مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الديمقراطية أكثر تقدماً وأشد تعقيداً من أي نظامٍ سياسي آخر
 
«جيوفاني سارتوري» مفهوم مقترح في الديمقراطية
معماري، جورج
 

 

 

 

 

تمهيد

 

ـ تساؤلات ديمقراطية:

 

بداية يبقى السؤال: هل نحن ديمقراطيون حقاً في محاولتنا لتوطيد دعائم الديمقراطية؟ وهل نكون كذلك إن رغبنا في أن نكون ديمقراطيين؟ وهل الديمقراطية، إن صح ما تقدم، مجرد رغبة وأمل في توخي ما هو الأفضل؟

 

هل نحن ديمقراطيون لمجرد أننا اتخذنا قراراً في أن نكون ديمقراطيين؟ وتالياً، هل الديمقراطية مجرد قرار؟!

 

هل نحن ديمقراطيون لمجرد أننا درسنا الديمقراطية وبحثنا في تجاربها وقيَّمنا أطروحتها نظرياً وكان إصبعنا في الجرح الديمقراطي؟

 

أم أننا كذلك لأننا أقمنا الندوات التحاورية والبحثية في الديمقراطية وحاضرنا بها وطرحناها في مختلف المناسبات ودعونا لها وناضلنا في سبيلها وقدَّمنا الضحية تلو الأخرى في سبيل نصرتها ورفع رايتها؟

 

هل نحن ديمقراطيون لأن ما نأمله منها أكثر من ذاك الذي نأمله من غيرها؟ أو من دونها؟ أم أننا كذلك لأننا أعضاء في تلك الأكثرية؟ أم أننا كذلك لأننا من أقلية لا مخرج لها من صوت الأكثرية إلا بالديمقراطية؟ أم لأننا لن نجد متنفساً إلا بالديمقراطية.

 

هل نحن ديمقراطيون لأننا أبداً نفصل الديمقراطية على القياس الذي يجعل من كفتنا هي الراجحة على الدوام؟ فهي كل ما نرغب به وما نرغبه للآخرين، بعدنا؟

 

فإذا جاءت الإجابة، على أي من التساؤلات المتقدمة بالنفي، فلماذا نطالب بالديمقراطية وندعو لها ومازلنا في عتمتها لا في دائرة ضوئها؟ وكيف يمكن لها أن تقوم ونحن غير ديمقراطيين في الجوهر؟! وهل للديمقراطية أن تقوم دون ديمقراطيين على غرار الديكتاتورية، بديكتاتوري واحد؟! هل تقوم الديمقراطية بأساليب لا ديمقراطية؟ ومن حالة لا ديمقراطية؟ هل، لا تقوم الديمقراطية، إلاّ في أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية، معنية، ودونها لا قيام لها؟

 

هل الشكل الديمقراطي يقود إلى مضمون ديمقراطي؟ أو هل يعني مضموناً ديمقراطياً؟

 

هل الشكل المباشر أو التمثيلي أو حتى التعبيري للديمقراطية، يعني ممارسة ديمقراطية تشريعاً وتنفيذاً وقضاءً.

 

هل الديمقراطية شكلاً لا علاقة له بالسنن والشرائع والدساتير والقوانين والأنظمة التي تقوم عليها الدولة وتحمل ميثولوجيتها وميتافيزيقيتها وحتى عقلانيتها في أنها وجدت لتبقى إن كانت ديمقراطية أم لم تكن؟

 

هل الديمقراطية سلطة تحمل في طيَّاتها كل الإرث السلطوي وبكل ما يعنيه من أدوات قسرية أو قمعية لكل ما هو لا ديمقراطي؟

 

هل الديمقراطية، من حيث أن موضوعها الدولة، وهي موضوعها بالذات، تمضي تهميشاً واستثناءاً لكل ما هو لا ديمقراطي على غرار موضوعها؟ أم لها موقفاً آخر وأسلوباً آخر وغاية أخرى من كل ما هو لا «ديمقراطي»؟

 

هل تُفرض الديمقراطية بطرق لا ديمقراطية وتُمارس بذات الطرق والأساليب؟ هل الخوف على الديمقراطية يبرر أساليباً غير ديمقراطية؟

 

هل الديمقراطية تتكون وتولد وتنشأ، أم أنها موضوعية في كل ذلك لا علاقة للإنسان بها ولا حول ولا قوة له حيالها؟

 

تلك تساؤلات، تبقى على كثرتها وإسهابها واستطراداتها، قليلة جداً بالنسبة لموضوع هو بحد ذاته موضوعٌ تساؤلي، يشكل السؤال مادته الأساسية بل وجوهره في أغلب الأحيان.

 

تلك بعض من تساؤلات ما تزال تطرح نفسها بقوة، فهي لم تقنع حتى الآن ولم ترضِ عن كل الإجابات التي حاولت تكييف الديمقراطية وفق مقتضياتها الفكرية ومصالحها وخلاصات التجربة التاريخية.

 

وما تزال تلك الأسئلة في إجاباتها تُبرر، أياً كان، بالأخر الرافض دون إدراك، بأن الأخر، هو الموضوع الأساس، المحور النووي في الديمقراطية، وحتى الآن ما يزال السؤال: ما الديمقراطية إذن؟ يطرح نفسه بقوة الحاضر.

 

مقدمة: الديمقراطية واقعاً

 

كيف يمكننا الوصول الى قرار يصب في مصلحة المجموع المعني به بما يحقق عدالة ومساواة بين أعضاء هذا المجموع ؟ بل إن ما تقدم يفترض سؤالاً أكثر دقة، لكنه أشد لطافة وتعقيدا، ألا وهو : كيف السبيل لمثل هكذا قرار، بمعنى، ما هو الشكل، الأسلوب، الكيفية، الطريقة،  الذي يمكنه تحقيق ذلك؟

 

بين متخيلٍ (أي كيف نتصور الديموقراطية شكلا ومضمونا)  يصعب تحققه، وضرورة أملتها تطورات الاجتماع على مختلف الصعد والمستويات (الأوضاع السياسية التي رُسِّخت نتيجة الحروب والاتفاقات وتشكيل المجتمعات، والدول الحديثة، وتباين الشعوب ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، اضافة للأوضاع الاقتصادية السائدة وهيمنة قوى جبارة على قوى ناشئة لم تتمكن من تحصيل قوت حياتها ..الخ )، راوحت الديمقراطية في حدود موروثها "التاريخي ـ الفكري" (حيث بقيت هي هي من حيث التعريف: حكم الشعب لنفسه بنفسه)، متماهية في الحلول التي ادعتها مخرجاً لمأزق سياسي تارة واختناق اقتصادي طوراً.

 

لعل أبرز ما قادت إليه هذه المراوحة، هو ما تعبِّر عنه تكرارية السؤال: ما الديمقراطية؟ فهو السؤال الذي لم يجد حتى اللحظة، إجابة يرضى بها ويقنع وتحول تالياً دون سيل التساؤلات المطروحة حول الموضوع الديمقراطي أو تلك التي يطرحها هذا الموضوع بالذات (على سبيل المثال، ما الشعب؟ ما الحكم؟، ما الدولة؟،ما القانون؟، ما النظام؟ ما الدستور؟ ما العدالة؟ ما المساواة؟ ما الحرية، ما الحق؟ ما الواجب؟.. ألخ  ، وهو الموضوع المعروف بأنه الأكثر طرحاً للأسئلة والأقل إجابة عليها بل والموضوع الذي تزيد فيه الإجابة، أياً كانت، من غموضه.

 

ما كان لهذه المراوحة أن تمتد هذا المدى، لو لم يكن الموروث الديمقراطي، دافعاً لها، باعتمادهِ (أي اعتماد الموروث الديموقراطي) قاعدةَ انطلاقٍ في مختلف المحاولاتِ الديمقراطيةِ، النظرية والعملية، مما كان يؤدي بطبيعة الحال لوقوع أيِ من هذه المحاولات في «مطب» التجربة الديمقراطية، جذباً أو نبذاً، ولتجد في محصلة مسعاها، أنها مقصية عن الواقع، إما لأنها أغرقت في التاريخ منسحبة من الحاضر إلى الماضي (الدولة ـ المدينة "اسبارطة، أثينا " )، أو أنها انسلخت عن الحاضر متجاوزة حدوده إلى مستقبل مفترضٍ ( المدينة الفاضلة )، إمكانية وطاقة.. بل إن الأكثر إثارة، في مثل هذه المحاولات أنها كانت تجد في نهاية المطاف، أن ما نبذته في منطلقها، باتت منشدةً إليه في غايتها وأنها كانت تعاني من تناقض ذاتي، غالباً ما كان يودي بها وبالجهد المبذول، وأنها ما تزال في دائرة الزمن الضائع.

 

أول ما يمكن استخلاصه من الموروث الديمقراطي، أنه شكَّلَ حتى الآن مجالات جذب ونبذٍ في آن واحد مما كان يدفع بالمحاولات الديمقراطية لمسار عشوائي لا يعرف محوراً يدور في فلكه. فإذا ما توخت (أي مجالات العمل الديموقراطي)  أيٍ منها الموضوعية في خلاصات الموروث الديمقراطي، كانت موضوعيتها هذه محدَّدةً في الإفلات من مجالات جذب هذه التجربة أو نبذ تلك، وفي المحصلة، كانت تخطُّ مساراً ما بين هذه أو تلك وتضيع في متاهات فضاء من أسئلة لا ينقطع سيلها فحسب، وإنما نادراً ما كانت تجد لها إجابات مرضية ومقنعة.

 

وفي أية حال، من الحالات الثلاث المتقدمة، كانت المحاولة، أياً كانت، لا تجد مخرجاً من تناقضها الذاتي إلا في ما كانت قد نبذته، أو أن الخلل في ما كانت قد انجذبت إليه، أو في ما كانت تحاول جاهدة التملُّص منه.

 

وما كان للموروث الديمقراطي أن يقف في حدود ما دفع إليه، بل تخطاه إلى أبعد من ذلك، إلى الخلط، بين العام والخاص، بين المطلق والنسبي، بين التابع والمتحول، في العلاقة التي تفترضها الديمقراطية أساساً، بحيث غدت هذه الإشكالية، الإشكال الرئيس في أية محاولة ديمقراطية، نظرية أو عملية على حد سواء.

 

في واحدة من أهم مخلفات الموروث الديمقراطي، نجد أن الديمقراطية قد اقتصرت على جانب دون آخر من جوانب موضوعها، أو أنها في أحسن الحالات، استظلت الجوانب الأخرى هذا الجانب دون ذاك، تبعاً لما هو تابعاً ولما هو متحولاً، لا لجهة أيُّ الجوانب تابعاً وأيُّها المتحول، بل ولجهة العلاقة القائمة بينهما، من حيث، علاقة المطلق بالنسبي، أيهما المطلق وأيهما النسبي في تحولاته وفي تبعيته مما كان يطرح على الدوام التساؤل: هل المتحول هو مطلق في تحولاته أو هل هو أبداً متحول؟ بينما الآخر هو أبداً تابع! وهل من فكٍ لهذه الأحجية؟!!

 

في النتائج التي ترتبت على ذلك، كان إغراق الديمقراطية، في ذاتيتها، أكثرها خطراً عليها، إذا اقترنت الديمقراطية، أرثوذكسياً، بالمكان والزمان، وراحت تُغرق أكثر فأكثر في ذاتيتها، لدرجة تعميمها على زمان ومكان آخر، متجاوزة في ذلك حدود العلاقة بين العام والخاص، مغفلة متطلبات هذا وإمكانيات ذاك.

 

حيال ما تقدم، غدت الديمقراطية هي نفسها، ألدَّ أعدائها، إذا اتسمت بالضدية، واتخذت على الدوام الجانب المعارض، وباتت على نقيض مع أداتها ـ الدولة ـ، حتى خيَّل لأكثر من محاولة، أن لا قيام للديمقراطية إلاَّ بزوال الدولة وبحيث أمست هذه الأخيرة الند العنيد للديمقراطية، وكانت، كما لا تزال، وراء تصفية الديمقراطية في أي زمان ومكان، بل والأنكى من ذلك، أنهما أمستا، على تناقض تام وكامل، فهما، كما يدلُّ عليه واقع الحال، على تناسب عكسي، كلما اتسعت إحداهما ضاقت الأخرى.

 

إن الديمقراطية، وكما هي عليه اليوم، ظلاً للدولة، يقصرُ أو يطول، يشرق أو يغرب، بل ويغيب أحياناً تبعاً لشمس السلطة

 

في الموروث الديمقراطي، جاءت الديمقراطية على نحو ما يدل عليها تركيبها اللغوي، فهي، «حكم الشعب»، وهي من هذا المنطلق «حكم» كائن ما كان الحاكم والمحكوم، فرداً أو جماعة، فئة أو فئات، عرقاً أو مذهباً أو حزباً أو.. فهي في المحصلة حكم ـ سلطة، لها أدواتها، مهما قيل فيها، هي أدوات سلطة «وجدت لتبقى»، تبقى مهمتها الأولى والأخيرة توطيد كيانها سنناً أو شرائعاً، ودساتيراً وقوانيناً وأنظمةً. ولا شك أن لأيٍ من هذه كيفياته وأساليبه ووسائله..

 

إن تكن الديمقراطية، في الموروث الديمقراطي، «حكم الشعب»، فلم تكن لتعني أنها حكم ـ سلطة، بل هي أبعد من ذلك، هي «شعب بلا سلطة» تتهافت فيه السلطة كأداة بتنامي الوعي المجتمعي، حيث يكتنه الفرد المجموع وهذا ذاك وجوداً ومصلحة، هكذا تغدو والديمقراطية، مجتمع لا عرقي لا مذهبي لا طبقي..

 

وهكذا، بدلالة الموروث الديمقراطي، غدت الديمقراطية، إتيوبيا سياسية، بحيث غدت هذه من أعظم النكسات التي تعرضت لها الديمقراطية في التاريخ، فهي ـ الإتيوبيا ـ قد جعلتها، لِبس في مستوى المتخيل الذي يصعب تحققه، بل في مستوى هدر الطاقة الاجتماعية، شعباً ودولة، ولم يكن بالإمكان ردع الإتيوبيا الديمقراطية نظرياً، مما أفضى، بمنطق الحياة، إلى اصطدامها بالواقع.

 

لقد انتهت الإتيوبيا الديمقراطية إلى أنه، إن استحال تحقيقها على نطاق مجتمع ما، بضغط المجتمعات الأخرى، (من حيث أن الواقع هو واقع مجتمعات تصطرع في ما بينها من أجل البقاء)، فإن المخرج الوحيد من هذا المأزق النظري هو في إحالة العالم لمجتمع واحد تتهافت فيه السلطة لمستوى «مصلحة يريد» همها الأول والأخير تسيير الشؤون الحياتية دون تدخل فيها ومن دون النظر في ما قد تشكله من خطر عليها..

 

وفي استحالة رؤية كهذه، كان لابد من العودة مجدداً لطرح السؤال: ما الديمقراطية إذن؟ لتأتي الإجابة معدِّلة «حكم الشعب» إلى «حكومة الشعب» وفي تعديل آخر «حكومة الأكثرية» وفي ما تلا من تعديلات اقتصرت الديمقراطية على الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وليجد أيٌ من هذه التعديلات أنه غير مستغنٍ عن غيره منها.

 

في كل ما تقدم، كانت الديمقراطية ـ الشكل في الموروث الديمقراطي، حيث المضمون تابعاً له والجوهر في إطار المظهر، كانت الديمقراطية على نسق الديكتاتورية، فإن أمكن تاريخياً، فرض الديكتاتورية بشخص الديكتاتور، أمكن فرض الديمقراطية بفرض شخص ديمقراطي يقبع في شكلٍ ديمقراطي صوري، وفي كافة المحاولات لم يكن بإمكان الديمقراطية أن تقوم بديمقراطي واحد، بجانبٍ ديمقراطي واحد، بشكل ديمقراطي..

 

الدولة والديمقراطية: نشأة وتطوراً.

 

إن تكن الديمقراطية في الموروث الديمقراطي، «شكل من أشكال الحكم» فما ذلك إلاَّ أنها استهدفت، مذ طرحها فكرةً، الدولةَ شكلاً ومضموناً وتالياً غاية.

 

والديمقراطية، بطبيعة الحال، لا تجد جذورها إلاَّ في تربة الدولة، فهي قد تكونت في رحمها وبقيت مولودها وطفلها المدلل الصعب المراس.

 

مما لا شك فيه إذن، أن الدولة سابقة للديمقراطية، فقد اقتضت الأولى الثانية بعد مخاض عسير، فجاءت الديمقراطية على شاكلة الدولة ومثالها، وكانت الدولة، على الدوام، الأب الجلف والصلف للديمقراطية يأبى عليها الخروج على طاعته والاعتقاد بما لا يعتقد ويؤمن، رافضاً عصيان وليده وفك ارتباطه به متبنَّياً مهمة تربيته وتطويعه.

 

إن فهم الدولة والديمقراطية كأداة من أدوات تجسيد الإنسان فكرته عن نفسه، يقدم لنا حقيقة، أن كل ما طُرح حولهما وطرحاه من إشكاليات، كان تجسيداً لما تطرحه الذات الإنسانية من إشكاليات فَهْمِها لذاتها ومَعْرفِتها لمحيطها وكيفية تعاطيها معه.

 

وعلى القدر الذي يعرف به الإنسان ذاته ومحيطه، تكون أدواته، الدولة والديمقراطية.

 

إن الدولة والديمقراطية في ما هما عليه الآن، تعبير فاضح عمَّا يعاينه هذا الإنسان في فهم ذاته، إمكانيات ومتطلبات وأهداف، تتجسد على أي نحوٍ أخذت به كيفيات وأساليب وطرق ووسائل، وتبقى، على أية حال، الدولة والديمقراطية مثالاً لهذه الكيفيات والأساليب.. التي حاول ويحاول من خلالها الإنسان تجسيد ذاته، أو بمعنى آخر، صياغة وجوده على صورته ومثاله.

 

في فلسفة تجسيد الإنسان لذاته، نجد، أن الدولة والديمقراطية، كانتا الأداتين الأكثر عصياناً على ملائمة التطور الذي كان ينجزه مبتكرهما على الأصعدة الأخرى، خاصة بعدما استغرق في وجوده معرفة، فجاءت مكتشفاته ومخترعاته لتوائم بينه وبين محيطه أكثر من مواءمتها بينه وبين ذاته، مما كان يفيد أنه مازال يحبو في فهم هذه الذات على الرغم مما كان ينجزه في فهم كونه وعالمه، ومما يفيد أن على هذا الإنسان أن يعيد النظر في مقولاته عن ذاته، في فهمه لذاته، في ابتكاراته لأدوات معرفة هذه الذات، وتالياً إعادة النظر في أداتيه الرئيستين: الدولة والديمقراطية، على اعتبار أن أية أداة، يحاول من خلالها الإنسان تجسيد ذاته، هي أبداً على مستوى أو مدى فهمه لذاته، فإن كانت الأداة قاصرةً عن تطوير هذا الفهم أو المعرفة أو حتى جلاء الغموض وحلِّ إشكالية ما، كان لابد من إعادة النظر فيها، وكما في مجالات فهم الإنسان لمحيطه كذلك هي الحال في مجال فهم الإنسان لذاته. إن أية أداة من أدوات الإنسان، هي أبداً في مجال الاختبار وفي إطار التجريب، فإن أدَّت ما هو معوَّلٌ عليها، كانت الأداة الأكثر قابلية للتطور وفق ما أدت إليه، فإن قصَّرتْ، كانت أبداً بحاجة أيضاً للتطوير أو التعديل أو حتى التغيير والتبديل، غير مأسوف عليها.

 

إن على الأداة، أياً كانت، أن تكتنه ميزة الإنسان في التكيف والمستجدات والطوارئ، فميزة الإنسان هذه، هي التي مكنته حتى الآن، من تجاوز عقبات وجوده. والتكيف هنا، هو، بصيغة أكثر وضوحاً بعض من التحول والتبدل والتغير في المواصفات والسمات والخصائص، هذا التكيف هو ما ندعوه غالباً بالتطور لما قد تعنيه مصطلحات التحول والتبدل و.. من مفهوم سلبي لفكرة الإنسان من ذاته. ولربما، كان هذا هو المفصل الذي حال حتى الآن دون حل الإشكالية الديمقراطية وتالياً إشكالية، العلاقة بينها وبين الدولة، على الرغم من صعوبة حل هذه الإشكالية، في المدى القريب، لأنها في الأساس، وكما نوهنا آنفاً، إشكالية الذات الإنسانية بالتحديد..

 

لقد كانت فكرة الدولة، الفكرة ـ الأداة التي تعكس فكرة الإنسان عن نفسه، في المستوى الذي وُجِد عليه، ساعة ابتكارها، ولقد بقيت على ذي الحال الذي وجدت عليها، كما فكرة الإنسان عن نفسه، وما كانت لتُصلح أو تعدل أو تُغيَّر إلاَّ بعد أن يتم ذلك على صعيد الإنسان، ولكم كان الثمن باهظاً.

 

في المأزق التاريخي، كان الإنسان يكتشف أنه ضلَّ السبيل، وأنه لابد من العودة لما سبق، وأنه لابد من التعديل والتغيير أو بمعنىً مقبول: التطوير، وأن الدولة ـ الأداة التي ابتكرها، كانت وراء ما حفل به تاريخه من هدر في الطاقة وضياع في الزمن، فجاءت الديمقراطية، التعديل الأوفر حظاً في قبول الدولة.

 

هبطت الدولة، في الميثولوجيا السياسية، من السماء، فكانت المجسد الوحيد لحقوق الآلهة على الأرض على صيغة واجباتٍ للعباد ـ «الرعايا» ولم يكن لهؤلاء من حقوق سوى واجبات نيلُ رضى الآلهة المتمثل في حياة أخرى، هي في حقيقة الأمر ما كان يصبو إليه الإنسان في حياته على الأرض.

 

ولقد جاءت سنن الآلهة وشرائعها في قوانين الدولة ودساتيرها وأنظمتها لتدفع بالطاقة إنسانية لتصبَّ في قناتها، مما أدى بطبيعة الحال لأن تمتلك الأخيرة من القوة ما يمكنها من التمدد والتوسع مُدْخِلَةً في كيانها السياسي أقواماً لها، على نسبة تعددها، ميثولوجيا تختلف إلى هذا الحد أو ذاك عن تلك التي للدولة المتمددة والمتوسعة. وكان لابد، والحال هذه، للدولة، من حيث أنها «وجدت لتبقى» من أن تستوعبَ هذه الأقوال، وما كان ليتم ذلك إلاَّ بإضفاء الشرعية على ما تُقْدِمُ عليه الدولة بالنسبة للأقوام الأخرى، والتي استحالت، بعامل الزمن، إلى رعايا للدولة، فهذه الأقوام، الفئات العرقية الدينية الطبقية الثقافية، تبقى أولاً وأخيراً في عداد نطاق الدولة السياسي وتالياً في عداد المثيولوجيا التي قامت عليها الدولة، وكان لابد ها هنا، من ابتكار مبدأ «المعدودية» في الدولة، مما يفيد أن الدولة بدأت في الخروج من قوقعتها الميثولوجية والميتافيزيقية، فيما بعد، إلى قبول الأقوام الأخرى كأعضاء في جسد الدولة، لهم من الحقوق ما عليهم من الواجبات.. هكذا بدأت الديمقراطية اعترافاً بالآخر، حتى وإن بقي كيفية وأسلوباً وغاية في أطر محددة من الحقوق والواجبات السياسية جوهراً والميثيولوجية والميتافيزيقية شكلاً.

 

لقد اقتضت الدولة الديمقراطية وكان لابد لها من الاعتراف بهذا الأخر، مرغمة صاغرة.

 

ولقد كان المخاض عسيراً، لكن الديمقراطية كانت قد ولدت، بعدما فشلت الحقوق الإلهية في الحيلولة دون الدولة والأزمات التي كانت تنتهي إليها، خاصة على مستوى تطورها وتوسع رقعتها السياسية إضافة لما كان يمليه عليها تطور الإنسان في فكرته عن نفسه وعالمه من حقائق، لا تلبث أن تفرض نفسها بقوة على معنى الدولة منطلقاً وكيفية وغاية. بقوة الفشل السياسي الذي كانت تصاب به الدولة على الدوام.

 

جاءت الديمقراطية لتعقلن الدولة، حتى وإن اختلطت منذ البدء بمثيولوجيا الدولة وميتافيزيقيتها ونشأت في كنفها وتقمصت الكثير من معتقداتها. فهي وإن تكن قد ولدت على صورة الدولة ومثالها وبقيت مطواعة لها، مسخرة لأغراضها، حاملة لمفاهيمها العرقية والدينية والثقافية، فهي قد فطرت على أنه في حقوق الدولة المتمثلة واجبات، بعضٌ من حقوقٍ للرعايا، تتمثل أولاً وأخيراً في واجبات الدولة تجاه مبدأها في أنها «وجدت لتبقى».

 

في عقلنة الدولة، بيت القصيد الديمقراطي، باعتبارها شأناً ثقافياً، يبقى كذلك، على نسبة الحقوق إلى الواجبات، الديمقراطية تبعاً لذلك هي هذه النسبة وعلى مستوى هذه النسبة تكون الدولة شأناً ثقافياً أو بمعنى آخر، دولة ديمقراطية وعلى نسبة الحقوق إلى الواجبات، تكون العلااقة بين الدولة والديمقراطية، وهي علاقة، غالباً ما تكون لصالح الدولة، فقد تستغني هذه الأخيرة عن الأولى لكن هذه ليست، بأية حالٍ، بمستغنية عن الدولة إذ تبقى هذه أداتها أولاً وأخيراً. ومع ذلك فكلتاهما وجهان لعملة واحدة هي السلطة حتى وإن كان «نقش» أي منهما مختلف عن الأخرى. وهما تبعاً لذلك متباينان في الماهية، شكلاً ومضموناً، بل وكما هو الحال، متضادتان متناقضتان.

 

الدولة في الموروث التاريخي

 

مهما يكن من أمر الدولة، شكلاً ومضموناً، فهي وجه من أوجه السلطة في المجتمع، لا قيام له بدونها، إذ يبقى هو الآخر، رحمها الذي تكونت به، ومع أن ولادتها جاءت «قيصرية» في الشكل، لكنها في الجوهر، جاءت لتعيل والدها في حياته، لكنها، ولطبيعتها، راحت تتحكم به وتتسلط عليه فبات خائب الرجاء، في مولوده يضن على نفسه بمفارقته وتلزمه مصلحته في البقاء مرتهن لديه.

 

هكذا غدت الدولة مجسدة قيم المجتمع الذي تسوسه، فما تراه خيراً هو الخير وما عداه شر وباطل.. وما هو حق لها ليس لأحد الحق فيه، فهي ميزان العدل والمساواة، وما تقرُّه ولا يُقرُّ سواه، وما هو مشروع لها ليس مشروعاً لسواها، أكان مُبَرَرَ المشروعية أم لم يكن، فهي دون سواها، المبرر الوحيد لكل ما هو مشروع، وما هو كذلك، يبقى في دائرة اهتماماتها وما هو على غير ذلك، يبقى في استثناءاتها، فهي مصلحة الشعب في البقاء والاستمرار وهو طاقتها في الوجود والاستقرار..

 

تهتم الدولة في كل ما يؤمن ديمومة سلطتها في المجتمع وتستثني من مشروعيتها كل ما يهدد وجودها وبقاءها للخطر، وهي لا تقدم الوسائل والمبررات، لهذا الاستثناء وتلك الاهتمامات فقط بل، وتطبعها على الدوام بطابعها، كمصلحة عامة تبقى، على أي نحو أخذت به، مصلحة وجودها في البقاء والاستمرار.

 

تتقدم مصلحة الدولة في ذلك على مصلحة الشعب بل وتتقدم على هذه أيضاً علاقة الدولة بالدول الأخرى، ويبقى الشعب في المحصلة من يمد الدولة بالطاقة، حيث تتحدد علاقتها به من خلال ذلك، وعلى القدر الذي يمدها به بالطاقة يكون اهتمامها وعنايتها به.

 

الديمقراطية في الموروث التاريخي

 

كما المجتمع رحم الدولة، كذلك الدولة رحم الديمقراطية، وكما تمردت الأولى على رحمها، كذلك تحاول الديمقراطية التمرد على الدولة من خلال أنها «الدولة» موضوعاً للديمقراطية، تبقى أهميته على قدر عنايته واهتمامه بالشعب، فالدولة من وجهة النظر الديمقراطية، وجدت للشعب وتبقى له ويبقى ضالتها ومرتجاها، لا تُعنى الديمقراطية بالدول الأخرى، إلاَّ بقدر ما تحققه من بقاء دولتها في خدمة الشعب، وتأمين سلامته وأمنه واطمئنانه واستقراره، ترى الديمقراطية أن الدولة أداتها، وأن لا قيام لها بدونها، فهي تسعى على الدوام لتحسين أداء الأداة، لذا كان مسعى الديمقراطية يستهدف باستمرار، أن تكون موضوعاً للدولة، بل وموضوعاً رئيسياً تتحد من خلاله علاقة هذه بالشعب وهذا بالدولة.

 

لا تتطابق، في أغلب الأحيان، اهتمامات الديمقراطية واهتمامات الدولة، وما قد تستثنيه الدولة يكون هو الموضوع الرئيس للديمقراطية بل وفي صلب اهتماماتها.

 

لا تستثنى الديمقراطية سوى تسلط الدولة، وما عداه جزء لا يتجزأ من اهتماماتها، في استثناء الديمقراطية لتسلط السلطة، لا تستثني السلطة بل تسعى لتوطيدها وفق خصائصها وسماتها ومتطلباتها، ليست السلطة تسلطاً في الرؤية الديمقراطية، الاستثناء الوحيد في الديمقراطية يبقى في رفع كفة الحقوق تحت وطأة ضغط الواجبات، أي عندما لا يكون هناك توازن نوعي وكمي وكيفي بين الحقوق والواجبات، وهي في ذلك تسعى لعدم تعريض مبدأ الدولة لعوامل الانهيار والزوال وتالياً تعريض المجتمع للتفكك والضياع.

 

في صراع الاهتمامات والإستثناءات تقف كل من الديمقراطية والدولة على طرفي نقيض، ويبقى الصراع على السلطة في المجتمع محور العلاقة بينهما كما يدلُّ عليه واقع الحال الراهن.

 

لا ترى الدولة ما تراه الديمقراطية والعكس صحيح، تبقى الدولة الموضوع الرئيس في الديمقراطية، بينما لا تبقى الديمقراطية كذلك عند الدولة، لا تقوم الديمقراطية إلاَّ بالدولة، وقد تقوم هذه، في أغلب الأحوال، دون تلك.

 

تبقى الدولة أشد ثباتاً في المجتمع من الديمقراطية، إذ تنشأ الأجيال في ظل الدولة وتتطبع بطابعها، فالدولة هي التي تحدد للشعب ثقافته ومشروعية مفاهيمه وتالياً موافقة إزاء ما تتعرض له من أزمات داخلية أو خارجية، تبقى ميثولوجيا الدولة وميتافيزيقيتها هي ذاتها التي للشعب، من هنا، فإن الدولة لا تجد صعوبة في تكييف رعاياها وفق أغراضها وغاياتها بما تسنه من سنن وتشترعه من شرائع مصاغة على نحوٍ من القوانين والدساتير والأنظمة..

 

ليست الدولة واقعاً موضوعياً، أو كياناً قائماً بذاته، وإن يكن قائماً بذاته، فهي في مختلف صورها وأشكالها، كائناً من أفراد الشعب ذاته، يعمل، وفق ما تمليه عليه مصلحته في البقاء والاستمرار، لكنها في الوقت عينه كائناً فوق الأفراد، غير معني بمواقفهم وعواطفهم وآرائهم ومعتقداتهم، فهم في خدمة ما تمليه عليهم من شرائع الدولة وسننها بما يضمن مصلحتها، أكانوا مقتنعين بها أم لا، دون ذلك، شأن لا تُعنى به الدولة بأية حال إلا إذا تدخل في الاجتهاد والتأويل والتنفيذ لسننها وشرائعها وحال دون مصلحتها، بحيث يضحى الموقف الفردي ها هنا، خيانة عظمى تحكمه الدساتير والقوانين.

 

تبقى الدولة ثابتاً قلَّما يتحول، بل إن هذا الأخير، نادراً ما يأتي، وإن على فترات متباعدة ومتأخرة نسبياً، وتحت ضغط تعريض مبدأ الدولة للخطر، ولا يأتي إلا نسبياً وفي حدوده الدنيا.

 

تأخذ الدولة الشعب، كما هو في الواقع، في سلبياته لا في إيجابياته، وتبقى مقولة الصراع على السلطة هي الهاجس الرئيس للدولة، والمؤول الأول والأخير، لأي تحرك من أي نوع كان.

 

إن الدولة في نظرتها للحدث، أياً كان، أكثر واقعية من الديمقراطية لذا، تبقى اهتماماتها واستثناءاتها في دائرة ما تتعرض له، وتبقى على الدوام، أياً منها، محكومة بقوة الدولة وضعفها، إذ تتوسع الاهتمامات بقوتها لتضيق تلقائياً بضعفها، والعكس صحيح بالنسبة للأخرى.

 

ليست الديمقراطية على هذه الشاكلة التي للدولة، فهي معنية بالأفراد والجماعات والفئات على أية حال كانوا بها فهي، معنية بكل ما يرجونه من حياتهم منطلقات ووسائل وأهداف.

 

ليس في الديمقراطية سنن وشرائع، كما ليست دساتيراً وقوانيناً وأنظمةً. ليس في الديمقراطية من مطلقات ومقدسات وسرمديات، فهي أقل ثباتاً على أية حال من الدولة، ولا تجد غضاضة في الانقلاب على الأمس، وليس فيها ما لا يتحول ويتبدل ويتغير، فهي كل مستحدثٍ وكل جديد وكل متطور، في الديمقراطية، كل شأن، كل أمر، محتملٌ، ممكنٌ، متوقعٌ. في مقولة الصراع على السلطة، تحكم الغائية التي يمليها الواقع، الديمقراطية، وليس فيها، تبعاً لذلك، من مستثنى.

 

في الديمقراطية، كل أمر، كل شأن، واضح، جلي، مهما كان مغايراً للمشروع أعرافاً وتقاليد وعادات.

 

وليست الديمقراطية، في كل ما تقدم، ضد السلطة، فهي ليست إلغاءً لها، فهي أبداً من صلب السلطة وعضدها المتين والشديد الصلة بها.

 

تأخذ الدولة على الديمقراطية حوارها وصراحتها بينما تأخذ الديمقراطية على الدولة صمتها وتزمتها وأنانيتها وتفردها.

 

الدولة بطبيعتها منغلقة باطنية، بينما الديمقراطية منفتحة باطنها في ظاهرها، كل ما في الديمقراطية ظاهر للعيان، طافي على السطح، لا تعرف الديمقراطية خجلاً ولا حياءً، هي وقحة في أغلب الأحيان، كل ما في الدولة سرٌّ من الأسرار، يرسو في العمق، لا يظهر إلا متنكراً في المصلحة العامة، يتشكل تراكمياً ومن دون أن يدري حتى المشتغلون به، كل على انفراد، عوامله وأسبابه وغاياته.

 

تلتزم الديمقراطية الجانب المعارض، فهي السائل الدائم، لا تكتفي بالغاية جواباً أو الكيفية سلوكاً ولا حتى بالمنطلق مبرراً، ففي الديمقراطية تلازم تام كامل بين مكونات الشؤون، على أي صعيد أو مستوى كان، وكذلك هي الدولة، أيضاً، ويبقى الافتراق في المسؤول، (أي من يوجَهْ له السؤال)، في الديمقراطية هو الدولة وفي الدولة هو الشعب.

 

ـ الدولة والديمقراطية في الموروث الفكري

 

كان من أبرز نتائج الموروث الديمقراطي الفكري أن مجمل المصطلحات المتداولة في الموضوع الديمقراطي، بقيت على الحال التي وجدت بها، فهي تنم عن مرحلة معينة في مدلولاتها، وخاضعة لظروف الواقع السياسي الذي للدولة وعرضة للتغير المستمر تبعاً لتلك التغيرات التي تمر بها الدولة، فتداخلت لذلك تداخلاً يصعب من خلاله تحديد مفهومها ديمقراطياً بمعزل عن الظروف السياسية التي أدت إليها، وهي لذلك غامضة، مبهمة وإن تكن متداولة على نطاق واسع بحيث بات كلٌ يضفي عليها ما يتناسب وواقعه الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي. وكما هي الحال في الموضوع الديمقراطي عموماً هي الحال في مصطلحاته.

 

فلا تزال الديمقراطية شكلاً من أشكال الحكم أو صيغة من صيغه حتى ليخيل للمرء أن الشكل الديمقراطي يقود إلى الديمقراطية، أو كما الديكتاتورية تقوم بديكتاتور كذلك الديمقراطية تقوم بديمقراطي واحد وكما يفرض الأول شكل حكمه، كذلك الثاني، بل إن شكلاً ديمقراطياً يعني ممارسة ديمقراطية..

 

وكما الديمقراطية، كذلك مصطلح الشعب، فهو يتسع ويضيق وفق معطيات الحدث السياسي وقوة الدولة وضعفها، فهو في آن ما يشمله واقع الدولة السياسي وفي آن آخر ما يقل فيه التباين عن التجانس أو هو المجموع العرقي أو الطائفي أو العرقي الواحد، كما وقد يعني في أحيان المجموع القومي أو المجتمع القومي وهو مصطلح لا مسمى له في حالة تتوزع هذا المجموع على دول عدة وخضوعه لجملة عوامل وظروف تختلف من دولة إلى أخرى، بحيث يضحى الاختلاف والتباين في المجموع القومي أقوى من التجانس الذي تقوم عليه الديمقراطية المقترحة، وقد يشمل مصطلح الشعب، حتى في إطار الدولة السياسية الواحدة، على مختلف الأعراق والمذاهب والثقافات والطبقات، مما يترك مجالاً واسعاً من الاستثناءات، ومما يوهي المبدأ الديمقراطي في الدولة ويجعله شكلياً في أغلب الأحيان، لكثرة ما يستثنيه من فئات الشعب ذي الكيان السياسي الواحد، ويبقى مصطلح «المواطن» مبهماً غامضاً مشوشاً نظراً لما تخلقه ميثولوجيا الدولة السياسية والدينية من مواطنين على درجات مختلفة في مواطنيتهم. لا يقف غموض ولبس المصطلحات في الموضوع الديمقراطي على ذلك بل يتعداه إلى مصطلحات أخرى أبرزها مصطلح الدولة، حيث الدولة مصطلح لأي كيان سياسي له مثيولوجيته وميتافيزيقيته المترجمة على أرض الواقع عقلانياً في «مصلحة البقاء والاستمرار».

 

لقد شهد التاريخ على الدوام قيام دولٍ وموت أخرى، بحيث كانت الدولة في حالة مدٍ وجزر، وهي لذلك، في وضع لا يمكنها فيه عمرها من تحديد مصطلحات ما تشمله شعباً وأرضاً، إمكانيات وطاقات، أهدافاً وغايات إن حداثة عهد الدولة بكيانها السياسي، يقف عقبة كأداء في تحديد أيٍ مما تعنيه، ويحول إلى حدٍ بعيد دون تحديد مصطلح الدولة الديمقراطية أو ذات النهج الديمقراطي.

 

إن حداثة عهد الدولة بكيانها السياسي يعرضها في أغلب الأحيان للخطر، إذ لا تكون قد تمكنت بعد من توضيع ما قامت عليه، في ميثولوجيا الشعب بل وعلى العكس من ذلك، تكون دائماً على تحدٍ مباشر مع ما خلفته الدولة التي قامت هي على أنقاضها إن مفاهيم ومصطلحات ورؤى الدولة الحديثة وشرائعها تبقى بمعزل من تلك التي للشعب ومحصورةً في نطاق أهل الحكم أو الذين يشكلون خاصة وحاشية الدولة الحديثة، وبحيث يحول ذلك دون المبدأ الديمقراطي، لما يشكله من خطر على مبدأ الدولة.

 

ولم يكن الموروث الديمقراطي الفكري ببعيد عن غموض مثل هذه المصطلحات وعن الخطر الداهم للدولة وديمقراطيتها حيال أي تحديد أو توضيح لها فاكتفى ببقاء جملة هذه المصطلحات على الحال التي وجدت بها ليفصَّل كل منها لباسه على قياسه وكان هذا مكمن الداء الديمقراطي بل ومقتل الديمقراطية.

 

لقد كان مصطلح «الحكومة» أقرب للواقع الديمقراطي من مصطلح الشعب والدولة، فهي قابلة للتداول من جهة ولا تُعنى بتجديد سمات من تحكم، شعباً ودولةً. ومع ذلك فقد حلت في الموضوع الديمقراطي محلَّ الدولة، وبقيت هذه الأخيرة على ما هي عليه ماهية وشكلاً وغاية بل وسنناً وشرائعاً في أغلب الأحيان، وما كان على الحكومة إلاَّ أن تصوغ هذه السنن والشرائع في دساتير وقوانين وأنظمة بما يتناسب وواقع الحال ولا يعرض مبدأ الدولة للخطر، فجاءت الحكومات على نحو ما متداولة للسلطة شكلاً وبقي المضمون واحد: مصلحة الدولة في البقاء والاستمرار.

 

وعلى الرغم من أن الديمقراطية لا تعرض مبدأ الدولة للخطر، لكنها أبداً، في مسعى دؤوب لجلاء الغموض في المصطلحات، ميدانياً، من خلال ما تعنيه وما تستهدفه من منطلقات ووسائل وأهداف، وهذا ما كان يؤدي بالنتيجة للافتراق بين الدولة والديمقراطية، بحيث بدت الثانية بالنسبة للأولى خطراً داهماً لابد من التصدي له أو تكييفه وتطويعه وتجييره وتسخيره، وكانت المحصلة أن تم لها ذلك، عبر مقولة الديمقراطية ـ الشكل أو الاسم الذي لا مسمى له.

 

ومع كل الذي تقدم، فإن الموروث الديمقراطي قدَّم لنا جملة خلاصات تمكننا إلى حد ما من الإجابة على التساؤل البدء: ما الديمقراطية؟ بتحديد خصائصها أولاً ومصطلحاتها ثانياً ومفاهيمها ثالثاً..

 

خصائص الديمقراطية:

 

1 ـ الشمولية:

 

في كل ما قدمه الموروث الديمقراطي، كانت الديمقراطية معنية وإلى حدٍ بعيد بمختلف النشاطات الإنسانية، الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية، كلٌ على حده، والديمقراطية في تطرقها لجملة هذه القضايا، كانت في أغلب الأحيان مرغمة على ذلك، إذ لا تجد مفراً من التطرق لقضية أخرى، لم تكن أساساً في الموضوع الرئيس الذي اعتمدته محوراً لها، إذ تكتشف أن هناك شبكةً من تداخلات موضوعها والموضوعات الأخرى، وأنه لا يمكن عزل موضوعها الرئيس عن هذه التداخلات، أو اعبتارها ظلالاً له، وإلا فالتناقض الذاتي واقع لا محالة في أية تجربة تاريخية أو أية محاولة نظرية، وفي أغلب الأحيان، والدولة هي الموضوع الديمقراطي والموجه للديمقراطية، ـ كانت الأخيرة، تتعامل، في مخرجها من أزمة التناقض الذاتي، بتغافل وحدة الموضوع الديمقراطي.

 

في مختلف التجارب الديمقراطية والمحاولات النظرية يقدم لنا الموروث الديمقراطي حقيقة لا مراء فيها وهي أنه، مهما تكن المبررات، لا يمكن قصرُ الموضوع الديمقراطي على شأن دون آخر أو تناول شأن كظل للشأن الآخر. إذ يبدو في مفصل من مفاصل الموضوع الرئيس للديمقراطية، إنه، أي الموضوع الرئيس، لم يعد يشكل، ها هنا، سوى عنصرٍ من عناصر الموضوع الديمقراطي، إذ يتنحى تلقائياً للعناصر الأخرى، بل وفاسحاً المجال لها رحباً لتأخذ دورها كاملاً في الموضوع الديمقراطي، وإلا فهو، معرَّضٌ للخطر، ومعرِّضٌ مبدأ الدولة بالذات، لخطر انتفائه.

 

ففي الديمقراطية، ليس من شأنٍ بمستغنٍ عن الشؤون الأخرى وهو إن تصدرها في حين، فلا يلبث أن يتنحى عن صدارتها في حين آخر، إذ لا يمكن، في الموضوع الديمقراطي، تناول شأن، إلا من حيث تكامله مع الشؤون الأخرى وعلى ذات النسبة في تداخله وتفرعه وتشعبه فيها ومعها وإليها.

 

في الديمقراطية، الكل في الكل إذن، ومع الكل وإلى الكل، على الرغم مما في هذا الكل من تناغم وانسجام وتنوع واختلاف وتباين يصل في أحيان كثيرة درجة التضاد والتناقض، فالديمقراطية هي أبداً على صورة الحياة ومثالها لأنها على صورة مبدعها ومثاله.

 

في ولوج الديمقراطية مختلف الأنشطة الحياتية، كانت تنكب مهمة تفعيلها بما يعني بالغرض منها من خلال الكشف الديمقراطي عن المفاصل التي تصل شأناً بآخر والكيفية التي تتسم بها حركته، فلا تلبث أن تضحى الديمقراطية هي ذاك المفصل في تداخلاته وتفرعاته وتشابكه مع الموضوعات الأخرى وفي الحدود التي كانت تتيحها لها فرص اكتشاف المفصل وكيفية عمله وأسلوبه وأدواته ووسائله وأهدافه وغاياته، وتضحى الديمقراطية لذلك كصورة فعلية للحياة ومثالها بما تجسده، كأداة، بعضاً من مبدعها ومبتكرها.

 

2 ـ هي موضوعها بالذات:

 

في سمة من أبرز سمات الديمقراطية، تبدو الديمقراطية على أنها موضوعها بالذات، وهي إذ تدخل موضوعها، لا تدخله غريبة عنه بل لتحمل خصائصه وميزاته وسماته ومواصفاته، فهي هو، وهو دون أدنى تعديل أو تحوير أو تحريف أو اجتهاد أو تأويل، هي موضوعها بكل ما فيه من إمكانيات وطاقات ومكنونات، وهي في كل ذلك طاقة تجريده من مختلف معوقاته الذاتية وإعاقاته الموضوعية هي تفعيل ومفاعلة وفعل. الديمقراطية، في كل ما تقدم، ليست على صورة موضوعها، فهو ليس هي، فهي ليست استنساخاً له أو مرادفاً أو مساوياً له، ومع ذلك فهي في السياسة سياسية كما في الاجتماع اجتماعية وكذلك اقتصادية في الاقتصاد هي المصلحة في المصلحة والمنفعة في المنفعة.

 

ليست الديمقراطية سياسة كما ليست اقتصاداً أو اجتماعاً أو ثقافة أو مصلحة أو منفعة، هي كل ذلك على قدر ما يحققه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بصورة أخرى، هي اقتصاد سياسي واجتماعي وثقافي، كما هي اجتماع سياسي اقتصادي ثقافي كما هي الحال في السياسة الاجتماعية الثقافية الاقتصادية والمصلحة الثقافية الاجتماعية السياسية الاقتصادية والمصلحة الثقافية الاجتماعية السياسية الاقتصادية، هي المنفعة من كل ذلك..

 

والديمقراطية، من حيث هي موضوعها بالذات، ومن حيث أنها تدخله لا لتخرج منه أو تنفك عنه، تبقى كما موضوعها في انسجامه وتناغمه وتنوعه وتباينه وحتى تضاده مع الموضوعات الأخرى.

 

الديمقراطية من حيث هي موضوعها، هي حكم وموضوع حكم وشكل حكم وديمقراطية حكم، هي سلطة وأداة، هي السنن والشرائع والدساتير والأنظمة وهي فوق هذا كله قيمة الحكم وقيمة السلطة وقيمة السنن والشرائع، وهي لذلك مباشرة وتمثيلية وتعبيرية وهي في الآن ذاته عرقية دينية طبقية سياسية، وهي لذلك كله، سياسية، اقتصادية اجتماعية ثقافية.. الديمقراطية من حيث هي موضوعها بالذات، هي اعتراف بالموضوعات الأخرى. الديمقراطية، من حيث هي كذلك، ومن حيث هي موضوعها بالذات، هي أقرب ما تكون إلى الحيلولة دون حالة «الانهيار الجاذبي» والتي تظهر في حالات كثيرة، فوضى واضطراب وعدم استقرار، وذي هي الحالة التي تكون فيها الديمقراطية مقصرةً من أن تكون موضوعها بالذات أو عندما تكون متجاوزةً له، وكلتا الحالتين سواء بسواء.

 

وحتى تكون الديمقراطية موضوعها بالذات، لابد لها أن تكون ديمقراطية أولاً وأخيراً، وإلا فهي شكل دون مضمون، بل ومظهر دون جوهر، الديمقراطية من حيث هي كذلك، هي علمانية في موضوعيتها وذاتيتها..

 

3 ـ العلمانية:

 

على الرغم من أن الديمقراطية موضوعها بالذات، لكنه ليس هي، تبقى، كأي من موضوعاتها في حالة تجاذب وتنابذ بين موضوعيتها وذاتيتها، فإن أغرقت في أي منهما، كانت حالة الانهيار الجاذبي المشار إليها آنفاً، والديمقراطية من حيث هي كذلك، هي علمانية في موضوعيتها وذاتيتها، بمعنى أن لا تلغي أي منهما الأخرى أو تنوب عنها وتمثلها أو تطرح نفسها بدلاً عنها، الديمقراطية في علمانيتها، تبقى محصلة قوى الموضوعية والذاتية، أو العلاقة بينهما واعتراف كلٍ منهما بالأخرى.

 

في الديمقراطية العلمانية، أو في علمانية الديمقراطية، تكون الديمقراطية بعض ما ترغب به وبعض ما لا ترغب به، هكذا لا يغيب الموضوعي وراء جبال الذاتي، وتالياً ليس في العلمانية الديمقراطية مقدسات ومطلقات وسرمديات لا تخضع للدرس والبحث والتحليل.. ليس في علمانية الديمقراطية منهجاً واحداً بل مختلف المناهج الوصفي والتركيبي والمعياري والتحليلي، كما مختلف الموضوعات..

 

وكما الديمقراطية في موضوعها سياسة واقتصادية واجتماعية، هي في موضوعيتها وذاتيتها رياضة فيزيائية كيميائية، كذلك فنية أدبية جمالية، هي قيمة في ذاتيتها ومثالية في موضوعيتها.. ليس في علمانية الديمقراطية، في موضوعيتها وذاتيتها، سكون وثبات، بل كلٌ في حركة، في ديمومة التبدل والتغير والتحول من حال إلى أخرى، ليس في علمانية الديمقراطية استثناء وتهميش، ليس من قوة على حساب أخرى، هي أبداً في علمانيتها محصلة قوى، كما ليست قوة، في حالة من هذا النوع تكون أقرب ما تكون إلى حالة «الانهيار الجاذبي» ليست العلمانية قوة من جملة قوى، هي أبداً محصلة، في عكس الموضوع، تكون الديمقراطية، قوة من جملة قوى وتكون لها مع غيرها محصلة أخرى، هي أبداً على نحوٍ من صراعٍ واقتتال وتفكك وانحلال..

 

في العلمانية الديمقراطية، أية رؤية كائنة ما كانت، هي ديمقراطية في اعترافها بالآخر وبعدم إلغائه، أية رؤية هي ديمقراطية، بمعنى أنها تمتلك إمكانيات الوجود الفعلي على أرض الواقع، في الزمان والمكان.

 

4 ـ العلاقة الديمقراطية:

 

كل ما تقدم يصب في مفهوم الديمقراطية من حيث هي علاقة بالآخر، وهي، من حيث هي كذلك، تبقى في إطار الاعتراف بالآخر، وكما الحياة هي الديمقراطية. الحقيقة في الديمقراطية هي اعتراف المعرفة بالوجود، والوجود على قدر الإفصاح عن ذاته بالمعرفة (أي صحة المعرفة) يكون معترفاً بالأخيرة، هكذا هي النفس علاقة المحيط بالجسد أو بالأحرى اعتراف المحيط بالجسد وهذا بذاك، في إطار ذلك، يمكن فهم الحاضر على انه اعتراف بالماضي والمستقبل والحاضر من حيث هو العلاقة بينهما، كذلك «الأنا» من حيث هي علاقة بين «الهو» و«الأنا العليا» هي اعتراف كل منهما بالأخرى وأيضاً العقل من حيث هو علاقة بين الغريزة والعاطفة، هو اعتراف بهما واعتراف كل منهما بالأخرى.

 

في العلاقة الديمقراطية، شمولية وعلمانية في كونها الموضوع بالذات، فأيٌّ من هذا الثالوث لا يقوم إلاَّ بآخريه.

 

والديمقراطية، في مجال العلاقة كاعتراف، تبقى لا على نسبة ما يعترف به الآخر بالآخر وحسب بل وفي مدى تطابق هذه الثلاثيات بعضها مع بعض.

 

تعكس العلاقة الديمقراطية، مفهوماً آخر يتجاوز حدود الاعتراف بالآخر، أو الاعتراف المتبادل بين مقومات الموضوع الديمقراطي، إلى مفهوم التطابق، والذي هو في صورة أخرى، التداخل والتشابك في الموضوعات الديمقراطية بحيث يبدو أن النفس كعلاقة للجسد بالمحيط، هي أيضاً الأنا كعلاقة بين الهو والأنا العليا كما هي في ذات الوقت الحاضر كعلاقة بين الماضي والمستقبل وهي العقل في علاقته بالغريزة والعاطفة.

 

في التطابق النفسي، أو ما يسمى بالاستقرار النفسي في الإنسان تكون الأنا هي الحاضر والعقل، أو العقل في الحاضر، في الآن، وبحيث تأتي الهو على نسق الغريزة والماضي وعلى النحو ذاته تكون الأنا العليا هي العاطفة في المستقبل. (الأهداف والغايات) وعلى المدى الذي تكون فيه أبعاد هذه الثلاثيات بعضها عن بعض، في كل منها متساوية مع أبعاد الأخرى، يكون الاستقرار النفسي في الكائن البشري، أيٌّ اختلاف في أي من أبعادها، يودي بطبيعة الحال، في تطابقها، وتالياً لعدم الاستقرار، كمادة للتطابق المشار إليه..

 

إن تكن ذي الحال، في المستوى النفسي للفرد، فكذلك هي الحال للكائن الآخر المجتمع، الشعب، أو الدولة، الحكومة أو الديمقراطية العلاقة.

 

في العلاقة الديمقراطية، تكون الحكومة هي العلاقة، الاعتراف بالشعب، حقوقاً وواجبات، من قبل الدولة، والعكس صحيح أيضاً هي اعتراف الشعب بالدولة حقوقاً وواجبات.

 

وعلى النحو ذاته يمكن فهم أن الاقتصاد هو علاقة السياسة بالاجتماع وهذا علاقة الاقتصاد بالسياسة، وهذه علاقة الاقتصاد بالاجتماع.. بمعنى آخر، لا انفصام ولا انفكاك في الديمقراطية، ما بين شؤونها، في العلاقة الديمقراطية، لا يكون مبدأ الفصل بين السلطات ليعني أكثر من أن القضاء هو العلاقة بين التشريع والتنفيذ وأن الديمقراطية ليست كذلك إلاَّ في الحالة التي تأتي فيها الديمقراطية سنناً ودساتير وقوانين، في ثلاثية القضاء والتشريع والتنفيذ، يكون القضاء في الرأس من حيث يشكل كل من التشريع والتنفيذ رأسيّْ القاعدة ويكون الفصل بين هذه السلطات متمثلاً بالبعد الذي يبتعد فيه كل رأس عن الآخر.

 

في العلاقة الديمقراطية، ليس من منهج واحد، بل إن مختلف المناهج وما قد يبتكره الإنسان منها مستقبلاً، هي المنهج الديمقراطي، في منهج من هذا النوع تفهم العلاقة الديمقراطية على أنها رؤية الموضوع، أياً كان، من مختلف زوايا الرؤية، لأنه في العلاقة الديمقراطية ليس هناك من وجه واحد للموضوع، زاوية واحدة للرؤية، في العلاقة الديمقراطية، كل الرؤى متقابلة على مستوى تقابلها يكون تضادها في أحيان كثيرة في العلاقة الديمقراطية، تبدو الأخيرة نظاماً، كيفية، أسلوباً، غاية.. إذ تسمح الديمقراطية حتى للرؤى غير الديمقراطية في النمو معها وأمام أعينها وفي حماها.

 

في هذا المستوى من العلاقة الديمقراطية، يمكن طرح جملة تساؤلات ديمقراطية تتيح لنا معرفة مدى فهمنا لكل ما نوهنا عنه من خصائص الديمقراطية.

 

ـ الديمقراطية: تعريف مقترح

 

ليست الديمقراطية مصطلحاً قائماً بذاته، قابعاً في غير ما هي عليه أدواته، أنه المصطلح الجامع لمختلف المصطلحات المتداولة فيه.

 

ولا يمكن تعريف الديمقراطية إذا ما بقيت هذه الأدوات مبهمة غامضة، ولا يمكن القول بالديمقراطية مفهوماً واضحاً وجلياً خالٍ من كل لبس وإشكال إلا في دائرة ضوء أدواتها: الشعب، الدولة، الحكومة، السنن والشرائع والقوانين والأنظمة بما يمكن لها أن تعني من واجب ونظام وقوة (سلطة) وما تعني منطلقاً وكيفية وغاية، حقوقاً وواجبات، حقاً وخيراً وجمالاً، مضموناً وشكلاً وهدفاً. وبمعزل عن تداعيات مورثها التاريخي ـ الفكري بل وفي قيمة ما هو معوَّل عليها..

 

لم تكن الديمقراطية لتشكل مسعى دائباً إلاَّ لأنها، في ما هو معوَّلٌ، عليها تبقى في حقيقتها تفعيل مختلف إمكانات الواقع بتحريض مكوناته على الفعل والحيلولة دونها ودون عوائقها وعقباتها من خلال معرفة الواقع والاعتراف به واقعاً موضوعياً لابد بأية حال من التعاطي معه تعاطياً موضوعياً وتثبيت هذه الموضوعية منطلقاً ومسلكاً وغاية عبر معرفة دقيقة لعوامله وإمكاناته وأسبابه وطرقه ووسائله وكيفياته وأساليبه، ومعرفة ما يستدعيه ذلك من طاقات وإمكانيات وظروف وأحوال وطرق وأساليب ووسائل.. لتحريضه وتفعيله.

 

لو لم يكن هو ذا المعول على الديمقراطية، ما كانت لتلج مختلف نشاطات الحياة أو بالأحرى، لتتغلغل في مختلف أنشطتها تغلغلاً بطيئاً، لا يأتي فجأة كما لا ينتهي فجأة بل يبحث ويدرس ويناقش ويحاور.. يتراكم في الزمان لتضحى الديمقراطية صيغة وافية كافية لخبرة وتقانة في سياسة مختلف أوجه النشاطات الحياتية.

 

الديمقراطية هي إذن تغلغلاً بطيئاً في مختلف ثنايا وطيات الحياة يتراكم خبرة وتقانة، لا يقتصر على ذاته في حوار ذاتي منغلق بل يشمل المجموع المعني «بدمقرطتته» وهو يعكس على الدوام ما أمامه على نحو مرآة تعكس مختلف الموجودات طالما أنها موجودة، كما تعكس ما أمامها من أخيلة لموجودات قد لا تكون في دائرة ضوئها فتتوسع لالتقاط أجسامها واحتوائها، مرآة تعكس ما أمامها، كما هي في أرض الواقع، دون تهميش أو تحييد أو استثناء أو تجميل أو تقبيح..

 

الديمقراطية، كمرآةٍ، تقف على الدوام قبالة المجتمع، تعكس خلفيته، ليرى هو خلفيته حيث هو، وحيث خلفيته الميثولوجية والميتافيزيقية والعقلانية، في مثال الديمقراطية المرآة، يرى المجتمع نفسه بها، ككل، فهي من هذه الوجهة اعتراف الكل الاجتماعي بالكل الاجتماعي، كلٌ في الموضوع الموجود فيه، وفي حركته وثباته أيضاً دون تغييب لأي من هذا الكل.

 

الديمقراطية كتغلغل في الثنايا، يتراكم خبرة وتقانة بما يعكسه بصفاء السطح العاكس غير المشوِّه لِما أمامه، تكون الديمقراطية أفق المجتمع كما هو أفقها، وتكتنه بذلك ميزة الأفق الذي، كلما تقدمتَ منه خطوة ابتعد عنكَ خطوة، فهي على هذا النحو دعوة للخطوِ المستمر، فتخطو دون أن تصله أو لتصل ما كنتَ قد تطلعت إليه، أو بالأحرى، لما كان عليكَ أن تصله، وما الأفق الجديد إلاَّ الدلالة الواضحة على أنك قد وصلت، فهي على ذي الحال، في حركة دائمة، في ديمومة الحالة المتوخاة.

 

الديمقراطية، كدعوة للخطوِ مع الذات إلى خارجها، هي طاقة لهذا الخطو، دعوة لحالة متوخاة تبقى، كطاقة، على نسبة قواها، كمحصلة لها، لا قوة من جملة هذه القوى المتوضعة على أرض الواقع.

 

الديمقراطية كمحصلة لمجموع قواها، تقوى كما تضعف بها، وهي ـ الديمقراطية ـ كقواها في طلب المزيد من القوة.

 

الديمقراطية كمحصلة لقواها، هي النقطة التي تبدو فيها كل القوى على اختلافها قوة واتجاهاً وحاملاً، كقوة واحدة، الديمقراطية هي إذن الوحدة في التعدد أو التعدد في الوحدة، وهي في هذا الاتجاه مجال انعدام جاذبي تجد فيه أية قوة من القوى مجال تحققها مساراً وفلكاً واتجاهاً وبما تمكنها منه قواها الذاتية وبما تتيحه لها ساحة انعدام الجاذبية هذه: الديمقراطية.

 

والديمقراطية، كساحة انعدام جاذبي تتيح لمختلف قواها أن تنمو وتنمو إلى ما لا نهاية، إذ مَثَلُ الديمقراطية في قواها، مَثَلُ كرة الثلج التي تكبر وتكبر كلما استغرقت في حركتها، حتى تستنفذ هذه الحركة قوتها، فتصل حالة أقرب ما تكون لحالة «الانهيار الجاذبي» والديمقراطية ها هنا هي القانون العام الذي يحول دون تشظي حالة كهذه من الانهيار الجاذبي بما يوفره من فرص الاحتواء الجاذبي في المرحلة الأولى من مراحل الانهيار هذا. ذلك أن الديمقراطية، كمحصلة هي على نسبة تغير وتبدل وتحول قواها وهي لذلك لا تعرف شكلاً ثابتاً، محدداً، الديمقراطية كقانون، هي في حالة تغير مستمر شدةً واتجاهاً وحاملاً..

 

الديمقراطية في خلاصة ما تقدم، تغلغلاً في ثنايا الحياة، يتراكم بطيئاً خبرة وتقانة، واعترافاً بالآخر وأفقه، هي دعوة وطاقة للخطو، وأفق تبقى في المسعى للوصول إليه ومحصلة لقوى، وساحة انعدام جاذبي للنمو وفق الإمكانيات الذاتية..

 

مفهوم الديمقراطية:

 

إذا كانت الديمقراطية تعريفاً هي محصلة قوى تتراكم خبرة وتقانة بتغلغلها بطيئاً في ثنايا الحياة، طاقة تمدُّ كل مقوماتها بقدرة إضافية على التفاعل والفعل بالحيلولة دونها وعقباتها حيث أنها لا ترى أياً من مقوماتها على حدة أو في وجه أو جانب أو شكل من جملة أوجه وجوانب وأشكال، ليس لخاصة فيها وإنما لأن أي مقوِّمٍ من هذه المقومات هو كذلك، ولأنها هي موضوعها بالذات هي كما هو، في تعدده وكثرته في وحدتها وتنوعها، في خصائصها، في مصطلحاتها، فإن السؤال يبقى:

 

كيف ترى الديمقراطية موضوعها وجوداً، أو كيف يضحى موضوعها مفهوماً بل وكيف تفهم الديمقراطية موضوعها الذي هو على صورتها ومثالها؟

 

في أوسع تعريف للديمقراطية يمكن لنا طرحه: الديمقراطية هي القدرة على التكيف، أو بمعنى أوضح، هي القدرة على التلاؤم بما يفيد القدرة على التحول، التبدل، التغير، وبمعنى أكثر قبولاً: القدرة على التطور، وتالياً رؤية موضوعها من جوانب وأوجه وزوايا ومستويات عدة، رؤية شاملة كلية جامعة وافية كافية ولازمة.

 

في الإجابة سؤالٌ، هو كيف تكون الديمقراطية كذلك، من حيث كونها علاقة، محصلة، ساحة انعدام جاذبي، مرآةً تعكس ما أمامها، كيف تتمخض الديمقراطية سنناً وشرائعاً، ودساتيراً وقوانيناً وأنظمةً، آليةً وكيفية، أساليباً وطرقاً، وسائلاً وأدواتٍ وأشكالاً، حقوماً وواجباتٍ، مساواة وعدالة وحريةً، حقاً وخيراً وجمالاً، شعباً ودولة وحكومة، سياسة واقتصاد واجتماعاً؟

 

كل ما تتسم فيه عناصر الديمقراطية، يسمُّ الديمقراطية ذاتها، فهي ليست شأناً آخر غير عناصرها إلاَّ من حيث هي علاقتهم بعضهم ببعض، قوتهم، إمكانياتهم، طاقتهم، قدرتهم على التكييف والتلاؤم.

 

في مثالٍ أكثر وضوحاً، هي لغة الوجود، أو هي الوجود في المعرفةِ لغةً، كائنة ما كانت اللغة عربية، فرنسية، وروسية، إنكليزية، ديمقراطية اللغة أن تكون قابلة للترجمة، التكيف، التلاؤم مع اللغات الأخرى أو إلى اللغات الأخرى. الترجمة ها هنا، اعترافٌ باللغات الأخرى واعتراف هذه بها، والديمقراطية على هذا النحو هي رسم ونحت وموسيقى وغناء وأداء وإلى ما هنالك من فنون!!

 

في مفهوم الديمقراطية، الرياضة، فيزياء وكيمياء وعلوم.. ذلك أن كلاً من هذه هو وجه أو جانب أو مستوى من الآخر، أو بتعبير ديمقراطي هي اعترافٌ كل منها بالآخر، ذلك أن الماهية الرياضية هي في الفيزياء ماهية فيزيائية وهكذا، إلى ما لا نهاية.

 

في مفهوم الديمقراطية، الأداة، وسيلةٌ وإمكانية وغاية، لأن الديمقراطية بحد ذاتها، إمكانية ووسيلة وغاية.

 

وعندما لا تكون كذلك لا تكون ديمقراطية، لأنها، في الجوهر، صورة ومثال مبتكرها، فإذا كان هو الإمكانية والوسيلة والغاية، كانت الديمقراطية كذلك. وإذا كان هو على صورة العالم ومثاله، كانت الديمقراطية كذلك أيضاً وإذا كان العالم لا متناهياً، كان الإنسان وتالياً الديمقراطية لا متناهية!! وكان مفهوم الديمقراطية لموضوعها لا متناهياً!!

 

اللاتناهي هنا، يبقى على أي نحو أخذ به، استغراقاً في الوجود في الآخر، كما المعرفة استغراقاً لا متناهٍ في وجودٍ لا متناهٍ أيضاً.

 

الاستغراق من هنا، هو الاستمرار والديمومة وبما يعني أن لا انقطاع، لا توقف، لا ثبات، لا سكون.

 

في معنىً آخر، العمق، البعد، الغور، الاستغراق في الوجود هو اعتراف بكل ذلك، كما الأفق، تبقى المسافة، رغم الحركة باتجاهه ثابتة أو واحدة، لأنه أبداً في الحركة تجدداً، كذا هي الديمقراطية وكذا هو مفهومها للشؤون كافة.

 

في مفهومٍِ ديمقراطي، ليست إمكانيات التحول متناهية بالتحول وإن كان متناهٍ بها، كما التابع أيضاً فتبعيته لا تعني في مطلق الأحوال، سوى أنه قادرٌ على التحول أيضاً وفقاً لتحولات الآخر، التحول ها هنا اعتراف كلٍ بالآخر، ذلك أن إمكانية التحول، لا تعني سوى التبدل والتغير وعدم الثبات كلٌ حسب إمكانياته وإمكانيات تفاعله مع غير هذا الآخر، آخره، المتحول إن كان تابعاً، والتابع إن كان متحولاً.

 

هكذا مختلف الشؤون والقضايا.. الديمقراطية، تؤخذ في مفهوم ديمقراطي في حركيتها، في ديناميكيتها وليس في ثباتها وسكونها النسبي، ذلك أن المطلق في مفهوم ديمقراطي هو الحركة ولذا كانت مختلف القضايا والشؤون.. تؤخذ على نحوٍ من هذه الحركة النسبية، لكنها تبقى في حركة الكل المطلقة.

 

في مفهومٍ ديمقراطي، لعناصر الديمقراطية، مكوناتٍ وطاقات، تبدو على اختلافها، مستغرقة في الآخر في ديمومة واستمرارية، لا انقطاع فيها متناهية تقدماً وتراجعاً ارتفاعاً وهبوطاً يمنة ويساراً..! وفي مسارات عدة، وفي آن واحدٍ أيضاً مستقيمة منكسرة دائرية أهليلجية..!!

 

هكذا مفهوم الديمقراطية مفهوم شامل، متوسع، متمدد، مستوعبٌ وهو المفهوم الذي يأخذ ديمومته، بمعناها أعلاه، من تناوله مختلف شؤونه وقضاياه من مختلف الزوايا التي يمكن له رؤية موضوعية لها، وأبداً في حركته، في حركيتها متّسماً بديناميكيتها وخاصيتها.

 

كل شأنٍ، كل قضية، في مفهوم الديمقراطية، حادثٌ في الزمان والمكان أي في مسار كينونته صيرورة، احتمالاً متوقعاً ممكناً.

 

ليس في مفهوم الديمقراطية بداية ونهاية، وجوداً وعدماً، ذلك أنه في مفهوم الديمقراطية يبقى العدم افتراضٌ للوجود، ليس العدم حالة تلاها الوجود، بمعنى أسبقية العدم على الوجود، كما الكينونة ليست حالة سابقة للصيرورة، إنهما معاً مساراً لصيرورة لا متناهية، ليس من شأنٍ أو قضية، صار وانتهى وهذا كل ما في الأمر في مفهوم ديمقراطي، أبداً هناك «صائر» إلى ما لا نهاية.. وفي الحقيقة أن العدم اعتراف الوجود بتبدله وتغيره..

 

ومفهوم الديمقراطية منهجاً لها، بمعنى، أنه في علاقات الجزيئات بالكليات لا تبقى الأولى كذلك كما الثانية، كل جزءٍ كلٌ، وكل كلٍ جزء!! نحن هنا أمام مقولات كانت تبدو لزمن طويل أنها وطدتْ وإلى حد بعيد، صوابيتها وصحة مسارها، لكنها، وذا واقع الحال، باتت جزءاً من كل، وما كان جزئياً بها عاد ليضحى عالماً قائماً بذاته.

 

ما كان تجريبياً، غدا، فاصلة بين ما هو تحت التجريبي وما فوق التجريبي، في مختبر الزمن، التاريخ.

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، يبدو أن النتائج تلي، على الدوام، الأسباب، لكن ذلك، يبقى على أية حال، مرتهناً، في زمنٍ هو زمن التمدد الكوني، فإذا ما ارتد الكون في حركته متقلصاً، هل تكون النتائج سابقةً الأسباب!!، تختلف الأدوار إذاً في رحلة الكون الأبدية بين التمدد والتقلص.. ولا يعد في مفهوم الديمقراطية منهجاً، المكان ذو أبعاد ثلاث، طول وعرض وارتفاع، فقد ثبت أن هناك بعداً رابعاً، كما أن هناك بعداً خامساً وسادساً وسابعاً للكون وما تزال نظرية الكون ذو الأبعاد الأثنا عشر مطروحة مُقتَرِحةً أن الكون في الحقيقة ذا أبعادٍ تصل الخمسة عشر…!!

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، يحق لنا التساؤل: كيف تتناهى الحكومة شعباً والشعب حكومة؟ وكيف تتناهى الحقوق واجبات وهذه تلك بل إنه ليُجيز لنا التساؤل: كيف يمكن للماضي أن يضحى مستقبلاً بل حاضراً؟

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، يحق لنا، وببساطة، طرح أسئلة كهذه والعمل في الإجابة عليها وبها، وليس للوصول لاستعصاء في الإجابة كما ليس لمجرد الطرح..!! ذلك أنه في تساؤلات من هذا النوع تُظهر الأسئلة ما كان قابعاً حتى الآن في الظل، ذلك أننا حيال تداخلٍ يصل درجةً لا تتوضح فيها خطوطاً فاصلة، وكأننا أمام كتلة واحدة لا انفصام فيها، حتى على المستوى النظري. وهي من الترابط ما يتيح لنا رؤية الشؤون في ظلال أخرى، أو كظلالٍ لها، بحيث لا تظهر إلاَّ في الظل، فإن زال زالت وفيه من الخصوصية ما لا يمكن وصله بالعام، حتى ليبدو أياً منهما، مستقلاً كل الاستقلال عن الآخر.

 

في مثالٍ أقلُّ تجريداً، يضحى، في مفهوم الديمقراطية منهجاً، مصطلح «فرد» ليس كل فرد، إنه فقط، المقابل النظري لمصطلح مجموع، جماعة، مجتمع. فالفرد، كل فرد، أي فرد، له من الخصوصية بحيث يقف على خطٍ متوازٍ مع ما تبقى من أفراد، لكل منهم من الخصوصية، ما يشكل بعداً يتداخل ويترابط ويفترق وينفصل ويتكامل، في آن واحد، مع مكوناته الذاتية والموضوعية.

 

هكذا التعدد في الوحدة، والذات في الآخر، والفرد في المجتمع، والعكس صحيح أيضاً، إنه شيء من الاختلاف في الاتفاق، وبعض التناقض في الانسجام.

 

عندما نتلقط، في مفهوم الديمقراطية منهجاً، هذا، أي كيف لا يضحى الاختلاف انتفاءً للاتفاق، من التعدد تغييباً للوحدة، ومن التناقض تهميشاً للتناغم، عندما نتلقط ذلك كله، نكون فعلاً قد ولجنا عتبة الديمقراطية، والتي ما تزال تحول دونها.

 

عندما تترآى لنا الأفكار التي ندعي، إنها الحقيقة، وكل الحقيقة، أنها «صارَ» وكفى وهذا كل ما في الأمر، فإننا ننفي عنها سمة الانعكاس عن الواقع، وليس هذا فقط، بل إننا لا نرى الموشور الذاتي الذي انكسرت به فغدت لوناً لا تراه إلاَّ من زاوية ومستوىً واحد.

 

لابد هنا من الاعتراف، أن الواقع، بانكساره في موشور الذات، هو لون أبيض يتناهى إلى ألوان الطيف الضوئي، ليرى كل منا، في زاويته ومستواه، لوناً أحمراً لا يراه سواه الذي يرى الأبيض أخضراً في موشور الذات، وهكذا دواليك، الكل، يرى، أن الأبيض لوناً واحداً طالما بقي في زاويته ومستواه، فإن تبادل والأخر الزاوية والمستوى فإن الألوان السبعة تضحى خمسة عشر مليون لون(*) وبات جلياً أنه لا يمكن أن يتطابق الواقع مع النظرية، بل العكس هو الصحيح بل والأصح على الدوام.

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، لا يعد بإمكان الهندسة المستوية الإدعاء بأنها الرياضة، مهما تكن عليه من الصحة والصواب، بل لا بد لها من الاعتراف بأن هناك هندسة فراغية وأخرى تحليلية وجبرية ومثلثاتية، وكل منها فيه من الصواب والصحة ما في الأخرى، وأنها في مجملها تشكل الرياضة، وعلى أن لا يعني هذا، أنها «صار» وكفى وهذا كل ما في الأمر، إنما أيضاً، عليها أن تعترف أنها ليست كل الرياضة، بما يفيد ما يمكن أن ينشأ من رياضيات أخرى في المستقبل..

 

الفرد، كمصطلح رياضي، نظري مقابل مصطلح المجتمع، هو أيٍ من هذه الهندسات إنه هندسة فيزيولوجية وبيولوجية وسيكولوجية، ومتى بارا سيكولوجية، وهو بذلك، هندسة قائمة بذاتها، فيها من الصحة والصواب ما في الهندسات الأخرى.

 

مصطلح فرد، في مفهوم الديمقراطية منهجاً، إنه جملة من هندسات، عرقية، دينية، طبقية، سياسية، ثقافية، اجتماعية، هو، في أي منها منفعل فاعل، متحركٌ في كل منها، مهما ادعى غير ذلك وتستر.

 

إنها الهندسة التاريخية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، فإذا ما أضفت هذه إلى تلك الفيزيولوجية البيولوجية السيكولوجية، لهم يعد قبول مصطلح فرد على أنه تناسخ للآخر، إن مصطلح «فرد» في هذا المجال، مصطلحٌ يعجز عن اكتناه هذا التباين والاختلاف.. ويُبقي فقط على الاتفاق والانسجام أمام القانون والنظام، حيث وجه الدولة، ومبدأ أنها «وجدت لتبقى»، محوِّرة كل شأنٍ في هذا الاتجاه في مصطلح «مواطن» وهو مصطلح لا يقل خطورةً وغموضاً عن سابقه..

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، لا يعد مصطلح «فرد ـ مواطن» مصطلح استنساخي بل يؤخذ في خصوصيته وفرادته وذي مهمة القوانين الديمقراطية، وهي المهمة التي ما تزال تعجز عنها القوانين المعمول بها حتى الآن.. فإذا كان العام لا ينفي الخاص، ولا هذا ذاك، فلا يمكن أخذ مصطلح «فرد ـ مواطن» في جوانب دون أخرى، أي أنه كل مواطن وكل فرد.

 

في مفهوم الديمقراطية منهجاً، لا يعد بالإمكان القول أن دين الدولة «كذا» وأن هذا «الفرد ـ المواطن» مواطناً وإن لم يكن على دين الدولة إن في مصطلح «فرد ـ مواطن» ها هنا، تناقض يحيل مفهوم المواطن، كما مرَّ أعلاه، إلى مواطن من درجة ثالثة ورابعة وخامسة..، إنه مصطلح فيه من الاستثناء ما يحول دون الديمقراطية مفهوماً ومنهجاً.. هي ذي الحال، في مطلق القوانين والأنظمة التي يُعمل بها اليوم، وفي أرض الدول التي تدعي الديمقراطية..

 

في دائرة الفرد النفسية، تتطابق ثلاثيات المحيط والجسد والنفس، على نسبٍ متفاوتة بحيث لا يعد بالإمكان القول بفرد مطلق..

 

إن النفس، كعلاقة بين المحيط والجسد، هي في دائرة قلَّما تتطابق ثلاثياتها إذ أنها وان اتفقت في محورها ومحور الدائرة، فهي، في حركتها قلَّما تتطابق زواياها وقلَّما تتساوى أبعادها وفي كل من هذه أو تلك، كيانٌ لابد من الاعتراف، أنه حادثٌ في الزمان والمكان من جهة، وانه متفرد في ذلك.

 

الحوار الديمقراطي:

 

تفترض الديمقراطية من حيث هي القدرة على التكيف والتلاؤم قطبين يستغرق كلٌ منهما في الآخر اعترفاً، كان ولايزال، يعكس إشكالية الإنسان في فكرته عن نفسه، في كونها محوراً تدور في فلكه الذوات الأخرى. فهو مركز الكون ومحطُّ عناية الآلهة التي سخرت كلَّ ما في الوجود لخدمته بحيث جعلت من الأرض مركز هذا الكون الدائر في فلكها.

 

هكذا، على النحو الذي رأى فيه الإنسان ذاته، رسم الكون على صورتها ومثالها. ولكم ناضل في سبيل تأكيد ذلك، عندما جاءت الحقائق العلمية لتؤكد خطأ نظرته في تمثلها للكون… ومع أنه استسلم مؤخراً، فإنه ما يزال متمسكاً في نظرته تلك كذات تدور في فلكها الذوات الأخرى ومن دون أن يقنع حتى الآن، بأنه فلَكٌ من أفلاك تدور في مساراتها حول بعضها البعض..

 

إن في تمنع الإنسان من التسليم في ذلك، بعض من إرث تطوره الطويل الذي ابتداء على نحو من الاعتراف بالذات الأخرى في صيغة تُبقي على محوريته في العلاقة بينه وبين الذات الأخرى، صيغة على نحوٍ من «أنت ماثلاً أمام أنا» وعلى مستويات وأصعدة عدة، فالدولة تتبدى في هذه الصيغة كـ «أنا» بينما يأتي الشعب كـ «أنت» كما التشريع هو الأنا والتنفيذ هو الأنت كما المجتمع هو الأنا بينما الفرد هو الأنت. وكما الفرد مع الفرد الآخر، أبداً هي «الأنت ماثلاً أمام الأنا».

 

في صيغة «الأنت ماثلاً أمام أنا» تبدو الأنا، هي الأقوى، بينما تأتي الأنت على النحو الأضعف، المسخر أبداً في خدمة الأقوى.

 

في تمنع «الأنا» من التسليم بأنها ليست محوراً تدور في فلكه «الأنت» تبقى المواجهة حامية الوطيس، شرسة، ضارية، كانت وماتزال تستخدم فيها مختلف الأسلحة، بل إن ما تستخدمه في هذه المواجهة من أسلحة، لم تكن لتستخدمه في أية مواجهة أخرى، فهي مواجهة لا تتورع من استخدام أسلحة التشويه والتزوير والاحتيال والنصب والاجتهاد والتأويل وما إلى هنالك من أسلحة يبدو فيها القتل هو الأقل إيلاماً في مختلف الأحوال.

 

والمواجهة ـ المعركة، ماتزال على أشدها، على الرغم مما خلفته من ضحايا وضياعاً في الزمن والطاقة، وما من مؤشر يفيد بأنها قد تنتهي لأنه لا يمكن لها أن تنتهي طالما بقيت الأنا في صيغة الأنت الماثل أمامها، وطالما بقيت «الأنا» المحور الذي تدور في فلكه «الأنت».

 

في العلاقة بين «الأنا» و «الأنت» وكما يدلُّ عليه واقع الحال، تبقى كفتي هذه العلاقة على نحوٍ من رجحان لإحداهما لا يستقر على حال إذ ما تلبث عوامل عدة وأسباب كثيرة ووسائل أكثر تقدماً تُسرِّع من عملية رجحان الكفة الأخرى. ذلك أن «الأنا» ليست سوى «الأنت» في مواجهة لا تمتلك فيها قوة «الأنت» وقدرتها وطاقتها. فتبدو بالنسبة لهذه «الأنت الأقوى» الأنا الأضعف وفي الآن ذاته هي الأنا الأقوى بالنسبة للأنت الأضعف.

 

ولما لم تكن «الأنت» سوى «الأنا الأخرى» الأضعف أو الأقوى، تبدو الصفة السالفة الذكر على نحوٍ من الأنا الماثلة أمامها الأضعف والماثلة هي أمام الأنا الأقوى، وفي ذلك تبقى الأنا هي الفاصلة بين الأضعف والأقوى كائنة ما كانت هذه «الأنا».

 

في الديمقراطية، حيث لا تابعاً مطلقاً في تبعيته ولا متحولاً مطلقاً في تحوله وحيث ما من طرف بمستغنٍ عن الآخر، بل وحيث أيٍ من طرفي العلاقة الديمقراطية مستغرق في الآخر إلى ما لا نهاية..، في الديمقراطية حيث الخصائص الديمقراطية وعلاقاتها، يكون الاستغراق ها هنا في الآخر، اعترافاً به، أو معرفة به وتكون علاقة مثول الأنت أمام الأنا اعترافاً لكل منهما بالأخرى على أن الأنت هي الأنا على أي نحوٍ أخذت به.

 

في الديمقراطية حيث الأنت هي الأنا، وحيث الأنا مستغرقة حكماً في الأنا، يكون الحوار الديمقراطي هو هذا الاستغراق في الذات وفي الذات الأخرى.

 

الحوار الديمقراطي، كاستغراق في الآخر، هو في حقيقته استغراق معرفي، استغراق المعرفة في الوجود، الذي على قدر إفصاحه عن ذاته يكون اعترافه بالآخر معرفة. أو هو بالأحرى صيرورة معرفية تبدأ بالبحث ومن ثم الدرس إلى النقاش فالتطارح وأخيراً إلى الحوار ومنه إلى المداولة.. وكل ذلك متوقف، لا محالة على علاقة الأنت بالأنا معرفة بالآخر واستغراقاً به واعترافاً.

 

الديموقراطية في التحليل النفسي

 

في واحدة من أهم ميزات الحوار الديمقراطي هذا، أنه لا يمكن الخلط بين عناصر ـ مترادفات الصيرورة المعرفية هذه.

 

إذ يبدأ الحور بالبحث عن العلاقة التي تربط الأنت  بالأنا مكنونات ومكونات عوامل وأسباب أساليب ووسائل وأدوات وأهداف وغايات… وما تحتله أي منهما بالنسبة للأخرى. انطلاقاً من ذلك وفي الحدود التي لا يمكن تجاوزها إذ تبقى نسب معرفةِ كلٍ للأخرى هي التي تحدد منطلقات البحث ووسائله وأهدافه فإن تجاوزت ذلك بلغت دون أدنى شك مرحلة «الانهيار الجاذبي» المتبدي جدلاً ومماحكة ومهاترة وما قد يستتبع ذلك من مترادفات أخرى…!!

 

في تجاوز الحدود التي يحددها البحث، تعود صيغة «الأنت ماثلاً أمام أنا» كمبدأ في المواجهة ـ الحوار غير الديمقراطي.

 

دون تجاوز حدود العلاقة بين الأنت والأنا، وعلى ما هي عليه، ينتقل البحث إلى الدرس ـ النقاش والتطارح والحوار والتداول. حيث تداول مواقع الرؤية ومستوياتها، إذ تبقى مقولة تداول السلطة في حقيقتها بل وفي جوهرها، تداولاً للأمكنة والمستويات ليرى كل من طرفي العلاقة أن انكسار الضوء ـ الواقع، في موشوره الذاتي أفضى إلى لون آخر غير ذاك الذي كان يراه في موضعه السابق ومن زاويته، وأن ما كان ينفيه عن الآخر، عن الأنت، بات حقيقة لا يمكنه بأية حال التملص والتهرب والتستر عنها، إذ الديمقراطية جلاء ووضوح… وأي معنى للديمقراطية إلاَّ هذا التداول لوجهات وجوانب ومستويات الرؤية للواقع…

 

إن من أولى ميزات الحوار الديمقراطي، تبقى في كسر قوقعة الحوار الذاتي المستغني عن الآخر، إلى رحابة الاعتراف بالآخر وجوداً ومعرفة، مكاناً ومستوى، رؤية وتطلعاً في الزمان والمكان.

 

وعلى ذلك، لا يكون الحوار الديمقراطي حواراً في الإيمان والاعتقاد، إنما في الخيارات التي تطرحها النظرة إلى الحياة والكون والعمل بما هي إيماناً واعتقاداً، ليس الحوار في الخيارات وحسب وإنما أيضاً في المتاح المحتمل، الممكن، المتوقع، أو بمعنى آخر، الكائن والممكن وما يمكن أن يكون.

 

إن لم نكن في البدء في وضع الاختيار، فكيف يمكن أن نختار؟ وإن كنا نختار ما هو مطروح، فإننا في الحقيقة لا نختار إلاَّ ما نعرفه من هذا المطروح! هنا تلعب المعرفة دور عامل بالغ الأهمية في عملية الاختيار، فإذا كنا نواجه على الدوام ما هو مطروح للاختيار، فإننا لن نكون أبداً في مستوى اختيار ما يمكن طرحه أو الممكن طرحه، لأننا في الأساس لسنا على معرفة بهذا الممكن والما يمكن، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى تضييق دائرة الخيار مما هو مطروح فقط فإذا ضاقت هذه الدائرة بالمتاح من المطروح، غدت مسألة الاختيار شكلية صورية في أغلب الأحيان.

 

في الحوار الديمقراطي غير المستغني عن الآخر، المحطم قوقعة الحوار الذاتي بين طرفي المعادلة الأنا والأنا الأخرى، يكون البحث فالدرس فالنقاش فالحوار والتداول في إمكانيات وطاقات وقدرات «المطروح المتاح» والممكن طرحه (والـ) ما يمكن طرحه أساليباً ووسائل وأدوات وطرق وكيفيات واستخدامات وغايات، وليس هذا وحسب بل وفي كيفية صياغة ذلك سنناً وشرائع ودساتير وقوانين وأنظمة.

 

ذلك أن الحوار الديمقراطي في ميزاته، لا يكمن في عتمة الآخر، دون الغوص لأعماقه وامتدادات أفقه ودونما إغفال «مقصود أو غير مقصود، لنقص في المعرفة في احسن الأحوال» للمُضاء من الأخر. ولأن الحوار الديمقراطي يبقى تلمساً وتفهماً لما يراه الآخر من زاويته ومكانه ومستواه.

 

في الحوار الديمقراطي، نقبل الآخر محاوراً ذاتياً؛ محاورة الذات للذات الأخرى، مما يستبعد تحول الحوار إلى جدلٍ مهمته الأولى والأخيرة الضد، والضد ليس إلاَّ.

 

في قبول الآخر محاوراً ذاتياً، نطرح على أنفسنا الأسئلة ذاتها المطروحة عليه، ونجيبُ عليها ونحن في موقعه، في زاويته، في مستواه، لنلغي المبرر الذاتي في الحوار، أي الانطلاق من الأنت الماثل أمام الأنا، الأكثر من ذلك، الكمون أبداً في موقعنا ورفض مجرد فكرة مغادرته للبحث والدرس، في قبول الآخر محاوراً ذاتياً، لا نلغي الأنت في رؤية الأنا كما لا نلغي الأنا في رؤية الأنت، في قبول الآخر محاوراً ذاتياً نكتشف الآفاق والأغوار معاً ومكنوناتهما ومكوناتهما السببية والأسلوبية والغائية، بهدف إتاحة الفرصة للمطروح منها ليرى النور في الخيارات التي يطرحها الممكن منها (وال) ما يمكن منها.

 

في الحوار الديمقراطي إذن، نكتشف الذات أولاً في الذات وفي الآخر ثانياً كما نكتشف الآخر في الآخر وفي الذات، أي جلاء ووضوح الآخر فينا ونحن في الآخر.

 

في عجز الحوار عن ولوج عتبة الذات والآخر، يكون حواراً لا ديمقراطياً أولاً ونكون نحن أكثر اللذين هم بحاجة لإضاءة الآخر في الذات.

 

في قبول الآخر محاوراً ذاتياً، نكون قد ألفنا الآخر طموحات كما نألف طموحاتنا وطرحنا على ذواتنا الأسئلة المطروحة عليه وألفنا إجاباته عليها كما نألف إجاباتنا نحن عليها.

 

على نحوٍ من حوار كهذا، نسلك طريق الديمقراطية، لأننا نكون قد سلكنا طريق الحوار الديمقراطي بحثاً ودرساً وتطارحاً ونقاشاً وتداولاً، ولأننا نكون قد حُلْنا دون تحول الحوار إلى مماحكة ومهاترة تنتهي غالباً إلى ملاسنة شتماً وسباباً كما هو واقع الحال.

 

إن صيرورة ديمقراطية كهذه، ليست في الحقيقة مجرد ترادفات لغوية، إنها صيرورة الحوار غير المستغني عن الآخر حقيقة واقعة في تجلياته وتتابعاته وبحيث لا يبقى الاختلاف انتفاءً للاتفاق ولا الكثرة انتفاءً للوحدة ولا الأنت نفياً للأنا واستمراراً لاستغراقِ الآخرِ في الآخرِ، بمعنى استغراقهما في حركة كل منهما بأقصى ما تمكنها منه طاقاتهما وقدرتهما الذاتية في ساحة من انعدام جاذبي هي الديمقراطية ليخط أي منهما مساره محدداً فلكه.

 

في حوار ديمقراطي هذه مواصفاته وسماته وميزاته وخصائصه، يكون حواراً مستمراً، لا متناهياً لا تناهي موضوعه، وبما يعني إتاحة الفرص الجديدة للتجريب النظري، مقارنة ومقاربة ومفاضلة واستنساباً وبما يحول دون تجريب تعسفي يهدر الطاقة والزمن الاجتماعيين.

 

وأي معنى للديمقراطية سوى التداول في مختلف ما تعنيه الحياة بما يفيد التنامي والتكامل والتطور.

 

إن تكن خصائص الديمقراطية هي بالذات خصائص موضوعها، فإن من أهم ميزات الحوار الديمقراطي، إنه حوار علماني، لا تلغي فيه الموضوعية الذاتية أو الآخر، وبحيث لا يكون أيٌ منها على حساب الآخر وغير كامنٍ في عتمته أو عتمة الآخر أيضاً وغير غافلٍ، عن قصد أو غير قصد، للمُضاء من الآخر.

 

الموضوعية والذاتية في الحوار الديمقراطي، هي الأنا والأنا الأخرى «الأنت» والموضوع، هو الموضوع الديمقراطي في حواريته مع كلتاهما على حد سواء لتحديد موقع أي منهما بالنسبة للأخرى وما تمثله أيٌ منهما للأخرى، لينتقل بعد ذلك إلى البحث، مما يستدعي باحثين، ومن ثم دارسين عندما ينتقل إلى الدرس وبعده إلى مناقشين فمحاوريين ليصل في نتائجه للمداولة.. مما يفيد أن الحوار الديمقراطي، ليس أيُ حوار، أنه حوار ديمقراطي في موضوعٍ ديمقراطي أي أنه الحوار الذي يخرج من دائرة «الأنت الماثل أمام الأنا» مكتنهاً طاقة وإمكانية وقدرة استمراريته اللامتناهية الشاملة أكبر قدر ممكن من الباحثين والدارسين والمناقشين والمحاورين والمداولين، ليشمل كل هؤلاء، دون أن يكون من هؤلاء من يدعي البحث وهو الدارس أو هذا وهو المحاور، هكذا تبدو واضحة أبعاد اللاتناهي في الحوار الديمقراطي.

 

في تحديد الحوار الديمقراطي لموقع أيٍ من الأنا والأنت في حوارهما الديمقراطي، تحسم مقولة المثول، أيٍ منهما، أمام الأخرى، وتالياً تحدد مساحات خضراء يتنامى من خلالها الحوار في استمراريته ولا نهائيته وتلك الخطوط الحمراء التي تحيله إلى جدل ومماحكة ومهاترة بل وملاسنة وسباب وشتائم، وكما تتحدد تلك الخطوط الصفراء التي لا يمكن تجاوزها، ولأنه في حال تجاوز هذه الخطوط، نحكم على الحوار بالانقطاع.

 

في الحوار الديمقراطي تتم قراءة الأبعاد الإنسانية، للفرد والمجتمع على حد سواء وتحديد نسب تطابقها وتباعداتها بعضها عن بعض وبحيث ترى «الأنا» في حورايتها مع «الأنا الأخرى» هذه على حقيقتها وفي موقعها ومؤثراتها وتأثيراتها، في عواملها الذاتية والموضوعية، انفعالاً وفعلاً وتفاعلاً، وأيٌ منها يتقدم على الآخر، ليصب في بوتقة نتائج الأول فعلاً وتفاعلاً…

 

في حوار ديمقراطي، هذه جغرافيته، تقرأ كل «أنا» ذاتها «الأنا الأخرى» بمعنى كيف هي «الأنت» بالنسبة للأنا الأخرى، وكيف تتبادل أيٌ منهما الأدوار في بوتقة الحوار الديمقراطي.

 

في حوار ديمقراطي كهذا، تتناهى «الأنا» في «الأنا الآخرى» وتضحى أيٌ منها هي «أنت» في علاقة أيٌ منهما بالأخرى.

 

إن تناهي الأنا في الأنا الأخرى يبرزُ على نحوٍ من كائن آخر هو «النحن» والذي تمخض من علاقة الأنا والأنا الأخرى كما تمخضتا كلتاهما عنه. «النحن» هنا، هي مسار التجربة التاريخية في صيرورتها خبرةً وتقانةً، ومرآةً عاكسة ما أمامها، بل وساحة انعدام جاذبي ومحصلة قوى الأنا والأنت في حركتهما اللامتناهية..

 

في حوار ديمقراطي، هذه هي طبوغرافيته، تنجلي أمام الجميع وهاد النفس وجبالها كما سهولها وهضابها بل وبحيراتها ومستنقعاتها…

 

في جغرافية الحوار الديمقراطي وطبوغرافيته تظهر بوضوح بيئته الطبيعة متمثلة في «النحن» حيث يتناهى الإنسان، مجتمعاً وفرداً، كلٌ منهما في الآخر، كما الأنت والأنا في النحن حيث «النحن» هي التجربة في مخبر الزمن ـ التاريخ. وحيث الدائرة النفسية لكليهما فلك تدور في مساره قوى عدة لا عدَّ لها ولا حصر، لا يلغي أيٌ منها الآخر، كما العام لا يلغي الخاص، وكما هذا لا يلغي ذاك، وعلى الرغم من أن العلاقة بين النحن والأنت والأنا، تأتي كل منها على نحو الأخرى، يبقى الخاص في كل منهما هو الموجه المباشر للفعل، بينما يأتي العام كقاسم مشترك بينها، ويبقى على نسبة ما يكتنه من الخاص، فهذا في كل منها يختلف عن الآخر بنسب عددها، عدد الأفراد في المجتمع وعدد المجتمعات في العالم الإنساني، مع تداخلها تداخلاً شديد التعقيد والرهافة واللطافة، بحيث تضحى السياسة ها هنا تداولاً لبيان كل خيط من خيوط هذا التداخل، والكيفية التي تجعل من أيٍ منها غير لاغٍ للآخر، في نحوٍ من الديمقراطية السياسية التي يكون محورها النووي اللا إلغاء و الاعتراف بالآخر مضموناً وجوهراً ومحتوىً في السنن والشرائع والدساتير والقوانين والأنظمة شكلاً ومظهراً وكيفية وأسلوباً ووسائل وأدوات.

 

الديمقراطية، كحيلولة دون الإلغاء وتأكيدٌ للاعتراف، تأخذ الإنسان، فرداً أو مجتمعاً على نحوٍ من مكنوناته ومكوناته، أي على نحو تشكله في مختبر الزمان ـ التاريخ أو على نحوٍ من مراحل تطوره وتطوراته المييثو لوجية والميتافيزيقية والعقلانية والتي تنتهي بالتحليل إلى عناصر هي بالتالي قوى يمكن الاستمرار في تحليلها إلى ما لانهاية إذ تتداخل في كل منها ظروف وأحوال وأوضاع.. هي أبداً على نسب متفاوتة بين الأفراد والمجتمعات..

 

وإن كنَّا نصوغها على شكل مثلثي في الدائرة النفسية للإنسان، فما ذلك إلا لأنه ــ الانسان ــ ذو أبعاد ثلاث ، رابعها افتراضي لضرورة اغلاق (استقرار ، طمأنينة، ) الانسان في دائرته النفسية :

 

 

لفهم الشكل (1) تندرج (1و2و3) كإنعكاس لثلاثية (محيط ـ جسم ـ نفس ) في تطور الفرد من مطلق فرد الى فرد في جماعة الأشكال (4و5و6)، يرسم الشكل (1) كيف تشكلت الدائرة النفسية في الانسان، فالمحيط ( طول ـ عرض ـ ارتفاع ) تمخض عنه ( مجازا) حيوي( بيولوجي) وهذا الى وظيفي( فيزيولوجي ) وكلاهما في الاختصاص ، تمخض في النفسي ( السيكولوجي)، في ظهور العامل النفسي، تمخض الحيوي( االبيولوجي ) الى غريزي، بينما تمخض الوظيفي ( الفيزيولوجي ) الى عاطفي ليضحى النفسي ( السيكولوجي ) عقلي، بالطبع، علينا ادراك أن كلٌ من الغريزي والعاطفي والعقلي تبقى في تشعبات كل منها، هنا نأتي على العام متضمنا الخاص ..

 

تتمثل كل من المصطلحات السابقة، بنقطة على محيط الدائرة ، تتباين فيما بينها بالأبعاد التي تفصل كلٌ منها عن الأخرى، هذه الأبعاد وتلك التموضعات على المحيط تتباين من فرد الى آخر بحيث نلحظ أنه من المستحيل تطابق هذه النقاط بأبعادها وتموضعاتها بين فرد وآخر، لكنها تتطابق كليا في الفرد الواحد ولنقل تتكامل في الفرد الواحد ..

 

في الأشكال ( 4و5و6 ) يتمثل لنا كيف انتقل الفرد من ( مطلق فرد ) الى فرد في جماعة ، حيث الغريزي تمخض عنه (أنا ) والعاطفي تمخض عنه ( أنت ) بينما العقلي تمخض عنه ( هُوَ ) ،هذه الثلاثية الأخيرة، تمخضت عنها تلقائيا ، قيم ( الهو والأنا والأنا العليا ) متمثلة بالبعد الزماني ( الماضي والحاضر والمستقبل ) ..

هذا البعد الزمني الأخير، هو الذي تطلب ضرورة اغلاق الدائرة النفسية في الانسان بحثا عن مستقرٍ للذات الانسانية في مختلف تساؤلاتها عن ( ما بعد الموت ) ..

يمكننا التقدم الآن الى فهم كيف يختلف فرد عن آخر في ذات الدائرة النفسية ، فالشكل التالي

 

يمثل فردا يشغله حاضره ومستقبله دونما أية التفاتة للماضي ولما بعد الموت ، بينما يأتي الشكل التالي

 

ليمثل فردا آخر يشغله ماضيه وحاضره ومستقبله دونما أن يعطي لما بعد الموت أهميته ، ليمثل الشكل 

 

فردا يشكل الغيب كلَّ معنى وجوده فحاضره يمثل على محيط دائرته النفسية نقطة ما بعد البداية بقليل ..

 

في أية محاولة لمطابقة الدوائر الثلاث الأخيرة، ستبؤ بالفشل الذريع بحيث يبقى كل مثلث من مثلثاتها يشغل حيِّزا مستقلا كل الاستقلال عن الآخر ..

لا بد لنا من التنويه، الى أن ما يدفعنا لبحث الديموقراطية من الوجهة النفسية أو التحليل النفسي، هو التأكيد على أن الديموقراطية من حيث هي قبول الآخر، هي قبوله " كما هو" لاكما نريده نحن أن يكون، هي اعتراف بالآخر، واعترافٌ تلقائي، لا يحتاج لمقدمات وتبريرات وأسباب ودواعي و...الخ، هي كذلك لأنها نسق حياة، نعيد ونكرر، نسق حياة، هي نسق حياة لأن كل ما فيها يطفو على السطح، يظهر للعيان، يتلمسه المجموع، يرضاه الكل، ممتعضا، رافضا، مؤيدا، مستغربا،..الخ لكنه في نهاية المطاف، يتقبله برحابة صدر، لا يستعديه، لا يحول دونه ودون أغراضه التي يقررها هو، وهو بكامل وعيه وإرادته، ورغبته و..الخ

هي كذلك، لأن الواقع يفترضها على هذا النحو، ولأن الواقع، هو بطبيعته ديموقراطي النزوع، كما يقول جبران

 

 ليس في الغابات عدلٌ ... لا ولا فيها العقابْ

فإذا الصفصاف ألقى ظله فوق الترابْ

 لا يقول السروُ هذي بدعةٌ ضد الكتابْ،

 

هو كذلك، لأنه مهما بالغت الأنظمة الديكتاتورية ( والتي يرسو فيها كل شأن في أعماق ذاته فلا يطفو على السطح سوى ما تريده الدكتاتورية له أن يطفو ) في القمع فإنها أبدا ملاقية حتفها على يد الواقع الديموقراطي الذي يبقى، على هشاشته، قويا بما فيه الكفاية للمقاومة، وعليه، فإن البحث في واقع الأفراد على اختلافهم، وتاليا واقع المجتمعات على اختلافاتها، يضطرنا لبحث هذا الواقع وكيفية تشكله في محاولة لقبوله، كما هو وبرحابة الصدر الديموقراطية .

في هذا الشكل  ، تتراكب الدوائر الست بعضها فوق بعض بمختلف تفرعاتها أي على النحو التالي:

 

بهذا التراكب يتبين لنا كيف نتشكل نحن ، كما الأخرين ، سأضرب مثلاً يمكنه توضيح هذا التراكب :

لنفرض أنك( رجلا كنت أم امرأة ) تجلس وبقربك (زوجتكَ زوجكِ)ومن الجهة الأخرى (ابنتكَ ،ابنكِ) وتحضن كلٌ منهما بيد، سوف تنقل تلك التي تحضن بها (زوجتك، زوجكِ) شعورا بالجنس، بينما تنقل لك تلك التي تلتف حول ( أبنتكَ أوابنكِ) شعورا بالأبوة أو الأمومة، ولنفرض أن ( والدتكَ ، والدكِ) تطوقكَ، يطوقكِ فسينقل لك هذا شعورا بالبنوة، فانت حيال ثلاث إحساسات بآن واحد لا يتضارب أي منهم مع الآخر، لنتمثل الآن المعرفي والقيمي ، البيولوجي والفيزيولوجي والسيكولوجي ،الأنا والأنت والنحن، الهو والأنا والأنا العليا ، الماضي والحاضر والمستقبل ، .. مضافا اليها مختلف تشعباتها ، الأنانية والغيرية، الطبقي( فقير، متوسط ، غني) السياسي ( متطرف ،معتدل، لا مبالي ) الديني منها ( سني ، شيعي ، درزي ) (أرثوذكسي ، كاثوليكي ، بروتستانتي ) ..الخ فكيف ستبدو لنا دائرتنا النفسية، مبدئيا على قاعدة ثلاثية الأبعاد ،

 

وفي ما بعد ستبدو في الديموقراطية من حيث هي نسق حياة على غير هذا النحو )

 

شرح ما تمثله الدائرة النفسية

1 ـ لماذا اعتمدنا شكل الدائرة ؟

 

إن اعتمادنا الشكل الدائري للدلالة على الانسان وما يشغله في تواصله مع ذاته والآخرين، كونها شكل مغلق لا محدود أو لامتناهي، يحمل في ذاته أبعادا هي في واقع الحال، الأبعاد التي يدور في فلكها الفرد، ولأنها، دون سواها، من الأشكال الهندسية تأخذ بعين الاعتبار بعدا رابعا لا يأخذه أيٌ من الاشكال الهندسية الأخرى..

 

أما اعتمادنا للمثلث فللدلالة على الأبعاد التي تشكل حقيقة وجوهر ما يختزنه الفرد بمختلف وجوه هذا الاختزان، ولأن أضلاعه مرتبطة بزواياه، أكثر من غيره من الأشكال التي وإن اتفقت بعضها مع بعض لكنها لا تمس في حقيقة الأمر الواقع النفسي " السيكولوجي" للفرد، المثلث، له قاعدة ورأس، الرأس، يشكل محصلة طرفي قاعدته ويتحكم بهما، وإن تكن التداولية هي التي تحكم هذه العلاقة ، لكنها في الآن، وحدة متماسكة تماسكا يصعب، في مختلف الأحوال الفصل ولو نظرياً بينها ..

 

في علاقة الفرد مع ذاته أو الآخرين ، تكون قيادة هذا التواصل ( أي علاقة الرأس بطرفي القاعدة ) رهنا بمؤثرات كثيرة " تربوية ، دينية ، ثقافية ، اجتماعية ، ..الخ " من هنا يمكننا ، مهما يكن شكل المثلث ( العلاقة بين مدلولاته ) ، بيان من يتحكم بطرفي القاعدة ، كأن يقود العقل كلا من الغريزة والعاطفة ويتحكم بهما ، بشكل صارم أحيانا أو متفلت في أحيان أخرى أو عشوائي في أحيان ثالثة ، وقد تتداول الغريزة قيادة كلٍ من العاطفة والعقل ، كذلك حال العاطفة، وفي أي من هذه الوضعيات تكون مواصفات وخصائص الفرد بما هو عليه، خاصة إذا ما تداولت الثلاثيات الأخرى، عشوائيا أو غير ذلك ، قيادة طرفي قاعدتها ، كأن يتحكم ماضي الفرد بحاضره ومستقبله ، أو الأنا العليا بكل من الأنا والهو ،أو .. الخ .

 

في شكل الدائرة المتضمنة للمثلث ، علينا الانتباه ، لتموضع رؤوس المثلث على محيط الدائرة ، كما أطوال أضلاعه ، ومدى انفراج زواياه أو حديتها، كل ذلك مهم للغاية في فهم اختلافاتنا بعضنا عن بعض ، قد تتقارب رؤوس المثلث بين فردين لكن قاعدتهما أو زوايا مثلثيهما ، مختلف ، فلا يعني ذلك سوى أن اتفاقي معكَ في هذه المسألة الى حدٍ ما ، لا يعني أننا متفقون في قواعد هذا الاتفاق ..

 

أما لماذا اعتمدنا شكلا هندسيا لتوضيح المقصود لغويا ، فهذا يُدخلنا في علم " السيمولوجيا"(*) أو علم العلامات ،الذي يدرس مختلف العادات والتقاليد والأعراف .. بوصفها علامات ، أو إشارات تعبيرية وإن لم تكن لغوية ، أكثر من ذلك ، فالشكل الهندسي ، يجردنا من مختلف نزوعاتنا الحيوية والوظيفية والنفسية ، أيا كانت ويضع أمامنا واقعا نحاول تفهمه بنزاهة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) .......السميولوجيا أو علم العلامات : يدرس هذا العلم الطقوس والأعراف والعادات والتقاليد وغيرها بوصفها علامات أو إشارات تعبيرية وإن لم تكن لغوية. هو علم موضوعه دراسة حياة العلامات في المجتمع، و لا يكتفي بظاهرها بل يعمل على سبرها، ويجهد نفسه ليعيد تحويلها الى معنى. وكل نسق سميولوجي لا يتكون من طرفين، بل من ثلاثة أطراف مختلفة. والسميولوجيا لا تدرس طرفاً بعد آخر ولكن الترابط الذي يجمعهما. وقد يكون الدال مكوناً من مجموعة من الدلائل، ويمكن أن يكون للمدلول دلالات متعددة. وهناك أنماط من الترابط بين الدال والمدلول، فقد يكون هناك تكافؤ بينهما، وقد يكون الدال ضيقاً وغير ملائم للمعنى. وهناك أنماط من العلاقة بينهما قد تكون اعتباطية أو رمزية أو غيرها. أن التواصل يحدث عن طريق الدلائل (العلامات)، وكلما حدث تغيُّر في الدلالة صاحبه تغيُّر في المعنى، ومن ثم فإن "القيمة الدلالية لكلمة تكمن في معناها" يرتبط المعنى، مهما كان شكله وطبيعته، بالحياة النفسية للأفراد والجماعات، نتيجة الغاية من التواصل، ونتيجة التحول الذي تحدثه العلامة التواصلية في نفسية المتكلمين والمستمعين؛ أي إن الدلالة تشتغل في ضوء آليات فيزيولوجية وسيكولوجية. إلى جانب ذلك فإن العلامة ترتبط واقعيا بالحياة الاجتماعية، التي تُقَنِّن فعل التواصل، من حيث الظروف والحالات التي تحدد موضوعات التواصل ومواقفها. وعلى هذا الأساس فإن اللسان و/أو اللغة هو المنظومة التواصلية الأكثر أهمية، لأنها ترتبط بحياة الإنسان في جميع المستويات؛ نميز بين المعنى والدلالة ، فالمعنى يتميز بصفة سكونية، يرتبط بالتصور الذهني الذي أنشأته العلامة المرتبطة أصلا بالمشاعر؛ أما الدلالة فإنها المعنى في حالات التحول، أي إنها المعنى زائد الوظيفة، أو اشتغال المعنى في مواقف ووضعيات معينة وبالتالي فإن الدلالية اللسانية تتصدر مختلف العلوم التي تدرس وتحلل ظاهرة التواصل.. هناك ثلاث نماذج قاعدية للعلامة (لبنية المعنى).......

 

ما يدفعنا للغوص عميقا في التحليل النفسي لمفهوم الديموقراطية هو أن نطرح جانبا والى الأبد المفهوم التقليدي للديموقراطية من حيث هي "  نظام سياسي  " والتأكيد على أنها "نسق حياة" يُفضي بالضرورة لنظام اجتماعي، ثقافي، سياسي ديموقراطي ، فالديموقراطية، بشكل ما من مفهوماتها، هي أن تتقبل الآخر كما تتقبل ذاتك، نفسك، عثراتك، أخطائك، تشوهاتك، .. بكل ما تعنيه من مبررات لهذا الفعل أو ذاك، لأنها أولا وأخيراً، صدق مع الذات كما مع الآخرين، الديموقراطية، صدق، وضوح، صراحة، جلاء، هي أن تُفصح عن شرِّكَ كما تفصح عن خيرك، عن كذبك كما صدقك، عن نزوعاتك الشخصية وميولك كما هي دون تجميل ، عن كل ما تحلم به وتتمناه وتأمله في حياتك، دون تعقيد أو خوف، وأن تمارسه بمطلق الحرية غير عابئ بموقف الآخرين ، ففي الديموقراطية لكٍ الحق في النقد والنقض واللوم والاستهزاء والسخرية و.. وعلينا تقبل ذلك برحابة الصدر الديموقراطية ،فإن لم نبلغ هذه المرتبة الثقافية من الجرأة ، فلا أمل لنا بمستقبل ديموقراطي ولسوف نبقى نردده ونطالب به ونتمناه ببغائياً   ...من هنا كان تركيزنا على كيفية تشكُل دائرتنا النفسية بأبعادها الثلاث ، أما الرابع فهو افتراضي ، لكل منا أن يفترضه بالشكل الذي يلائمه ويحقق استقراره وطمأنينته، لكنه يبقى بعداً له تأثيره ودلالاته في الأبعاد الأخرى، وكبح جماحه يبقى ضرورة للحيلولة بينه وبين تداولية، أو تبادلية الأبعاد الأخرى بعضها مع بعض ، ولأنه في الحال المعاكسة يطمح جموحه لقيادتها متفردا، مما يعق ميزاتها وخصائصها عن الفعل والخلق ، بحيث لا يتعدى مفهوم كبح جموحه سوى اقتصاره على كونه بعدا رابعا افتراضيا له كل الحق والحرية في ممارسة ذاته في ربعه الأخير ، أي في نطاقه الفردي، الشخصي، كما غيره من الأبعاد الأخرى .. الشكل رقم (1)

 

 

أشرنا آنفاً الى "تداولية أو تبادلية" أي من الأبعاد الثلاث بما يعني قيادة أحدها للأُخرَيين ، وهذه مسألة ذات أهمية تقتضي منا التوقف عندها بعض الشيء .               

 

في محاولة منا لرسم دائرتنا النفسية من منطلق تربوي (تعنيف، ضرب، تسامح، تفلت،...)  معتقدي ( ديني ، سياسي، ثقافي) اجتماعي ( محافظ، متشدد، متزمت، متحرر،..) الخ، يمكن أن نعتمد قاعدة واحدة للمثلث ،على اعتبار أن الظروف والأوضاع والأحوال، بمختلف تقلباتها وتحولاتها ومظاهرها وإشكالياتها.. الخ،  تبقى في المحصلة مؤثرة في مرحلة التكوين النفسي، لكن بعد نضوج الفرد النسبي نفسيا واجتماعيا ومعرفيا ... ، تبقى مؤثراتها أقل وطأة وأقل تأثير، مع محاولة الفرد التفلت من قيودها، بهدف تجسيد ذاته على نحوٍ ما، مما يأمله، وعلى قدر تناسب طموحاته مع امكاناته المختلفة و تلك التي يتوخاها من حياته، ، أصاب أم أخفق في ذلك، غير مهم في دراستنا هذه،  ما يهمنا في هذا السياق هو أن رأس المثلث هو الذي يقود طرفي القاعدة وفي علاقة تداولية ( تبادلية) وفق الموضوع المطروح للبحث، متداخلا في ذات الوقت مع علاقات (مثلثات) أخرى، فمثلا عندما يكون الفرد منشغلاً في مسألة محض عقلية يكون رأس المثلث هو العقل ـــ أي في الربع الثالث من الدائرة ـــ مسيطراً أو قائدا لطرفي القاعدة (العاطفة والغريزة) بمعنى، أنه يعمل وفق منظورٍ مستقبلي، لذا كان الرأس في الربع الثالث، بينما عندما يؤنب أو يكافئ ابنه على مسألة ما يكون رأس المثلث هو العاطفة ـــ أي في الربع الثاني من الدائرة ـــ والقاعدة (العقل والغريزة)،بمعنى أن ما يقوم به، أيا كان، تقوده العاطفة، أو الرابطة التي تربطه بالشخص المعني،  بينما تكون الغريزة الجنسية تحديدا هي رأس المثلث ـــ أي في الربع الأول من الدائرة ـــ عندما يكون في علاقة حميمية مع من يحب، بمعنى أن الفعل الغريزي، أياً كان، ( أكل شرب نوم جنس ..الخ)، يأخذ بعين الاعتبار مؤثراته الحاضروية والمستقبلية، فيعمل في اطارهما، .. المثلث في أي من الحالات الثلاث متغير الأبعاد وأيضا الزوايا وتاليا، تموضوعات الرأس على محيط الدائرة، بما يعني، أن البعد، المسافة، الطول، بين الرأس وطرفي قاعدته يحدد تموضعه على محيط الدائرة، كذلك الزاوية التي تحدد انزياحه على المحيط،  فإذا كانت الدائرة تتشكل من 360 درجة والدرجة من 60 ثانية والثانية (تقدر كوحدة لقياس الزمن بــ مدة (9,192,631,770) من فترات الإشعاع الموافق للانتقال بين مستويات فائقة الدقة لاثنين من قاعدة ذرة السيزيوم 133.)، فلنتخيل مدى دقة ورهافة وتعقيد تموضع أحد الرؤوس على هذا المحيط الذي يبدو لا متناهيا في تموضع أيٍ من الرؤوس عليه .. 

 

نغوص عميقا في التحليل النفسي لمفهوم الديموقراطية لنجد أنها سلوك ذاتي يتقبل الآخرين كما هم !! لأنهم على صورته وشاكلته، فلا نجد فرقا بين فرد وآخر إلا في تموضع رؤوس المثلثات على محيط دائرتنا النفسية ومحيط دائرته النفسية وهي تموضعات تتقارب في كثير من الأحيان وتتباعد في أحيان أخرى، نقول تتباعد وتتقارب، ذلك أنه ما من خلافٍ بيني وبينك أو بينك وبين الآخر يمكننا اعتباره اختلافا مطلقا في كل شيء،  فإذا أخذنا عينة واحدة من أبعادنا النفسية، ولتكن رؤيتنا للبعد الزمني، المفطورون عليه طبيعيِّاً، وأجرينا تطابقا للدوائر النفسية، فستكون النتيجة كما ما هو وارد في الشكل التالي : 

 

هذه الفروقات في الرؤية الزمنية لكل منا أو هذا التباعد أو التقارب ـ وبمكن تعميمه على مجمل أبعادنا النفسية ـ  يعود في عوامله وأسبابه لجملة القيم والمفاهيم التي اكتسبها الفرد من بيئته التي ورثها ـ موضوعيا ، رغما عنه ـ  بعامل التربية، من محيطه العائلي والاجتماعي والثقافي " الديني، والعرقي، والتاريخي،.." هذه الفروقات إنما هي في البعد النفسي شأن موضوعي ، لا علاقة به للفرد، من حيث القناعة أو عدمها،  لكنها وتبعا لطريقة واسلوب التعاطي معها من حيث القدرة الفكرية ، والاجتماعية الى حد ما ، على التغيير، التبديل، التحول، وأخيرا التطور كما يفهمه، الفرد بذاته، تكون نتائجها،  فكثيرون يدركون أن ما هم عليه، لا يتوافق وقناعاتهم عن حياتهم الخاصة التي أرادوها لأنفسهم (خاصة النساء) فيقفون في حدود المتاح اجتماعيا ودينيا وثقافيا .. لكنهم على أية حال، يقتنعون ذاتيا بما هم عليه، كما نحن بالضبط، وكما نحن، بما نحن عليه، مقتنعون به، ونادرا ما نلجأ أو يلجؤون للسؤال الذاتي : هل ما أنا عليه هو الصواب أو هو الصحيح السليم المعافى الخالي من كل شائبة، ونادرا أيضا، ما نجيب بموضوعية ، بنزاهة، بتجرد، .. على سؤالنا الآنف الذكر..

 

في ندرة طرح السؤال وفي ندرة الاجابة الموضوعية عليه، يَكمن تمايزنا عن الآخرين، أو تمايزهم عنا،  وهذه مسألة تعود الى أننا لسنا نسخا بيولوجية، فيزيولوجية، وتاليا ، سيكولوجية،  بعضنا عن بعض، لسنا استنساخا، يمكن للعلم أن يستنسخ أنشتاين آخر،  بأخذ عينة من (dna )، لكنه ليس بديناميكية أنشتاين وتساؤلاته وإجاباته، هو أنشتاين بالشكل دون المضمون، علينا اذن أن ندرك ونعي ونقتنع بأن اختلافنا مع الآخر أيا كان، فردا، فئة، طائفة، عرقا، جماعة، مجتمعا، ليس ميزة نمنحها لأنفسنا، لنجهز بها عليه..

 

إن الاختلاف، واقعة بشرية عامة، لا تقتصر على فرد أو آخر، إنها حالة إن لم نعترف بوجودها، فسنكون خارجها، أي أننا نكون قد حشرنا أنفسنا في "غيتو" لا يقبل الانخراط في الحالة العامة، يقتنع بذاته / وكفى الله المؤمنون شرَّ القتال /..

 

ما تقدم يدفعنا للسؤال: هل أنا مختلف عمن حولي ؟ ـ على اعتبار أن أيٍ منا يعتبر ذاته مقياسا لما هو الصواب والخطأ ـ  أم أنهم هم مختلفون عني ؟ وهل لهذا الاختلاف من حل ؟ لتبقى الاجابة : أنه على قدر ما تكون خاصية التكيف، التبدل، التغير، التحول، ..التطور في نهاية المطاف ، قابلة للفعل، بقدر ما نعي أن لا خلاف ولا اختلاف مع الآخر إذا ما أُخِذَ على ما هو عليه، ولأنني على صورته ومثاله، إذا ما أخذني على ما أنا عليه أيضا..    

 

في علم السيمولوجيا، المشار اليه آنفا ، يمكننا أن نتلقط اجابتنا على التساؤل المتقدم، ببيان حركة المثلثات على محيط الدائرة، والتي تعكس مستوى، مرتبة، سوية، درجة، قابليتنا للتغير والتبدل والتكيُّف و ...التطور أي مع أو عكس حركة عقارب الساعة، في المنحى العام لهذه الحركة، يكون الدوران عكس عقارب الساعة متماشيا مع حركة التطور، التي سبق وأشرنا إليها، من البيولوجي الى الفيزيولوجي الى السيكولوجي، والذي هو ـ السيكولوجي ـ المسؤول عن البعد الرابع في دائرتنا النفسية، إذ لولاه لما كان الغيب الافتراضي بعدا تُغلق فيه الدائرة.. لأنه في الحالة المعاكسة ـ أي الدوران مع عقاؤب الساعة ـ أو القبول بالأمر الواقع أو الأمر المفعول ، نكون على تضاد مع حركة التطور، أي أننا ننطلق بعكس حركة التطور، بمعنى آخر، نفهم ونعي ونعرف وندرك الماضي بغير ما هو عليه كذلك المستقبل وبكل تأكيد الحاضر، وفقا لتوضُّع قاعدة المثلث التي تُحدد وتتحكم بزوايا المثلث وأطوال أضلاعه وتاليا تباعد رؤوسه بعضها عن بعض، قاعدة المثلث هنا هي رؤيتنا، أو موقفنا، أو قناعاتنا، أو مفهوماتنا، عن أنفسنا وعن الآخرين، أي لما نحن فيه من زاوية الرأس المتموضع على محيط الدائرة، كما في الشكل :

 

سوف ننطلق في الشرح من أننا ، أنتَ وأنا، نبحث في الغريزة، من منظار عقلي بحت ( حيث رأس المثلث متمركز في الربع الثالث ) كيف تراها أنت وكيف أراها أنا، أنت تبحث متماشيا وحركة التطور ، بينما أنا ابحث متماشيا عكس التطور، ستكون البداية اختلاف، (الشكل رقم 2) أما في (الشكل رقم 3 ) فستكون اتفاق ونعود لنختلف في (الشكل رقم 4 ) مع أننا في واقع الحال متفقون ( الشكل رقم 4 ـ انت ـ والشكل رقم 2 ـ انا ـ كذلك في (الشكل 2 ـ انت ـ والشكل 4 ـ انا ـ ) نحن اذن متفقون على أية حال. والخلاف يبقى ظاهريا إن أتقنا مفاصل  الحوار..

 

في الواقع ، لا تقتصر حالات الاختلاف على ما تقدم، بل تتجاوزه الى أبعد من ذلك خاصة اذا كان الدوران مختلف بين وجهتي نظر،  /عكس أو مع / حيث يقف أحدهما في حركته على محيط الدائرة وعلى زاوية لا يبرحها، أو لنقل أنه يتسرع في الحكم فلا تكون حركته متناسبة وحركة الآخر، كأن يدور هو بزاوية 45 بينما أنت يكون تحركك بزاوية 30، هنا يبدو الخلاف حادا وغير منطقي ويقود في كثير من الأحيان الى افتراق لا يترك مجالاً للعودة للحوار ..

 

علينا أيضا أن ندرك أن حالة ما أو اختلاف ما، لا يعني بأية حال، ان لا اتفاق في نقاط أخرى يمكننا تلقطها إن اكتسبنا شيئا من الموضوعية والتجرد والتنزه عن بعض مظاهرنا الأنانية، فهذه الأخيرة لا تتفق والديموقراطية في شيء، الديموقراطية هي بحثٌ عن نقاط الاتفاق لتكون حلاً لنقاط الافتراق ..

 

عندما نقول أن الديموقراطية نسق حياة، تربية، سلوك، منهج، منطق، اسلوب .. يفضي بطبيعة الحال الى نظام اجتماعي سياسي ثقافي .. ديموقراطي، فذلك لأنها مثلث قاعدته واحدة رغم اختلاف الأفراد، دينيا، عرقيا، ثقافيا، اجتماعيا، تاريخيا، سياسيا،..الخ وتموضع رأسه وحركته واحدة وتباعد أضلاعه واحدة وزواياه واحدة.

 

عندما نقول أن الديموقراطية، نسق حياة، يُفضي، بطبيعة الحال، لنظام اجتماعي يتقبله المجموع بقناعة تامة مطلقة، رغم تناقضه معه في أحيان كثيرة، لكنه، من منطلق تربوي عام ، يعمل في إطاره، ديموقراطيا، يقتنع به ويخضع له ويمارسه بكل تجرد ونزاهة، بعيدا عن أي نزوع فردي يتعارض والنسق العام، ذلك أن هذا الأخير متاحة فرص ممارسته أيضا، مهما بدى متعارضا مع النظام العام، طالما بقي في إطاره الفردي، هو كذلك، لأن هناك استحالة في تطابق الأفراد بعضهم مع بعض، كما أشرنا آنفا، لسنا نسخا بيولوجية فيزيولوجية سيكولوجية بعضنا عن بعض، ولأنه عندما نُقِرُّ بذلك نكون قد بلغنا عتبة الديموقراطية، عندما نقر بواقعة الاختلاف بين الأفراد، كواقعة موضوعية، نكون قد بدأنا في تقبل تناقضنا الذاتي وتناقض الآخرين معنا، ونسقط نهائيا مقولة الفرد / السوبرمان/ بمختلف مستوياته ، فليس هناك من فرد تتطابق به مختلف نزوعاته بعضها مع بعض، أي لا يوجد فرد تشكل، في دائرته النفسية، مختلف نزوعاته، مثلثا متساوي الأضلاع كما في الشكل:

 

لابد من وجود فروقات موضوعية على أية حال وُجدتْ به، لكنها فروقات طفيفة إذ ما بلغ الفرد درجة هي أقرب الى الكمال، ففي الديموقراطية، ليس هناك من سوبرمان،  ليس هناك من عبادة للفرد، ليس هناك تأليها، ليس هناك من مقدسات، الديموقراطية تغير دائم الحركة، لا تعرف الديموقراطية السكون، هي أقرب ما تكون الى فرقة موسيقية تتناغم فيها الأصوات رغم اختلاف الآلات الموسيقية بين الوتريات ( الكمان ..) وآلات النفخ ( السكسفون..) والآلات الإيقاعية ( الطبل ..) وآلات المفاتيح ( البيانو ..)، الديموقراطية، نوتة موسيقية يعرف كل عازف متى يحين دوره بالعزف على آلته التي يجيد العزف عليها ..  

 

الإقرار بواقعة الاختلاف بين الأفراد وتاليا المجتمعات، يتطلب منا الإجابة على جملة من الأسئلة تدور في مجملها حول ماهية الاختلاف ، لماذا أختلف عنك؟ وبماذا أختلف عنك ؟ ولماذا أتفق معك وبماذا أتفق معك ؟ وهل من امكانية لحلِّ هذا الاشكال في العلاقة في ما بيننا ؟ طالما أننا أنت وأنا لسنا نسخا بعضنا عن البعض ،وأن أياً منا لا يملك حقَّ الادعاء بأنه السوبرمان وأننا أنت وأنا نعاني من تناقض ذاتي في ما بيننا لا نجد له مبررا أو حلاً في مختلف الأحوال، بما يضمن استقرارا وطمأنينة يمكن لها أن تكون مرتكزا لحلِّ مختلف اشكالياتنا الذاتية ، بما يعني، أن مختلف قناعاتنا عن أنفسنا وعن الآخرين وتاليا وعن ظروف وأحوال وأوضاع حياتنا، لم تأتي أكلها، إذ بقي ما نحن عليه واقعا موضوعيا لا حول لنا به ولا قوة، وطالما أننا نقرُّ بواقعة الاختلاف وضرورته ـ التي تبقى ظاهرة طبيعية ـ بما لا يحول دون الاعتراف بأحقية ما نحن عليه ، والتي بدورها، لا تلغي واقعة التغيير الذاتي تبعا للظروف والأحوال والأوضاع التي تحيط بنا والتي تتطلب منا التكيف معها مهما بدى هذا التكيف مقبولا أو غير مقبول، لكننا مضطرون لإيفائه حقه ؟ ضمانا لاستمرارية وجودنا بخيره وشره، بإيجابياته وسلبياته.. ، وتاليا أيضا فنحن نقرُّ بواقعة ضرورة التكيف مع مقتضيات حياتنا كما نراها وكما تفرضها وقائع الحياة وظروفها وأوضاعها، على أن لا يغيب عن بالنا أن التكيف هو شكل من أشكال التغير والتحول و.. التطور، سلبا كان أم إيجابا، بما يعني على المقلب الآخر ضرورة التكيف بعضنا وبعض، في مختلف الأحوال والظروف والأوضاع !! وتاليا قبول أي منا للآخر بما هو عليه لا بما نرغب أن نراه عليه !! وبما يعني أيضا،  انطلاقا مما تقدم، فضُّ نتائج اختلافاتنا، بما يضمن استمرارية وجودنا بما نحن عليه ، على أقل تعديل ..

 

دون فهم ظاهرة الاختلاف ماهيةً وممارسة، يبقى كل ما تقدم، مجرد تنظير لا قيمة له !!؟

 

سبق وأشرنا الى أن ثلاثياتنا، على ما هي عليه، تمتلك خاصية التداول في ما بينها، تبعا للحال والظرف والوضع الذي نحن فيه، بمعنى أن العقل لا يقود في مختلف الأحوال والظروف والأوضاع كلاً من العاطفة والغريزة، مثلا، بل، يتداول القيادة معه كل من العاطفة والغريزة تبعا لما نحن عليه، هنا لا بدَّ لنا من إيراد بعض الأمثلة "الحدية" لبيان ماهية الاختلاف وكيفيته ونتائجه :

 

لنفرض أن رجلا يتحدث الى امرأة في شأن ما، أو العكس، فاختلاف الجنس يلعب دورا مهما في النتائج التي قد يتوصلان إليها، إذْ تلعب الغريزة دورا مهما في كل ما يورده كلاهما من أمثلة أو حجج لتأكيد وجهة نظره فالذي يقود الحديث هو الغريزة، إذ تحاول المرأة التأكيد على أن مسألة الجنس ـ الغريزة، مستبعدة عن تفكيرها في ما ترمي إليه من حديثها دون أن تتنبه الى أن أنوثتها تطغى على الحديث صوتا ونظرة وحركة، فهي مهما حاولت بيان أن العقل هو الذي يقودها الى ما تبتغيه، تبقى منشدةً الى أنوثتها المكبوتة، كذلك الرجل الى رجولته وميزاتها الاجتماعية، فلا يخلو الحديث من إشارات الى هذه أو تلك بشكل ما من الأشكال مهما حاول أي من طرفي الحديث التملص منها، تؤكد المرأة على أن الجنس ليس متاحا في خلاصة الحديث، بينما يؤكد الرجل على رجولته أكان الجنس متاحا أم لم يكن، وبمختلف الأشكال (*) دون أن يتضمن الحديث أي كلمات قد تشير الى هذه المسألة .. يمكننا تمثيل المثال السابق على النحو التالي :

 

هذه حالة في ظرف ووضع من جملة لا عدَّ لها ولا حصرمن الحالات والأوضاع والظروف المحيطة بنا والمتغيرة في كل لحظة، تبعا لخاصية تداول أو تبادل مركز القيادة في مختلف أبعدنا المكانية منها ( عرض، طول، ارتفاع ) والجسدية (حيوي، وظيفي، نفسي ) والنفسية( غريزة، عاطفة، عقل)  والزمانية ( ماضي ،حاضر، مستقبل) والمجتمعية( أنا ، أنت ، هُوَـ نحن ) والقيمية ـ الأخلاقية ( الهو، الأنا، الأنا العليا) والإيمانية ( الله، الرحمن، الرحيم ـ آب، إبن، روح القدس )  والسياسية ( تشريع، قضاء، تنفيذ ) ..الخ، هذه الخاصية قد تزيد الى حدٍ بعيد من رهافة ولطافة وتعقيد علاقاتنا الذاتية والموضوعية، فعلى الصعيد الذاتي قد نكون، في حالة ووضع وظرف، على النحو التالي :

 

هذه الحالة تتجلى في حوارنا مع الآخر بشكل لا نستوعب ما يقوله بقدر ما نفكر في كيفية الرد عليه ، من موقف مسبق حياله ، فكيف سيبدو عليه الحوار إذا ما حاولنا مطابقة دائرتي المتحاورين ؟

 

 في مختلف الأحوال سيبدو عبثيا لامجال به لاتفاق ما حول أي من نقاط الحوار خاصة اذا كان أحد المحاورين  تتحرك مؤثراته مع عقارب الساعة ، بينما تدور مؤثرات الآخر عكس عقارب الساعة  

 

هذه هي الحالة في أيٍ من حواراتنا مع أنفسنا أو الآخرين، وهي حالة، كما سبق وأشرنا، عبثية، في محاولة الوصول الى اتفاق ما، من هنا، نجد أن "أنت ماثلا أمام أنا " هي القاعدة المعتمدة في أي اتفاق ، فخضوع أي منا للآخر، أو قبول املاءاته علينا، يبقى شأنا سلطويا لا مجال لنكرانه، وإلاَّ، فحالة عدم الاتفاق قائمة لا محالة..

 

ما تقدم، ينفي أية امكانية لبلوغ عتبة الحوار الديموقراطي، على الرغم من أن السلطة، ركن أساس من أركان الديموقراطية، لكنها تبقى سلطة في الشكل لا في المضمون اذ تضحى السلطة هنا شكلا من أشكال التواصل الحر القائم على قناعة داخلية، ذاتية، من أنه لا بدَّ من سلطة تتسق من خلالها كل الأفعال وتنسجم في ما بينها، أي أن السلطة الديموقراطية ليست سلطة قمعية بل هي سلطة بلوغ الغرض من الحوار ـ الاتفاق ، أيا كان، وحول أي موضوع، أياً كان !! بلوغ الغرض من الاتفاق، شرطٌ لازمٌ كافٍ للمنتج الديموقراطي .

 

إن إلغاء قاعدة / أنت ماثلا أمام أنا / القمعية، لا يمكن أن يتم عبر قواعد محكومة سلفا بمواقف مسبقة، إزاء الآخر، إذ لا بدَّ لها من قواعد تتحكم فيها مختلف نزوعاتنا الذاتية لتبلغ أياً منها درجة الاشباع التي تتيح لها التخلي عن قيادتها طوعا للنزوعات الأخرى، من هنا نجد أنه حيال حل مختلف اشكاليات اختلافاتنا ، لا بدَّ لنا من ابراز نزوعاتنا، مهما كانت وكيفما كانت وعلى أية حال وجدت به أو ظرف أو وضع، بما يعني الوضوح والجلاء والصدق والجرأة الأدبية في مواجهة الذات في المقبول وغير المقبول أمام الذات وأمام الآخرين دون وجل أو خوف أو تردد حيال مواقف الآخرين من هذا الجلاء طالما أنه، على أي حال كان به، يبقى مقبولا لدى الآخرين، طالما أن الآخرين هم على غرار ذاتنا مطالبون بإبراز ما هم عليه ..

 

الديموقراطية اذن، وضوح وجلاء وصدق وجرأة في مواجهة الذات والآخرين على حدٍ سواء، وهذه خصائص لا يمكن لأية سنن أو شرائع أو دساتير أو نظم أن تقيمها، هي خصائص ينشأ عليها الفرد تربويا لتضحى نسقا حياتيا لا يمكن تجنبه في أية واقعة اختلاف . على النحو التالي :

    

  دون فضائل الصدق والوضوح والجلاء والجرأة الأدبية في انتقاد الذات والآخرين، لن نلج قط عتبة الديموقراطية الى عرينها .. انتهى

 

 

 
التاريخ: 2021-05-19
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro