مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
التّنوير بداية وليس نهاية
 
الدبس، ربيع
 

 

 

 

 

 ينتقد الكاتِب والأكاديميّ اليمنيّ حبيب سروري غياب العقليّة العِلميّة في مجتمعاتنا العربيّة، معتبراً أنّ اللّغة العربيّة تحتضر بهدوء جرّاء عدم مواكبتها الزّمن الرّقميّ، ليس بسبب غيابها شبه الكلِّي عن تدريس المواد العلميّة والتقنيّة فقط، بل أيضاً بسبب كونها "لغة بلا بناءٍ تحتيّ معرفيّ".

 

 ويعزو سروري الفارق في منهجيّة الطالِب العربيّ من جهة، والغربيّ من جهة أخرى، إلى أنّ الطالِب الغربيّ ترعرعتْ في دماغه بشكلٍ مُبكر، وبفضل المدرسة، ثقافةُ الشكّ والنّقد، أي ثقافة العقل المبنيَّة على التساؤل والتّحليل المستقلّ عن أيّ مسلّمة غيبيّة، في مقابل ثقافة "النَّعَمْ" البليدة التي اعتاد الطّالب العربيّ أن يكرّرها من دون تمحيص أو برهان (راجع كِتابه القيِّم "لا إمام سوى العقل"،2014 وعنوانه مستمدّ من صدر بيتٍ شعريّ شهيرٍ لأبي العلاء المعرّي).

 

هذه البيئة الذهنيّة، المتشكِّلة إبّان مراحل طويلة من الرّكود العقلي، جعلت السّائد خياراً، والتّقليد المُتاح قالباً يصعب تفكيكه. يقول الفيلسوف التنويري العظيم إيمانويل كانط (1724-1804) إنّ الاستعداد الأخلاقي هو الرّكن الثّالث لثنائيّة العقل والحريّة، التي يتّصف بها الإنسان، باعتباره كائناً يتصرَّف بحريّة الإرادة القائمة على ذلك العقل، حيث يتحقَّق وجوب ألّا ينقاد الإنسان إلى غريزته. وعلى هذا الأساس يُمكننا القول إنّ المَناقب الكانطيّة تتّكئ في صورة أساسيّة على فكرة الكرامة الإنسانيّة. ويضيف ناقدُ العقلِ المحض: "الإنسان بعيد عن القدسيّة، لكنْ يجب تقديس الشّخصيّة الإنسانيّة فيه. ويُمكن لدى الخلق اعتبار كلّ ما نشاء كأنّه وسيلة، باستثناء الإنسان".

 

 صحيح أنّ كانط أتاح التّفرقة بين المعرفة والأخلاق، كما رأى برتراند راسل، إلّا أنّه لم يكُن ليَعبأ بأيّ نظريّة تجعل للأخلاق غرضاً خارجها. ومطلبه يتجلَّى في "ميتافيزيقا للأخلاق معزولة عزلة تامّة، غير مختلطة بلاهوتٍ أو فيزياءٍ أو شيءٍ خارق". هذا المطلب بالغ الأهميّة، بوصفه إلزاماً أخلاقيّاً، غير مرتبط بنتائجه، كما هو الأمر عند مِلْ Mill، لأنّ كانط يرفض أن يكون العمل الأخلاقي مشروطاً، فالأخلاق هي الوجوب Dion. وهذا يسري عنده أيضاً على الأخلاق الدينيّة التي يرفضها إذا كانت مشروطة. غير أنّ الأهميّة المُعترف بها لهذه الطريحة ليست البصمة الفكريّة الوحيدة في الفكر الكانطي. فقد أصبح شِعار عصر التنوير الأوروبي "لتكُن لديك الشّجاعة لاستخدام عقلك" عنواناً قويّاً يُحتجّ به وكأنّه تعريف شامل للتنوير، لا باعتباره مجرّد تعريف واحد. ويعود هذا الشِّعار إلى نصٍّ كَتَبهُ كانط جواباً على سؤالٍ طرحه عليه الكاهن زولنر الّذي كان مُدافعاً عن العقلانيّة الشّعبيّة. وصدر النّصّ قبل 5 سنوات من نشوب الثّورة الفرنسيّة، وجاء في مقدّمته: " التّنوير هو خروج الإنسان الذي ارتكبه في حقّ نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلّا بتوجيه من إنسانٍ آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السَّبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشَّجاعة اللّذَين يحفّزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسانٍ آخر".

 

 وما من ريبٍ في أنّ الفكر الغربي الحديث المشدود إلى ثوابت عصر الأنوار قد تمحور حول مفاهيم وعناوين باتتْ قيَماً غير قابلة للجدال إلّا في اتّجاه تطويرها، منها: العقلانيّة في مواجهة الأساطير، الحرّيّة المرتبطة بالواجب، الديمقراطيّة القائمة على المساواة وتكافؤ الفرص وعلى حقّ الشّعب بالمشاركة في صناعةِ حاضره ومستقبله... هذا يستتبع، على وجه التّأكيد استجواب الرّؤية الثّابتة للنّصّ المقدّس، وإعادة النّظر في المنطق اللّاهوتي الصّارم، وفي سيطرة الغيبيَّات على الحالات الواعية. كذلك يَستتبع رفض تكريس اللّامعقوليّات في منظومات التربية والتّعليم والمجتمع والدولة.


 

غاليليو وتدمير التصوّر الأسطوريّ للكَون

 

 إنّ استهلاكنا الحديث عن الإسهام الكانطي في فلسفة الأنوار لا ينفي الأسبقيّة الزمنيّة لديكارت عليه. وقد رأى ديكارت (1596-1650) في كتابَيْه "مقالة في المنهج" و"قواعد لهداية العقل" أنّ البحث في حقائق الأشياء يتطلَّب قاعدة منهجيّة أساسيّة جوهرها أن يتجرَّد الباحث في كلّ شيء يَعْلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذِّهن ممّا قيل فيه خلوّاً تامّاً. وعلى هذا الأساس يُمكننا وضع عبارة ديكارت، الدّقيقة لا المُجتزأة، في سياقها التّاريخي العميق: "أنا أشكّ، إذاً أنا أفكِّر. وأنا أفكِّر، إذاً أنا موجود".

 

 صحيح أنّ المُنطلق لفهْم الاختراق الديكارتي يقوم، تقليديّاً، على الكوجيتو، أي على مقولته الشّهيرة المذكورة آنفاً، إلّا أنّ سِفْره الشّهير "مقالة في المنهج" يرفده كِتاب، ربّما كان أعمق أهمّيّة وهو: "تأمّلات في الفلسفة الأولى". فالمؤلِّف يطرح في ذلك الكِتاب أفكاراً تستهدف إصلاح الفلسفة إصلاحاً كلّيّاً لتكون عِلماً قائماً على أُسس مُتكاملة. وهذا الأمر يتضمَّن في رأيه القيام بإصلاحات موازية في جميع العلوم، لأنّ هذه في نظره أقسام في علمٍ كلّيّ هو الفلسفة، وأنّ العلوم لا يُمكن أن تصبح علوماً حقيقيّة إلّا بالوحدة التنظيميّة للفلسفة. وما من شكّ في أنّ هذه الدّعوة الديكارتيّة لم يكُن لها هدف سوى هدف المعرفة المُطلقة؛ بل إنّ بعض المؤرِّخين يعتبر أنّ ديكارت وكانط قاما في الفلسفة بما يُشبه الثّورة العِلميّة لكوبرنيكس البولندي قبلهما، الّذي تبعه غاليلي غاليليو في اكتشاف مركزيّة الشّمس وأنّ الكواكب، بما فيها الأرض، تدور حولها. فالأوّل جعلَ الشكّ منهجيّاً، في حين أنّ الثّاني نَقَدَ العقل، جاعلاً منه أداة الوصول إلى الحقيقة.

 

 

 ما من ريب في أنّ الثّورة العِلميّة الحديثة قد بدأت حوالى سنة 1620 على يد الإيطالي غاليليو، والألماني كيبلر الذي كان دَوره تأسيسيّاً لعِلم الفلك الحديث، وبلغت تلك الثّورة العِلميّة ذروتها مع الرياضي والفيزيائي البريطاني نيوتن الّذي وضعَ قانون الجاذبيّة. وتلك الثّورة هي الّتي أفرزت ثورات عِلميّة تالية في القرنَين التّاسع عشر والعشرين، حتّى أنّ بعض المفكّرين المُعاصرين يعتبر أنّ غاليليو هو الّذي دمَّر نهائيّاً التّصوّر الأسطوريّ للكون، وأَحَلَّ مكانه التّصوّر العِلمي، أي صورة الكون الفيزيائي الموحَّد الخاضع لقوانين العِلم الصَّارمة، من دون أن ننسى الصَّدمة الّتي أصابت الوعي الأوروبي بعد ظهور رؤية جديّة للعالَم تُناقض الرّؤية الدّينيّة الّتي سيطرت على العقول لفتراتٍ طويلة، وخصوصاً في العصور الوسطى. ولم يكُن أمراً يسيراً أن تتقبَّل الأذهان رؤية بديلة جديدة، لأنَّ المفاهيم القديمة تكون راسخة في النّفس ومحبَّبة إليها بحكم العادة المألوفة والمعلومات المتوارَثة.

 

 ويرى الباحث البلجيكي رولان مورتييه في كِتابٍ له صدَرَ في العام 2000 بعنوان "القلب والعقل" أنّ القرن الثّامن عشر هو أوّل عصر في التّاريخ يشعر بذاتيّته وكيانيّته. كما يشعر بأنّه مكلّف بتأدية رسالة مهمّة للبشريّة هي التّنوير. ويوضح مورتييه فكرته بالقول إنّه أوّل عصر يبلور لنفسه برنامجَ عملٍ واضِح المَعالِم من خلال كِتابات الفلاسفة ومَعاركهم الفكريّة. ولكي نفهمه، ينبغي أن نقارن الأنوار بالظّلمات، أو الوضوح بالغموض، لكنّ مصطلح التّنوير يتضمَّن أيضاً معنى أخلاقيّاً ومعرفيّاً.

 

 وإذا كان الفكر الغربي الحديث قد ربطَ الحقّ بالواجب، فإنَّ الواجب في رأي كانط هو القيمة الكبرى التي تعطي للفعل الأخلاقي دوافعه الذّاتيّة، وأنّ هناك ضرورة لوجود قانوني أخلاقي تستنير به قيمة الواجب. فالفعل الأخلاقي لدى كانط هو فِعْلُ إنسانٍ عاقل. وقد تحدّث "أمير التّنوير" عن القانون الأخلاقي الّذي في داخله. وبهذا المعنى نستطيع التحدّث عن اقتران الواجب بالحقّ في مُعادلة الديمقراطيّة، واقتران الحرّيّة بالمسؤوليّة فيها لنقول ما يلي: بقدْرِ ما أقوم بواجبي فأنا أستحقّ حقوقي. وبقدْر شعوري بالمسؤوليّة فأنا أهل للحرّيّة.

 

 هل ترتسم على التّنوير Enlightenment علامات استفهام تجعله في عيون مُناوئيه حركة مشبوهة تَنْشَط في عالَمنا المُعاصر، وترتبط برموز وغايات ومنظومات ذات أبعادٍ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة تتحرَّك في الحياة الحديثة وتُهيمن عليها، كما يُقال أحياناً عن المجموعات المستنيرة Illuminati؟

 

 إنّ التّنوير الّذي عرضنا له هو الحركة الفكريّة الاستراتيجيّة الّتي انطلقت في أوروبا منذ القرن السّادس عشر وبلغت أوْجها في القرن الثّامن عشر، مع ثوابت الفكر السِّياسي – الاجتماعي الّتي أرساها مؤسّسو ذلك الفكر. وواقع الأمر أنّها ليست حدثاً بمقدار ما هي سياق، وليست نهاية بمقدار ما هي بداية، مفتوحة على آفاق التّجربة الإنسانيّة في الصّواب والخطأ، وفي التّعديل والتّطوير. ولعلَّ العقلانيّة الحديثة، الّتي هي إحدى ثمار عصر الأنوار، تجد تجلّياتها التّنفيذيّة في كونها عقلانيّة نقديّة، وفي أنّ ثوابتها لا تُستقى من الدِّين، بل ربَّما ليس فيها ثوابت مطلقاً. فإذا كان الله "أبا الأنوار" في الفكر الدِّيني، فإنَّ أبا الأنوار عند التّنويريِّين هو العقل غير المقيّد، لأنّ العقلانيّة تعني أن يكون العقل حرّاً، لا مشروطاً كما هي الحال في العقل الدّيني، على ما ذهب إليه الأمين العامّ للتيّار الإسلامي اللّيبرالي في العراق أحمد القبّانجي (أنظر مقابلته في برنامج "إضاءات" على قناة "العربيّة" بتاريخ 17/10/2010).

 

 وهذا الطّرح يَطْرُق أسئلتنا الاستفهاميّة عن دواعي مُعاناة شعوبنا ممّا يُمكن أن نسمِّيه أنيميا التجدّد في هذا العالَم العربيّ الّذي لم يفقه بعد معنى المُجتمع المدني. على أنّ ثمّة أسئلة ما زالت مطروحة دونما أجوبة جذريّة وشافية، منها الأسئلة الموضوعيّة التّالية: هل كُتِبَ علينا أن نستعير أشّعة الآخرين؟ وهل ستظلّ أضواؤنا مُعتمِدة على الكهرباء الغربيّة أو البطّاريّة الأوروبيّة؟ ألم يسلك التّنوير الأوروبي في الاتّجاه المُعاكس كردّ فعل على العقليّة الظلاميّة الغارقة في مَحاكم التّفتيش ومغاوره التّكفيريّة؟ ثمّ ألا يحتاج التّنوير إلى إعادة التّوازن المدرحي (المادّي-الرّوحي)- وفقاً لمقولة أنطون سعاده الفلسفية- بحيث لا تتوالى الشّطحات نحو الإلحاد والمادّيّة المُطلقة؟

 

 أيّاً يكُن الجواب على هذه النّماذج من الأسئلة، فإنّ علينا ألّا ننسى بأنّ التّنوير قد باتَ عناصر تكوينيّة في الثّقافة الأوروبيّة مذْ تحقَّقَ ذلك الانعطاف التّاريخي. من تلك المفاهيم: الدّولةُ المدنيّة القائمة على مبدأ المواطَنَة، ومفهوم التّسامح الدّيني، والمساواة أمام القانون، وحقوق الإنسان نظريّةً وتطبيقاً، واعتبار العِلْم والتّكنولوجيا محرِّكَي التّقدّم الاقتصادي، وكذلك مفهوم كرَّسته الثَّقافة المُعاصِرة وهو اعتبار البحث العِلمي أساساً في إنتاج المعرفة.

 

 وربّما كانت أبجديّة ذلك كلّه متمثِّلة في نشوء اعتقاد مُتعاظِم بجدوى التّقدّم، مع ما يعنيه ذلك من إعادة النّظر في اليقينيّات الكلاسيكيّة والافتراضات الغيبيّة، ومن عدم التوقّف عن طرح الأسئلة المعرفيّة، في قلقٍ حفَّازٍ للإنسان غايته الإنسان، وهذا هو المنطلق والأساس.

* باحث في الفكر والحضارات- لبنان


 

 

 
التاريخ: 2021-05-31
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: مؤسسة الفكر العربي - أفق، السبت 28 أيلول 2019
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro