جاهزة للطبع، دخلت "مؤسسة سعاده للثقافة" في المشروع الطموح. وهكذا صدر المجلد الأول سنة 2014، لتعقبه مجلدات أربعة أخرى مع روايتين بالعربية ورواية بالإنكليزية. المجلدات الثلاثة الأولى صدرت عن "مؤسسة سعاده للثقافة"، في حين أخذت "دار كتب" على عاتقها إصدار الكتب الخمسة الباقية. وقيد الإعداد الآن مجلدان آخران... وإذا أسعف الحظ، المدعوم بجهود يبذلها بعض الرفقاء، وعثرنا على أعمال الدكتور سعاده المفقودة، فستكون هناك إصدارات أخرى!

 

العناوين التي صدرت حتى اليوم: "سورية من الحرب والمجاعة إلى مؤتمر الصلح"، "سورية والانتداب الفرنسي 1920 ـ 1923"، "أسماء وأحداث"، "مباحث عمرانية وفلسفية"، "سورية والانتداب الفرنسي 1923 ـ 1934"، رواية "أسرار الثورة الروسية"، رواية "قيصر وكليوبطرا" (بالعربية والإنكليزية). وهكذا بات في متناول المثقفين والإعلاميين القسم الأكبر من كتابات الدكتور سعاده، فهل تغيّرت عقلية التجاهل السائدة في تلك الأوساط الفكرية؟

 

إن لعنة التغييب التي لاحقت الدكتور سعاده في حياته وبعد مماته، ما زالت مسيطرة على المؤسسات الإعلامية والتربوية في سورية عموماً، وفي الكيان اللبناني تحديداً. لقد بذل الرفيقان الحاج ومجاعص جهداً إستثنائياً، فأنجزا مجموعة من المجلدات تحتوي مقالات تؤرخ لمرحلة مفصلية في التاريخ السوري المعاصر (إضافة إلى الجوانب الأدبية التي تناولها الدكتور سعاده). ومع ذلك لم تحظ تلك الأعمال بالاهتمام الذي تستحقه، وظل التجاهل المتعمد متحكماً بكيفية التعامل ـ أو الأصح اللاتعامل ـ مع فكر الدكتور سعاده ونشاطاته من سورية إلى مصر إلى الأرجنتين... وأخيراً البرازيل. (تتطلب الأمانة العلمية أن نشير إلى أن جريدة "الأخبار" اللبنانية أعطت مجلدات الدكتور سعاده اهنماماً خاصاً من خلال تقرير صحافي نُشر بتاريخ 25 آب 2016).

 

في العام 1919، نشر الدكتور سعاده في "المجلة" مقالاً معبّراً عن حال الأمة، دعا فيه السوريين إلى أن ينظموا أنفسهم، قائلاً: "الاتحاد المنظم أساس كل حركة سياسية خطيرة ترمي إلى غاية وطنية سامية كالغاية التي نسعى إليها الآن ألا وهي إحراز الاستقلال". وكان قد اقترح أثناء إقامته في القاهرة قبل سنة 1913 "اتخاذ وسائل جدية بواسطة فدائيين". ونحن نجد صدى لهذه الأفكار في كتابات أنطون سعاده المبكرة، والتي تطورت مع الوقت لتصبح شكلاً تنظيمياً دقيقاً. ومن المؤسف أنه لم يُتح للدكتور سعاده أن يرى رجاءه يتحقق بنشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية على يد ابنه أنطون

 

 

كلمة الرفيق د. عادل بشاره

 

 

خليل سعاده الموسوعي

 

 

ماذا يمكن للمرء أن يقول عن خليل سعاده أكثر مما قيل عنه. لم أجد وصفًا أفضل له من لقب "رجال كثيرون في رجل واحد" نظرا لضخامة انتاجه، ونطاق افكاره، وعمق معرفته وإتساعها، وظروف حياته، وتنوع نشاطاته. لقد كان خليل سعادة، طوال حياته، شعلة من الطاقة والاجتهاد واللياقة. ولمّا كان قد عمل في العديد من المجالات الإبداعية والعلمية والفنية، ومارس العديد من المهن الإنسانية والفكرية، وكان كاتبًا فصيحًا ومثقفاً طليعياً ورائداً تنويريا ومتحدثاً ناجحاً، فإنه يستحق لقب ال polymath أي "الموسوعي"، وهي صفة غالبا ما تطلق على الاشخاص الذين تمتد خبرتهم إلى عدد كبير من المجالات المختلفة.

 

وفقًا للمعايير العلمية المعتمدة، يجب ان يتمتع الشخص بالصفات التالية ليكون "موسوعياً":

 

(أ) القدرة على الخطابة

 

(ب) معرفة "حقيقة الأشياء"

 

(ج) القدرة على الترافع بشكل صحيح

 

(د) القدرة على التحدث في الأماكن العامة

 

(هـ) فهم مهارات الحجة والمنطق

 

(و) التفوق في مجموعة متنوعة من الموضوعات أو المجالات

 

(ز) القدرة على المشاركة في المناقشات المتعلقة بقضايا الانسان العميقة مثل الفلسفة والأخلاق.

 

(ح) أن يكون مؤلفا اوشاعرا او اديبا.

 

وهذا يعني ان مرجعية "الموسوعي" نطاقها هو أكبر من نطاق أديب، وهي محجوزة للأشخاص الذين تمتد خبرتهم ومساهماتهم الى عدد كبير من المجالات المختلفة، لتشمل المشاركة النشطة في شؤون الحياة العظيمة، ومساهمة معترف بها في تطوير المعرفة والتقدم البشري.

 

وقد لا يتم الحكم على "موسوعي" من عصر معين في التاريخ، على أنه متعدد المواهب في العصور اللاحقة. فإن العديد من الشخصيات التاريخية الذين كانوا يعتبرون متعددي المواهب في عصرهم الخاص بهم، لا يُنظر إليهم اليوم على أنهم متعددو المواهب على أساس مستويات معرفتهم. (الكوبيتر ؟)

 

وبالرغم من ان مصطلح "موسوعي" قد تبدل وتغير عبر التاريخ الى مصطلح "رجل النهضة"(Renaissance man)  خلال عصر النهضة الأوروبية، والى "العلامة" Man of Letters او  "belletrist" من "belles-lettres" بالفرنسية، مع ظهور المنهج الأكاديمي في القرن التاسع عشر، ثم الى الاديب المثقف في القرن العشرين، فقد حافظ مصطلح "الموسوعي" على سماته الأساسية مع إضافة ميزة أساسية واحدة هي: “Multilingual” أي متعدد اللغات.

 

وهذه الميزة الإضافية تمهد الطريق لنا لنتكلم عن كتابات وابداعات خليل سعادة باللغة الإنجليزية.

 

بالبداية، أود أن أقول أنني، وبعد قراءة مؤلفات وكتابات خليل سعادة باللغة الإنجليزية، ذُهِلت بقدرته العالية في هذه اللغة وتمكّنه منها. لقد كان ضليعا باللغة الإنجليزية وآدابها، وكان بارعاً في قواعدها ومصطلحاتها لدرجة تكاد ان تشعر معها أنك امام اديب انكلو-ساكسوني من الطراز الأول.

 

كان هناك سوريون آخرون ممن يجيدون اللغة الإنجليزية، خاصة في مصر، ولكن ما ميز خليل سعادة عنهم هو قدرته على الكتابة بوضوح ودقة، وقدرته على نقل أفكاره ومعارفه العامة بطريقة تخاطب العقل الغربي باللغة والمصطلحات والمفاهيم التي كانت سائدة في الغرب آنذاك.

 

كان معظم معاصريه إما يتحدثون الإنجليزية بشكل جيد ولكنهم يفتقرون إلى المعرفة والمهارات الصحيحة، أو انهم كانوا يمتلكون المعرفة والمهارات ولكنهم يفتقرون إلى المواهب والبراعة لنقلها الى اللغة الإنجليزية. خليل سعادة جمع الثلاثة في شخصه: اللغة، والمعرفة، والمهارات.

 

وقد يكون هذا هو سبب اعتماده كمراسل خاص لصحيفة نيويورك تايمز، ومن ثم من قبل جريدة The Standard، وهذه الأخيرة هي اول جريدة  تصدر في أميركا اللاتينية باللغة الإنكليزية.

 

تمحورت كتابات الدكتور سعادة في جريدة نيويورك تايمز على الوضع في مصر، وكانت بالإجمال مقالات طويلة وتحليلية. اما مقالاته في الستاندرد فكانت عن الحرب العالمية الأولى والأوضاع في الإمبراطورية العثمانية عشية الحرب. وكان له ايضا عودة الى الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتحليل رائع عن "العالم المحمدي"، مما استدعى ردًا ساخرًا من أحد القراء، ورداً على الرد من الدكتور سعاده، وبسخرية اقوى.

 

إن "نبش" هذه المقالات والحصول عليها يعود بالدرجة الأولى الى رفيقنا العزيز جان دايه. مع ذلك، نعتقد أن هناك عدد من المقالات تخص الدكتور سعادة نشرت في صحيفة نيويورك تايمز ما بين 1899 و 1905 لم يتم التطرق اليها بعد، ربما لأنها وقعت بأسماء مستعارة.

 

وهناك ثلاثة عوامل تجعلنا نعتقد أن هذه المقالات هي بقلم الدكتور سعادة:

 

1 -  الأسلوب المتبع هو شبيه جدا بالمقالات الموقعة باسمه.

 

2 -  بعض المقالات موقعة بالحرفين ES بدلا منKS

 

3 -  ظهرت المقالات في الصحيفة تحت عنوان Foreign Correspondence – Shweir في وقت كان خليل سعادة هو المراسل السوري الوحيد للصحيفة.

 

أما سبب اللجوء الى الأسماء المستعارة، فيعود على الأرجح الى تنقل الدكتور سعادة ذهابًا وإيابًا إلى سورية في وقت كان القمع العثماني على أشده.

ننتقل الأن الى كتابات الدكتور سعادة في مجال الرواية. وهنا تبرز مهاراته الى حدها الأقصى.

 

ألف الدكتور سعادة روايتين باللغة الإنجليزية (Caesar and Cleopatra and Emir Murad) اصدرهما عن دار (Edwin Vaughan and co.), المشهور جدا والذي كان ينشر فقط الروايات الممتازة.

 

كان للروايتين صدىً قوياً في الأوساط الأدبية في كل من إنكلترا والولايات المتحدة. بهذا الخصوص، حصلنا على عدد من المراجعات في دوريات أدبية اجنبية تنوه ليس فقط بالسرد التاريخي المعتمد في الروايتين، ولكن أيضًا بطلاقة اللغة ووضوحها. لقد كان الدكتور سعادة روائياً مغامراً طرق باب الرواية الإنجليزية ودخل الى قصرها الاثري، ولكن ظروف الحياة وهجرته الى اميركا الجنوبية أجبرته على التراجع مع انه كتب رواية ثالثة بالإنجليزية باسم Antonio and Cleopatra وقام بتعريبها فيما بعد ونشرها على حلقات في جريدة "المجلة" التي كانت تصدر في البرازيل.

 

وهنا قد نتساءل: لماذا لجأ الدكتور سعاده إلى كتابة الروايات باللغة الإنجليزية؟ والجواب هو التالي:

 

1 -  Because he could أي لأنه كان باستطاعته ان يقوم بذلك.

 

2 -  على عكس الغرب، حيث كانت كتابة الروايات راسخة ومتطورة، كانت«القصة» أو «الرواية» الطويلة فناً جديداً في العالم العربي، وكان الإطار الزمني للعمل القصصي الحقيقي والجاد يتأرجح بين الفترة الممتدة من عام 1908 وحتى عام 1937.

 

مع ذلك، تستأثر ترجمته لإنجيل برنابا بأكبر جانب من المناقشة والبحث نظرا" لصعود الإسلام السياسي وتداعياته على الغرب منذ سبعينات القرن الماضي. ولقد حظيت هذه الترجمة مؤخرا على فصل كامل في كتاب جديد عن رشيد رضا بعنوان:

 

Ryad, Umar. Islamic Reformism and Christianity:A Critical Reading of the Works of MuḥammadRashīdRiḍā and His Associates (1898-1935). Brill.

 

لقد كان الدكتور خليل سعادة فعلا "متعدد المواهب"، اذ انه الى جانب عمله في مجال الطب، مارس فن الرواية، والصحافة، والترجمة، وكان أيضا لغوياً Lexicographer ومعجمياً ناجحاً، ومتكلماً بارعاً، ومناضلاً وطنياً وسياسياً نشيطاً. والاهم من كل ذلك، كان الدكتور سعادة موسوعة في علمه، وثقافته، وقدرته على التفكير والإنتاج، ومرجعا متنقلا يحمل بين جناحيه معلومات لا حصر لها.

 

لهذه الاسباب، ولأنه كان يتمتع بمعرفة حقيقة الأشياء والقدرة على تعليم الناس طبيعة الاشياء - أي كيف يكون كل شيء وكيف نشأ كل شيء - فهو يستحق بجدارة لقب الموسوعي (Polymath).

 

 

 

كلمة الأستاذة ريما داغر أبي خير

 

 

 

 

شكرًا لمؤسّسة سعادة للثّقافة على هذه الإضاءات النيّرة، وتكريمها لشخصيّاتٍ كانَ لها الباعُ الطَّويل في نَشرِ الثّقافة والوَعي في أمَّتنا وأخصُّ بالشّكر الدّكتورة ضياء حسّان غملوش، رئيسة هذه المؤسّسة لِثَباتِها في متابعة النّشاطاتِ الفكريّة والثّقافيّة والٱجتماعيّة، ولإسهامها مَعَ الكثيرين منكم في إرساءِ الأسس الّتي عملَ لأجلِها الزِّعيم والمُفَكِّر أنطون سعادة، ولقد كانَ لي شرفُ المشاركة في تكريمِ بعض هذه الشّخصيّات في الشّوير.

 

 وما تكريمُ الطّبيب والصّحافيّ والأديب والمُفَكِّر الدّكتور خليل سعادة اليوم، إلّا جزءٌ من هذه المَسيرة الطّويلة، الّتي يصحُّ القولُ فيها، وبلِسانِهِ: "إنَّنا أمَّةٌ تطلُبُ رَجاءً لا يأسًا، وحياةً لا موتًا". " يَتَرَتَّبُ علينا، مُحاربةَ اليأس بكلّ وسيلةٍ ممكِنَةٍ، وأن نحاربَه بالفكرِ والقولِ والفِعل".

 

ما سأتحَدّثُ عنهُ اليوم، هو دراسةٌ تحليليّة مُقتَضَبة، لبعضِ المقالاتِ الأدبيّة والٱجتماعيّة للدّكتور خليل سعادة، والّتي نُشِرَتْ في كتاب "الرّابطة"[1] في العام 1971، ولم أتطرَّقْ إلى الأدبِ المسرحيّ ولا إلى الرّواية عندَه، أو إلى أدب الطّب أو أدب السّياسة لأنَّ كلَّ فنٍّ أدبيٍّ منها يحتاجُ إلى دراسةٍ مُوَسَّعة لا مَجالَ لها هنا.

 

بدايةً، في قراءةِ عناوين المقالات، نرى أنَّ كلمة "فلسفة"، تكرّرت في ثلاثةِ عناوين هي: "فلسفةُ الجوع"، فلسَفَةُ الصُّعوبات"، و"فلسفةُ النَّفس". وكلمة "فلسفة" لُغويًّا من اليونانيّة Philo Sophia ، تعني "حُبَّ الحكمة". وتُعنى الفلسفة بدراسة الأسئلة العامّة والأساسيّة عن الوجودِ والمعرفة والقِيَم والعقل والٱستدلال واللغة.

 

والسّؤال الّذي يُطرَح: ما علاقة الفلسفة الّتي ترتبط بالعقل والمنطق والعِلم، بالجوع، والصُّعوبات والنَّفس؟ ولماذا رَبَطَ سعادة ما هو حِسّيّ بالفلسفة؟

 

أوَّلًا: رَبَطَ الفلسفةَ بالجوع لأنَّ الجوع هو أقوى فلسَفاتِ العالم وأشَدّها تأثيرًا في الهيئة الٱجتماعيّة، كما يقول "لأنَّ العُضوَ المُفكِّرَ في هذه الفلسفة هو المعدة لا الدّماغ، وسَيكونُ الجوعُ العامِلَ الأكبَرَ في هذه النّهضة الّتي سوفَ تدقُّ حصونَ الٱستبدادِ ومعاقِلَ الظّلم إلى الأبَد"[2]

 

ثانيًا: رَبَطَ الصُّعوباتِ بالفلسفة، لأنَّ الصُّعوبات هي الّتي خَلَقَتْ كِبارَ رجالِ العلم، ولولاها لما وُجِدَ على وَجهِ البسيطَةِ رَجُلٌ عظيم. "لأَنَّ العَظَمة هيَ في التَّغَلُّبِ على الصُّعوبات، لا في تَهَيُّبها، وفي ٱجتيازِ العَقَبات لا في التَّنَعُّمِ بالطَّيِّبات"[3].

 

ثالِثًا: رَبَطَ النَّفس بالفَلسَفة، لأنَّ تربيةَ العواطف هِيَ منَ الشُّؤونِ الحَيَويَّة لٱرتِقاءِ الفَردِ والجَماعات. "فَمَنْ يَتَناوَلُ البَشَرَ عَن طَريقِ العواطِف، كما يقول، سَعادة، يَكونُ أكثرَ نَجاحًا مِمَّن يَتَناوَلُهُم عن طَريقِ العَقل وَإنْ كانوا كُلُّهُم من أصحابِ العُقولِ الكبيرة، لأنَّ مَنطِقَ العَواطِف مَنطِقٌ طَبيعيٌّ بسيط، خِلافًا لِمَنطِقِ العقل الَّذي يقتضي كثيرًا من إجهادِ القِوى العاقِلة للإِقناع"[4].

 

في العناوينِ الثّلاثة، حصَلَ "الٱنزياح" بينَ كلمتين غير مُترابطَتين في الأصل، ولكنَّ سعادة جمَعَهُما ليخرجَ بنظريّاتٍ هادِفة. وفي مضمونِ المَقالاتِ، عمدَ الكاتب إِلى التَّضاد، مثلًا:

 

الجوع # الغذاء

السّاكن والكامن # المُتحرّك

الضّعيف # القويّ

التّرهّل والخُمول # التّكيُّف والٱرتقاء

العُصور المُظلِمة # العُصور النيِّرة

الأغنياء # الفقراء

 

وفي هذه المتناقضات حاوَلَ الكاتبُ إظهارَ الشّيءِ وعكسِهِ، لِيُبيِّنَ للقارئ صَلاحَ هذِهِ ومَساوِئَ تلك.

 

ٱنطِلاقًا من هذه المَقالاتِ الموضوعيّة الٱجتماعيّة، أرادَ الدُّكتور خليل سعادة، ترشيدَ العُلوم لِغاياتٍ ٱجتِماعيَّة، تَعودُ على المُجتمع بالنَّفع، وربطَ العلمِ بالأخلاقِ وبالقِيَمِ الٱنسانيَّة، الّتي على أساسِها تَرقَى المُجتَمعاتُ وَتَتَطَوَّر.

 

ومِنَ المُلاحَظاتِ المُهِمّة في مَقالاتِهِ الأدَبيَّة:

 

- قارِنَ في بعضِها بينَ الغربِيينَ والشَّرقيينَ لِيَدلَّ على بعضِ العاداتِ السَّيِّئة الّتي تربَّى علَيها الشَّرقيّون، وما يجبُ أن يَتَعلَّموه من الغربيّين في تصرُّفاتِهم للٱرتقاء والسّموّ، كألفاظِ الٱستغفار الشّائعة بكَثرة عندَ الغربيّين والّتي يستخدمونها في الٱعتذارعندَ الوقوعِ في الخطأ، بينما عند الشّرقيّين تَقِلُّ هذه الألفاظُ ونادِرًا ما يستخدمونها، لأنَّهم يعتقدون أنَّ الٱعتذار يحُطُّ من منزِلَتِهم الأدَبيّة والٱجتماعيَّة، فيلجأون غالِبًا إلى الألفاظِ الموضوعةِ لهذه الغاية باللغة الأجنبيَّة.[5]

 

- ٱستَعانَ بأمثِلَةٍ من تخصُّصِه في الطّب، لِتشخيصِ أمراضِ الأمَّة، وإعطاءِ العِلاجِ المُناسب للشِّفاءِ منها.

 

- ٱستَخدَمَ لُغةً سهلة، مَعَ مَتانةٍ في التَّعبير، وَقوَّةٍ في سبكِ العِبارات.

 

- لم يرتَكز أدَبُهُ على الجَماليّات الأسلوبيّة، لأَنَّ هَدَفَهُ في مقالاتِهِ كانَ تبيانَ المشاكلِ الٱجتماعيّة والسّياسيّة من أجلِ الإصلاح والبِناءِ، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ أدبَهُ خالٍ منَ الصُّور البيانيَّة والمُحَسِّنات البديعيَّة. فهيَ تبدو جَليَّةً في الوَصف، خُصوصًا في وَصفِهِ للأماكنِ الحبيبة إلى قلبِهِ، كَوَصفِهِ للشّوير في كلمَتِهِ التأبينيَّة لنعمة يافث ٱبنِ بلدَتِهِ[6]، وفي وَصفِهِ للٱجتماعاتِ الفكريَّة والأدَبيَّة الّتي كانتْ تُعقَدُ في منزِلِ ابراهيم اليازجي وأخيه خليل في برمانا، والأجواءِ الطّبيعيَّة الجميلة الّتي كانَ يَتَمَتَّعُ بها هذا المَصيَف، كما تَغَنَّى د. خليل  بِفِكرِ وردة اليازجي (شقيقتهم)، وأدَبِها، ووَصَفَها في ذكرى رَحيلِها بأنَّها الشّاعرة السّوريَّة الوَحيدة في ذلك الوقت، الّذي وُجِدَتْ فيهِ كاتِبات سوريّات وهيَ السيّدة الفريدة بينَ الشُّعراء.

 

كذلكَ وصَفَ بأسلوبٍ أدبيٍّ بديع، جمالَ طبيعةِ فلسطين، ومكانَ ولادةِ السيّد المسيح الّذي ٱهتدى إليه المَجوس البابليين بوساطة النَّجمة[7]، كما تحدَّثَ عن سورية، والدة الحضارة الأولى وأمّ المعرفة البكر في مقالتِهِ "ميسلون" [8]، الّتي سمّاها "إلاهة الحرّيَّة".

 

إنَّ كِتابات الدّكتور خليل سعادة هيَ خَيرُ دَليلٍ على سَعَةِ ثَقافَتِهِ وَقُوَّةِ مَدارِكِهِ، خُصوصًا أَنَّهُ كانَ يُجيدُ وِبِطلاقَةٍ كِتابَةً أكثَرَ من خمسِ لُغاتٍ وَقِراءتها وهي: الفرنسيَّة، والٱنكليزيّة، والٱسبانيَّة، والبرتغاليّة، والتّركيّة، إضافةً إلى العربيَّة.

 

إنَّ امتلاكَهُ لهذه اللغات، دَفَعَهُ إلى تأليفِ قاموس سعادة عام 1911، وهو مُعجَمٌ عربيّ إنكليزيّ، مَعَ مُقدّمةٍ انكليزيّة للمستشرق ديفيد صموئيل مرجليوث Margoliouth.

 

وفي الخاتمة لا بدَّ من ذكر الفراغ الّذي تركَه رحيل العلّامة الدكتور خليل سعادة في عَوالِمِ الأدبِ واللغة والصِّحافة والطّب فقالَ الشّاعر موسى حدّاد في رِثائِهِ [9]:

 

 

سِـرْ ولا تَـلْـتَـفِـتْ فَـهَذي حَـيـاةٌ لـيسَ فـيها الـجَـديـرُ بالالتِـفات

 

عِـشْـتَ فـيها مُـفَـكِّـرًا فـَيـلَسوفـًاومِـنَ الـزّادِ قـانِـعـًا بـالـفُــتـات

 

صُنْتَ ماءَ الجَبينِ عَنْ كُلِّ بَـذلٍوَتَـرَفَّـعْـتَ عـن نَـوالِ الهِـبـات

 

لَـمْ يَـكُـنْ عـاصِيًا عَـلَيـكَ ثَـراءٌلَو أَرَدْتِ الغِنى كَبَعْضِ السُّراة *

 

لـكـنَّ الـعِــلْـمَ والـقَـناعَـةَ كـانــافـيـكَ كالنُّبلِ من أجَلِّ الصِّفـات

 

 

 

                       

         * ملاحظة: التّاء المربوطة في خاتمة البيت الشِّعريّ تُصبحُ هاءً.

 

 

 

[1] خليل سعادة. الرّابطة، مجموعة مقالات وأبحاث متنوّعة. سان باولو – البرازيل، 1971.

[2] م. ن. ص 60.

[3] خليل سعادة. م. س. ص 61.

[4] م. ن. ص 98.

[5] م. ن. ص 47.

[6] خليل سعادة. م. س. ص 78.

[7] م. ن. ص 32.

[8] م. ن. ص 139.

[9] م. ن. ص 285

 
التاريخ: 2021-04-24
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro