مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
موشور الضياء الأنطاكي
 
الدبس، ربيع
 

جورج خضر أسقفُ العربيَّة | THAQAFIAT

 

 

تصْعُب الإحاطة بالكبار، فكيف إذا اتسَعَتْ نفوسهم لوزنات العقل والقلب؟ وكيف إذا استمدوا فكرهم من ناصع القمم، ولغتَهم من شاهق الإتقان؟ بل كيف إذا لم يسمحوا لاستغراقهم اللاهوتي وأدبهم الرفيع ومعرفتهم السياسية والفلسفية أن تَصرِفهم عن الدور الوطني الجامع وعن الدعوة المتواصلة إلى حياكة النسيج الداخلي على نَوْل الوحدة التي لا تهتِك الخصوصيات ولا ترضى الهيمنات.

 

من عاصمة لبنان الثانية إلى الأولى،ومنهما إلى الدراسة في أوروبا، ثم العودة الموَزَّعة على الوطن من الحدث إلى برمانا والبترون وسائر المناطق، كان المتروبوليت جورج خضر داعية وئامٍ واحترام: كاهناً ومطراناً ونجمَ منتديات...تصدى للطائفية والعشائرية وفسادهما المتناسل،  ودعا الإنسان إلى معية الآخَر، بل إلى اقتبال سُكْنى الله فيه حتى يحيا له ضميرٌ وينبض فيه وجدان .

 

منذ تأسيسه "حركة الشبيبة الأرثوذكسية" اصطبغ الرجل بلون الجدية والإصلاح الذي ما زال أقرب الألوان إلى نفسه الشفافة بالحق، حتى جاز لنا أن نسميه "باراديغم" الشباب ومرجع الشيوخ . وكم آلمَتْه المرحلة التي لم تعكف فيها مؤسسات الكنيسة على تجذير التعليم القويم لدى "خُدّام" الله جميعاً، خصوصاً على مستوى الكهنوت. لذلك لم يتساهل ولم يساوم. فالثقافة لديه ولدى رهط من مجايليه المؤسسين هي أسلوب حياة متحرك للإكليروس والعلمانيين على حدّ سواء. ولأنها كذلك فالأحرى بها أن تكون نسَقاً حياتياً معيارياً لا هامشياً.

 

لم تكن نَشْرَتُه المنتظمة "رعيتي" لتشغله عن مقاله الأسبوعي الخصب في صحفٍ يومية أبرزها "النهار". ولا شَغَلتْه عن شلال أحاديثه وعظاته ومؤلفاته...وكم عنى له، في سياق ذلك كله، أن تصان أصالة أنطاكية من دون أن تفُوتها حركة الحياة وآفاق التطور. فالحياة، حتى في قراءة التراث، هي رؤيوية النظر إلى الآتي حتى لا يستبدّ بها الماضي.

 

لقد أنشئ "لبنان الكبير" منذ مئة عام .هذه حقيقة لا ينكرها جورج خضر "وأما أصالتنا قبل تشكيل الكيان ، أي مضموننا الحضاري، فهو هذا المشرق القريب المحيط بنا بما في ذلك فلسطين.نحن نجيء ليس فقط من الساحل الكنعاني، من صور وصيدا وجبيل وأرواد، لكننا نجيء بالعمق نفسه من أوغاريت وأورشليم وسومر وبابل ومن المسيحية والإسلام .وكل من في وعيه أو بغير وعيه وليدُ كل هذه المدنيات" (النهار 23-1-1993).

 

وتنداح تطلعاته إلى مكونات شعبنا بأسرها :"أحمل المسلمين في قلبي لأن الله حاملهم، لأن في بعض الإسلام مسيحاً ، لأن جُرحهم جرحي ، لأننا نحن المشارقة نموت معاً ونحيا معاً وغير ذلك لَغْو" (النهار 23-1-1999). فالمهم عنده ألاّ تبقى كل طائفة تغَني على ليلاها ، بل أن يُغنّي الجميع في الأوركسترا الوطنية الواحدة التي لا تقودها سوى المصلحة العامة المتحققة.

 

أما نشدانه لمبدأ الحرية فلا يجعله ينسى مقولة أفلاطون: "لو أمطرتِ السماء حرية، لرأيت عبيداً يحملون المظلات"، باعتبار أن الحرية هي ممارسوها لا مدّعوها ، وكم مِن شعارات جوفاء حتى لبعض طالبي الملكوت. أما العدل لفلسطين وقُدسها ،في يقين صاحب "فلسطين المستعادة"، فهوالمحك الأول لصدقية الغرب. أما دولة القانون، والبنْية الذهنية-الأخلاقية لدولة الكرامة والمساواة فهي تلك التي لا تُلغي النفحات الروحية بل تستلهم بهاءها من الينابيع. هكذا تنسكب الفضائل على الحكم ومُتوَلّيه . وربما كان من مأثورات جرأته المشهودة قوله: "المسيحية لا تكبلك بصيغة زمنية لأن الزمان على قدرمن التحكم والشراسة، وعلى قدر من الجِدة أنه لا تنفع معه صيغة أبدية"(النهار 2-3-1991). بل إن جرأته تلامس ما يعتبره آخَرون محرّمات،كقوله عن شعبنا: "نحن وثنيون علينا قناع التوحيد"(النهار 12-11-1994).أو قوله الصادع: "رجال الدِّين؟ ما أقبحها عبارة. كأن هناك مهنة إسمها الدين" !!!

 

مِمَّ يجيء جورج خضر أو مِمّن ؟

 

يجيء من الرب الذي كان له المجد من قبل أن يكون العالم... يجيء من الدم الأزكى، المراق حباً بالبشر حتى يعرفوا مُعطيهِ  طريقاً وحقاً وحياة فيحررهم من عبودية الخطيئة والموت. إذْ ذاك يجيء أيضاً من بوارق الكلمة التى دوّنها يوحنا في الإنجيل، وبولس في الرسائل،ومواكبُ الأبرار في التئام جروحهم بالمحبة القدوة . من هنا اعتبارنا إياهم سالكين في البِرّ، سائرين في النور، ومُعمّدين في الأجران التي ما جفّتْ بعد خمرُها الإلهية، من قانا إلى طبريا ، ومن القدس والسامرة إلى سائر الجليل المبارك بخبز الحياة وبشرى الحياة .

 

في حديث آسِر لجريدة "الأخبار" قال سيادته: "ما أرجوه هذا العام أن تكتمل توبتي قبل أن ألتقي الله. أخشى المواجهة لأنني أعرف جمال الله وإصراره على أن نكون أنقياء"(29-8-2012)... فيا أيها "المحفوظ" برعاية السيد الفادي منذ سبعةٍ وتسعين عاماً، المتربّع على أسقفية الحب المجاني منذ نصف قرن... على غرار الحَمَل الذبيح أنت الوديع ونحن الودائع. أنت الموشور الأسطع في فضاء أنطاكية الحديث، فعهداً لك أن نبقى ما حيينا على موعد مع اللهب الذي أضأتَ من زيته المقدَّس شموعاً لا تنطفئ ، وعهداً لك أن لا نستقي إلا من الينبوع.

                                              

 
التاريخ: 2021-05-31
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: النهار، 4 تموز 2020
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro