مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
العولمة بين خصوصية التكوين وشمولية الأداء
 
غفر، محمد
 

 

 

                                                                                                                                          6 تموز 2004

"إن العلم بدون نظرية للمعرفة هو منهج بدائي ومشوش"

آينشتاين

 

وحده العقل البشري يمنح الشفافية شرعيتها المادية لتقصي مكنونات الجوار ولأنسنة فضاءات التعايش بين المكنونات عبر امتلاك الرؤى المؤدية إلى انبثاق الآراء كحبات مطر لا تعشوشب الأرض بدونها. وكما يرتشف الثرى حبات المطر، نرتشف أزمنة الوهب الكوني فننمو وتمسي الفضاءات أكثر رحابة بعد مهرها بلمسات فائض القيمة كقربانٍ للصيرورة وفقدٍ تقتضيه فيزياء التعايش. كل همسة بشرية قرية كونية قادرة على الإسهام برفد المشروع الإنساني وبالتالي تعزيز عملية التقدم الاجتماعي كأداء يجنبنا استحواذ المجمعات الصناعية-العسكرية على مجمل نتائج الثورة العلمية-التقنية والذي أدى إلى الانصياع والقيلولة في بهو الشمولية التي أرادها النظام الدولي الجديد كفناً للتاريخ حيث السيادة لرأيٍ يتيمٍ ولرؤية واحدة بحدقة مفقوءة. تقتضي القطوف الإنسانية من الثورة العلمية-التقنية تعميق دور فلسفة العلوم في السعي البشري المشوب بضمور الوعي وبهيمنة اللاحمات البشرية التي تقتات على مستقبل المعمورة بعد أن ابتلعت تاريخها عوضاً عن ارتشاف الأزمنة المشفوع بالارتقاء، فتلبدت الأجواء بزيف الادعاء والقناعات الأخيرة التي أخذت تقضم أية نية للاتساع في الفضاءات المؤدية إلى انبلاج الآراء والرؤى. أجل، فالعقل المشفوع بفلسفته هو الشفافية التي تفضي إلى محاكاة كل المكنونات بما ينسجم مع القراءة المعافاة لفيزياء منظومتنا الكونية كمنظومة دستورية تقاضي الأنشطة وتُودِع في هودجها ما تحتاجه صناعة التاريخ من أرصدة إنسانية.

 

 

I- آراءٌ ورؤى في مادية الزمن والتاريخ

 

 

إن "الضعضعة" هي السمة العامة لتوضع المكنونات في فضاءات منظومتنا الكونية. ومن رحم هذه "الضعضعة"، ينبثق الجوار على أساسٍ تناقضي وتساهمي. والتساهم هنا، ليس مجرد تبادل مادي بين مكنونات الجوار، بل هو، وبالدرجة الأولى، تداول سرمدي للاعتراف بالتوضع المادي للآخر، هذا التوضع الذي يستلزم بهواً للنمو. والانزياح المرافق، إنما هو بلوغ للرأي عبر رؤية المكنون المجاور والاعتراف به كطقسٍ سرمدي من طقوس الطبيعة. والمنطوق في الطبيعة، ليس آهاً أو زغرودة بل هارمونية تنبثق من تآلف المكنونات عبر مسننات تناقضية مؤديةً إلى انبلاج قوى الطبيعة كطاقاتٍ ومسارات. أجل، فبوح مكنونات الطبيعة هو قواها كمحمولاتٍ طاقية رديفة لحركتها صانعةً مساراتها لتبتلع الجهد البشري وتحوله إلى بؤرةٍ إنسانية. إن للطبيعة أحاديثها، منها الحميمي ومنها الصاخب. وفي كلتا الحالتين، تبقى مكنونات الطبيعة وقورة في بوحها، هذا البوح المنبلج من حالات توازن لا تنتهي. إن الإصغاء لهذا النبض السرمدي، لكن غير المستقر، إنما يهذّب المقدرات البشرية ويجعلها تنحو نحو الممارسة الإنسانية.

 

 

تتباين مكنونات الطبيعة فيما بينها بالحشوة السرمدية وبتوضع هذه الحشوة، ويُلتهم الفضاء المتبقي مفضياً إلى حدقة تلحظ الامتدادات المؤدية إلى بؤبؤها وكأنها الأعصاب الدقيقة، فتكون الرؤية على أرضية تداول المعلومة بطقس الجوار. حينها، يتسيّد الخدر الهنيهي كحالة من حالات التمعن الطوعي ويؤذن للماء بتناقل النية حاملةً "شيفرة" الرأي عبر تعريف الذات. إذ أن المنشأ (كأصالة) ضرورة تكوينية للرأي والإحساس بالجوار أرقى تقانات الرؤية، كما أن السجل التكويني أمانة وقربان. وعلى رقاقات هذا السجل، تُنقش أبجديات التداول ككروموزومات تستوقف الأشياء من الانزلاق إلى اللانهاية. وعليه، فإن تداول الاعتراف بين المكنونات إنما هو الضمان للوجود المادي ولتبرعم النمو الحيوي والارتقاء.

 

 

إن مكنونات الطبيعة، بما فيها النمو الحيوي والسلوكيات الحيوانية، ما هي إلا بيئات غير مذعورة تتقفى بعضها البعض عبر تقانات الشفافية وتخضع جميعها لتراجيديا الجاذبية، لكن لكل منها تقمصها الخاص بتوليد الانزياح وفقاً لمأثرة الرصيد. والتباين، رأي ورؤية. فمن يمتلك رصيده يمتلك سلوكه. والسلوك هنا ليس إذعاناً، إذ أن الرصيد الذي يُعاني الانزياح إنما يُعاود امتلاك ذاته عبر إعادة ترتيب جوهره. وهذه الخلخلة، بطقسها الظاهري الهدام، تنسحب على البهو المعاد تشكله بين المكنونات، وتمسي الرؤية الجديدة وكأنها حدقات تُعاود استلهام الذات عبر الإحساس بالجوار، وتدنو الشفافية لتُلاصق، ومن جديد، كل المكنونات. فالشفافية هنا، ليست مجرد رؤية وإنما هي إعادة ترتيب التقانات عبر توظيف أمثل لمفهوم الزمن. أجل، فابتلاع الزمن إنما يعني استلهام العبر. حينها فقط، يمسي الزمن، البعد الرابع، بعداً مادياً وليس حالة اعتبارية، وهذا ما يؤكده العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ بقوله: "إن طبيعة الزمن هي مثال آخر لمجال تحدد فيه نظرياتنا في الفيزياء مفهومنا للحقيقة. فقد كان يُعتبر واضحاً أن الزمن يتدفق باستمرار إلى الأبد، بغض النظر عما يحصل. لكن نظرية النسبية دمجت الزمن مع المكان وقالت إن كلاً منهما يمكن أن يلتوي أو يتشوه بتأثير المادة والطاقة الموجودتين في الكون. لقد غيّر هذا إدراكنا لطبيعة الزمن، فبدلاً من أن يكون مستقلاً عن الكون، غدا يتأثر به"(1). فكيف يمكن للزمن أن يلتوي أو يتشوه إن لم يكن مادة؟. وفيما يتعلق بابتلاع الزمن، فهو حالة ممكنة ومعيشة في رحم المكنونات، ونقصد بابتلاع الزمن احتساءه كمادة تُعتِق المكنونات من قيلولتها وتنحو بها نحو الصيرورة التاريخية بخلق الأنواع الأخرى مع المحافظة الفيزيائية على الرصيد البكر كذاكرة ترشدنا إلى الملامسة المادية للتاريخ عبر الفجوة المادية لتلاشي الجوهر، وهذا ما ينطبق على السلاسل الإشعاعية الطبيعية (سلسلة اليورانيوم-238، سلسلة اليورانيوم-235، سلسلة اليورانيوم-234، سلسلة الثوريوم-232). فبتابعية الزمن، كبعدٍ مادي، يتلاشى الجذر، والمولود لا يمكن أن يكون يافعاً إذ سرعان ما ينهشه الزمن مؤدياً إلى ترهله وتلاشيه إلى أن يستقر اللهو والعبث في هودج الرصاص كمكوّن لازم الطبيعة في أوجاعها. وهنا، نرى أن القوى الناجمة عن الاستحالات الإشعاعية للسلاسل السابقة إنما انبثقت من تعثر يُنافي قوانين الديالكتيك. فالذي حدث ويحدث أن الكم تلاشى لصالح كم آخر نتيجةً لابتلاع الزمن وأن النوع الجديد تولد منذ الدفقة الأولى التي لم تستند على أي تراكم كمي، حيث يبدأ المولود بالترهل منذ الأحايين الباكورية. وهذه المعاناة، كقربانٍ لارتشاف الزمن كمادة، هي التي تصنع الرصيد للامتدادات المادية المحرومة من ريعها الحيوي، والتاريخ الممتد من بداية السلسلة وحتى نهايتها ما هو إلا استحالاتٌ مادية لأنواعٍ اقترضت الأزمنة في رحمها. أي أن ارتشاف الزمن كمادة صنع التاريخ كمادة. وعدم التعامل مع الزمن كمادة أفضى إلى ما نسميه بالنخر الزماني فتؤول المادة من حالتها الفيزيائية إلى مجرد حالة اعتبارية في حين تتعزز الحالة الفيزيائية للزمن ويُصبح هو المادة التي تجتاح كل الأمكنة التي أمست ببعدٍ واحد. وهكذا نجد أن تغطيس الزمن في المكان صيرورة، في حين أن تسليم الجوهر للفك الزماني سيؤدي إلى اقتناص فاندحار فاحتضار للرأي والرؤية، والكلام عن الشفافية ما هو إلا ضربٌ من ضروب اللهو ذلك أن التحديق بخطٍ مستقيم ناتج عن محق الأبعاد الثلاثة لصالح الزمن لن يؤدي إلا إلى توليد الأوهام كأن يُعلن عن اقتراب أحايين القيامة في الربع الأول من القرن الحالي.

 

 

يترافق النخر الزماني مع حالات شوش لا تُضعضع المكنونات وإنما تبيدها كجوهر وكسلوك مما ينعكس سلباً على الأركان البلورية لتقانة الشفافية التي تؤول إلى مجرد ألواح تستبق إرهاصات الرؤية بوأد البصيرة. فالتبصر في أجواءٍ موبوءة هابدها الزمن بإفناء الأبعاد البقية لا يُرجى منه سوى الخيبة لأنه تقزم إلى تبصير عبر تبديد الذاكرة وعدم الاعتراف بأن التلاشي بتابعية الزمن إنما هو تقمص للمادة بين العتبات الفيزيائية للأنواع. حينها، يتقوقع الناجي من التلف الزماني ونعود إلى أعراف غرز رأس النعامة في الرمل. وفي بيئاتٍ كهذه، يفور التنكر على حساب الذاكرة وتضحي "البيروسترويكا" حبل مشنقة لتدلي الكيانات بعد الاستعاضة عن الانزياح وتلمس الجوار بثقافة الهدم وردم أخدود اندلاق الصيرورة التاريخية. وننظر إلى إعادة هيكلة المكنونات بعد هدم توضعاتها وسحق الانفراجات المحيطة على أنها تدنٍ في الأداء وفقد للعتبات المعرفية مؤدياً ذلك إلى توطين ثقافة "خلط الحابل بالنابل" المترافقة مع "تثوير" المكنونات وبخاصة البيولوجية منها ليُصار إلى استبدال هيمنة بهيمنة أخرى يعتريها الإذعان واهتراء تقانات الشفافية إلى حين توزيع القوى على أرضية استلاب الطاقات فتخور الرؤى وتمسي السوداوية سيدة ألوان الطيف والحداد راية المكنونات المقهورة حتى ولو أُعلن بأنها حمراءٌ قانية، فمن الأسود يمكن اشتقاق كل الألوان، وفي الأسود يمكن دفن كل الألوان، والرأي والرؤية من حق المهيمن ليس إلا.

 

 

إن الإذعان والهيمنة صنوان، فالأول مادة الثاني وحجابه، إذ لا وجود لتقانات الشفافية، ولا أحد يرى أحداً إلا عبر اختزالات ككواتٍ مؤدية إلى دهليزٍ مظلمٍ حيث الصدى رحمة ورجاء، وتتريث الغمغمة إلى ما لا نهاية بانتظار "فقس" الغيبة. وإذا كانت إعادة هيكلة المكنونات تُنافي الصيرورة، فإن إعادة استنطاقها حالة ممكنة بل وواعدة. فكل همسة همستها مكنونات الطبيعة وبخاصة البيولوجية الآدمية منها مخزنة على ذواتها كأقراصٍ مرنة تئن وتود البوح، ولكن الماكينة" ما زالت "ماكينة" إنتاج طاقة لا إنتاج تاريخ والذي يمكن النظر إليه كحالة مادية أيضاً مُودَعَة إلى أحايين استفاقة أهل الكهف المحرومين من الرؤية حتى في المنام. هذا ويُمكن النظر إلى مفهوم المنام كوخز إبري مادي تقتضيه التفاضلات الحاملة لموروث يتثاقل في نبضه وفي تجلياته وكأن الزمن ذاته يمر من البؤرة المادية ذاتها وبصورة تُماثل نبضية التقمص على اعتبار أن الروح هي أيضاً مادة أسعفها الزمن في تغيير مواضعها وانزياحاتها ضمن الهيكلية العامة لمصونية المادة والزمن. وعلى هذا الصعيد، تستوفي الرؤية الجبرانية شروط تعشيق الأزمنة بالاستحالات على أساس مصونية المكنونات عندما تبوح:

 

 

ظلَّ الجميع

 

فلا الذرات في جسد تثوي

 

ولا هي في الأرواح تحتضر

 

والجسم للروح رحمٌ تستكن به

 

حتى البلوغ فتستعلي وينغمر

 

فهي الجنين، وما يوم الحمام سوى

 

عهد المخاض فلا سقط ولا عسر(2)

 

 

فالزمن مادة والتاريخ تلمس مادي لهذا الزمن، وهذا ما ندركه جيداً في رؤى هوكينغ عندما يبوح: "فالفكرة بأبسط أشكالها هي أن كل جسيم يتبع أي مسار، أي تاريخ، ممكن في الزمكان، ولكل مسار أو تاريخ احتمال يعتمد على شكله. لكي تكون هذه الفكرة فعالة، على المرء النظر في التواريخ التي تحصل في الزمن التخيلي عوضاً عن الزمن الحقيقي الذي ندرك فيه أننا أحياء. قد يبدو الزمن التخيلي شيئاً من قصص الخيال العلمي، إلا أنه مفهوم رياضي معروف تماماً. بمعنى ما، يمكن تصوره على أنه اتجاه للزمن متعامد مع اتجاه الزمن الحقيقي. هنا، يتم جمع الاحتمالات لجميع تواريخ الجسيمات التي لها خصائص معينة، كالمرور عبر نقاط محددة في أوقات محددة. بعدئذٍ، يتم تعميم النتيجة بالعودة إلى الزمكان الذي نعيش فيه"(3).

 

 

يترافق النخر الزماني، كحالة تُفضي إلى مادية الزمن وتراجع الفيزياء المادية للمكنونات إلى مجرد حالة اعتبارية، مع انبهار في الرؤية تخلقه استحالات الزمن والمكنونات. والوميض الخالق للانبهار هو حالة لا طيفية تصهر تقانة الشفافية عبر الانجراف إلى اللانهاية كحالة لا مادية، وهذه أقسى حالات الإذعان. والانتماء إلى وهم مهزومٌ حتى من الناحية الاعتبارية طالما أنه يؤجج نية الارتماء في أحضان التقوقع والقيلولة السرمدية الفاقدة للممارسة الكمونية والتي لا تستلزم سوى التسليم وإقصاء المقدرات العقلية بل ودحرها. إن الشغف باقتناء الرأي وانبثاق الرؤية لازم الأنشطة البشرية منذ عهودها الباكورية كتجاوب منطقي للتحاور بين الكائن البشري والمكنونات المادية المجاورة عبر شفافية فرضتها توازنات الطبيعة وتوازنات هذه الطبيعة مع منظومتنا الكونية، وهنا بيت القصيد. فرعشة التجاوب نتيجة التمعن في هذه التوازنات كانت بمثابة صدى لابتلاع الأزمنة في التوضعات المادية واستيفاء لشرط الارتقاء في استثمار المنظومات العقلية ومقارباتها. والعقل البشري هو الذي حوّل الزمن من حالته الاعتبارية إلى حالته المادية كبعدٍ رابعٍ يُقاضي التوضعات ويمهر الانزياحات المولِّدة للرأي والرؤية. وبإسقاط الزمن لدى التمعن بالمكنونات، يؤول التعثر إلى إذعان بل وإدمان، فالسلوك الذي لا يولِّد مصائره هو نزعة لا تتقن إلا المسير الكتلوي والإنشاد في كورس، وبرحمة السماء تدوم النعم. والزمن المراق في أحايين الإنشاد، هو زمنٌ محرومٌ من ريعه المادي لأنه زمنٌ غير مشفوع بالتبدل والانزياح والارتقاء.

 

 

إن لجم الانزلاق إلى اللانهاية الذي أداه التمعن الفيثاغورثي، من خلال وشم الرؤى بنهاياتٍ مادية، قد أسعف التاريخ البشري إلى حين تذويب هذه النهايات في مجمر الانفلات الكلي المؤدي إلى الاستعباد الكلي نتيجةً لترهل أدوات وتقانة الشفافية. والرؤية التي لا تُؤدى في فضاءٍ رباعي الأبعاد، ما هي إلا رؤية بحدقة مفقوءة تُميت هندسة توضع المكنونات. حينها، تبيت الرؤية بلا ارتداد يُرشد العقل إلى ملاذه وينبئه الآخر بتلقيه لدفق الفيض. في أحوالٍ كهذه، لا يُعتبر الانسياب تدفقاً بل عصا سحرية تنقر الرؤوس المتطلعة إلى غدٍ أفضل فتلزمها التحديق في أصابع القدمين ويذوب الكيان الآدمي فاقداً الرأي والرؤية، ويمسي التاريخ تدويناً لا ماهية له سوى حياكة الأساطير التي باتت جانباً هاماً جداً من المخزون الروحي للبشرية. والأساطير، وكما هو معروف، لا تستلزم سعياً لتوليد الرؤية بل إصغاءً إلى رأيٍ صاغه انفلات الشفافية من أدواتها. إنه عالم الخدر المزمن السرمدي، وجذري الآدمي منذ الأحايين الباكورية كأنه أنا الفاقد للفكر والمعرفة كأساسين لتوالد الرأي والرؤية وشتان ما بين الإتقان والإذعان.

 

 

لقد حاول الباطن الإسلامي استكمال الاجتهادات الفيثاغورثية الجميلة، فنَدَبَ النهايات المنفلتة إلى معاقلها في النجوم والكواكب. ووجهاً لوجه، كان التناجي يؤم المسافات المتولدة بين اللبوسات وأُعطي الزمن بعداً مادياً عبر ارتشافه في خلايا العقل وفقاً لرؤى الفيض وبؤرته الأفلوطينية، إذ أن الرؤية لا تستكلف رأياً إلا عبر معالجة للمعطيات، والمعطيات دوماً مادية، فأمسى الواحد صفراً لأنه البؤرة التي تولِّد الفيض . والبؤرة تفاضلٌ نقطي يكون فيها الصفر ذا قيمة بل هو القيمة. وعليه، يكون الكل مختزناً في الجزء والجزء هو الكل. هكذا هي المادة، فالذرة، ككل، مختزنة في نواتها، والنواة هنا هي البؤرة التي تعاود ثانية الممارسة الفيضية لتحتوي على تفاضلاتٍ نقطية أكثر دقة، وتشتمل، ومن جديد، وعبر التناهي في الصغر، على المكنونات المادية المرئية. ووفقاً لهذه المطيافية في الرؤية، والتي تحقق الشروط الفيزيائية السليمة، يمسي الظهور المادي لأدق بؤرة ضرورة بل وصيرورة. هنا فقط، يمكن تلمس الزمن والتاريخ كحالتين ماديتين واستنطاقهما كمصداقية يمكن أن يكون إمكانية شريطة تشغيل مطيافية العقل في الرؤية وتشكل الرأي كمنتج تفاضلي للوعي المنبثق من العقل الذي يُناظر البؤرة اللاهوتية بل ويُمثلها في تجلياتها الممكنة. وعليه، يكون التقمص ضرورة للكينونة كثابت تجلّي في معادلة مصونية المادة التي توصِّف المكنونات والزمن والتاريخ. ومن الناحية الرياضية، فإن الثابت هو ضرورة رياضية يقتضيها التعايش بين المقادير الفيزيائية المادية، فهو منها وإليها.

 

 

لا تُنجز الرؤية المعافاة عبر مرايا أو تلسكوبات بل عبر استقراء مضنٍ لحركة التوضعات المادية التي أدمنت على ابتلاع الزمن فتنجو الأمكنة بأبعادها الأربعة، ويُضاف إلى ذلك توضع هذه الأبعاد وانزياحاتها ضمن الفضاء الكوني. فالظل، كرؤية، وكحالة مادية غير ملموسة، إنما ينبثق من هيئة مادية التقطت للتو الطيف التقليدي للرؤية (كحالة مادية غير ملموسة) وبادلت جزءاً منه مع الهيئات المجاورة، إلا أن هذا التآلف الانعكاسي سرعان ما يُعاني الانزياح عبر ابتلاع الأمكنة للزمن كمنتج لخضوع هذه الأمكنة للهمس الكوني. والأمكنة هنا، وإن بدت سرمدية، إلا أنها تُعاني الانزياح الارتقائي عبر انزياحات بثها المادي: الظل. وتُشكل المراجعة النقدية للتوضع والانزياح إمكانية كونية متاحة ولكن بأزمان كونية تعلو المقدرة البشرية في فرش الزمن كمادة. فشذوذات الرؤية التقليدية الناجمة عن ظاهرتي الخسوف والكسوف وعن اقتراب بعض المذنبات من تقاناتنا المرتعشة، إنما هي ظواهر دورية تُنجزها المنظومات الكونية كهنيهات تريث تلغي الامتدادات المتداولة ويصغي المكنون لذاته. بمعنى أوضح، إن منتج الشذوذات هو أيضاً رؤية، والقلق البشري المرافق يُضعف المساهمة الإنسانية للكائن البشري الذي مازال يعتل من ظواهر المكنونات ويعتبر الظلام ضياعاً للرؤية على أساس أن الضوء هو الزمن مؤدياً ذلك إلى التقهقر من القيلولة إلى الغيبوبة. إن غياب الضوء وحلول الظلام هو أيضاً حالة مادية تصنع تاريخاً ذا طبيعة مادية. فالظلام طيفٌ من أطياف الرؤية بل هو دعوة للانتقال بالتمعن من ظواهر المكنونات إلى بواطنها، هذه البواطن المكتنفة على البؤر المولِّدة للرأي والرؤية. وهنا، فإننا نميز بين الضوء والنور. فالضوء حالة فيزيائية مادية تنساب باستسلام فلا تلهو لتتعافى وإنما تنتقل على هيئة سلسلة معدنية، ولكل حلقة من هذه السلسلة بطنها وعنقها، والتلاقح إنما يتم بين الأعناق فيكون العقم وتنحو النبضة راسمةً تحدبها تحت تأثير السلوك التحدبي للمنظومات الكونية(4)، فتهوي على المكنونات التي سبقتها في التوضع والانزياحات ويتدفق النور كنهر. فالنور، إنما هو منتج لجبل الهيئات المختلفة للمادة. والجبل هنا، ليس مجرد خلط بل هو، وبالدرجة الأولى، معالجة لمعطيات التلامس الذي حدث للتو. وبذلك، لا رأي بلا ملامسة للجوار عبر شفافية لا احتواء فيها.

 

 

يمكن لتهذيب الضوء أن يُحسِّن من أداء تقانة الشفافية لسبر أغوار منظومتنا الكونية وبالتالي تكوين رأي ورؤية عن كنه الجواهر، إذ تعتمد كل التقانات المطيافية على بث إرسال ضوئي إلى الجوهر المراد تحليله، ومن ثم يُعالج الضوء المعكوس بعد أن لامس الجوهر المعني الذي ابتلع جزءاً من الطيف، ويكون التواتر المفقود بمثابة بصمة الإبهام. أجل، فلكل جوهر بصمته الإبهامية التي تُعتبر كنهه. وهنا، نطرح الإشكالية التالية: طالما أن طقس التمعن بالبؤر اللاهوتية أو بالبؤرة المرجعية قد تلازم مع فقد في الممارسة العقلية، فهل يعني هذا أن الفقد المنطقي في المعالجة، كحالة مادية، يمثل القطاع المخدر من الدماغ؟. وبالتالي إرجاع الرؤى إلى موطنها، إذ أن الجزء المفقود هو الكنه، كما أن إدراك ذلك يعود بدوائر الفيض إلى بؤرتها المرجعية: العقل. والعودة هنا مجازية وليست فيزيائية. ونضيف هنا بأن الإدراك هو الأرضية المناعية لانبلاج الرأي، فمن لا يُعالج معطياته لن يُدرك رأيه، ومن لا يستثمر عقله ويستسلم للفقد المزمن فيه يفتقد رؤاه ويذعن للمنظومة الشمولية. والفقد يجب أن يكون لحظياً وتجاوبياً لارتجاء السبر، على أن ترميم هذا الفقد يرتجى عبر إرجاع الفيض إلى بؤرته الاشتقاقية أي التفاضلية حيث الإرهاصات باكورية في تنوعها وسرمدية في اختلاجاتها، كما تتمايز "نبضيات" الإرهاصات فيما بينها بسعاتها التي تؤول إلى التماس مادي مرةً واحدة، فتلتمس هيئتها وتعاني الانزياح. وعليه، نجد أن التضحية حالة فيزيائية ملازمة للتمعن. ويُجسِّد السيد المسيح الحالة المثالية للتضحية التي كابدها عبر تمعنه وفقده لتواترات شتى من أطياف انبعاث رؤاه. لم يبتلع السيد المسيح الزمن بل غرزه في أمكنة جسده فأدميت كل رقاقات الوجود كحالة مناقضة للنخر الزماني، وشتان ما بين الآلام والصدأ. فالآلام شفافية طوعية لاستقصاء مكنونات منظومتنا الكونية وتوليد الآراء والرؤى، في حين أن الصدأ تأكل لألواح تقانة الشفافية العائمة بين المكنونات. إن غرز الزمن في الأمكنة يمنح المناحي شرعيتها المادية ويتشكل الفضاء الرحب الذي يتسع للأنشطة المراقة. فالزمن يُخمِّر المكنونات، وتتطلب إعادة توطين المكنونات في الفضاء المختلق ثلاثة انزياحات تمثل ثلاثة مناحٍ وذلك من أجل إرجاع التلاشي (كحالة مادية ملموسة) إلى بؤرته المولِّدة التي أفضت إلى الأب والابن وروح القدس. وتحتوي الدوائر المفلطحة المنبثقة من بؤرة الفيض على البؤرة ذاتها، إلا أنها لن تكون كحالة مادية إلا غلالة من غلالات البؤرة الفيضية، وبالتالي تكون الامتدادات التحدبية للفيض كأنها بؤرة الفيض، أي هي هي. كما أن الفقد اللحظي، لكن المزمن، لدى معالجة معطيات الخرج، أي الاستجابة، إنما هو الكنه. وعليه، يكون هو هو. وتأنيث المكنونات وتذكيرها لن يسعفها من قدر التوضعات والانزياحات كمقدرتين على منح المكنونات شرعيتها المادية.

 

 

لقد تمكن الباطن الإسلامي من تأصيل فلسفة التثليث في النص القرآني وآل به إلى ممارسة مادية في الرؤية المتداولة بين المكنونات واستحالت الأساطير إلى تاريخٍ مادي يمكن استنطاقه ولكن ليس على أساس وحدة وصراع الأضداد بل على أساس إعادة تمرير الرؤى في تقانات التأويل والتي استطاعت إعادة إنتاج الأوهام كفقدٍ مادي منبثق من بؤرة مادية على اعتبار أن القراءة المادية للتاريخ ترمم الفقد وتسعِّر من انزياحات التوضعات مما يؤصِّل انبثاق الرؤى التي تحترم الطبيعة والكائن البشري بل وترقى به إلى عتباتٍ إنسانية معرفية. أجل، "فإذا كنت تعرف كيفية عمل الكون، فإنك تتحكم به بمعنى ما"(5). ونذكِّر هنا بأن الممارسة التثليثية إنما تُنجز في فضاءٍ بأربعة مناحٍ إلا أن ابتلاع الزمن في رحم الأمكنة أحال الأحايين إلى هيئة فيزيائية كامنة أو ما يُسمى بالطاقة. فمن يُخمِّر المكنونات عليه بالتستر، إنها الغيبة والحجة. علماً بأننا، وعلى هذا الصعيد، لا نعتبر الطاقة حالة فيزيائية قائمة بذاتها بل هي هيئة من تجليات المادة عبر قوافل التوضع والانزياح. أجل، التوضع والانزياح كمفاهيم بديلة عن مفهوم النفي ونفي النفي. فنفي الآخر إنما هو طقسٌ بشري لا يُخلِص لقوانين الطبيعة بل يُصدِّع مكنوناتها. وهل استطاعت التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية الحديثة والمعاصرة، كبنى لإلغاء العبودية والإقطاعية، نفي الممارسة القمعية الاستبدادية المتحدرة سواء من رأس المال أو من الرأسمالية الاحتكارية للدولة؟. وهنا، نستنبط دلالة أخرى لقانون فضل القيمة، فابتلاع الزمن أو غرزه في الأمكنة (حيث نعتبر الغرز الطوعي إنما ينم على إدراك جميل لمكنونات الجوار) سيخلق فائضاً في الهيئة المادية للمكنونات التي تضطر إلى تغيير في تواتر انزياحاتها في فضاءٍ أمسى أرحب. أجل، وعندما يذخر الفضاء بمكنونات تُغيِّر من هيئتها تحت وطأة اتساع كتلتها، فإن هذا الفضاء يفتل مناحيه لتلتهم الحيِّز البكر. وبانتماء الحيِّز البكر إلى الأرجاء التي تعجُّ بالأمكنة المتورمة للتو تُشدُّ المحاور فتمسي تحدبات الفيض أوسع فأوسع. وعليه، يكون مالتوس مثله مثل بوش الأب والابن غير معافى فيضياً ولا عقلياً عندما يدعو إلى ارتكاب فاحشة الحرب كأبشع رؤية لابتلاع البؤرة الفيضية عوضاً عن ابتلاع الزمن. في البدء، كان الحيِّز البكر معوزاً مادياً إلا أنه، ومنذ الأحايين الباكورية، تم استلطافه مادياً عبر إيداع الفقد التواتري المادي كوديعة وليس كفناء. هذا الإيداع الناجم -كما اتفقنا- عن استقصاء يُراد منه سبر الماهيات المجاورة. وهكذا، فإن التراكم الكمي لنوعٍ مادي هناك في الحيِّز البكر لم يُفضِ إلى نوعٍ آخر بل كان متأهباً هنيهة بعد هنيهة لاجتياح فضائي تترصد له مكنونات منظومتنا الكونية فيكون النور بتعشيق المكنونات في فضاء التعايش. أي أن التاريخ ليس فقط مادة وإنما يصنع مادة عبر وهب الأمكنة في فضاء منظومتنا الكونية، ولا تُمنح الشرعية المادية للمكنون إلا عبر المساهمة كشرطٍ تكويني للتوضع والانزياح. وبخصوص الحيِّز البكر، ولمنحه بعداً مادياً ملموساً، فإننا نقترح الاستعاضة عن مفهوم الثقوب السوداء "الملتهمة" بمفهوم "التلمس الرياضي لمادية الزمن". حينها، يمكن اختلاق الحيِّز البكر كاستطلاع رياضي مصحوب باستدلال فيزيائي لاحق ضمن الهيكلية العامة لمصونية المقادير، وبالتالي تبني فكرة هوكينغ عن اختلاق الأمكنة والمُعبّر عنها بالإشكالية التالية: "ماذا يحصل للأجسام في سفينة الفضاء وسواها التي سبق وسقطت في الثقب الأسود؟. إن جوابي عن ذلك، وبناءً على عمل أخير لي، هو أنها سوف تذهب إلى كون طفل صغير خاص بها، كون صغير مكتفٍ ذاتياً يتفرع عن منطقتنا من الكون. قد يعود هذا الكون الطفل إلى الانضمام ثانيةً إلى منطقتنا من الزمكان. فإن فعل، سيبدو لنا كثقب أسود آخر قد تشكل ثم تبخر. والجسيمات التي سقطت في ثقب اسود، تبدو كجسيمات مشعة من الثقب الآخر"(6).

 

 

نعود ثانيةً إلى مفهوم ابتلاع الزمن الذي نريد الآن غرزه في الامتدادات البيولوجية لا سيما البشرية منها. فالمولود يأتي الأمكنة في منظومتنا مكتمل المعالم، إلا أنه وبارتشافه المتواصل للزمن يُغيِّر من هيئاته، ويترافق هذا التغير بارتقاء في الأداء والوعي ويكون الطقس والسلوك إلى أن تبدأ الذروة بالميل ثانيةً نحو تقوسها التحدبي إخلاصاً للبنية التحدبية الكونية وفقداً للمكتسبات التي ولدها الزمن وذلك قرباناً للأجيال التالية. فالتضحية ضرورة بنيوية وصيرورة تاريخية، وهي، في كل تجلياتها، فقد مادي، وأجهدها وأبهاها الحب. فالحب إرادة ومقدرة لسكب جزء هام من الريع المادي المكتسب من ارتشاف الزمن. ومادية الحب لا نلمسها بل نستشعرها، ولكن الحب دائماً مصحوب بالإجهاد على هيئة نشوة مما يدلل على فقد فيزيائي لبعض مكنونات المادة. ويمكن ترميم هذا الفقد إذا كان الحب مصيراً متبادلاً على النقيض من الكراهية التي تُجهد كثيراً نتيجةً للفقد المادي الذي لا يرمم وإنما يُراق في أروقة التحدي التي لا معنى لها. يؤدي الآباء التضحية للأبناء والأحفاد كأمانة بنيوية تُميِّز الامتدادات البيولوجية وكل التوضعات المادية. ولكن، وبالنظر إلى الامتداد البيولوجي كومضة في السلم الزماني الكوني، فإنه يمكن الإحساس بهذا القربان كمنحة مادية نبيلة تقتضيها فيزياء التلاشي. وتظهر مادية هذه المنحة في الأنساغ البيولوجية ومنها الدم حيث يمتلك الترميز النقطي تفاضلات مادية تصون الموروث ومنه الروح التي تُعاود تجلياتها المادية كسلوك ينتمي إلى العهود الباكورية فنهرع إلى تفريغها بالتنكر لتناقض ذلك مع ظواهر المكنونات والتاريخ.

 

 

وبالعودة ثانيةً إلى ظواهر المكنونات المادية وبواطنها، نرى أن الأمر لا يتجلى في السر والعلانية وإنما في توليد الآراء المنبثقة من الرؤى التي توظف تقانات الشفافية. ففي ظواهر المكنونات، تخور الفلسفة والصورة هيئة لا تتبدل والاستقرار ديمومة بل وعبادة والأقاصي في أرنبة الأنف والتطلع بلا محرم محرَّم، فالخلف يرى السلف وفق شفافية تعطل توضع المكنونات وانزياحاتها، إنه عالمٌ مفقر إلا من طقوس التسليم ويكون المصير موحشاً لا إرادة فيه ويتقهقر النشاط البشري في أقبية الامتدادات البيولوجية فيحيا تقمص التاريخ كأساطير تُعطِّل السعي الذي لن يورق سوى البلاهة. ولا يعني استكشاف كنه التاريخ أن نُعيد التماس لحظاته، فالممارسة سعيٌ لمرة واحدة واقتناص الأزمنة غير ارتشافها. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، فإن المقاربة التي تُحاول فلسفة الباطن شتلها في الحقل العطالي للظاهر إنما هي معالجة ليست فقط محفوفة بالمخاطر بل وقاتلة، إذ أن الرصيد لا يُشهر كراية بل يؤدى كممارسة تصنع التاريخ عبر عتبات الارتقاء. والمقاربة التي بثها ثابت بن قرة في عهد الدولة العباسية أجهضت مشروعاً يرقى بالعقل البشري سعى إليه فيثاغورث وأفلوطين وأعادت إنتاجه وبصورة خلاقة صابئة حرّان. فالفلسفة وبخاصة فلسفة العلوم لا تؤدى بطقسٍ ماسوني كما هو حال السياسة وإنما بغرز الضوء والزمن في رحم الأمكنة فيكون النور ليعرّي المكنونات وتنقشع توضعاتها وانزياحاتها. ونُشير هنا إلى الوأد الذي مارسته فلسفة إخوان الصفا، كامتداد لرؤى ثابت بن قرة وكبؤرة اشتقاقية للباطن الإسلامي عبر تطويق التوطين وانفلات الرؤى من نهاياتها المادية، وهذا ما شكل ارتداداً عن الديانة النجومية وغاصت الرؤى، ومن جديد، في مستنقع العطالة. وهكذا، فإن توحيد البؤر المرجعية في بؤرة مرجعية اعتبارية وفاقدة لماديتها أدى إلى قضم دوائر الفيض وانعدام طقس تجلي المكنون بتابعية الزمن كبعدٍ رابعٍ. كما أن استبدال نص بآخر لن يُسعف المشروع الإنساني بل سيدحره إلى مجرد نشاط بشري يلتهم الجوار وبخشوع وشتان ما بين النص والفلسفة التي نعتبرها كتاباً سرمدياً لا يُغلق وجملته الأخيرة هي البداية بعد حين، كتاباً ندوِّن فيه تفاضلاتنا المعرفية بعد أن نقرأ فيثاغورث وأفلوطين ونستقرئ منه اندماج الأحايين الوافدة مع مكنوناتنا المادية لخلق رؤى كأهازيج للترحيب بغدٍ أفضل غير رمادي. وبهذا الخصوص، فإن الإنهاك الأساسي في بعض جوانب الباطن الإسلامي إنما يتمثل في ممارسة أمست قناعة نهائية لتأطير الرأي والرؤية. فوفقاً للاشتقاق الأفلوطيني يكون الفقد هو الكنه، ووفقاً للاشتقاق الفيثاغورثي فإن للرؤية نهايات مادية، وعليه، وبمراعاة وإدراك تداعيات الفيض، نستدل على تجليات المادة وبؤرها المرجعية، وبذلك يكون التجلي والظهور حالة فيزيائية تواترية سرمدية كسرمدية المادة، وإن إقفال تقانة الشفافية أدى إلى عمى فلسفي بعثر المكنونات ولم يعد يراها لأنه اعتزل ارتشاف الأزمنة من خلال تبنيه لمفهوم القيامة كمصير تؤول إليه كل المكنونات، وهذا ما نقصد به تطويق التوطين. ونُشير هنا إلى أن مفهوم المهدي المنتظر إنما هو إفلات آخر للرؤى من نهاياتها المادية، والأزمنة المهدورة لن تصنع تاريخاً طالما أن ارتشاف الزمن كمادة يصنع التاريخ كمادة، والتاريخ هو أرشفة مادية للممارسة الزمانية المادية في الامتدادات المادية بحيث نستطيع استنطاقه بتلقف هاتيك الأرشفة المادية وذلك بالمقاربة مع الاستنطاق المعلوماتي والاستنطاق الصوتي والاستنطاق الضوئي. والتلكؤ في رصد التاريخ إنما يُعزى إلى تعاملنا مع الزمن كحالة اعتبارية لا كحالة مادية تترك آثارها بين جنبات مكنونات منظومتنا عبر تعايشها المزمن مع المادة. فهل يُعقل أن يكون الزمن مجرد عقارب ساعة تتحرك ببلاهة لتعلن ميقات صلاة أو أحايين حرب. ونُساق جميعاً في أروقة العبودية طالما أن التأدية عندنا ساعات عمل وتكاثر ونوم عوضاً عن التأدية المعرفية، فنحن مازلنا ننظر إلى الفنان والكاتب والفيلسوف والسينمائي والموسيقي كعاطلين عن العمل لأنهم يخمرون ذواتهم بارتشاف الزمن وبالتالي البوح بتؤدة عن آراءٍ تُسعف حتى البؤر المرجعية وعن رؤى فيها من الأطياف ما لم نتلمسه بعد. وبعد، فإن غدنا كيومنا كأمسنا رمادي لا رحمة فيه ولا مبادرة. وهكذا، نرى أن مزاوجة المفاهيم بصورة توافقية لم تُفضِ إلى الارتقاء المنشود إلا أن إمكانية الترميم ما تزال موجودة وذلك بالانعتاق من الأساطير والغوص ثانيةً في عوالم الفيض والتي ابتغاها مريدوها تحريراً للعقل البشري والارتقاء به إلى بؤر معرفية تُناظر هاتيك البؤر المرجعية. وحبة القمح المودعة منذ ملايين السنين ستُعاود النبت والسنابل متى ارتشفت الضوء والأزمنة. هكذا هي الفلسفة على النقيض من الممارسة الكهنوتية الحديثة التي يُفرج عنها أصحاب الطقوس النجومية في الدول الصناعية المتطورة. فعلى الرغم من امتيازهم بإفشاء الرؤى إلى نهاياتها المادية، إلا أنهم يهدرون الأحايين، والفقد هنا في ارتشاف الزمن المفضي إلى نمو وصيرورة، مما آل ويؤول بالسعي إلى أقبية جلد الذات عوضاً عن انعتاقها. إن إقصاء الزمن والعبث بدوائر الفيض المولِّدة للرأي والرؤية سيؤدي إلى تحطيم تقانة الشفافية فتدلهم الأحايين وتكون القيامة كشفيعٍ يُرتجى، فيتسطح الجسد الآدمي وتفور الأمكنة برائحة تعفن فكرة المآل الأخير أو المثوى الأخير وتتخرش الرؤية وكأننا ننظر من ثقوب غربال. مرةً ثانية، يدحض هوكينغ هؤلاء المنجمين المعاصرين، بل ويؤكد (رغم إيمانه بمبدأ الارتياب في ميكانيك الكم) على مآل شبه سرمدي لكوننا الجميل: "يكون السؤال الحاسم بخصوص مستقبل الكون هو: ما هي كثافته المتوسطة؟. إن كانت أقل من القيمة الحرجة، فإنه سيتابع توسعه إلى الأبد، وإن كانت أكبر، سينقبض وسيأتي الزمن ذاته إلى نهايته في الانقباض الأعظم. وهنا، أظن أنني أتمتع ببعض المزايا مقارنةً مع بعض المتنبئين الآخرين بالقيامة. فحتى لو كان الكون سينقبض، فإنني أستطيع التنبؤ وبثقة، بأنه لن يتوقف عن التوسع قبل عشرة مليارات سنة أخرى"(7). على أننا نرى في "توسع الكون" إدراكاً لمضامين انتماء الحيزات البكر إلى فضاءاتنا المأهولة بالوعي النبضي الذي سيميط اللثام عن مصونية الزمان والمكان كبعدين ماديين (مدمجين) لتوضع وانزياح المكنونات كنتيجة لدمج النسبية العامة مع الميكانيك الكمومي في نظرية واحدة تؤول إلى تبني نبضي لتنبؤ كل من هوكينغ وجيم هارتل: "إن الزمان والمكان محدودان في اتساعهما، لكن ليست لهما حدود أو حواف. فهما يمكن أن يُمثلا بسطح الأرض، لكن مع بعدين إضافيين. فمساحة سطح الأرض محدودة، لكن ليست لذلك السطح حدود"(8). ونُشير هنا إلى أن عبثية هؤلاء ما هي إلا اختلاس أو قراءة غير متحدبة لمعطيات الثورة العلمية-التقنية رغم تحدرهم منها وشتان ما بين التمعن والترف. فالتمعن شفافية مصحوبة بآراءٍ ورؤى في حين أن الترف إنعاش للشذوذات التي لا تندرج ضمن شذوذات منظومتنا الكونية. وبخصوص الشذوذات في منظومتنا الكونية، فهي لا تضلل الممارسة بل تقيها من الانفلات إلى اللانهاية. وكما ذكرنا سابقاً، فإنها تفرد في أداء المكنونات يُراد منه الترميم وتدعيم فلسفة الصيرورة، كما أن التعايش غير المهزوم مع هذه الشذوذات سيُلهم تقانة الشفافية في دلق آراءٍ ورؤى معافاة. وكمثالٍ على ذلك، لا تقبع الأنشطة البشرية في أقبية المعابد عندما تضج الأمكنة في المناطق المجاورة للقطبين بدفق ضوئي يُلغي التمايز الظاهري بين الليل والنهار بل على النقيض من ذلك تهرع الأنشطة البشرية إلى الإمساك بالضوء والزمن وترتشفهما كالنبيذ فتتولد بؤر إنسانية عبر معرفة الطقس المراق في مناطق التحدبات الأعظمية، فحيث التحدبات أعظمية، يكون استقراء الشذوذات حالة فيزيائية تُفضي إلى تريث وليس إلى هلع، والوجود المادي حالة مستدامة رغم خضوعه لتجلي التوضع والانزياح خاصةً إذا نظرنا إلى هذه الشذوذات وكأنها فائض قيمة كوني يُعاود غرز ذاته في الرحم المادي للمكنونات بعد انزلاقه على مدروجات الزمن.

 

 

سبق أن عرفّنا في دراسةٍ سابقة(9) على أن الصفر ليس قيمة معدومة وإنما هو بؤرة مادية تنعدم عندها الأشياء، كذلك يمكن أن نُعالج الخلاء. فالخلاء، برأينا، هو الحيِّز المكاني الذي يُميِّز المكنونات في أثناء انزياحها بين توضعين. ونعتقد أن المكنونات الخاضعة للانزياح تُغيِّر من هيئتها المادية بصيغة طاقة (كشكلٍ من أشكال المادة). حينها، لا تخضع المكنونات المتلاشية لحظياً لبراثن الجاذبية الأرضية فيكون الخلاء حالة فيزيائية مادية منفلتة من الجاذبية التقليدية (الأرضية)، ولكن خضوعها للجاذبية الكونية وللتحدب الكوني العام يُعيدها، ومن جديد، إلى أحضان الجاذبية الأرضية. وبهذا يكون الخلاء طقساً نبضياً يُرافق انزياح المكنونات. بمعنى أوضح، فإن الخلاء وجود مادي غير تقليدي (لكن بعرف الصيرورة فهو تقليدي) يُميِّز انزياحات التوضعات المادية مؤدياً إلى انقلاب الرسم التحدبي الذي يؤول إلى تقعر تشتمله الجاذبية الأرضية في ذروته. وبين التحدب والتقعر، ترتسم، لحظياً، الحدقة الكونية اللوزية لرصد حركة المكنونات في الفضاءات المحدثة، والحداثة هنا حالة مستدامة ومزمنة. وعليه يمكن تضمين الخلاء ضمن البنية العامة لفيزياء المادة، حيث أنه من غير الممكن نثر أي مكنون مادي في الخلاء من دون حوامل مادية باكورية تصنع الخلاء. وما أشبه الخلاء بالحيِّز البكر الذي تناولناه كحالة مادية أيضاً. سيؤول النظر إلى الخلاء على أنه حالة مادية إلى إتقان تشغيل واستثمار تقانة الشفافية الكونية، وبالتالي إلى إعادة تقييم شاملة لأداء المكنونات الذي يُفرج عن الآراء والرؤى. فالخطوة المديدة لرجل الفضاء على سطح القمر، وإن جسدت الانفلات الجزئي من جاذبية مكنونات القمر المحرومة من البَرَكة المائية، هي شرط تجاوبي للانزياح نحو بؤرة مادية أكثر كثافة تؤدي دورها الفيزيائي في التأثير عبر دروب حاملة لمكنوناتها ومحمَّلة بمكنونات باكورية. والجاذبية، أرضية كانت أم كونية، وككل أنواع التأثير، هي حالة مادية ملموسة مثل الشحنة والضوء والخطوات. أجل، لا شيء يُنجز من العدم. وعلى هذا الصعيد، فإن التسليم النهائي بمادية هيغل، ورغم أهميتها التاريخية، أحالها إلى نصٍ يُقارب النصوص الدينية مؤدياً ذلك إلى تحويل الفكر الماركسي إلى امتدادٍ خشبي لا حياة فيه. والمراجعة النقدية أو مراجعة رؤية مكنونات الجوار إنما تتم بروح الضوء والزمن كقراءاتٍ نورانية تُراعي رصيد الثورة العلمية-التقنية من معطيات.

 

 

II- تعشيق التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية

 

بالزمن المادي واندلاق الآراء والرؤى

 

 

إن "الضعضعة" ظاهرة نبضية طبيعية تضيق وتنفرج مؤديةً إلى انبلاج الرؤية، هذه الرؤية المنبثقة من التوضعات ومن انزياحاتها، وإدراك ذلك يولِّد رأياً لاحترام مكنونات الجوار كوجود مادي وكفضاءات عبر المراجعة النقدية للذات. وبين الرأي والرؤية، تتوضع تقانات الشفافية لتعاني قدرية الانزياحات المزمنة، إلا أن التلاوة البشرية بترت المضامين بحجة الإدغام، فدُمِغ تاريخ البشرية بتشكيلاتٍ اقتصادية-اجتماعية متفاوتة الأداء لكن بقي الاستبداد سمتها الموحدة. وكما نُصِّب مفهوم مواسم المكنونات كتداول مضنٍ بين السعي البشري ومكنونات الطبيعة، نُصِّبت سيادة الرأي الواحد لنسف الرؤى البقية وتدلى الزمن كحبل مشنقة يعصر أية نية للتغيير فتلبدت الأجواء بالقهر لا بالغيوم الممطرة. وأدت القراءة الخاطئة لأداء مكنونات الطبيعة وزجها في أروقة المواسم إلى اعتلال يتلوه اعتلال رغم اختلاق مفهوم معالجة المواسم كبديلٍ عن المعالجة المناعية عبر توطين التنوع في أداء المكنونات التي ارتضت التعايش وفقاً لمقتضيات التوضعات والانزياحات بتابعية الدلالة المادية للزمن. والنوع يبقى مادياً بالملامسة المادية للجوار وإلا فهو مجرد عرف أو طقس يفتقد مضامين الصيرورة لأنه لا يرى إلا الذات التي لطخها النخر الزماني فأمست من الماضي بعد حينٍ من ممارسة الاستبداد. وعندما انتقلت ذهنية المواسم إلى الامتدادات الآدمية، عولجت كل الأنشطة البشرية وكأنها كتل لدائنية لا تعي سعياً سوى الانصياع الذي فرضته وأسست له الرؤى التوحيدية المنفلتة من نهاياتها المادية والتي لم تعد تولِّد دوائر فيضها بل تحتسيها عوضاً عن ارتشاف الزمن. من هنا، فإن كل التشكيلات تقضم ذواتها لتعارضها الصارخ مع أداء الطبيعة والذي من المفترض أن يكون بمثابة السلطة التشريعية والبؤرة المرجعية لمقاضاة الأنشطة البشرية. والطبيعة باقية تُشاهِد وتَشهَد الغطرسة البشرية المتهالكة وهي تُصرع على مذبح التاريخ الذي تعوزه الممارسات الإنسانية.

 

 

تأسيساً على ما سبق، فإننا لا ننظر إلى سقوط الشيوعية وتضعضع الأداء الاشتراكي كخيانة غورباتشوفية بل كمحصلة طبيعية للنخر الزماني وكصيرورة تاريخية استعصى فهمها على مريدي الديالكتيك. ومجافاة الوقائع تُعطِّل رؤية الآخر، على أن تجنب الآخر لن يُعدم الوجود المادي للآخر بل سيخلصه المكتسبات المادية الممنوحة من ارتشاف الزمن. ومن المفترض أن يُعاود هذا الآخر الأداء عبر محنة الاستقراء، ولكن الاستقراء في بيئاتٍ قمعية قد يؤدى من خلال شفافية الضبابية. وعلى هذه الأرضية، ستكون رؤى الطرف المُهابَد بصيغة ردود فعل يغلب عليها الارتجال الذي نعتبره من أبشع صيغ الممارسة على الرغم من أن الفعل ورده مبدآن يُخلصان لقوانين الطبيعة المفضية إلى الصيرورة. إلا أن الأداء هو الذي يُميِّز الممارسة ويطبع المنتج بطابعه. ولا تعني الدعوة إلى التريث والاستغراق التسليم بالاستبداد والتوقف عن ارتشاف الأزمنة بل تعني منح الزمن أحايينه المعيشة لتخمير الامتدادات المادية لا سيما البيولوجية الآدمية منها وبالتالي السعي إلى ممارسة فعالة تقتضيها الانفراجات في الأمكنة والفضاءات كضرورة مادية للتعامل المادي مع الزمن، على أننا نُميِّز، وكما ذكرنا، بين اقتناص الأزمنة وارتشافها. فاقتناص الفرصة السانحة، كبعدٍ رابعٍ، يُرمِّد المكنونات المادية بحرمانها من توضعاتها وانزياحاتها المولِّدة للسلوك الاجتماعي بصيغة آراء ورؤى. ألم تؤدي ذهنية اقتناص الزمن الذي مارسه لينين بامتطائه صهوة الأداء المعرفي السلمي إلى اقتناص الزمن مرةً ثانية بتدخل السوفييت في أفغانستان حيث الأزمنة مواقيت لأداء فريضة الصلاة كقربان لانفلات الرؤى من نهاياتها المادية. ومن الاقتناصين انفرج الفك الزماني مفترساً التجربة التي تجنبها ماركس وبكبرياء. في هذه الحالة، وفي الحالات المماثلة، استعيض عن متوالية الانزياحات بالمتوالية الهندسية لتوالد الأوجاع كاعتلالٍ بنيوي يماثل اعتلال ثقافة المواسم وإن كانت وفيرة، حيث أن الوفرة هنا مجرد تراكماتٍ كمية لكتل لا تدرك مصائرها لأنها فاقدة لوعيها ولا تعرف من المسيرة الزمانية سوى الانخراط في القطيع تأسيساً لمنظوماتٍ شمولية تتعامل مع الزمن على أنه إعلانٌ مزمن لساعات الصفر.

 

 

مرةً ثانية، فإن المزاوجة بين الفلسفة وعدمية الفلسفة حالة لا تُحقِّق شرعيتها الزمانية والمادية، فأن تُزاوج الشيوعية في كوريا الشمالية بين قوانين الديالكتيك وإفلات الرؤى من نهاياتها المادية كمحاولة لإحياء تاريخ لم يكن، هذا يعني استقراء أبله للأزمنة الوافدة وفقاً لشفافية تكون فيها الرؤية من جانبٍ واحد ولطرفٍ واحد يبوح برأيٍ واحد. والانزياح هنا ليس انزياحاً في التوضعات بل انزياح مزمن لكل المكنونات إلى الوراء كتاريخٍ غابرٍ ليس فيه سوى الأمجاد. هنا، يُحطَّم مفهوم التجلي ولا فيض إلا لمن بيده المقاليد، ولكن، ورغم الادعاء بتجلي صلاح الدين في هذا وذاك، فإن ذلك لن يُفضي إلى الانتصار على النظام الدولي الجديد حتى ولو وضعت بؤرة الفيض في يدها سيف ذي الفقار. فالعالم المفتقر إلى المعرفة لن ينتصر طالما أن استدعاء الرؤى من اللانهاية حالة غير ممكنة. إنه عالم الضياع والتشتت والأوهام، فـ"إذا كان على المرء القيام بعمليات طرح لانهايات، سيتعين عليه القيام بعدد لانهائي منها، وهو أمر ينجم عنه عدد لانهائي من البواقي غير المحددة"(10). وحدها العلوم بفلسفتها المعرفية هي التي ستقاربنا من التماس الزمن بغية ارتشافه بطواعية وبالتالي اتساع الرؤية لتشمل الحق الكينوني للآخرين بالوجود والتمتع بالمكتسبات المادية التي يمنحها الزمن وبالتالي صناعة تاريخ ذي دلالة مادية تعيشه البشرية عبر مسيرها السرمدي بين التوضعات. حينها، وعبر الانزياحات، تعاود البؤر المرجعية دفق فيضها المعرفي ويكون التجلي أداءً إنسانياً ما دام استثمار العقل هو التجلي البكر والصيرورة.

 

 

لنقل إن الزمن كمادة يصنع التاريخ كمادة، إلا أن هذا المنطوق لا يمتلك دلالته الفيزيائية إلا بمعرفة أن الزمن، مثله مثل التاريخ، يأتينا وفقاً لطقسٍ اعتباطي لا يُراعي الرغبات البشرية وإنما ينذرها بضرورة أداء ممارسات إنسانية تضفي على كل مكنونات الجوار طمأنينة الشرعية المادية والتمتع بالمكتسبات بعيداً عن الترصد الذي لن يؤدي إلى اعتبار الاستبداد كدوائر فيض تمنُّ بها البؤر الاعتبارية طالما أن الشمولية تلغي الشفافية وتجعل من دوائرها حبالاً تُلف على الأعناق وكأن الاضطهاد أمانة. وبالعودة ثانيةً إلى السلاسل الإشعاعية الطبيعية، فإن كل نكليد مشع، وعبر ارتشافه للزمن، لا يجنح إلى تغيير نوعه إلا بعد أن يمنح الفضاءات المجاورة نوعاً من الإشعاع (جسيمات ألفا أو بيتا مصحوبة بطلق غاما). وفي أثناء التوالد، تتفتق الإرهاصات كحالة مادية موجعة لتوصِّف استحالة كل رشقة زمنية إلى عطاء مادي يمنحه المُكابِدُ من ارتشاف الزمن، ولولا هذا العطاء لما كان الانزياح والارتقاء. فعندما يُطلق المكنون، بعد ارتشافه للزمن، جُسيم ألفا فإنه يُعاني انزياحاً كانزياح المدفع بعد إطلاق قذيفته، كذلك عندما يفقد المكنون إلكتروناً من دوائر فيض نواته على شكل جُسيم بيتا فإنه يتراجع أو يتقدم في المناحي المجاورة فيكون الانزياح المؤدي إلى الارتقاء عبر طقس تأدية المنح. هنا، لا يشكل التراكم الكمي أية ضرورة فيزيائية طالما أن الانزياح هو سمة المكنونات والأمكنة المتولدة في كل الأزمنة المولِّدة لفائضٍ في القيمة يُستثمر في خلق فضاءاتٍ جديدة لأنواعٍ جديدة برؤى وآراءٍ جديدة على أننا نعتبر النوع ذاته نوعاً جديداً بامتلاكه لآراءٍ ورؤى جديدة وذلك بالمماثلة مع السلوكيات الفيزيائية (وحتى الكيميائية) المختلفة التي تُبديها نظائر مختلفة لعنصر واحد. وعليه، فإن الممارسة البشرية التي لا تؤدي هذا الطقس الفقدي لن ترقى إلى أداء معرفي يمنح البشرية سوياتها الإنسانية. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، فإن على البؤر المرجعية، أو النخب، أن تُضحي بصورة تفوق كثيراً تضحية الامتدادات المادية للجوار بما في ذلك مكنونات دوائر الفيض. والفقد المادي في الذروات (بما يوافق النخب) هو فقدٌ أعظمي يوافق بطون التحدبات الكونية التي يخضع لها السعي البشري فيرتسم بهيئتها مؤدياً إلى توليد السعات بين تحدب وتقعر البطون. و"البحبوحة" هنا هي رصيدٌ معرفي وليس رصيداً ذهبياً، والماستر كارد لن يُعوِّض الفاقة المعرفية بل سيجعلها سمة من سمات النظام الدولي الجديد. أجل، فمن يفقد أكثر يتسع بصورة أكبر ويكون ارتسام تحدباته وتقعراته ضمن الهيكلية العامة لبؤرة الفيض المرجعية أو ضمن اهليليجية دوائر الفيض مؤدياً ذلك إلى ارتسام تقانة الشفافية. فعندما يقذف المكنون جُسيم ألفا فإنه يمنح جواره نواة ذرة الهيليوم والتي تفوق في جواهرها ذلك الفقد المرافق لقذف بيتا عبر منح الجوار إلكتروناً واحداً. وبذلك، يكون الانزياح المتولد عن ألفا (كفقد أعظمي) أكبر وبكثير من ذلك المميِّز لبيتا، فينحو المكنون المضحي بألفا نحو البطون فترتسم السعات على هيئة عيون للرؤية ويكون الغنى المعرفي، في حين يرتعش المكنون المضحي ببيتا في الأعناق المحتشدة بين نهايات البطون فتكون تفاحة آدم والأساطير ويمسي التكفير عن الخطيئة فرض طاعة. وفي كلتا الحالتين، فإن الفقد المادي الملموس ليس بالقربان اليتيم، فكل مكنون يفقد مادياً عليه أيضاً أن يفقد بصورة غير مرئية (وربما روحية) كي يتمكن من تمييز أصالته المادية الفيزيائية، إذ أن عدم ترميز الجذر ببؤرة مادية سيقذف بالجذر والامتدادات إلى اللانهاية. وهكذا، ولمعاودة التعرف على الجذر، تُطلق المكنونات المضحية بألفا وبيتا همساً إشعاعياً بصيغة إشعاع غاما وبمثابة بصمة إبهام تدلل على الكنه المفتقد الموجود وذلك بمناظرة إشعاع غاما مع مفهوم الفقد المرافق للتمعن، فالجزء الضائع بطواعية هو الجوهر وكنهه، إنه الاستلاب المؤدي إلى تنصيب تقانة الشفافية التي تتيح اختلاق الرؤى وتوليد الآراء.

 

 

وعلى هذا الأساس، فإننا ننظر إلى الأداء الاقتصادي كانعكاس طيفي للرؤى السياسية المتولدة من البؤر المعرفية والتي نعتبرها صمام أمان عملية التقدم الاجتماعي وطمأنينة لدلق الآراء والرؤى لا سيما عندما يتعلق الأمر بالموقف من التطور الرأسمالي الطبيعي ومن الأداء الاقتصادي القائم على أساس الرأسمالية الاحتكارية للدولة. على أننا ننظر إلى الرأسمالية الاحتكارية للدولة كقراءة لينينية خاطئة لرأسمال ماركس المولِّد لفائض القيمة، وهذه ضريبة اقتناص الأزمنة عوضاً عن ارتشافها بنية تخمير المكنونات. وهنا يمكننا القول إن مفهوم الرأسمالية الاحتكارية للدولة أسس لكل الأنظمة الشمولية العالمية التي محقت وتمحق الآراء والرؤى، كما أنه أسس لبواكير النظام الدولي الجديد وذلك عبر خلق فائض قيمة زمني نتيجةً لتخزين الزمن غير المرتشف وتوظيف هذا المخزون في اختلاق تاريخٍ وافدٍ لكنه غير مادي، وما أسهل المماثلة بين "يافطة" "الشيوعية هي أعلى مراحل الاشتراكية" ومفهوم "اندحار التاريخ" الذي تقيأه النظام الدولي الجديد. أجل، سيؤدي النظام الدولي الجديد متمثلاً بالأداء السياسي-الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية إلى تثبيط وقولبة الانزياحات الاعتباطية لفائض القيمة، وبالتالي إلى تلكؤ قاتل في حركة رأس المال وإعادة توظيفه. ففائض القيمة المتولد من حركة رأس المال الموظَّف في الاستثمارات الصناعية-العسكرية والمترافق مع فائض معلوماتي (وليس معرفياً) أدى ويؤدي إلى ربط رفاهية الشعب الأمريكي بتسويق الأسلحة واندلاع الحروب. وعليه، تكون النزعة العدوانية لابتلاع التطلعات كآراءٍ ورؤى عوضاً عن ابتلاع الزمن حالة بنيوية تعكس تحول الرأسمال التقليدي إلى أقبية الرأسمالية الاحتكارية للدولة التي باتت تحتكر حتى المعلومة المعرفية وأماتت التاريخ بعد انتصارها وتقاسمت مع الأنظمة الشمولية البائدة التكلم بلغة المطلق والقناعات الأخيرة كصلاةٍ مباركة في معبد النظام الدولي الجديد: المعلوماتية. وكلما تعمق التحول السابق لصالح شكل جديد من الرأسمالية الاحتكارية للدولة، ستزداد استبدادية حكومات الولايات المتحدة على غرار تمادي إسرائيل في سحق حتى الوجود المادي للشعب الفلسطيني طالما أن الأداء الاقتصادي الإسرائيلي يقوم على أكتاف الرأسمالية الاحتكارية للدولة والتي تُماثل في أدائها الأداء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي السابق. أجل السابق، فمن لا يرتشف الأزمنة لتوليد فضاءاتٍ جديدة وفائض قيمة ملموس سيقضم ذواته. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، فإن الدعوات إلى الممارسة المؤسساتية ضمن الهيكلية العامة للرأسمالية الاحتكارية للدولة لن تكون أكثر من نية لإفلات الرؤى من نهاياتها المادية لأن كل تقانات الشفافية مترهلة لانعدام البؤر المرجعية ولتكدس كل دوائر الفيض في سورٍ تقبع فيه المكنونات وتحيا عصر القيلولة المعرفية فيموت التاريخ ثانيةً. ولا تتمثل المشكلة في إعادة توظيف فائض القيمة في شرايين الرأسمالية الاحتكارية للدولة وإنما في خلق هذا الفائض. والفائض في هذه التشكيلة وهمي (كالدين والأساطير) طالما أن الدائن هو المدين. حينها، يمسي العجز السمة المهيمنة ويؤول الرأي ومعه الرؤية إلى بؤرة غير مرجعية كونها لا تنتج فيضها وفائضها وتستعيض عن ذلك بإنتاج أزماتها. وهل يُعقل أن تكون كل حبة رز في الصين أو في كوريا الشمالية ملكية عامة للدولة في حين تتعزز رفاهية الشعوب الاسكندنافية بعدم لجم وقولبة التطور الطبيعي في حركة رأس المال بتابعية الزمن كبعدٍ مادي يُقاضي التاريخ بعد صناعته. لقد فرّخت الرأسمالية الاحتكارية للدولة كل المنظومات الشمولية التي وأدت الآخر وسعت إلى توطين كل الامتدادات برأيٍ يتيم ورؤية تقتصر على لونٍ واحدٍ من ألوان الطيف. وبإعادة تقييم الأدائين النازي والفاشي، نرى أن كلتا المنظومتين البائدتين شكلتا ارتداداً في الأداء الطبيعي لحركة رأس المال لصالح تعميق هيمنة الرأسمالية الاحتكارية للدولة وهذا ما تمارسه الحكومات المتوالية في الولايات المتحدة. هذا ولا يمكن تضمين الاستثمار الناجم عن غسل التكدسات المالية غير المشروعة وغير الشرعية ضمن الهيكلية العامة لرأس المال التقليدي، ونؤكد بأن المروّج الأساسي لثقافة النظام الدولي الجديد إنما يتمثل بهذه الحداثة النقدية إخلاصاً منها للشذوذات الاقتصادية المتماثلة مع عهر إنتاج النقد في الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الممارسة السياسية لهؤلاء ستكون بشعة وعدوانية لأنهم اقتنصوا الأزمنة وسيحرمون البقية من التمتع بالمكتسبات المادية التي تمنحها الأزمنة. والذي حصل أن رفاق الأمس اقتنصوا الأزمنة المهدورة في أحايين سقوط الشيوعية وحولوا الرأسمالية الاحتكارية للدولة إلى شكلها الجديد والذي نسميه بالرأسمالية الاحتكارية للسلطة التي عاثت فساداً في أروقة الدولة وحولتها إلى نقدٍ بيد يلتسين وتشيرنومندين كرفيقين سابقين أكدا مراراً على حتمية انتصار الشيوعية على اعتبار أن الشيوعية مشاع ووقف لهؤلاء. وهنا نذكر قولاً مأثوراً لغرامشي: "إن الاشتراكية عممت الفقر والجوع عوضاً عن تعميم الرفاهية".

 

 

لقد شكلت هيمنة الولايات المتحدة، من خلال دحر الحركة الطبيعية للرأسمال لصالح الإفراج عن شكلٍ جديدٍ من الرأسمالية الاحتكارية للدولة، انتعاشاً للرؤى الاستبدادية التي لا ترى في الأمكنة سوى تسيداً لرأيها المتمثل بانتهاء التاريخ والعودة به إلى صراعٍ بين منظوماتٍ كهنوتية، وما هذا الرأي إلا محصلة منطقية للتخلي عن النهايات المادية للرؤية فيمسي النضال ضد النظام الدولي الجديد مجرد فكرة مرمية في اللانهاية فتغشى تقانة الشفافية بضبابٍ يُعكِّر رؤية كل المكنونات إلا العم سام كصنمٍ يُعبد، وتُقدم له القرابين علّه يشفع لنا، ويتأصل العمى ويرتسم وشم التعبد على الجبين الفاقد للكبرياء ويكبر فينا الانصياع كبديلٍ عن التأمل فترتعش الذاكرة خاوية إلا من نوايا التودد المرهونة بالفتات ونقتات فرائص التمرد وتموت عزيمة استثمار العقل بالارتماء في أحضان شكلٍ جديدٍ من السلفية: السلفية التقانية حيث أداء الفرائض في معابد النظام الدولي الجديد: المعلوماتية. إن التاريخ، بماديته التي لن تتوقف عن ارتشاف الزمن، سيصفع المخالفات الدستورية لقوانين الطبيعة، إلا أن مجرد التسليم بذلك هو خدرٌ آخر يؤول إلى النتيجة ذاتها. فنحن، البشرية، ما زلنا نحك القشرة الأرضية ونكتفي بظواهر المكنونات متناسين المقدرات الكامنة في بواطنها. وعلى هذا الأساس، نندحر عند أول محنة كوننا نستصعب تشغيل المقدرات العقلية التي عطلتها السلفيات الدينية والرأسمالية الاحتكارية للدولة وتصر السلفية التقانية على نومٍ سرمدي لها. والانعتاق من هذا الثبات لا يكون بالعلوم فقط بل بفلسفة هذه العلوم لأن الفلسفة هي إنعاشٌ للرؤى التي تولِّد آراءً تحترم الآخر وتعترف بوجوده المادي الذي يستلزم فسحةً للتحليق وصناعة عالمه الروحي. كما أن الفلسفة هي التي تعرّي الأوصال لكن لا تبيدها بل تجعلها تتلمس بواكيرها وصيرورتها. وعلى هذا، فإننا نرى في فلسفة العلوم الشفافية الكونية لاستقصاء المناحي وخلق فضاءاتٍ رحبة تتسع للتنوع المادي والروحي. وللتدليل على رؤانا، نقول إن التقدم العلمي هو الذي أدى إلى إنجاز الهيكلية العامة للمجمعات الصناعية-العسكرية كأرضية بنيوية لانبثاق النظام الدولي الجديد، ولكن افتقار هذا التقدم العلمي لفلسفته أدى إلى نضوب المضامين الإنسانية وبالتالي إلى تقهقر التقدم الاجتماعي. وإعلان موت التاريخ إنما هو إقصاء لدور الفلسفة في معالجة معطيات الثورة العلمية-التقنية مما أدى إلى توضع نهايات الرؤية في أرنبة الأنف أو انفلاتها نحو اللانهاية.

 

ُ

يعتبر الصدق مع الذات بمثابة الأرضية البنيوية للاستدلال على الجوار والاعتراف به، على أنه يجب اختبار العلاقة الناشئة بتابعية الزمن كون المسار العام لهذه العلاقة يخضع للمسار الكوني التحدبي الذي يُقاضي "الاستقواء" على أنه ضعف للطرف المُهيمِن الذي يُبيد ذاته عبر دحر الآخر. فأن يختفي الطرف الآخر، هذا يعني أنني غير موجود وفقاً لمعايير الرؤية الكونية التي تشتمل على التناظر أو ما أسميناه بفيزياء النرجس(11)، كما أن التقوقع على الذات، عبر قضم مادية الصيرورة، لن يقينا من الاندحار. وعليه، تكون المراجعة النقدية للذات والجوار ضرورة يقتضيها ارتشاف الزمن. فنحن مادة ترتشف الزمن فتخلق مادة بصيغة فائض قيمة يعكس المادة الزمانية المرتشفة لكنه لا يُماثلها. ومن المادتين، ينبثق النور كحالة وعي تعم الأمكنة العتيقة والمحدثة، والانزياح، كما ذكرنا، ضرورة وليس خيانة. وعلى هذا الأساس، نلحظ عدم استناد الأداء السياسي في منطقتنا على رؤية فكرية تنم على معالجة معافاة للمعطيات بل إن هذا الأداء أضاع الزمن والضوء عبر دحر أو تحييد الآخر مؤدياً ذلك إلى تحطم تقانات الشفافية، هذه الشفافية التي نريد الآن أن ننعشها لمواكبة النظام الدولي الجديد وليس لتأصيل استثمار المقدرات العقلية. لقد استلزم الخروج من الحقب الاستعمارية وولوج الانفراج الوطني تضحيات جسيمة، إلا أن هذه التضحيات لم تترافق مع ارتقاء في قراءة المعطيات وكان السعي للمماثلة مع الأقاصي أو الجوار كبديلٍ عن التمعن والاستقراء، وانبثق عن ذلك رؤى سياسية وليست فكرية منها الدينية التي استسهلت الارتماء في الأحايين الآفلة ومنها الماركسية التي استبسلت في الإنشاد المكرر ومنها الجغرافية السياسية التي استساغت مزاوجة الرأسمالية الاحتكارية للدولة مع الطقس التاريخي ومنها القومية (وأنا واحدٌ منها) التي تبنَّت كل الرؤى السابقة وزرعت في طياتها كل أزماتها. ويشعر الواحد منا، وفي الآن معاً، أنه سلفي شيوعي قطري قومي وقومي عربي. إنه شعورٌ هلامي غير معافى ناجم عن رغبتنا في محاكاة كل التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية التي عاشتها البشرية وفي اللحظة التاريخية ذاتها واضعين راحات الأكف في وجه الشمس والزمن، بل ويُفاخر أحد الأحزاب الشيوعية العربية بأنه يُوقف اجتماعاته لتأدية الصلاة في أحايينها. ما تزال ممارساتنا ذات طبيعة إجرائية وذلك لدفع الأزمة إلى الأمام. وعلى هذا الأساس، فإننا جميعاً تقدميون لا يعوزنا سوى ارتشاف الزمن وتوليد المعرفة. ليس عاراً علينا أن نمتلك من الرؤى بعدد ذرات منظومتنا الكونية، ولكن العار هو الاعتكاف في أقبية التردي ومهابدة الرؤى، فتذوب الندّية وتُقحم الصباحات بالرمل لا بالندى وتمسي الشفافية وكأنها تورم ضبابي يلف بين جنباته الأقاويل لا الآراء وتُبطح التطلعات على صفيحٍ من رماد راغبين الإمساك بالتاريخ الذي ولى إلى غير رجعة. ولكن، وكما ذكرنا، فإن التاريخ لا تصنعه الرغبات وإنما تُمليه ميولنا الطوعية لارتشاف الأحايين الزمنية واتساع بهو الأنا فنكبر وتكبر فينا الضيافة الفكرية وقبول الآخر زائراً ومجاوراً نقتسم معه مغانم المعرفة عبر شفافية لا تمسخ من الامتدادات سوى الامتدادات الطفيلية والبيروقراطية. على أننا نرى أن الطعن بهؤلاء هو النضال. والنضال، كما نعرّفه، هو إجهادٌ فكري ومعرفي ومادي تقتضيه ضبابية المنظومات التشريعية وعدم سيادتها بل وتعارضها مع حالات الرضا الدستوري.

 

 

تقوم الامتدادات الطفيلية (البرجوازية الخدماتية التي توظِّف غسل النقد) بقضم الأمكنة المادية حارمةً الآخرين من الوهب المادي الكوني، في حين تُبارك الامتدادات البيروقراطية (خادمة البرجوازية الخدماتية) مهابدة الأطراف الأخرى بسحق الآراء والرؤى عبر تلاوة للنصوص التشريعية، فتؤول ضبابية شفافية هذه النصوص إلى إعصار رملي لا يمنع الرؤية فقط بل ويلغيها، وننحو نحو فتاوى ابن تيمية ونُحاسب حتى على النية ويتأصل التعثر في الأداء المؤسساتي الذي لن يكون إلا بالتنفيذ المعرفي للنصوص التشريعية، هذا التنفيذ الذي تفتقده كل أشكال الرأسمالية الاحتكارية للدولة. وبالمقاربة مع المراجعة النقدية للذات، فإننا نعتبر المراجعة النقدية لأداء المنظومات التشريعية والدستورية ضرورة تاريخية تستلزم الممارسة التخميرية الزمانية لتجنب اقتناص الأزمنة وبالتالي تغير الراصد في تقانية الشفافية ليس إلا، هذا الراصد الذي سيمارس الدحر من جديد. وعلى هذا الصعيد، لا تتعلق القضية فقط بتطوير المنظومتين السابقتين بل لها علاقة مباشرة برؤية التنمية على أساس مساهمة الرأسمالية الاحتكارية للدولة والتي لا تحتكر فقط ميزانيتها وفائضها الوهمي بل وتحتكر أيضاً تقانة المقاضاة المؤدية إلى أداء في تقانة الشفافية، على أننا نعتبر أي فائض فائضاً مادياً وروحياً بما يؤدي إلى معافاة في الممارسة والأداء. والأساس هنا هو التوليد الملموس لفائض القيمة عوضاً عن قضم البؤرة المولِّدة للفيض. ولتعزيز هذا الفهم، لا بد من مراجعة نقدية لدور الرأسمالية الاحتكارية للدولة في عملية التنمية كرافد للتقدم الاجتماعي. وهنا، نطرح الإشكالية التالية: هل يمكن تعزيز دور الرأسمالية الاحتكارية للدولة في عملية التقدم الاجتماعي عبر مساهمة كل الأطراف الأخرى، كرأي ورؤية وأنشطة، في التوليد الملموس لفائض القيمة وبالتالي تحمل الأعباء الفكرية لتوليد تقانة الشفافية المؤدية إلى سيادة القانون وإقصاء كل من تورط بعمليات الفساد.

 

 

يستلزم توطين تقانة الشفافية التخلي نهائياً عن مفهوم التطويق المؤدي إلى الصهر وبالتالي إلى اعتلال في أداء الرأي كمنتج لرؤية لا تلحظ إلا الذوات مع تغييب كامل للضيافة الفكرية. إننا نعاني جميعاً من هذه الإشكالية، فقد اعتدنا التكيّس ونُمارس تكديس الزمن في عبوات التاريخ لمنعه من تخمير مكنوناتنا الفكرية، فيؤول الفكر إلى مجرد ممارسة سياسية محرومة من بعدها الرابع، ونُزج جميعاً في خنادق التمترس إخلاصاً منا لحالات التخلف المزمن. وإن كان للزمن عندنا دلالة، فهي لتوقيت مباغتة الآخر وحرمانه من البوح، فيحيا تقوقعه ويُنمّي في ذاته بذور القمع في هيئة كامنة، وبذلك تمسي إرهاصات الهيمنة حالة فيزيائية تمارسها كل الأطراف بغض النظر عن المقاليد، وأبشع هذه الإرهاصات التكفير كدلالة على عجز بنيوي يحول دون ارتشاف الزمن. والزمن عند السلفيات الدينية، مثله مثل النصوص، مجرد أيقونة لا هيئة لها تستلب الرؤى وتطفح كل الأمكنة برأيٍ شمولي يُميت المبادرة ويهابد الآفاق التي لن تستنبتها من جديد السلفيات التقانية المعاصرة الرازحة تحت وطأة العمى المعرفي. ولا تعني المراجعة النقدية التي ندعو إليها محاباة العدم وتمزيق مكنونات الرصيد، بل تعني، وقبل كل شيء، التحلي بشفافية فيها من الرهافة ما يكفيها لتجاوز عوز التحجر وبالتالي التمكن من دغدغة المناحي والتجاوب مع الرعشة الكونية المؤدية إلى انزياحاتٍ في الطقس والتوضع.

 

 

يُستشف من التراجيديا السياسية للنظام الدولي الجديد اقتناصه المزمن للزمن وتحويله إلى رصيدٍ كتلوي يمنع رؤية الآخر المتسطح بلا رأي وعزيمة. ولا يحتكر هذا النظام فقط فائضه ومصير الشعوب بل ويحتكر تماديه في إنعاش استبداد كل التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية التي عاشتها البشرية جاعلاً الزمن بمثابة طوق يُضيِّق الخناق على الأنشطة البشرية رامياً الفائض الروحي في محرقته التاريخية التي رمدت حتى الوجود المادي للامتدادات الباكورية: الهنود الحمر. وبذلك، تكون الثقافة "الرعوبقرية" منسجمة مع رصيدها الإجرامي في اقتناص الأزمنة ولمرتين. ففي المرة الأولى، أُتيحت الفرصة لمجرمي الأمة البريطانية بفض عذرية الحيّز البكر في أمريكا وأستراليا ونيوزلندا. وفي المرة الثانية، بترميد المكنونات البيولوجية الآدمية في الحيِّز البكر. ومن المرتين، كحالتين لاقتناص الزمن، تولدت العدوانية كخيار لهؤلاء الطغاة الذين عاودوا سويةً المهابدة في العراق المفتقد، كأداء سياسي، لكل مضامين المعرفة والمحتضر، سلفاً، في أقبية نظام شمولي يقتات على اقتناص الزمن (عبر الشن المتواصل للحروب مع الجوار) وعلى قضم الرأسمالية الاحتكارية للدولة عبر تجليها السلطوي الذي محق دوائر الفيض والبؤر. وهاكم الأداء في الدفاع عن الوطن طالما أن فائض القيمة مخلَّص من استحقاقاته الزمانية والتاريخية بحيث تبخر الحافز في الانتماء المولِّد للممارسة الوطنية. واعتماداً على مفهومنا للتضحية بغية الارتقاء، فإن المكنونات التي كابدت من ويلات النظام الشمولي وحُرمت من التمتع من المكتسبات المادية للزمن، هي ذاتها التي ستكابد ثانية في النضال ضد هيمنة وشمولية الطغاة في الأمة البريطانية كرعاة للنظام الدولي الجديد. وحده، مفهوم القرى الكونية يستطيع مقاومة ودحر الهيمنة الشمولية. فكل مكنون آدمي قرية كونية لها خيراتها وفائضها وفسحتها المتحدرة من رؤية القرى الكونية الأخرى، والتمايز هنا تباين في آليات ارتشاف الزمن المؤدي إلى تمايزات في الانزياحات وفي توليد الآراء والرؤى وكلما كثرت الآراء والرؤى يكبر الوطن. إننا مهددون بالانقراض ويعوزنا السعي لتوليد المعرفة وتأصيل الوعي كدلالة فيزيائية على تخمير مكنوناتنا والتجرع من كأس الزمن عوضاً عن تبديده في أروقة القناعات الأخيرة، ولن يؤدي صهر كل الامتدادات في الفرن القومي إلى توليد ثقافة وطنية طالما لم نمنح كل المكنونات شرعيتها المادية والروحية كمساهمات وكأداء.

 

 

وبالعودة ثانيةً إلى مفهوم القرى الكونية (عوضاً عن تحويل العالم إلى قرية كونية واحدة تقتات من فمٍ واحدٍ وترى بحدقة السلطان الشمولي)، يُشكِّل هذا المفهوم التماساً فكرياً لزرع تقانة الشفافية في رحم الأمكنة وبالتالي دلقاً للآراء والرؤى في المناحي بما يوافق ارتشاف الأزمنة وتوضعات الامتدادات وانزياحاتها. وكل وجود مادي هو بحد ذاته جوهر وكنه بل وبؤرة مرجعية تمتلك مزاجها الاعتباطي في الانعتاق من جيوب الهيمنة. وعلى هذا الأساس، نرى في الأداء القومي مساهمة كل الامتدادات في فضاءٍ يخلقه تعشق الأمكنة بالزمن. في أحوالٍ كهذه، وحدها التنمية يكون لها طابع شمولي لاشتمالها على الوهب الكوني في منح كل المساهمات الشرعيتين المادية والروحية وبالتالي توليد البؤر التفاضلية المعرفية لتجنب تقانة التكامل التي تلغي الخصوصية عبر التنكر للجذر المترافق مع فيزياء الانفصام كاعتلال يُنجز في الهاوية المتكونة بين الانتماء الاشتقاقي والأداء القومي. لقد انتصرت الفيتنام على الهيمنة الأمريكية بمساهمة كل مواطن وكأنه قرية كونية لكنها فشلت في التنمية عندما رأت في هاتيك القرى الكونية مجرد تكدس محروم من المساهمة والأداء والتمتع، فأمسى الوطن (ومعه القومية) أرضه من حديد وآفاقه من قضبان فاستحالت شمولية التنمية إلى شمولية النظام.

 

 

كما أوضحنا، إن الزمن احتياجٌ مادي لبلوغ المعرفة. ولكن، لا يُنجز استنطاق هذا الزمن، وإن كان مادة، من خلال مباحث فيزيائية تقليدية بل عبر استنطاق مثنوي للمادة التي ارتشفته وأعادت توليده كاتساع في الفضاءات واستحواذ بعض من الحيِّز البكر. فكل فائض قيمة مادي يستلزم توضعاً باكورياً لا يلبث أن ينحو نحو الممارسة السرمدية بعد ارتشافه الدفقة الزمانية البكر. وعليه، نقترح القراءة المادية التالية للزمن وذلك لتلمس الأبعاد المادية للتاريخ: مكنون مادي أدرك بعده الرابع فضمه ارتشافاً مؤدياً ذلك إلى اختلاق الأمكنة كحالة مادية - الضعضعة الفيزيائية المادية في رحم المكنون مؤديةً إلى لفظ فائض قيمة مادي يعكس نية تغيير التوضع المشفوع بانزياح بغية الارتقاء - تلمس المنتج التفاضلي (بصيغة فائض قيمة مادي) لأهمية الزمن في اختلاق أمكنته وبالتالي التعايش مع إرهاصات الضعضعة الفيزيائية المؤدية إلى اشتقاق فضل قيمة من فائض القيمة الذي كان بكراً منذ هنيهة لكنه أمسى سرمدياً بعد ارتشافه للزمن وها هو يكابد آلام الفقد والتوضع والانزياح - مزاولة فضل فضل القيمة لسرمدية تعشيق المكنون كمادة بالزمن كمادة، وهكذا دواليك. وعليه، فإن النخب الفيزيائية، كبؤر مرجعية، إنما تتولد من الاشتقاقات الأعظمية. ورياضياً، ولارتسام الأمكنة، يكون الاشتقاق دوماً بتابعية الزمن، فيُصنع التاريخ كمادة تتقفى الاستحالات السابقة التي تنحو باتجاه الصفر وليس باتجاه اللانهاية. تُماثل تقانة الساعة الرملية، وبشكلٍ جزئي، مفهومنا للقراءة المادية للزمن والتاريخ. فكل حبة رمل لا تكتب مفردها المادي الزمني إلا بعد مرورها من بؤرة الاشتقاق الأعظمي المتوضعة في العنق الواصل بين رحمي الساعة الرملية. وللوصول إلى بؤرة الاشتقاق، كابدت كل حبة رمل آلام التوضعات والانزياحات. ويتجسد الطابع الشمولي في هذه التقانة بشمولية إتاحة الفرص والخضوع للاشتقاق الأعظمي المؤدي إلى تسجيل مادي لأول زمن وللأزمنة التالية والتي ستفضي جميعها إلى أول صياغة مادية للتاريخ بعد انتقال كل حبات الرمل إلى الجانب السفلي الذي يلي العنق الاشتقاقي. وبالمزاولة السرمدية لجعل الأسفل هو الأعلى والأعلى هو الأسفل، يُصادف أن تمر حبة الرمل ذاتها من العنق الاشتقاقي ذاته في اللحظة الزمنية ذاتها، فتنتابها فيزياء تقمص سلوك سابق أدته منذ أزمنة لا تدركها، وهذا ما ينتابنا أيضاً عندما نتمتم ببوح (أو برؤى) يعود إلى سنواتٍ ضوئية عتيقة. وبالانعتاق من الساعة الرملية والانزلاق في الساعة الكونية (حيث الزمن كمية مادية ثابتة لا تفنى)، يمكن أن تُعزى هذه الاختلاجات إلى تجليات (كنطق مادي) لبؤر مادية تُخزِّن أداء انتماءاتنا وما زالت تنغل دماءنا بصيغة كروموزومات كتفاضلاتٍ نقطية تصلح لتوليد الاشتقاق وتأدية الفيض حيث نستحوذ المسافة بالانتقال بين دوائر الفيض والبؤر المرجعية. وفيما يتعلق بالمسافة، نعرّفها على أنها الأداء المادي المنجز على امتداداتٍ مادية شريطة تحدبية وقطبية كل امتدادين. وعليه، يكون المسار أداءً يتلوه أداء، فيكون التقدم مناقضاً للسير بقناعاتٍ نهائية، والحركة في فضاءٍ رباعي الأبعاد هي حركة تقدمية كيفما شاءت الاتجاه، وبذلك يكون الأفق توليداً لدوائر الفيض. حينها يكون العقل هو البؤرة المرجعية لدلق الآراء والرؤى، وهذا هو الرهان. ومن عرّف السنة الضوئية بالمسافة كسب الرهان وارتقى من توضعٍ بشري إلى مساهمة إنسانية لأنه كابد من ابتلاع الزمن كمادة وشيّد لبنة مادية في الهيكلية التاريخية.

 

 

في فلسفة السلاسل الإشعاعية الطبيعية، بمعرفة الحفيد يُعرف الأب والجد، والجميع اكتوى من مادية تجليه للبؤرة المرجعية على الرغم من أن الظاهر يوحي وكأنه ليس منها. فكلٌ منا ليس بالبؤرة المرجعية لكنه منها وما تبقى منها فينا هو الذي نعيه. وإذا كان الزمن مادة، فهذا يعني أن إعادة تمرير الدفقة الزمانية ذاتها في المادة ذاتها سيعيد إنتاج سجلها التاريخي ويكون الوئام بين الزمن والمادة والتاريخ، ومن الثلاثة تُنصب ترويكا الشفافية والتي لا علاقة لها بالترويكا الطائفية اللبنانية. ففي الثانية إنعاشٌ للتاريخ وموتٌ للأزمنة، فتسيل المادة كصهارة بل كدمٍ وآلام. والممارسات الطائفية هي أكثر الرؤى دناءة ونتناً، في حين أن الانتماء إلى طائفة مثل بتلة في وردة وتتنوع الورود، ومن كل وردة تتحدب آلاف القرى الكونية. أما المشروع الإنساني، فإنه لا يتعثر فقط وإنما يُبتر في بيئات الممارسة الاثنية، حيث تُلتهم الامتدادات الأخرى ويؤذن للبؤر المرجعية بابتلاع دوائر فيضها. حينها فقط، يمكن أن يكون للخلاء دلالة لامادية بخلو الأمكنة والفضاءات إلا من براثن الشوفينية، على أننا نرى في الانتماء الاثني بمثابة هارمونية بين المكنون ورقع انزياحاته فيكون الوجد إخلاصاً للرصيد الذي اختلق الآفاق، مع الإشارة إلى أن التنكر للجذر يُلغي البؤر المرجعية فتمسي دوائر الفيض وكأنها آخر نفس للبشرية.

 

 

بمعالجة الرؤى السابقة، نرى أن المشروع الصهيوني، كربيبٍ للنظام الدولي الجديد، يفتقد إلى السويات المعرفية المؤدية إلى أداء إنساني. فهو اقتنص الزمن مرتين، عندما أفلت الرؤى من نهاياتها المادية وتقيأ الزفير الكهنوتي "شعب الله المختار"، وعندما اقتنص الفرصة السانحة في أثناء معركة الاستقلال الوطني الفلسطيني من براثن بلاء العالم: الطغمة البريطانية، فأخذ يقضم أمكنة المكنونات في رقعها على أرضية الطائفية والشوفينية النابتتين في رحم الرأسمالية الاحتكارية للدولة. وعلى هذا الصعيد، ومن الناحية الكيميائية، ورغم الرغبة والممارسة لإفناء الطرف الفلسطيني، نؤكد على استحالة إفناء مادة بمادة أخرى. فحتى المهاجمة الكيميائية شديدة الحموضة أو شديدة القلوية لا تستطيع أن تفني الوجود المادي لليورانيوم وإنما تنقله من طور صلب إلى طور مائي، في حين أن هذا اليورانيوم، كمادة نوعية، وعبر ارتشافه للزمن، يعيش استحالاته مولداً أنواعاً أخرى من المادة لتكابد المصير ذاته.

 

 

نبقى في السلاسل الإشعاعية الطبيعية، لنؤكد على امتلاك كل نظير مشع من هذه السلاسل لأزمنة محددة تضمن ممارسة فيضه تُعرّف بعمر النصف كأزمنة لازمة لاستحالة نصف ذرات كل نظير مشع إلى نظائر أخرى. وبمعرفة أن عمر نصف اليورانيوم-238 (كمكون أساسي لليورانيوم الطبيعي) هو 4.468 مليار سنة، وبضرب هذا المقدار المادي بالعدد عشرة لزوم الاستحالة الكاملة لذرات اليورانيوم إلى أنواعٍ جديدة، وبمعرفة أن العناصر الثقيلة (كاليورانيوم) إنما تكونت بعد أزمنة مديدة تلت الانفجار الأعظم (والذي يقدر حدوثه منذ عشرة مليارات سنة)، يمكننا أن نؤكد أن الزمن المتبقي للتاريخ المادي في منظومتنا يتجاوز 30 مليار سنة والحجة في ذلك أن اليورانيوم مازال موجوداً في القشرة الأرضية. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، وبمجرد ملامستي المادية لليورانيوم فإني أتعامل معه وكأنه ولد للتو متناسياً كل أحايينه المهدورة منذ أن تشكل. ورغم عدم منطقية هذا الإدراك الفيزيائي، إلا أنه سليم ومعافى، فالأزمنة تبدأ بلحظة التعرف على الآخر. وكم يلزمنا من الأحايين المهدورة للتعرف على الآخر الذي ما زلنا نجهله على أمل اللقاء به يوم الحشر منتقلين من منظوماتٍ شمولية إلى نظامٍ شمولي موحد.

 

 

يُخلق الانطباع الأولي من معالجة المعطيات المادية لمكنونات الجوار مؤدياً ذلك إلى إنبات احتياجات التعايش أو الاقتناء. فالتعايش بين المكنونات المادية البيولوجية صيرورة أما اقتناء المكنونات التي اكتفت برصيدها المادي فهو زاد تلك الصيرورة. وهكذا تفتق الانطباع الأولي من لحظ التفاضلات المادية لجوف الأرض على شكل وقود يُقتنى لفضّ الحركة الكامنة وبالتالي توليد مسار أكثر سهولة مما انعكس إيجابياً على هيكلية الرفاهية. هكذا كانت بواكير ملامسة مقتنيات جوف الأرض عبر مفرزاتها التفاضلية، إلا أن الاستكشافات اللاحقة استعاضت عن الملامسة بالرؤية، وتمخض عن السعي الدؤوب ما نسميه بالسبر كمعالجة رياضية وفلسفية لكل المكنونات في منظومتنا الكونية. وبذلك، استعيض عن عبثية الانطباع الأولي بالرصد الرياضي التجريدي كفلسفة تؤدي إلى تلمس الوجود المادي للمكنون. وتنسجم هذه الشفافية، كتقانة، مع تلمس المكنونات النبيلة بالاستقراء التمعني عبر توظيف القشعريرة التجاوبية التي أداها القديسون للتحري عن المسيلات المائية الجوفية بتلكؤ عود الرمان في القبضتين المباركتين كترجمة فيزيائية لوجوب التناظر والتناقض في تقانة الشفافية. فأساس الرؤية مقدرة على الاستقراء عبر التمعن الرياضي الفلسفي المؤدي فيما بعد إلى الالتماس المادي للمكنون. وبذلك تسعف الرياضيات البحتة (كذلك الفيزياء النظرية) البشرية في اقتناء شفافية فلسفية لاستنباط الماهية ولتعليق الرؤى بنهاياتها المادية. وعلى هذا الأساس، يتم تقفي مكنونات النواة وذلك بالانتقال من حالاتٍ رياضية تجريدية إلى دلالاتٍ مادية عبر توظيف الريع المادي للتمعن الفلسفي. وبرأينا، يكون أداء تقانة الشفافية مشفوعاً من الناحية الإنسانية عبر توظيف التداول التالي: تمعن رياضي فلسفي - التماس مادي للمكنونات - توليد الآراء والرؤى غير المنفلتة من نهاياتها المادية الملتمسة للتو - التعايش أو الاقتناء ومن ثم مقاضاة الطقوس المؤداة بالدلالات المادية للزمن. ورغم عراقتنا المادية، إلا أننا ما زلنا نحبو متعثرين لالتماس كنه المكنونات وماهيتها. فمن بين مكنونات الطبيعة، كان الحديد العنصر الأكثر تداولاً في الدراسات والبحوث العلمية. ومع هذا، نعتقد بأننا لا نعرف عن سلوك هذا العنصر أكثر من 9 % من الاستحقاق، على أن هذا الاستحقاق سيؤول إلى استحقاق آخر بتابعية الزمن وستؤول نسبة الـ 9 % إلى 5 % بطرح الأبعاد الأربعة منها لزوم التغير المزمن في هيكلية الأمكنة والمفضي إلى تغيراتٍ في التوضعات والانزياحات على أننا ننظر إلى النوع ذاته في بيئة جديدة وكأنه نوع آخر.

 

 

نُعرِّف اللانهاية على أنها الحيِّز الذي لم يطله بعد الوعي الإنساني عبر السعي كواحدة لقياس الأنشطة ولاختبار إخلاصها للحالة الفيزيائية الطبيعية. وبتابعية الزمن، يمسي هذا التخم العطالي بؤرة للتداول بين مكنونات لا ترتعد إلا أمام عذرية البوح. ونعتقد أن عمر الكائن البشري إنما يُلتمس عبر أحايين الممارسة الإنسانية المؤسسة على المثنوية السرمدية: العقل والحرية، هذه المثنوية المفضية إلى ارتسام الاسم والمعنى كجناحين لإلهٍ أسميناه الحب. حينها، نغمس الأزمنة في خلايانا وننمو كنمو الآفاق أمام ناظريها المتحدرين من رحم الاعتراف بالآخر كشرطٍ تكويني لمعافاة الشفافية. وعندما ننظر إلى العلم على أنه كلي القدرة، فلأنه يُجيد تداول كل مفرداته: الاستطلاع، التمعن، الاستغراق، الفنون، الشعر، الموسيقى، الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء وعلوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وذلك على أرضية المعالجة الفلسفية التي تُرجع دوائر الفيض إلى بؤرتها المرجعية: العقل كمولّد للإرادة الحرة التي يُعبّر عنها إمامنا الجليل هوكينغ بالقراءة الاستغراقية التالية: "إن المجتمع الذي يشعر أفراده بأنهم مسؤولون عن أعمالهم، أكثر قابلية للعمل المشترك وللبقاء من أجل نشر قيمه. طبعاً، يعمل النمل معاً على نحوٍ جيد، لكن مجتمعه هو مجتمع ساكن لا يستطيع الاستجابة للتغيرات غير المألوفة، كما لا يستطيع تطوير فرص جيدة، لكن الأفراد الأحرار الذين يتشاركون في أهداف معينة، يستطيعون التعاون في سبيل أهدافهم الرئيسية، مع احتفاظهم بالمرونة للقيام بالابتكارات إفرادياً. إن مثل هذا المجتمع هو أكثر قابلية للازدهار ولنشر منظومة قيمه"(12). فطوبى لزارعي الرؤى ولقاطني قرانا الكونية مابرحوا يشتلون الأزمنة في رحم الأمكنة، فننمو بكبرياء وتكبر فينا الضيافة الفكرية كردهة للتداول والارتقاء.

 

 

 

(1) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 44. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(2) جبران، المواكب، مؤسسة علاء الدين، دمشق 2002، ص. 87.

(3) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 80. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

 

(4) د. محمد غفر: "دراسات عربية في فلسفة العلوم (رؤى في العلوم)"، ص. 54، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دمشق 2003.

(5) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 12. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(6) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 102. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(7) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 121. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(8) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 24. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(9) د. محمد غفر: "دراسات عربية في فلسفة العلوم (رؤى في العلوم)"، ص. 40، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دمشق 2003.

(10) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص. 57. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

(11) د. محمد غفر: "دراسات عربية في فلسفة العلوم (رؤى في العلوم)"، ص. 101، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دمشق 2003.

(12) ستيفن هوكينغ: "الثقوب السوداء والأكوان الطفلة ومواضيع أخرى". ترجمة: د. حاتم النجدي. ص ص. 112-113. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1998.

 
التاريخ: 2021-05-17
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro