مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
من المتحد إلى المتحد القومي مدخل إلى فلسفة سعاده الاجتماعية
 
عطيّه، عاطف
 

 

 

 

 

تنبني القومية الاجتماعية عند أنطون سعاده( 1904-1949) على مفهوم المتحد. ذلك أن المجتمع الإنساني يتكوّن من متحدات إجتماعية أولية تبدأ من الخلية الإجتماعية الأولى، العائلة الكبيرة، لتنتهي في المجتمع الإنساني بأكمله، مقابل مجتمع كوني آخر، إذا كان موجودًا. والمجتمع التام يكتمل بدورته الحياتية الواحدة، والوعي به من قبل المشاركين في الحياة فيه. وبهذا الوعي، ينقولون هذه المجتمع بتمامه من مجتمع طبيعي إلى المجتمع القومي العارف بخصائصه ومميزاته التي تفرّقة عن مجتمع آخر، أو المجتمعات الأخرى؛ وهي المميزات والخصائص المتحصّلة في مجرى التاريخ، وفي العلاقات الإنسانية في مجرى الحياة اليومية.

 

-1-

 

من المهم القول، بداية، إن سعاده لم ينفرد في البحث في مفهوم المتحد. بل استقى هذا المفهوم مما كان سائدًا في الغرب حول أنماط التجمعات البشرية، والعلاقات بين البيئة والإنسان، ومسائل التأثر والتأثير فيما بين الطبيعة والإنسان، ودلائل ذلك على مدى تقدم المجتمع أو تأخره في مجرى الحياة الإنسانية. وقد ذكر سعاده في كتابه نشوء الأمم أهم المصادر والمراجع التي استند إليها في اشتغاله على مفهوم المتحد، ليصل، في الأخير، إلى تحديد مفهوم المتحد القومي[1].

 

في منهجية العمل البحثي لدى سعاده، لم يأت العمل على مفهوم المتحد مصادفة أو اعتباطًا. بل جاء نتيجة تفكير مليّ في كيفية النظر إلى الواقع الذي تعيش فيه بلاده؛ وهو الواقع الذي تعرض، ويتعرض، إلى شتى أنواع التجزئة والتفتيت على المستويات كافة، بالإضافة إلى الشلل التام الذي كانت تعاني منه، وصنوف التبعية إلتي أظهرت أن الولاءات المتناقضة إلى الخارج، وإيكال أمور الداخل إلى الخارج، أوصلت البلاد إلى تجزئتها، حسب ما تقتضيه المصالح الأجنبية المتصارعة، ودون أي اعتبار لمصلحة الداخل، أو على الأقل، دون أي  احترام للوعود التي قطعها الخارج إلى زعماء الداخل؛ الوعود التي تقضي بالاستقلال، وتسيير الأمور الوطنية، بالتعاون الكامل مع العالم، دون هيمنة أو استعلاء.

 

هذا الواقع حفّز سعاده على التفكير، بالعقل، وبالفعل الذي يقرّه العقل، في كيفية الخروج من حالة التفسخ والتجزئة والإنحلال، إلى حالة تقلب الواقع، ليحلّ واقع مغاير يبدل التجزئة بالوحدة، والإنحطاط بالنهضة القومية، والضعف بالقوة التي هي مبدأ إثبات الحق وديمومته.

 

تفكير سعاده هذا، واشتغاله البحثي، أوصلاه في فترة لا تتجاوز العقد الواحد بكثير، إلى ترجمة هذه الفعل الفكري النظري، إلى فعل ميداني تجلّى في تأسيس الحزب السوري القومي، ومن ثم القومي الاجتماعي، وهو لم يصل، بعد، إلى  التاسعة والعشرين من عمره، مع كل ما رافق ذلك من التشريد والتهجير، وصولًا إلى إعلانه الثورة القومية الاجتماعية، وتسليمه إلى السلطات اللبنانية، ومحاكمته، وتنفيذ حكم الإعدام فيه، في فترة قياسية لا تتعدى اليوم الواحد بكثير؛ وهي محاكمة لم يسبق لها مثيل، أو يلحق، إلا في عمليات الاغتيال.

 

-2-

 

في تحديده لمسار عمله الفكري ونشاطه الميداني، استهل سعاده منهجيته بطرح التساؤل التالي: "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟" وهو تساؤل يُجمل ويختصر تساؤلات سعاده كلها التي تناولت أحقية، أو عدم أحقية، تصرف الأجنبي في بلادنا، وحالات التشرذم، والإنقسام، وأنواع الصراعات الدينية والذهبية والقبلية التي تعوّق نشوء مقومات الاستقلال، وحرية التصرف بمقدّرات البلاد، والحفاظ على تراثها وهويتها الحضارية. وكان هذا التساؤل، ومن ثم التحضير للإجابة عنه، محطة لتساؤل آخر: "من نحن؟" وكان التساؤل الأخير مفتاح الإجابة النظرية والعملية معًا: الإجابة النظرية، تمثلت في العقيدة القومية الاجتماعية، والإجابة العملية تمثلت في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي[2] ذي التوجه الواضح، فكرًا وعملًا، لبعث نهضة قومية إجتماعية، تعيد للأمة السورية عزّتها ونهضتها.

 

في خضم نشاطه العملي، وجد سعاده وقتًا في السجن لكتابة الأسباب التي دعته إلى تأسيس الحزب والغاية من تأسيسه، بناء على طلب محامي الدفاع عنه، حميد فرنجية، السياسي اللامع لاحقًا، وذلك في فترة اعتقاله الأولى سنة 1935.

 

وفي خضم النشاط نفسه، وجد فسحة من الوقت، في السجن نفسه، لكتابة كتابه الهام    "نشوء الأمم" الذي يعتبر الأساس النظري لفكر سعاده، والمنطلق العقدي للحزب السوري القومي الاجتماعي، ومرتكزه الأساسي. ونشوء الأمم هو الكتاب الذي يبحث في كيفية نشوء الأمم،  وتشكّل المجتمعات الإنسانية. وقد أنجزه سعاده في سنة 1936 في مدة ستة أشهر، إلا أنه لم ينشره إلا في سنة 1938.

 

هذان الأثران الهامان، مبادئ الحزب، ونشوء الأمم، يبيّنان أن سعاده ما كان يتسنى له الوقت للإنصراف إلى صوغ نظريته الإجتماعية في المتحد والأمة والقومية، وفي مقومات المجتمع الانساني بشكل عام، إلا في فترات استراحته القسرية في السجن. وظروف تأليف الكتابين تظهر، بما لا يقبل الشك، أن فلسفته الاجتماعية كانت متلازمة دومًا، مع نشاطه العملي، ونضاله السياسي على الخصوص، زعيمًا، وقائدًا، ومنظّمًا لفروع الحزب في البلاد السورية، والمغتربات.

 

من المهم التأكيد، هنا، على أن سعاده، في عمره القصير الذي احتوى مجمل نشاطه الفكري والعملي، بدأ فعلا، وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يتجاوز العقدين والنصف، من فترة حياته، التي انتهت وهو في الخامسة والأربعين. هذه الفترة العمرية، كانت مليئة بالإنجازات الفكرية والممارسات العملية، قلما استطاع مفكر ومناضل آخر من إنجازها في عصرنا. فهو بالإضافة إلى كتاباته الفكرية والأدبية، كان يصدر الصحف والمجلات، أو يشارك في تحريرها في الوطن والمغتربات، وخصوصًا في الإرجنتين والبرازيل. وكان يعطي الأهمية الكبرى للإعلام في مسيرته الفكرية والحزبية، وفي إظهار الوجه النضالي للحزب ونشاطه العملي. كما كان يدير، في الوقت نفسه، الفروع الحزبية في الوطن والمغتربات، ويكتب الرسائل، وينظم الفروع، ويحقق في المخالفات الحزبية، ويعالج الانحرافات العقدية بروح من الديموقراطية والإنفتاح، ويناقش المنحرفين بفكره النيّر، وبالحوار البنّاء. وفي لحظات بعينها، لم يتوانَ عن حلّ الحزب، أو عن طرد أهم أعضاء قيادته، عندما وجد أن ثمة ما يهدد توجّه الحزب، أو يحُول دون الوصول إلى تحقيق غايته، أو ما يمكّن الآخرين من اختراقه، ومن ثم تحويل مساره.

 

في كل هذه الحالات، كان سعاده يعمل ويعمل، دون أن يهتم بما يمكن أن يحصل له من جراء التعب والعمل المتواصل. وكأنه كان يدرك أنه في سباق مع الزمن، علّه في هذه الفترة القصيرة يعيد إلى بلاده، بالفكر والممارسة، بعض الزهو واليقظة، بعد طول تجزئة وتفتيت وانقسام.

 

-3-

 

ليس على سبيل التكرار، القول أن المتحد الاجتماعي هو محور النظام الفكري عند سعاده. ومن خلال تحديده للمتحد على أنه عشيرة أو قرية أو قبيلة، أو إتنية، أو مجتمع محلي كبُر أو صغر، وصولًا إلى المجتمع التام، يؤكد سعاده على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الواقع الإنساني هو واقع مجتمعات إنسانية. والمجتمعات الإنسانية، هنا، ما هي إلا متحدات إجتماعية يمكن أن يصل كل منها في تدرجه من المتحد الأصغر إلى تمامه، أي المتحد الإجتماعي التام. والأمة، حسب سعاده، هي المتحد الاجتماعي التام.  ومفهوم الأمة، كما حدّده سعاده، وكما سنرى، هو الأساس الذي انطلق منه في ممارسته النضالية، وفي تأسيسه للحزب الذي عليه عمليًا، وبإيمان سعاده، أن يحقق وحدة الأمة، ويبعث فيها حيويتها، ونشاطها القومي والتحرري، لتكون الند للأمم الحية، والمجتمعات المتقدمة.

 

جاءت دراسات سعاده في المجتمع وتطوره، إن كان في نشوء الأمم، أو في المحاضرات العشر، أو في مقالاته العديدة، أو في شرحه لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه سنة 1932، وظهر للعلن سنة 1935، كانت بمثابة الخطوات الأساسية، النظرية والعملية، التي توسلها للقيام بعملية التحوّل والتغيير، لإدراكه الأكيد أن عملية التغيير الاجتماعي، مرتبطة بشكل وثيق، بفهم الواقع الاجتماعي، ووعي حركيته الدائمة والمستمرة.

 

فالمجتمع، عند سعاده، واقع طبيعي. وهو يشكل مجرى الحياة الإنسانية، بكل تفاصيلها وأبعادها. والمجتمع هو المجال الجغرافي، أو الحيز الطبيعي، أو البيئة الطبيعية التي تتفاعل فيها عموم العلاقات، بكل أشكالها وتوجهاتها الإنسانية، من جهة؛ وبين كل هذه العلاقات، وبين البيئة الطبيعية ذاتها التي تتحوّل، بدورها، وبهذه العلاقات، إلى بيئة اجتماعية، من جهة ثانية. بهذه العلاقات المتنوعة والمتعددة، على مختلف الصعد الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وبما تنشئه من هذه العلاقات على الصعيد الثقافي العام، تتحدّد المجتمعات وتتميّز فيما بينها، إنطلاقًا من المقولة الأساسية في فكر سعاده: " الصفات تتبع المتحد (المجتمع) لا المتحد يتبع الصفات"[3].

 

إذا كان المتحد التام هو مجتمع طبيعي، فهذا لا يعني أنه وصل إلى مرتبة الأمة. بل يعني أنه يتشكّل من متحدات أصغر، وبدورها إلى متحدات أصغر، حتى الوصول إلى المتحد البسيط الذي لا يمكن بدوره أن يتحوّل إلى متحدات أصغر[4]. وهذا المتحد البسيط هو الذي يشكّل الوجود الإنساني في حالته الاجتماعية، ضمن بيئة جغرافية محددّة. ومن هذا المتحد البسيط يمكن النظر في مفهوم سعاده للإنسان والبيئة.

 

-4-

 

يؤمن سعاده، بما لا يقبل الشك، أن التطور هو التعليل العلمي لنشوء الإنسان[5]. كما يؤمن أن المجتمعات الانسانية ناشئة عن تطورات تاريخية، حصلت، ولا تزال تحصل، منذ فجر التاريخ. ما توصّل إليه سعاده في هذا المجال، كان نتيجة قراءاته الموسّعة والمعمّقة للفكر الغربي، وخصوصًا في مسائل الفلسفة والإجتماع والسياسة. ولكن أهمية ما توصّل إليه من قراءاته، تكمن في قدرته الفذّة وذكائه اللامع على توظيفها، للكشف عن مكامن الخلل في مجتمعه، والمجتمعات المجاورة، المشتركة في الكثير من نقاط التشابه، والمتأتّية من علاقاتها غير المتكافئة مع الغرب الذي أحكم سيطرته عليها. وكان سعاده يدرك تمامًا، من خلال تفاعل الفكر مع الواقع، وما يمكن أن ينتجه الواقع في إغناء هذا الفكر، أن العمل على مفهوم المتحد، والمتحد التام، وبالتالي الأمة، هو وحده الكفيل بتجاوز المشكلات المتأتية من تعدد الأديان، والمذاهب والطوائف، والإتنيات، التي يغتني بها المجتمع السوري، والعالم العربي، دون أن يعني ذلك التقليل من أهميتها، أو إلغاءها.

 

الواقع الإنساني، حسب سعاده، واقع مجموعات اجتماعية، وليس واقع أفراد. هذه المجموعات عُرفت بالسلالات البشرية (المجموعات القرابية) المتشكلة من تطورات متعددة ومتلاحقة، " قبل استقرار البيئة الطبيعية على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الإرتقاء قد مكّن الإنسان من التحوّط ضد اختلاف البيئات"[6]. وإذا كان ثمة ما يتميّز به إنسان عن إنسان آخر، باعتبار أن كلًا منهما ينتمي إلى قبيلة ما، أو سلالة، فهما يتشاركان في الأرض نفسها التي هي الشرط الأول، بمكوناتها الطبيعية، لقابلية وجود الحياة، وبالتالي لوجود النوع الإنساني وبقائه[7]. والأرض، بطبيعتها، تسمح بوجود عوامل مختلفة في تأثيرها على حياة الإنسان، منها: الإقليم والمناخ والتربة، وحياته الاجتماعية، ودرجة ارتقائه التي هي على قدر درجة معاشه.

 

ما يمكن استخلاصه، من كل ذلك، أن واقع المجتمعات البشرية هو واقع بيئات اجتماعية منفصلة بحدود جغرافية طبيعية، جعلت انتشار الإنسان في الأرض، موافقًا للبيئات الطبيعية. وقد حصلت ضمنها تفاعلات إنسانية متميّزة بتميّز المواقع الطبيعية. هذا كله، يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن مدنيّة الجماعة المستقلة مستمدة من بيئتها، لأن الاستنباط والتكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطبيعية[8].

 

من خلال هذا التحليل، نتوصّل إلى الجذور التي استقى منها سعاده مفهومه للمتحد الاجتماعي، باعتباره قبل أي شي بيئة طبيعية تحوّلت، بالفعل الانساني، إلى بيئة اجتماعية. والمتحد الاجتماعي أو البيئة الاجتماعية، بهذا المعنى، هي السبب الأساسي في تميّز المجتمعات الإنسانية. وبهذا الإنتماء للبيئة الطبيعية، تتوفر للمجتمع عوامل التفاعل والاشتراك في الحياة الواحدة، فتتحول من بيئة طبيعية إلى متحد إنساني. والمتحد، بهذا المعنى، وحسب سعاده، هو مجمّع الحياة الاجتماعية، وهو مقر الأحياء المتحدين في الحياة بكل مصالحها[9]. وعليه، فإن لا وجود للانسان إلا في حالته الاجتماعية، لأن "الاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه"[10]. وهو ينفرد، كإجتماع إنساني، بميزتين، مقارنة مع الكائنات الحية، والمتجمهرة على الخصوص؛ وهما: الإستعداد الطبيعي لإبراز شخصيته، من ناحية؛ وإكتساب ما هو خاص به من هذه الشخصية الذي يكوّنه من مؤهلاته الخاصة، ومن خصائص بيئته[11]، من ناحية ثانية.

 

من نافل القول التأكيد على أن إجتماعية الانسان مرّت بأطوار، وهي خاضعة، حسب سعاده، لسنّة التطور. ففي الطور الوحشي، على ما يقول، كانت الرابطة الاجتماعية قائمة على القرابة الدموية التي هي "الوسيلة الأولية لتطبيق المبدأ الإقتصادي للإجتماع – مبدأ التعاون على تحصيل القوت"[12]. إلا أن هذا التعاون لا يسمح بانتشار وتوسع المجموعات الاجتماعية، أي العشائر والقبائل، بحسب سعاده، لأن في هذا الإتساع فقدانًا لمبرّر هذا التعاون بالذات، أولًا؛ ولأن فيه، ثانيًا، مساهمة في فقدان حيوية الرابطة الدموية التي تتراخى، على قدر توسّع القاعدة القرابية. لذلك، يبقى هذا المجتمع صارمًا في تنظيمه القبلي. إلا أن الضرورة الاجتماعية تقضي بانتشار الجماعات البشرية، كما تقضي بانقسامها، بحكم اختلاف البيئات، إلى قبائل. وهذه الضرورة ناشئة عن تراخي أواصر الاجتماع البدائية، إن كان على سبيل التعاون لتحصيل القوت، أو على صعيد الرابطة الدموية التي لا بدّ أن تفقد حيويتها بتوسع القاعدة القرابية والإنتشار الواسع. وما ساهم في هذا الإنتشار، الإحتكاك المباشر، والتصادم، والتفاعل، بين هذه المجموعات الإجتماعية المختلفة. فنشأت، لذلك، المجتمعات الإنسانية المتمازجة، من عناصر هذه الشعوب المختلفة والمتفاعلة، ونشأت الحضارة الانسانية، بحكم التطور والإرتقاء.

 

        تنبثق فكرة المزيج السلالي في أي مجتمع إنساني، من هذا التحليل الذي توسّع سعاده فيه. وما يثبت ذلك، تأكيده على أن اعتزال قبائل محدّدة في أمكنة قصيّة من العالم، جعلها تحافظ على نقاوة دمها، وساهم في إبقائها عند درجة الإرتقاء نفسها قبل اعتزالها، على الأقل لمدة طويلة من الزمن[13].

 

يظهر مما سبق، أن التفاعل الإنساني، على مختلف الصعد، والإحتكاك بين السلالات البشرية المختلفة، قضت على نقاوة الدم وتجاوزتها، من جهة؛ وساهمت في جعل الجماعات البشرية، أو إذا شئت، المجتمعات الإنسانية، تتكوّن بعاملَي المعاش ( الاقتصاد) والإجتماع، على أساس الإختلاط الدموي والمزيج السلالي الذي يدمج المجموعات الصغرى بعضها ببعض، ويولّد منها مجموعة إجتماعية واحدة، على أن "تتوفر مقوّمات نشوء الجماعة الكبيرة، كالإستقرار، وصلاح البيئة، واستتباب تهيؤها للتفاعل والتدامج"[14]. وإلا تبقى الحالة الإبتدائية سائدة، وتبقى أواصر الإجتماع قائمة على رابطة الدم، ولا أمل لها بالإرتقاء.

 

لا يحتاج هذا القول إلى جهد في التفسير، لوضعه في سياق ما يحصل اليوم على صعيد المجتمع السوري، أو على صعيد العالم العربي بكلّيته، للتدليل على النتائج الوخيمة التي آلت إليها الأمور بعد عودة المجموعات الإجتماعية، بأنواعها وتوجهاتها المختلفة، وبشكل سافر، إلى روابطها الإجتماعية الأوّلية. وذلك، بسبب عدم الإستقرار، وعدم استتباب التهيؤ للتفاعل والتدامج، وبالتالي، العجز في الوصول إلى تحقيق مقوّمات نشوء الجماعة الكبيرة.   

 

ينتقل سعاده، من بعد، إلى تقسيم الإجتماع البشري إلى نوعين أساسيين، هما: "الإجتماع الإبتدائي" القائم على رابطة الدم ومستلزماتها، والاجتماع الراقي القائم على سد الحاجات الضرورية للارتقاء والتقدم. وينضوي تحت هذين النوعين من الاجتماع، مجتمعات إنسانية كثيرة تقترب من هذا النوع أو ذاك، وهي جميعًا، وفي كل الأحوال، لا تبقى على حالها المعهود، بل تبقى في حركة وتغيّر دائمين، وفي الإجمال، من الطور الإبتدائي إلى الطور الراقي.

 

لا يخفي سعاده، في هذا المقام، إعجابه الكبير بابن خلدون الذي أبدع علم العمران، واعتبر أن الاجتماع البشري طبيعي، وينتقل بالفعل الإنساني من الطور البدوي (الابتدائي) إلى الطور الحضري[15]. وهما الطوران اللذان يتولّدان من بعضهما بعضًا، باعتبار أن المجتمع البدوي يولّد المجتمع الحضري (الراقي) ويسعى إليه، ولا يلتفت إلى الوراء، بالإضافة إلى تدرّج هذه المجتمعات، بدءًا من التوغّل في البداوة، وصولا إلى التوغل في سبل الحضارة. ويقابلهما في لغة اليوم: المجتمع الأهلي والمجتمع المدني[16].

 

-5-

 

كان البحث في تطور الحياة الاجتماعية عند سعاده بمثابة المقدمة، أو التمهيد، للوصول إلى البحث في المفهوم السوسيولوجي للمتحد. وهو المفهوم الذي عليه أن يبلور ما تعنيه بالضبط مفردة المتحد. المفردة التي تعتبر، كما أسلفنا، النقطة المركزية في فكر سعاده الاجتماعي. وما يمكن التأكيد عليه، هنا، هو أن سعاده ركّز على أن المتحد، بدايةً، ليس أكثر من وحدة حياة جماعة من الناس فوق أرض محددة[17]. بهذا المعنى كل مجتمع هو متحد، وليس كل متحد مجتمعًا. وهذا يعني أن المجتمع أتم متحد، هو المتحد التام المهيّأ وحده لأن يكون المتحد القومي، متحد الأمة، دون غيره من المتحدات الأصغر.

 

يعني هذا الكلام، طبعًا، أن ثمة فرقًا، لدى سعاده، بين المجتمع، باعتباره وجودًا طبيعيًا، وبين الأمة باعتبارها متحدًا قوميًا.

 

بالإضافة إلى كون المجتمع طبيعيًا، عند سعاده، فهو ذو وجود موضوعي، مستقل عن وعي الأفراد به، يسبق منطقيًا، وتاريخيًا، المتحد القومي، أو متحد الأمة. يعني هذا الكلام، أن المفهوم الأخير، متحد الأمة، ينبني على مفهوم المجتمع الواحد، أو المتحد التام. وليكون المجتمع طبيعيًا، أولًا، ومن ثم مجتمعًا قوميًا، لا بد من تحقيق شرط أساسي، لا يستقيم أمر المجتمع الطبيعي، ولا أمر المجتمع القومي من دونه، وهو "أن يكون (المجتمع) خاضعًا للإتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي أن تجري فيه دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله، وتنبّه فيه الوجدان الاجتماعي، أي الشعور بوحدة الجماعة، ووحدة المصير، فتتكوّن من هذا الشعور الشخصية الإجتماعية، بمصالحها وإرادتها وحقوقها"[18]. وهذا يعني، أن هذا المجتمع الواحد هو المتحد التام، الأمة، المدركة لذاتها، ولموقعها في العالم، ولوحدة مصالح المنتمين إليها. إنها، بهذا المعنى، وكما يقول عادل ضاهر، متحد أتم يضاف إليه الوجدان الاجتماعي"[19]. والوجدان الاجتماعي، هذا، ما هو إلا الوعي القومي الذي هو أبرز الظواهرالاجتماعية، عند سعاده[20]. وهو أعظم ظاهرة اجتماعية في عصرنا"[21]، من حيث هو الشعور بشخصية الجماعة[22].

 

-6-

 

من المهم التأكيد، هنا، على أن سعاده كان يدرك تماما، أن ثمة معرقلات كثيرة، يمكن أن تمنع من الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من التطور الاجتماعي. كما يمكن أن تظهر عقبات متلاحقة، في طريق بلورة الوعي القومي، وتنظيمه، لتحقيق وحدة الأمة، وإظهارها على خريطة الأمم المتقدمة، والفاعلة في العصر، في الداخل كما في الخارج، وخصوصًا في العصر الذي نعيش فيه؛ عصر التطرف في كل أشكاله، بدءًا من العولمة التي تفرض نمطًا طاغيًا من ثقافة الإستهلاك، والعودة إلى الروابط الأولية للانتماء، المتجاوزة لمنطق الدولة ومفهوم السيادة، والثقافة الوطنية والقومية؛ وهو المنطق، مع كل تفريعاته، الذي لم تصل إليه مجتمعاتنا بعد، ووصولًا إلى الأصوليات الدينية، وتفريعاتها المتجاوزة بدورها، لكل منطق إنساني، أو وطني، أو قومي، والمعيدة لإنتاج الروابط الأولية للإنسان، في أولوية للإنتماء المذهبي والطائفي، حينًا، وبترافق منسجم بين الإنتماء المذهبي والقبلي، حينًا آخر، وبأولوية مطلقة للانتماء القبلي والقرابي، في أكثر الأحيان؛ دون أن يبقى شيء للإنتماء الوطني أو القومي، إلا في ما ندر. في هذا التقابل، بين العولمة والأصوليات، تماثل بنيوي لم يظهر في هذا الوضوح من قبل.

 

لا شك في أن أولى هذه العقبات ما هو خارجي، منها على سبيل المثال، لا الحصر، الإستعمار بكل وجوهه وأشكاله، العلاقة غير المتكافئة مع الغرب، وبكل تلاوينه، التبعية الإقتصادية والسياسية، الإستسلام شبه التام للثقافة المعولمة، بالإضافة إلى ما تمثّله العولمة بكل مظاهرها.

 

ومن هذه العقبات ما هو داخلي، متشكّلة من عناصر إجتماعية أساسية، منها ما هو إقتصادي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو متعلق بشؤون الممارسة الدينية، من خلال التمفصل المتين بين السياسة والدين؛ ومنها ما هو متعلق بالشأن الثقافي العام، من عادات وتقاليد وأعراف، ولغة وغيرها. وهي كلّها نحت منحى مساعدًا على الإنغلاق الطائفي والمذهبي، والمناطقي أيضًا، من خلال تكثيف الحواجز وإعلاء العقبات في وجه التفاعل الإجتماعي المنفتح، وتضييق المساحة المشتركة للممارسة العملية في الحياة اليومية، وسد منافذ الإحساس والوعي بأهمية المواطنية والحس المدني، والتقليل من أهمية الإيمان بالديموقراطية وحق الإختلاف، والعمل على طمس فكرة المساواة أمام القانون، وتطبيقها عمليًا.

 

أعطى سعاده للمسألة الإقتصادية في المجتمع أهمية كبرى. فهو يعتبر أن الرابطة الأساسية في المجتمع هي الرابطة الإقتصادية. وينظر إلى هذه الرابطة على أنها " مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها"[23]. ولا ينظر إليها من حيث هي " عبارة عن عملية اقتصادية، أو غرض من أغراض الربح الاقتصادي"[24]، المولّد للاستغلال، والمعرقل لوحدة التوجه، ولوحدة الشعور بشخصية الجماعة.

 

بهذا المعنى، يمكن أن تكون الرابطة الاقتصادية، بوظيفتها القومية الاجتماعية، هي الأساس لوحدة الحياة والإرادة والمصير. وخارج هذه الوظيفة، يبقى العامل الاقتصادي المسبب الرئيسي للتفتت والانقسام.

 

ينظر سعاده إلى المسألة السياسية، في الممارسة اليومية، على أنها المعرقلة الأساسية لأي إمكانية للتواصل، أو التنسيق، أو التكامل، بين كيانات المجتمع الواحد، وحتى ضمن الكيان الواحد. ويعتبر سعاده أن السياسة، على هذا الوجه، تؤثّر سلبًا في بلورة مفهوم الأمة اجتماعيًا. وتمنع أيضًا، بالممارسة، تكوين الوجدان القومي ثقافيًا. ولا تعطي الأهمية اللازمة للتنشئة الوطنية المولّدة للحس المدني، والشعور بالمواطنية وممارستها عمليًا. بالإضافة إلى ذلك، يحمّل سعاده رجال السياسة مسؤولية إدخال عوامل العقائد والأغراض على مفهوم الأمة "قبل أن تنجلي في الذهن حقيقة الواقع الاجتماعي"[25]، بحيث يفهمها ويفسّرها كل سياسي منهم، بما يتناسب مع مصالحه وأغراضه.

 

يولي سعاده للعادات والتقاليد والأعراف أهمية كبرى، باعتبارها جزءًا أساسيًا من الثقافة اللامادية للمجتمع، بالاضافة إلى كونها تمثّل روحية "العامة" من الناس، والأكثرية الساحقة من المجتمع. وهي لذلك، تمثل مع النخبة، أو أهل الثقافة العالمة، البنية الذهنية للمجتمع. وهي باعتبارها ظواهر ثقافية - اجتماعية تساعد في عملية الإرتقاء لترسيخ الوجدان القومي؛ هذا إذا كانت منسجمة، ومؤتلفة، ومتناغمة، ومتكاملة، في تنوّعها ضمن إطار الوحدة  المجتمعية. كما يمكن، من ناحية أخرى، أن تعرقل هذا التوجه، إذا كان تنوّعها واختلافها يتوجّهان وجهات انقسامية.

 

كذلك الحال، يعطي سعاده اللغة اهتمامًا بالغًا، باعتبارها المساعدة الأساسية في عملية الإرتقاء، إذا كانت واحدة. ولكن، باعتبار سعاده أيضًا، لا ضرر من وجود لغات أخرى ضمن الإطار المحدّد لحياة الناس ولإرادتهم ومصلحتهم. ذلك أن اللغة، حسب سعاده، وسيلة من وسائل قيام الإجتماع، لا سبب من أسبابه[26]، من جهة؛ ولأن الوجدان القومي قادر، بحكم تكوّنه وبلورته، على إستيعاب الإختلاف اللغوي، أو وجود أكثر من لغة، من جهة ثانية. إلا أن الخطورة في مسألة اختلاف اللغة، أو تعدّدها، حسب التوجه القومي، ومبادئ وحدة المجتمع، يمكن أن يكون سببًا للإنقسام، ولعرقلة وحدة التوجه القومي، إذا اتخذه القائلون به كتعبير عن هوية مغايرة، أو عنوان لانتماء قومي مخالف.

 

أما بالنسبة للدين، فهو، حسب سعاده، وما يعنيه منه، ما تتم ممارسته في عالم الواقع، وفي الحياة العملية. فالدين، قبل كل شيء، وفي مجمله، وفي تسلسل ظهوره في التاريخ،       "ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع الانساني... وهو قد تطوّر مع تطوّر البشرية، ولن ينفك يتطور بتطوّرها. ولكن تطوّره بطيء جدًا، وفي هذا البطء سرّ خطورته"[27]. ويظهر هنا، أن خطورته تكمن في أنه غير قادر، بحكم طبيعته، وتشّكله، على مواكبة التطور الإجتماعي. لذلك يظهر الأمر، حسب المنطق الديني، وكأن المجتمع خارج عن الدين، أو عليه. فيعمل رجال الدين، بالممارسة، على تعبئة المنتمين إلى دين بعينه، بمقتضيات الإيمان الديني. وإذا دعت الحاجة، كما يحصل في زمن التوتّرات المذهبية والطائفية، ومنها زمننا هذا، يعملون على تعبئة المنتمين إلى مذهب بعينه، أو طائفة، بمقتضيات الإيمان المذهبي والطائفي، وهي، بالعادة، أكثر تأثيرًا وخطورة على وحدة المجتمع، بتنوعه الثقافي، وتعدّد مذاهبه وطوائفه.

 

في هذه الأحوال التي يغلب عليها التوتّر والإنقسام، تطغى أولوية الإيمان الديني، والممارسة الدينية، بكل تفريعاتها الشرعية، وباختلاف مذاهبها واجتهاداتها، على عناصر الثقافة المجتمعية. وتتحول الثقافة المجتمعية إلى ثقافة دينية، ويتسمّى الكل باسم الجزء. ويطغى ما يقتضيه الشرع على كل مناحي الحياة أو جلّها، ما قبلها، وما بعد. ويصير من الهيّن إجراء الفرز الإجتماعي على الأساس الديني والمذهبي، في النظر إلى الآخر، وفي التعامل معه.

 

في هذه الممارسة العملية واليومية التي يطغى عليها الشأن الديني والمذهبي، والطائفي بشكل عام، يظهر الدين وكأنه المعرقل لعملية بناء الوجدان القومي. والعرقلة هذه، تظهر على صورة هيمنة الديني على الدنيوي، أو في أحسن الأحوال، المزج غير القابل للانفصال بين القومية والدين، مع العجز عن تحديد الأولوية؛ هذا إذا لم تتحول القومية إلى إتنيات وأقليات، والدين إلى مذاهب وطوائف يمكن أن تكون على قدر هذه الإتنيات والأقليات.

 

منطق التطور، حسب سعاده، لا يقبل بالهيمنة، أو بظرفية الإمتزاج الحضاري. فالتاريخ يُظهر لنا، وفي محطات كثيرة، أن النزاع بين المجتمع والدين، كان ينتهي دائمًا لمصلحة المجتمع[28]. ولأن مصلحة المجتمع قبل مصلحة أي عنصر من العناصر المشكّلة له، حسب سعاده، كان لدى " المجتمعات الإنسانية نزعة إلى إكساب العقائد العامة صفات وألوانًا وأذواقًا في خصوصيات شخصياتها"[29].  في هذه الحالة، وإذا كان الإنتماء الديني جامعًا مانعًا، يمكن أن يشكّل الدين عنصرًا قوميًا يساهم مساهمة فعالة في وحدة المجتمع وفي تماسكه، باعتبار أن الدين في خدمة المجتمع، وليس العكس. إلا أن التعدد الديني والمذهبي، وخصوصًا في المجتمع السوري، يمكن أن يضرّ بوحدة المجتمع، وخصوصًا إذا تحولت المذاهب والطوائف إلى وحدات سياسية، كما هي الحال في النظام السياسي اللبناني، أو في النسيج المجتمعي العام، كما هي الحال في بقية الكيانات السورية، وفي التوجه المضمر لبعض أنظمتها السياسية. فتكون القومية في هذه الحالات، على الأقل، العنصر الجامع، " ويعود الدين إلى صبغته العامة وعقائده الأساسية المتعلقة بما وراء المادة"[30].

 

في هذه الوجهة للعناصر، وهي الوجهة الداعمة لبلورة الوجدان القومي وترسيخه، في حال تغليب المبدأ القومي، دلالة على يقظة الأمة، وتنبّهها لوحدة حياتها. فتدخل في عصر القومية، المرتبة الأرقى في الحياة الانسانية.

 

-7-

 

طرحٌ هذا شأنه، يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن لهذه العناصر الداخلية أن تفعل فعلها في عملية الإرتقاء الإجتماعي، أو عرقلة هذا الارتقاء، بمعزل عن التأثيرات الخارجية الإيجابية والسلبية؟

 

هذا التساؤل يولّد لدينا تساؤلًا آخر: هل نحن، كمجتمعات، خارج الإطار الغربي، على اختلاف تلاوينه وتوجهاته، محكومون بحتمية الوصول إلى المجتمع القومي، في الوقت الذي وصل الغرب إلى عصر ما بعد القوميات، عصر الإتحادات الكبرى والإمبراطوريات؟ أم سنبقى في وضع آخر،أفضل ما يقال فيه أنه عصر ما قبل القومية؟

 

ما يقوله سعاده في هذا المجال هام جدًا، ويستحق دراسة خاصة. ولكن من المهم التأكيد على أن سعاده مؤمن بالتطور الإجتماعي – التاريخي، وبحتمية هذا التطور؛ وهي الحتمية التي يفرضها المجتمع ذاته، وليست الحتمية التي يفرضها مجتمع قوي مهيمن على مجتمع ضعيف محكوم بالتبعية.

 

 فالمجتمعات القومية الكبرى وصلت إلى ما وصلت إليه، بوعيها لموقعها في هذا العالم، ولمحافظتها على هذا الموقع، من خلال وعيها لذاتها ولمصالحها ولحقّها في الوجود، ومن خلال قوّتها، على المستويات كافة، التي سمحت لها بالهيمنة على مجتمعات أقل منها تقدمًا، وليس من خلال تبادل المصالح المتكافئة. وبالقدر الذي حافظت فيه على وتيرة تطورها وتقدمها، عملت على إدخال المجتمعات الضعيفة والمفككة، ومنها مجتمعاتنا العربية، في سياق من التطور اللامتكافئ، والهجين، والتابع لتوجهات المجتمعات المتقدمة. وفي الوقت الذي كانت تعمل فيه دول هذه المجتمعات على صوغ سياستها الداخلية، التدخلية، في حياة الناس، ولمصلحتهم، وذلك من خلال تأسيس وتطوير دولة الرعاية والعناية، كانت المجتمعات الضعيفة، ومنها مجتمعاتنا، مستسلمة لمصيرها، ولما تفرضه عليها المجتمعات المتقدمة في الحرب، كما في السلم.

 

هذا التوجه المختلف بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات الضعيفة، زاد من وسع الهوة بين الفريقين؛ إما من خلال إزالة، أو محاولات إزالة، النتوءات التي يفرزها النظام الرأسمالي داخل المجتمعات المتقدمة، وهندسة ما يمكن أن تكون عليه المجتمعات الضعيفة في الخارج، دون أن يحدها حدّ أو يردعها رادع. ولم يكن ذلك إلا بحكم منطق التوجه الرأسمالي العام الذي وصل إلى قمة هرم تجاوز الرأسمالية إلى مرحلة الإمبراطورية[31] غير المسبوقة، حيث يحكم القوي، من فوق، كل من هم دونه، وبالتسلسل، وصولًا إلى القاعدة. والقاعدة ، هنا، هي المجتمعات الضعيفة التي تقابل كل ذلك بردود أفعال، غالبًا ما ينتج عنها المزيد من التفسخ والإنهيار، أو الإحباط الموصل إلى حد اليأس.

 

-7-

 

هذا المنطق المعولم[32] الذي تفرضه المجتمعات المتقدمة، الغربية على الخصوص، في اتجاه وحيد من القوي إلى الضعيف، يفرض على المجتمعات الضعيفة والمفككة العمل من أجل الوحدة، حسب منطق القومية الاجتماعية، إذا أرادت أن يبقى لها مكان في هذا العالم.

 

وعلى أي حال، ما نلاحظه في هذا الزمن المعولم في كل تفريعاته، أن العالم يتّجه إلى التأكيد على مفاهيم جديدة للحتمية، منها: الحتمية التي يفرضها القوي على حاضره، وعلى موقع هذا الحاضر في العالم، وعلى ما يمكن أن يكون عليه مستقبله؛ والحتمية التي يخضع لها الضعيف في حاضره من خلال ردود الفعل، وفي مستقبله المرسوم من غيره.

 

تجاه هذه المسائل جميعًا، يتبدّى لنا ما يمكن أن يفعله الفكر القومي الاجتماعي، كمحمول، وما يمكن أن يغيّره، من خلال التنظيم والعمل، في توجهات العالم، وفي تغيير معادلات التوازن، لما فيه مصلحة المجتمعات الضعيفة التواقة إلى التحرّر والتقدم.


[1] . أنظر في هذا الخصوص ما قدمه سعاده في تحليله لمفهوم المتحد كما ظهر في كتابات الباحثين في الجغرافية البشرية والسوسيولوجيا في الغرب. وقد أحال القارئ إلى هذه الكتابات في هوامش كتابه نشوء الأمم:

  • أنطون سعاده، الآثار الكاملة، نشوء الأمم، (1938)، الجزء الخامس، 1978، بيروت.

[2] . أنظر الخطاب الذي ألقاه سعاده لحظة الإعلان عن مبادئ الحزب وغايته في سنة 1935، في:

  •  أنطون سعاده، مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته، بيروت. أنظر أيضًا:
  • أنطون سعاده، المحاضرات العشر، 1958، بيروت، وخصوصًا، المحاضرتين الأولى والثانية.

[3] . أنطون سعاده، الآثار الكاملة، نشوء الأمم، (1938)، الجزء الخامس، طبعة 1978، بيروت، ص139.

[4] . أنظر لتوضيح الفرق بين المتحد البسيط والمتحد المركب:

  • عادل ضاهر، المجتمع والإنسان، منشورات مواقف، 1980، بيروت، ص43-47.

[5] . سعاده، نشوء الأمم، مذكور سابقًا، ص23.

[6] . المصدر نفسه، ص38.

[7] . المصدر نفسه، ص43.

[8] . المصدر نفسه، ص46.

[9] . الممصدر نفسه، ص143.

[10] . المصدر نفسه، ص51.

[11] . المصدر نفسه، ص54.

[12] . المصدر نفسه، ص56.

[13] . المصدر نفسه، ص57.

[14]. المصدر نفسه، ص58.

[15]. للتفصيل حول طبيعية الإجتماع الإنساني وطوريه  البدوي والحضري، ومواصفات كل منهما عند إبن خلدون، أنظر:

  • إبن خلدون، المقدمة، دار الجيل، د. ت. بيروت، ص ص132-140.

 [16]. حول مواصفات كل من المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، أنظر:

  • عاطف عطيه، الدولة المؤجلة، دار أمواج ومكتبة بيسان، 2000، بيروت، ص123-154.

[17] . سعاده، نشوء الأمم، مذكور سابقًا، ص 141

[18] . المصدر نفسه، ص165.

[19] . ضاهر، المجتمع والإنسان، مذكور سابقًا، ص42.

[20] . سعاده، نشوء الأمم، ص166.

[21] . المصدر نفسه، ص13.

[22] . شخصية الجماعة، حسب سعاده، هي"مركب اجتماعي- اقتصادي- نفساني يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته، إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه، فهم نفسية متحده الإجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع إبن مجتمعه ويهتم به ويود خيره، كما يود الخير لنفسه".

  • المصدر نفسه، ص13-14.

[23] . المصدر نفسه، ص143.

[24] . المصدر نفسه، ص143.

[25] . المصدر نفسه، ص149.

[26] . المصدر نفسه، ص158-159.

[27] . المصدر نفسه، ص161.

[28] . المصدر نفسه، ص162.

[29] . المصدر نفسه، ص163.

[30] . المصدر نفسه، ص163.

[31] . حول الموقع الإمبراطوري الذي وصلت إليه الولايات المتحدة في عصر الليبرالية الجديدة، الذي تجاوز مرحلة الرأسمالية التقليدية بأشواط، وجعل الهيمنة في العالم تتسلسل بتدرج هرمي من القمة التي تحتلها الولايات المتحدة الأميركية، نزولا حتى القاعدة التي ليس عليها إلا الاستسلام لمصيرها، وللتبعية المفروضة عليها، دون القدرة على الفعل، أنظر للتفصيل:

  • مايكل هاردت، أنطونيو نيغري، الإمبراطورية، ترجمة فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، 2004، الرياض، 592ص.

[32] . للتفصيل حول المنطق المعولم وتأثيره في توجهات المجتمعات الإنسانية، لدرجة لم تعد قادرة على الإمساك بزمام الأمور في بلدانها على مختلف الصعد، وخصوصًا على الصعيد الثقافي، أنظر:

  • عاطف عطيه، الثقافة المعولمة، دار نلسن، 2014، بيروت، 334ص.
 
التاريخ: 2021-05-31
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro