مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
المجتمع والعولمة الثقافية
 
عطيّه، عاطف
 

 

 

    تنطلق الأبحاث التي يحتويها كتاب عولمات كثيرة[1]، المحرر من قبل عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر وعالم السياسة سامويل هنتنغتون، من آليات اشتغال العولمة التي وضعها بيرغر ليبرهن إلى أي مدى يتم التعاطي من العناصر الموضوعة مسبقاً، كفرضيات، إن كان على سبيل الإيجاب أو السلب، أو الخليط بينهما. وقد استكتب المحرران، لهذا الغرض، عشرة باحثين من بلدان مختلفة، من المركز والأطراف، يعملون في المجال الأكاديمي، بحثاً وتدريساً. وكان في ذهن المحررَين أفكار كثيرة خرجت كتباً وأوراقاً بحثية في مؤتمرات وندوات عالمية، منها "صدام الحضارات"[2] لهنتنغتون وكتب وأبحاث كثيرة تحلل وتفسر مقومات الحياة الحديثة لبيرغر[3]. كما في لحظات الإعداد كان يدور في مجال تفكيرهما النظرة المتناقضة للعولمة الثقافية تشمل العالم بأسره. ففي نظر البعض، هي الوعد الحق في قيام مجتمع مدني عالمي يديره السلام وينعم بالديموقراطية؛ وفي نظر آخرين، هي إرهاصات جديدة وخطيرة للهيمنة الأميركية غير المسبوقة تجاوزت الرأسمالية والامبريالية إلى العصر الإمبراطوري[4]، طالت المستويات كافة، لتصل في الأخير، إلى سيادة ثقافة الاستهلاك في العالم كله.

 

العولمة الثقافية في المنظور الغربي

 

    ينظر المحرران إلى هذه المسألة بشيء من الشك والريبة الموصلان إلى ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع من خلال البحث والتحقيق، إن كان بالنسبة للمهللين، أو الحانقين، أو لمن هم بينهما، المهجنين، حسب تعبير بيرغر(ص27)، ووجدا، بتوجيه منه، أن الأفضل والأكثر توجهاً إلى الموضوعية استنطاق البلدان نفسها، وبأقلام باحثين فيها، لمعرفة كيفية تعاطي هذه البلدان مع توجهات العولمة وتداعياتها، تأسيساً على عناصر العولمة الثقافية كما وضعها بيرغر، وتحليل سلوك ذوي العلاقة بالعولمة في هذه البلدان بدءاً من قادتها ومسيّري شؤونها الاقتصادية والسياسية والثقافية وصولا إلى الناس العاديين في ممارسة شؤون حياتهم اليومية. وكان ذلك على الشكل الاتي:

 

  1.  قادة العالم الصناعي المتقدم منتجو "ثقافة دافس" المتعلقة بالمال والأعمال؛

2. المتخصصون في مجال الأعمال مطبقو ما تتطلبه العولمة في شتى المجالات، خريجو "نادي الكلية"؛

3. المثقفون الناشطون في المجالات الأكاديمية والبحثية على اختلافها، بالاضافة إلى نشاطات منظمات المجتمع المدني في داخل المجتمعات وفيعلاقاتها الدولية،       " المثقفون المعولمون".

4. الناس العاديون ذوو الثقافة الشعبية في ممارسة حياتهم اليومية، وبتواصلهم مع تجليات الثقافة المعولمة.

 

   وإذا كان بيرغر يرى أهمية تحليل هذه الظاهرة من خلال تعامل البلدان المختارة للبحث من الناحية الثقافية، فهو يدرك تماماً، أن الثقافة انتاج شمولي يتناول مظاهر الحياة كافة من الاقتصاد إلى السياسة والعلاقات المجتمعية، إن كان في الأعمال التطوعية أو في اللباس أو في صنوف الطعام وضروب التسلية. وبالتالي، النظر في الثقافة المعولمة، نظر في كل ما يفعله الانسان في حياته اليومية باعتباره عضواً في المجتمع وعلى اتصال دائم ومستمر، يتزايد باضطراد وسهولة وسرعة في علاقاته مع العالم.

 

    ينطلق بيرغر في تحليله لظاهرة العولمة الثقافية بأنها في بداية نشوئها. إلا أنها تنمو وتتبلور في منطلقاتها وغاياتها بسرعة فائقة، وبلغة تفوقت على أي لغة أخرى، بل على اللغات جميعاً دون أن تلغي أياً منها. والثقافة المعولمة، بطبيعة تكونها، محمولة من أناس من مختلف المواقع المجتمعية، على تعددها، يرفعون لواءها وينشرون أفكارها، ويحققون بممارساتهم أغراضها في العالم كله، وإن كان هذا العالم يتفاوت، على اختلاف مجتمعاته، في طريقة التعامل مع العولمة الثقافية.

 

    الحامل الأعلى والأقوى لهذه الثقافة هؤلاء القادة الكبار الذين يقودون العالم ويوجهون سياساته على المستويات كافة. أطلق عليهم هنتنغتون اسم أصحاب " ثقافة دافس"(ص16)، أي قادة العالم الذين اجتمعوا في منتجع سويسري ليقرروا ما عليهم فعله في علاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع العالم[5].

 

    يساعد هؤلاء في نشر ثقافة العولمة أعداد ضخمة من العاملين الشباب ذوي التخصصات المتعددة من خلال ممارساتهم العملية التي تجعل من عناصر العولمة قوة فاعلة بما لا يقاس، وعلى كل المستويات، يحدوهم الطموح بالترقي السريع والانخراط أكثر في ثقافة العولمة التي تقرّب بين هؤلاء في طرق الكلام واللباس والسلوك اليومي مع تضخم الحس العملي في تصرفاتهم، وإن كانوا في الأخير ينتمون إلى بلدان متفرقة وأنظمة شديدة التناقض، ما يعني إمكانية فرملة جنوح العولمة، كتداعيات وسلوك، من قبل كل ما هو وطني أو قومي مخصوص يمكن أن يقف على شفير المواجهة مع المنطق المعولم. ومن المهم بمكان أن نلحظ الامكانيات غير المحدودة للعولمة على تقبل معايشة التناقضات المجتمعية مثل الاسلام والعلمانية في تركيا، والشيوعية ونظام السوق في الصين، ويكون الجميع، في الوقت نفسه، في خدمة العولمة الثقافية وفي إغناء توجهاتها.

 

    ولأن العولمة الثقافية لا تكتفي بشقها العملي المتمثل بقادة الحكم والأعمال والمال والمتخصصين في هذه المجالات، فقد أدخلت في صلب عناصرها المثقفين بكل ألوانهم. وعلى هؤلاء، حسب المنطق المعولم، أن يحملوا الشق المتعلق بالثقافة التي عليها أن تطول العالم بأسره، ونشر الأفكار التي تتناسب مع التوجه العملي وتدعمه وترسخ توجهاته. يتمثل حاملو هذا التوجه بالمؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث، ووسائل الاعلام وتكنولجيا الاتصال الحديثة، والمنظمات الدولية غير الحكومية، والمؤسسات الحكومية التي تختلط فيها علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس وأجهزة الاستخبارات، لتقدم جميعها آخر ما توصلت إليه من أفكار وأنماط سلوك، وتصرفات تتعلق بحقوق الانسان وقضايا المرأة، والبيئة، ومسائل التعددية في المجتمع إتنياً ودينياً وطائفياً، مع التركيز على أهمية السلوك والممارسة العملية لما يمكن أن تثيره قضايا فكرية من هذه الأنواع.

 

    يبقى العنصر الأخير والأهم في منطق العولمة الثقافية وتوجهاتها الاقتصادية، وهو ميدان الثقافة الشعبية المخصوصة في كل مجتمع، بحيث يتم التواصل بين حاملي هذه الثقافة، وناشري الثقافة المعولمة بتخطيط اقتصادي شمولي عليه أن يستوعب ما هو " محلي" متميز عن أي "محلي" آخر، وعما هو شمولي في الوقت نفسه. ليصير مع المحلي الآخر ضمن هذه الشمولية، بوعي أو لا وعي من هذه الثقافات الشعبية، وبوعي مكين مما تنشره العولمة الثقافية بأدوات عمل منظورة وخفية قوامها وسائل الاعلام والاعلان والسلعة الشعبية. والغاية، خلق أو تحضير جمهور يقتفي ما يريده أهل المركز، ويعمل على ممارسته، وعلى إدخاله في نمط سلوكه الناشئ، على مرونة في التعاطي مع كل ما هو جديد، وخصوصاً لدى أصحاب العمار الصغيرة والشابة. فتنتشر، لذلك، الأحذية الرياضية والجينز والتي- شيرت والمشروبات الغازية والماكولات الجاهزة والوجبات السريعة، ويترسخ التعلق بالمباريات الرياضية والموسيقى ذات الايقاع السريع، والمبالغة في اقتناء الأدوات الالكترونية والسرعة في استبدالها، وإن كان لا يلزم ما استجد من خدمات هذه الأجهزة.

 

    هذا كله، عليه أن يدخل في عملية تنميط ثقافي وقبول، وإن على مضض من ذوي الكلمة المسموعة في الاسرة، أو المجتمع، وإن بدأت هذه الكلمة بالخفوت، باسم التطور ومنطق التقبل لكل ما هو جديد. وبعد ذلك تأتي زيادة وتيرة الاستهلاك بما يخدم المنطق المعولم والثقافة المعولمة لتصير، في المحصلة، غاية بعد أن كانت وسيلة.

 

    يبقى حاضراً في ذهن بيرغر القول أن العولمة الثقافية ذات تأثير شمولي ساطع حتى على الذين يرفضونها (ص25). وهي تقابل بردود أفعال متباينة وحتى متناقضة. ولكن الثابت، حسب قوله، أن المستحيل تجاهلها أو البقاء خارجها، إلا لمن أراد أن يبقى على هامش التاريخ. وشموليتها لا تعني أن توجهاتها دائماً ذات وجهة آحادية الجانب، بل من ضمن منطقها الشمولي ذاته أن يكون التوجه معاكساً، أي من الأطراف باتجاه المركز بفروعه المختلفة والمتباينة. والعولمة بتوجهها الثقافي صانعة لمنطق ينظر إلى العالم باعتباره الميدان الأوسع لاشتغاله. ولا فرق بعد ذلك في الوجهة أو الهدف.

 

    ولكن من المهم القول أن المنطق المعولم، في الوقت الذي يصنع شموليته، لا يتيح التكافؤ في الفرص، ولا يوازي بين المصالح المعولمة ومصالح مجتمعات العالم ودولها. ويبقى في كل حال، الأقوى الذي يحكم والأضعف الذي ينصاع. يبقى منطق القوة الذي بدأ مع بداية التاريخ، وسيرافقه إلى نهايته.

 

    في هذا الاطار، من الضروري عرض أمثلة من الدراسات التي تناولت تعاطي البلدان مع ظاهرة العولمة الثقافية. وقد تم اختيار تركيا والصين لاعتبارات متعددة؛ منها أن تركيا ذات الانتماء الساحق لمواطنيها إلى الاسلام كدين وحضارة، هي أيضاً ذات نظام علماني وضع الدين جانباً في شؤون الحكم والسياسة، ولكنه أفسح في المجال، وفي الفترة الحالية، للاسلامين في تولي شؤون الحكم. وقد أظهر هؤلاء توجهاً واضحاً في التركيز على إظهار العلاقة المفصلية بين الاسلام والسياسة، ونظرة الاسلام إلى الدولة والمجتمع، وإلى أصناف الممارسة العملية اليومية. وهذا كله يشكل مفارقة جديرة بالتأمل والدرس.

 

    كذلك الصين، فهي دولة شيوعية ذات نظام شمولي موجه وإيديولوجية ماركسية- لينينية وماوية تعمل على تثبيت حضورها وتقويته على المستوى السياسي بتوسل الثقافة، بما هي تجليات وطنية وعالمية في الاقتصاد والفن والرياضة والتراث، فأدارت بذلك العولمة الثقافية بدل أن تنفعل بتوجهاتها، وأخضعتها لمنطقها الشمولي كدولة قوية، بدل أن تخضع للمنطق المعولم كقوة شمولية مقابلة. مفارقة ثانية تدعو أيضاً ألى التأمل والدرس.

 

 

أولاً: تركيا والعولمة الثقافية

  

  عالج مسألة العلاقة بين تركيا والعولمة الثقافية باحثان تركيان[6] وجدا أن أولى بوادر التغيير التي أدت إلى هذه العلاقة، التزامن بين تداعيات العولمة ويقظة الشعور الاسلامي في تركيا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وقد أظهرا نوعاً من المواءمة والملاءمة بين توجهات العولمة، وما يفصح عنه الاسلام، على المستوى الاقتصادي من خلال استلهام ما يقوله الاسلام في تنمية العلاقات الاقتصادية وتطبيقه في أكثر المنظمات الاقتصادية قوة في تركيا، بحيث يمكن الكلام على ما يمكن أن يكون إسلاماً اقتصادياً؛ وعلى المستوى الثقافي بالنسبة للقضايا التي بدأت تتوجه توجهاً إسلامياً بتأثير تداعيات العولمة، واستجابة لتحدي التوجه المعولم، باسم التراث والأصالة؛ هذا التوجه الذي يعمل على فرض ثقافة استهلاكية تتجاوز الثقافات المحلية والقومية (ص426).

 

    ما يؤكد عليه الباحثان أن العولمة دخلت إلى تركيا، واستجابت هذه لها، انطلاقاّ من فكرة أساسية تعتبر أن العولمة ليست ضد الاسلام ولا ضد المسلمين. ويعتبران أن العولمة حفّزت المجتمع التركي بعناصره الحديثة والتقليدية الاسلامية على الدخول في فلكها؛ أولاً، لاعتبار أن الاسلام قابل لأن يتعولم، والاقتصاد كذلك؛ ثانياً، لاعتبار أن الاقتصاد لا بد أن يكون ذا قوة عالمية لا يمكن لجمها أو الخروج منها، أو البقاء على هامشها. وهنا يمكن أن تتمفصل قوتان عالميتان لهما القابلية المؤثرة في توجه العولمة وفي مسارها، هما الاسلام كحضارة وتوجه عالميين، واقتصاد لا مكان فيه للاقليمية أو المحلية إلا بقدر استجابته للمنطق المعولم (ص427). 

 

    وإذا كانت هذه الامكانية متوفرة، فإن تداعيات جمة لا يمكن تفاديها تنبثق عن إمكانية التعايش هذه، في حال تحققها؛ منها، ما يمكن أن يحصل نتيجة تصادم القيم الغربية الناشئة، على رسوخ، من تجليات العولمة بكل أشكالها، مع القيم المجتمعية التركية الناشئة من تاريخ الأتراك الطويل، ومن قيم الحضارة الاسلامية والمشرقية بكل أشكالها.

 

    والأخطر من ذلك أن التعاطي مع هذه القيم المتصادمة أو المؤتلفة لا بد ان يحصل بطرق مختلفة ومتباينة، وربما متصارعة محلياً، كما في التعاطي بين الداخل والخارج. وينشأ ذلك عن حتمية الاختلاف في كيفية التعاطي مع كل ما هو وافد. ذلك أن هذا الاختلاف يكون، عادة، منطلقاً من خلفيات ثقافية، اقتصادية وسياسية، وحتى دينية ومذهبية، في كيفية التعامل مع كل ما هو جديد. وما هو جديد وتغييري، غالباً ما يأتي من جهة الغرب، موقع الحداثة التي لا تستقر على حال. وفي هذا المجال من المهم القول أن تأثيرات العولمة الثقافية، شأنها شأن أي محصلة تغييرية حصلت في تركيا أو غيرها، ذات أبعاد مختلفة وطرق استجابة متباينة تبدأ من أقصى درجات التأييد والقبول والمحاكاة، إلى أقصى درجات الرفض والقطيعة، وإن قبل الرافضون والمقاطعون بآخر ما توصلت إليه منجزات العولمة من تكنولوجيا التواصل واستعمالات الناس في حياتهم اليومية.

 

    يحدد الباحثان الثلث الأخير من القرن العشرين كمحطة، يتفق عليها العاملون في الشأن العام، ادخلت التغيير في الحياة المجتمعية التركية. ويتمثل هذا التغيير بالدخول القوي لتركيا في عصر الليبرالية الجديدة، وانخراطها في منطق الاقتصاد العالمي، بصرف النظر عن موقعها في هذا الاقتصاد. وتزامن هذا مع نهوض ملموس وقوي للاسلام السياسي، المتزامن مع مناطق أخرى من العالم الاسلامي؛ وهو النهوض الناشئ والمتبلور نتيجة الفعل الثقافي والسياسي والاقتصادي المنقوص للعلمنة التركية التي لم تنجح في سد الفراغ الذي دخل منه الاسلاميون لممارسة نشاطهم المتزايد في شتى شؤون الحياة المجتمعية التركية (ص429). وهذا ما أكد عليه الباحثان ليستنتجا أن عملية تحديث المجتمع التركي كانت ذات رأسين فاعلين: الليبرالية الاقتصادية الغربية، باسم الحداثة؛ واليقظة الاسلامية، باسم الأصالة.

 

    في هذا المجال، لا يمكن أن تفعل العولمة الاقتصادية فعلها في المجتمع التركي بمعزل عن العولمة الثقافية التي يحمل منها الغرب الجزء الأكبر، بحضارته وقيمه وفكره وتكنولوجياته وتوجهه الاعلامي ووسائل اتصاله، مع ما يمكن أن يحمل، مما تبقى، الاسلام التركي بثقافته وتوجهه واستراتيجياته. هنا تكمن الاشكالية الكبرى في هذا التلاقح الثقافي المدعوم، بلا توازن موصوف، لا يترك مجالاً لامكانية الاختيار، أو الفعل، إلا بما يخدم توجه العولمة ثقافياً واقتصادياً وسياسيأ.

 

    هنا يستدرك الباحثان ليقولا أن العولمة الثقافية في تركيا ليست انعكاسا للقاعدة الاقتصادية، بل هي ذات سمات خاصة. ومصادر الحداثة التركية ليست وليدة الاقتصاد ولا العولمة الاقتصادية بل هي نتيجة سيرورة ثقافية طويلة تمخض عنها المجتمع التركي نتيجة تجربته الطويلة مع العلمنة (ص429)، تتداخل فيها العوامل الاقتصادية مع العوامل الثقافية الناشئة من تاريخ حضاري طويل، ومن سمات دينية تعطي للاقتصاد، كما لغيره من عناصر مجتمعية، مواصفات تنبثق من الحرية والعدالة والاحسان.

 

    توصل المتعاطون في الشأن الثقافي العام في تركيا إلى نتائج في غاية الأهمية من خلال تجربتهم التاريخية مع نظامهم السياسي الاجتماعي.

 

    تجلت أولى هذه البوادر بنقد الفكر العلماني التركي باعتباره المصدر الوحيد للحداثة. ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة في النظر إلى العلمنة التركية إلا ببروز ما يمكن أن يشكل البديل، أو على الأقل، الند للفكر والممارسة العلمانيين، وهو الاسلام السياسي، حسب ما يرى الباحثان، باعتباره صاحب نظرة إلى كيفية إدارة شؤون المجتمع، من ناحية؛ ومعبر عن هوية محددة وموسومة بطابع خاص، في مقابل، أو في مواجهة، العولمة باعتبارها انتاجاً غربياً نشأ في ظروف اجتماعية تاريخية مغايرة. إلا أن القيمين على شؤون الاسلام "الحديث" يعتبرون أن الاسلام السياسي، بما هو قائم، لا يستقيم نهجه بدون التفكير الفعلي بالحداثة والعيش في قلب العصر، ما يعني البحث في مسألة الديموقراطية، فكراً وممارسة، وتنمية الاهتمام بالمجتمع المدني ومؤسساته، والبحث في فكرة المواطنة وتأصيلها تاريخياً، أو العمل على ترسيخها في الذهنية العامة وتنمية الوعي بالحقوق والواجبات.

 

    ما كان لتركيا أن تتوجه هذه الوجهة لولا الأحداث الجسام التي حصلت في العقد الأخير من القرن العشرين، المتمثلة بانهيار الاتحاد السوفياتي، وبروز القطب الواحد، وخلط الأوراق الجيوسياسية في المنطقة. فكان لهذه التغيرات الفائدة القصوى لتركيا التي وجدت نفسها في موقع سياسي واستراتيجي جديد، كان عليها أن تثبت جدارتها في اعتلائه والمحافظة عليه وتثبيته. وصار التطلع إلى لعب دور إقليمي وعالمي من أولويات استراتيجياتها قومياً ودولياً، بفعل تغير النظرة إلى الدولة القومية ومبادئها، والتطلع إلى لعب دور منظور على المستوى العالمي، عبًر عنه بشكل واضح أحمد داوود أوغلو، الذي أصبح وزيراً للخارجية التركية، في كتابه القيّم"العمق الاستراتيجي"[7]. ويظهر فيه بشكل جلي ذلك الترابط المقيم والحديث بين دول العالم ومجتمعاته بتأثير العولمة التي حولت العالم إلى مجرد قرية كونية.

 

    هذا التوجه الجديد في المنطق المعولم، مع إمكانية فهمه على هذا النحو من الأطراف، يقتضي تعديل الفهم شبه المترسخ للدولة القومية بسياساتها واستراتيجياتها التي تعطي للشأن السياسي الأولوية المطلقة في التعامل مع شتى المسائل المتعلقة بوجودها، وبوجود المجتمع الذي تديره، ليعاد ترتيب الأولويات، ولتعود الثقافة فتأخذ مكانتها في التعاطي مع شؤون المجتمع كافة، ومنها الشأن السياسي بالذات. فتكون الثقافة بذلك هي التي تحدد الأولويات، وما يمكن فعله، وما يمكن تفاديه، بحكم طبيعتها المتغيرة والمتقبلة لكل جديد، وباعتبارها صانعة للحداثة، وغير مقيدة بمفاعيل الدولة القوية وسياستها القائمة على ثبات الدولة وثبات القوة.

 

    هذا الاهتمام الزائد بالشأن الثقافي يضع المجتمعات غير المنتجة للعولمة بمعناها الثقافي والاقتصادي والتكنولوجي في مأزق التوليف بين ما هو قادم إليها على أجنحة التغيير، وبين ما هو ثابت وراسخ في تاريخها وحاضرها. وعملية التوليف هذه التي لا بد منها، خطيرة وصعبة في توليفها وفي التحضير لامكانية العيش بين ما هو تقليدي راسخ، وما هو حديث ومحفز على تقبله (ص431). والصعوبة والخطورة هنا تكمنان في الطريقة التي يمكن اتباعها لأخذ ما هو حديث، مع الحفاظ على ما هو راسخ من القيم والتقاليد والتراث الذي يسم الحضارة المعنية، بكاملها، بميسمه. والحضارة هنا، تشمل كل شيء، وليس العنصر الديني فحسب. هنا يقترح الباحثان فكرة تؤالف بين التقليد والحداثة. ذلك أن العولمة تشرّع الأبواب لإيقاظ التقاليد ونشر التراث، وإظهار كل ما هو محلي باسم العولمة، وباسم التراث الانساني، من باب الافساح في المجال ليشاهد العالم  المنجزات الوطنية ذات الطابع الانساني للتأكيد على المشاركة في الحضارة الانسانية.

 

    وإذا كان على الباحثين أن يستكشفا تأثير العولمة على المجتمع التركي إنطلاقاً من العناصر الأربعة التي حددها بيتر بيرغر في مقالته المعتبرة، بدءاً برؤوس العولمة الاقتصادية والسياسية، وصولاً إلى العاملين على تبنيها ونشرها في البيئات المجتمعية المختلفة، فإن هؤلاء يعتبرون أن الهم الأساسي هو تشكيل الحياة الاقتصادية بما يتناسب مع توجهات السوق العالمية وتراكم رأس المال، ولا يهم في ذلك إذا كان القائمون على تطبيق هذا التوجه من الاسلاميين أو العلمانيين. وما يهم، في المحصلة، التأسيس لكيفية الملاءمة بين منطق السوق العالمية والاقتصاد الاسلامي؛ والعمل على تحفير انبثاق رأس مال إسلامي ضمن منطق التعايش العلماني- الاسلامي في تركيا (ص432).

 

    هذا التوجه االمعولم لا يكتمل بدون العمل على تشكيل مجتمع مدني حديث يؤمن بالديموقراطية، ويفسح في المجال للتعبير، بأشكال مختلفة، عن الهوية والديموقراطية، وحق الاختلاف والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير في المناقشات التي يمكن أن تحتدم بين مختلف أطياف المجتمع المدني، وخصوصاً بين العلمانيين والاسلاميين حول جدوى، أو عدم جدوى، الدخول في العالم الأوروبي، أو الانخراط أكثر في العالم الذي يدين بالاسلام، ومدى تشكل حياة ثقافية مبنية على الاسلام، ولها موقف سوسيوسياسي من الحداثة الغربية. والأهم من ذلك كله أن تكون هذه المواجهة من ضمن منطق الثقافة الاستهلاكية المعولمة.

 

العولمة بين الثقافة والاقتصاد

 

    يعتبر الباحثان أن من المسلّم به التأكيد على أن الاقتصاد التركي دخل في مجال العولمة الاقتصادية منذ نهايات القرن العشرين. وتمتع الاقتصاد المعولم بالأولوية على الاقتصاد الوطني. وأدرك الاقتصاديون الأتراك أن الدخول في مسالك العولمة تقتضي اعتماد العقلانية ورسم الاستراتيجيات لبناء اقتصاد متين يقوم على التكنولوجيا والانتاج. وهذا يتطلب اعتماد خطاب حديث يقوم على حرية السوق وتشجيع الاستثمار والافساح في المجال لنشوء المؤسسات الاقتصادية على أي هوية أو توجه (ص433).

 

     انبثق هذا التوجه من مفاعيل حياة اقتصادية رتيبة في تركيا تعتمد على صناعات وطنية لا تختص بهوية معينة. ومع نشوء ظاهرة العولمة في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ظهر في تركيا ما عرف باسم الاقتصاد الاسلامي، ورشح نفسه ليدخل في صلب التنمية الرأسمالية التركية باعتبار أن الاقتصاد الاسلامي منفتح على إيديولوجيا السوق الحرة مستلهماً مبادئ غربية فيبرية تتمثل بالعقلانية والمعرفة والتكنولوجيا والخبرة (ص434). وعلى هذا الأساس، ظهر تنظيم اقتصادي تركي- إسلامي على جانب كبير من الأهمية، وهو رابطة الصناعيين وأرباب الأعمال المستقلة (الموسياد). وهو التجسيد العملي لامكانية تعايش الاسلام مع الليبرالية المتمثلة اقتصادياً بالسوق الحرة.

 

    يعزو الباحثان ارتباط هذا التنظيم بالاسلام انطلاقاً من انتماء أعضائه إلى طوائف وطرق مذهبية مختلفة. ويعتبرون أن الاسلام الموجه الأساسي لنشاطاتهم على مختلف الصعد. ولهم علاقة وثيقة مع الأحزاب السياسية الاسلامية في تركيا. وأهم ما اعتمده لترسيخ نجاحه، امتداده على مساحة واسعة في تركيا، واعتماد الثقة المبنية على وحدة الإيمان الديني.

 

    لا شك أن تأسيس الموسياد، كاستجابة لاقتصاد اسلامي ممكن الحدوث والنجاح، لم يأت ليلبي حاجات اقتصادية وسياسية تركية، فحسب؛ بل بالاضافة إلى ذلك، جاء للتأكيد على إمكانية تعايش نشاطات اقتصادية مختلفة المصادر والتوجهات الإيديولوجية. وهذا بحد ذاته، مطلب معولم بامتياز. ويدل على أن توجه العولمة يقضي بتضافر مساهمات جميع أطياف المجتمع على اختلاف توجهاتهم. وهو بحكم توجهه يمنع الاقصاء والتهميش، ويمد شرايين المجتمع بدماء اقتصادية جديدة، ما كان لها أن توجد في ظل الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تفرضها توجهات الدولة القوية، ويقودها ماسكو زمام الأمور فيها، اقتصادية كانت، أو غيرها.

 

    من هنا جاء تعايش هذه المنظمة مع المنظمة الاقتصادية العلمانية التي بقيت ذات الشأن شبه الوحيد في تركيا قبل إرهاصات العولمة وترسيخ توجهاتها على صعيد العالم كله. ولا يستقيم الكلام على الاقتصاد التركي، اليوم، دون إشراك الموسياد مع التوسياد، التنظيم المهيمن حتى أواسط السبعينيات من القرن المنصرم. ما يعني اقتسام الحياة الاقتصادية التركية بين العلمانيين، أصحاب الشأن في الماضي، والاسلاميين الذين أصبح لهم شأن كبير في الحاضر. وهذا، بطبيعة الحال، ما يتناسب مع تعددية العناصر الاقتصادية ذات الاستراتيجيات المختلفة التي تعتبر من صلب توجهات العولمة، في الاقتصاد كما في الثقافة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى نشوء تنظيم ثالث عرف بـ"السياد" يستلهم المبادئ نفسها في وجوب إشاعة الديموقراطية والتعددية في تركيا على الصعيد الاقتصادي، كما على الأصعدة كافة، انطلاقاً من مبدأ أساسي وراسخ، هو وجوب إشاعة الديموقراطية التي لا إمكانية لإقامة أي تحديث أو تنمية بدونها، وفيهما تترسخ فكرأ وممارسة[8].

 

المجتمع التركي والعولمة الثقافية

 

    يمكن القول أن العولمة هي صانعة المجتمع المدني في تركيا بطرق ما. وقد ترافقت هذه الصناعة مع طرائق تفكير في كيفية التخلص من القبضة الحديدية للدولة التركية، والافساح في المجال لقوى تغييرية ناشئة بدأت تلعب دورها في السياسة التركية. ولم تظهر هذه المؤسسات المعبّرة عن تطلعات الشعب التركي إلا نتيجة الفراغ الذي لم تستطع الدولة بأجهزتها كافة تغطيته، إما للانفصال الواقع بين الدولة والمجتمع، أو لانشغال الدولة في كيفية تثبيت حضورها وترسيخه في عالم يتجه نحو التغيير على كل الأصعدة، بالاضافة إلى عدم قدرتها على الاستجابة لمتطلبات التغيير(ص447).

 

    وإذا كان المجتمع المدني، بمؤسساته كافة، صنيعة التوجه المعولم الذي أوجب العمل على الاستجابة لمقتضيات التغيير في العالم أجمع، فإن نجاحها ما كان ليحصل في فترة قياسية لولا عمل الدولة ونشاطها الذي لا يزال مستمراً باعتبارها دولة القوة والاستئثار، فأوجدت بنشاطها التقليدي أزمة موروث تضافر مع عملية العولمة الثقافية لخلق زيادة ملحوظة في منظمات المجتمع المدني (ص447). وإذا كان المجتمع المدني، بمبادئه وعناصره كافة "موضة" العصر، وانتاجاً كوكبياً بامتياز، فهو صار مطمح المجتمعات المؤثرة والمتاثرة بالمنطق المعولم، ويشكل اعتماده عنوان الدخول في عصر الحداثة. ولهذا لا يجد العاملون في قضايا المجتمع المدني بداً من اعتبار العولمة الثقافية صانعة للمجتمع المدني ولتأثيراته في العالم كله.

 

    بهذا المعنى، يعتبر الباحثان أن المجتمع المدني التركي بعناصره كافة من مؤسسات وتوجهات وناشطين هو حصيلة العولمة الثقافية، وأداة فعل لمواجهة عناصر الدولة القوية بكل مقوماتها، مؤسسات وسياسيين ورجال حكم وحارسي إيديولوجيا. وعلى هذا الأساس ازدادت أعداد مؤسسات وناشطي المجتمع المدني التركي باعتبارها ناشرة الديموقراطية ومدافعة عنها، وعاملة على انخراط تركيا في المنظومة الأوروبية ذهنيةً واتحاداً، وعنصراً أساسياً في إدخال تركيا، مجتمعاً ودولة، في عصر الحداثة، " وصولاً إلى تمكينها من تحويل نفسها إلى منظومة سياسية تكون سلطتها ونشاطها خاضعة لمحاسبة المجتمع" (ص447).

 

    وصل تأثير مؤسسات المجتمع المدني التركية إلى مرحلة المشاركة في العمل السياسي، بخطابها الذي يتناول الحقوق المدنية، وما يمكن أن يكون عليه المجتمع في علاقته مع الدولة. بهذا الخطاب المعياري المستمد، بخطوطة الأساسية من تداعيات العولمة الثقافية، دخلت مؤسسات المجتمع المدني معترك الحياة السياسية في تركيا، وساهمت في إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمجتمع على حساب مقومات الدولة القوية في تركيا(ص448).

 

    يربط الكاتبان بين متغيرات العلاقة في الداخل مع تجربة العلاقة مع الخارج من خلال ما تعرضت له تركيا من كوارث ساهمت في إظهار أهمية المساعدات وسرعة تلبيتها من قبل المنظمات المدنية ذات الامتداد الدولي، وهو ما لم تستطعه الدولة القوية. هذا ما ساهم، بالبرهان والتجربة، أهمية هذه المؤسسات، وأهمية تمتين العلاقات الانسانية معها بتجاوز الحدود القومية، وعبورها إلى مساحات رحبة تلتقي فيها الانسانية جمعاء. وهذا أيضاً، ما رسّخ وجود هذه المؤسسات في تركيا، بصرف النظر عن كونها وطنية أو دولية غير حكومية، ونشَرَ المبادئ التي تطول حقوق الانسان، والإيمان بالديموقراطية فكراً وممارسة. إلا أن ذلك لم يمنع الباحثين من التأكيد على أن المنظمات المدنية في تركيا تدرك تماماً خطورة التماهي مع متطلبات العولمة (ص449) والسير في ركابها دون الحفاظ على هويتها وخصوصيتها الثقافية. ذلك أنها تنظر بعينين متناقضتي النظرة في تعاملها مع العولمة. فهي تنظر بعين إلى الوراء لتحتوي تراث مغرق في القدم، وترى من الواجب المحتم الحفاظ عليه باسم الأصالة؛ وتنظر بالعين الأخرى إلى الأمام لتحاول استيعاب ما يحصل في عالم حديث كل شيء فيه قابل للتغير ودائم التغير. وتدرك في الوقت نفسه، أن التحولات في المجتمع التركي ما كان لها أن تحصل بهذه السرعة لولا تأثيرات العولمة.

 

    هذه الحيرة في التعامل مع تداعيات العولمة، بين ما هو إيجابي وما هو سلبي، تجعل المجتمع المدني التركي ينشط في حالة من الارتباك بين اعتمادها بالكلية، أو بما يتناسب مع تاريخها وأوضاعها، مع التأكيد، بسبب اللاتوازن، على أن خطورة العولمة وتأثيراتها السلبية لا بد حاصلة في المدى البعيد، ليس على المستوى الاقتصادي، فحسب؛ بل أيضاً، وبشكل أساسي، على المستوى الثقافي.

 

    لا شك أن التنوع في مصادر النظر إلى المسألة الاقتصادية التركية في علاقاتها الداخلية، وفي علاقاتها مع الخارج، يشي بتنويعات أخرى تطول مختلف جوانب الحياة المجتمعية التركية. وبالتالي يطول هذا التنوع رؤية مؤسسات المجتمع المدني لظاهرة العولمة. وخلفيات النظر هذه، متأتية من مواقع وإيديولوجيات مختلفة؛ منها ما يرى العولمة وبالاً على المجتمع والهوية والتراث والتاريخ، تتمظهر بلباس جديد يخفي معالم الاستعمار والامبريالية، وبتوجه جديد تظهر فيه معالم النزعة الامبراطورية، وبإرادة هيمنة ترى العالم كله مسرحاً لعملياتها. هذا في الضد. ولكن ثمة مؤسسات أخرى تنظر إلى العولمة باعتبارها ظاهرة عالمية شاملة لا يمكن استبعاد تأثيراتها، كما لا يمكن البقاء حيالها على الهامش. فالتعامل معها حتمي، والمسألة هي في كيفية الافادة من توجهاتها وتداعياتها الإيجابية، والتخفيف من حدة سلبياتها. وفي تحديد الإيجابيات والعمل بمقتضاها، وفي تحديد السلبيات والعمل بما يضمن التخفيف من أضرارها، يمكن الدخول في زمن العولمة بأقل ما يمكن من الخسائر.

 

    يحدد الباحثان الإيجابيات في ما يمكن أن يطرأ من تغيرات في العلاقة بين الدولة والمجتمع، بما يضمن مشاركة جميع الأطياف في بناء وتنمية المجتمع والدولة. أما السلبيات فيحددانها بما يمكن أن يجعل المجتمع والدولة تحت هيمنة الليبرالية الجديدة وإيديولوجيا السوق الحرة (ص449). ويقدم الباحثان في هذا السياق ثلاثة نماذج لتوضيح علاقة هذه المؤسسات بالعولمة.

 

  • رابطة حقوق الانسان التركية التي ترى في العولمة نقطة ارتكاز للبلدان القوية في علاقتها مع العالم. وتعتبر أن العدالة والديموقراطية شرطا نجاح العولمة في إدارتها الكوكبية.

 

  • المنظمة الثانية، حقوق المظلومين، ذات التوجه الاسلامي التي تعتبر أن العولمة الثقافية مجال رحب لنشر نشاطاتها، وإن كانت لا تتوافق مع توجهات الثقافة المعولمة.

 

  • أما المنظمة الثالثة فهي جمعية مواطني هلسنكي التي تعتبر أن العولمة الثقافية ذات وجهين، ولا بد من التعامل معها بجدية خطاب حقوق الانسان في العالم كله.   

 

    إلا أن ما يهم الكاتبين هنا، مدى قيام هذه المنظمات بجهود فعلية من حيث علاقاتها بالدولة، ومضمون نشاطها، وتوجهاتها المعيارية والإيديولوجية[9].

 

    وإذا كانت هذه المنظمات لم تصل بعد إلى تحديد موقعها واهتماماتها والعمل عليها حسب مقتضيات النشاطات المدنية داخل المجتمع، ومن خلال تواصلها مع الخارج، إلا أنها بدأت تعي أهمية العمل على قضايا إنسانية وتنموية محددة، تاركة الاهتمام بالقضايا العامة غير المحددة والإيديولوجيات التي تكتفي بالنظريات، للانخراط أكثر في قضايا المجتمع والانسان، ليصح عليها، بعد ذلك فعلاً، اسم منظمات المجتمع المدني (ص452).

 

العولمة الثقافية والاستهلاك                    

 

    من ضمن تأثيرات العولمة الثقافية الشاملة، وصولها إلى المستوى الشعبي في تعاطيها مع القضايا المجتمعية التي تحظى بأوسع انتشار ممكن. فظهر التأثير الواضح لموسيقى البوب وطقوس استهلاكها، بالاضافة إلى سلوكيات الاستهلاك اليومي للأطعمة والمشروبات والألبسة التي تستجيب لتوجهات الثقافة المعولمة. وفي هذا الاطار دخل الرأسمال الرمزي والثقافي، حسب تعبير بورديو، للافادة قدر الامكان من توجهات العولمة وتأثيراتها، وذلك بالتعبير عن سماحه بدخول هذه التغييرات، من ناحية؛ وعن استعداده، كرأسمال حامل للثقافة المقيمة، للافادة من تداعيات العولمة، بما يفيدها ويفيد الثقافة المحلية معاً.

 

    في هذا المجال، حسب الباحثين، ظهرت التعددية في ممارسة الحياة اليومية، وذلك من خلال بروز ما هو محلي، تغليب الثقافة الاستهلاكية، إعادة إحياء ما هو تقليدي على مستوى التراث والفولكلور، بحيث يصار بوساطتهما تجاوز المحلي إلى العالمي، طالما أصبح السوق مفتوحاً والتداول معولماً، بحيث اختلط المحلي بالعالمي. وقد ظهر ذلك تحت قلم الباحثين كما يلي:

 

  • الاشتراك المتنامي في ممارسة ثقافة الاستهلاك بالرغم من التباين في تفضيل ما يتناسب مع المواقف الإيديولوجية دينياً وعلمانياً. فيتفرق، مثلاً، المجتمع من حيث الاختيار بين الصحف والمحطات المتلفزة وأنواع الطعام واللباس، وغيرها، ويتوحدون في تبني الثقافة الاستهلاكية.

 

  • الافادة من الثقافة المعولمة في إعادة إحياء التراث والتقاليد باعتبارها كذلك. من هنا، دخلت الثقافة الاسلامية في منطق الثقافة المعولمة عن طريق الأزياء المبهرة للنظر مع الحفاظ على الحجاب، وتغطية الجسم دون التخلي عن أساليب الموضة الحديثة، وعن أساليب عرضها وتسويقها باستعمال آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا ووسائل الاتصال. وبهذه الطريقة لا مكان لوجود الفرق بين الهوية الاسلامية والهوية العلمانية باعتبارهما جزءين من ثقافة الاستهلاك. وهكذا أضحت الهوية الاسلامية " تنظر إلى هذه الثقافة لا كشرّ منبعث من الغرب، بل كأساس للمكانة والنفوذ الاجتماعيين"(ص454).

 

    من هنا، تأتي الثقافة الاستهلاكية لتعمل على إعادة تنشيط كل ما هو تراثي وتقليدي وتضعه على منصة العالم الثقافي، بدل أن تبقى على هامش توجهات ثقافة السلطة وأدواتها. فتظهر صور الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة، ما يعني إيجاد حياة ثقافية أكثر غنى وأغزر تنوعاً. وهذا من أوجه إشاعة الديموقراطية في تركيا.

 

    ختم الكاتبان كلامهما في هذا المجال، بقوله إن الثقافة الاستهلاكية الناشئة من العولمة تدعو وتعمل على التعايش والملاءمة، وليس على التصادم؛ وعلى بث ثقافة الاختلاف وقبوله، بدل الخلاف، في التفاعل بين العالمي والمحلي. وهذا هام جداً من أجل ترسيخ روح الديموقراطية في تركيا.

 

ثانياً: العولمة في الصين

  

  لم تستطع الصين بمليارها ونصفه، وبنظامها السياسي الشيوعي، أن تبقى بمنأى عن تأثيرات العولمة، وعن تداعياتها على المجتمع الصيني الشاسع. ولم تبق ردود الأفعال على ما يحصل في العالم بمنأى عن تعليقات مفكري الصين والمفتشين لها عن موقع متقدم في هذا العالم. هؤلاء الذين يرون بأم العين كيف دخلت العولمة إلى أصقاع الصين القريبة والبعيدة في علاقتها مع العالم الحر، ومع السلوك المعولم في جوانبه كافة.

 

    على هذه الموجة، استكتب بيرغر وهنتنغتون أحد باحثي الصين يونكسيانغ[10] يان ليقدم رؤيته للعلاقة التفاعلية بين الصين الشيوعية وتوجهات العولمة، مستلهماً بذلك المبادئ الأربعة، أو العلاقات التي بواسطتها تظهر العولمة في الأطراف، انطلاقاً من المركز.

 

    يستهل بان مقالته بإظهار التناقض الذي يمكن أن يصل إلى حد الانفصام بين ممارسة منطق العولمة باعتبارها مصدّرة للثقافة الاستهلاكية، والممانعة السياسية التي تطالب باسقاط الامبريالية الأميركية. كما يظهر توغل التناقض بين أشكال التعبير عن الموقف السياسي، والممارسة الاستهلاكية التي فرضها المنطق المعولم. رسائل سياسية منددة بالغزو الثقافي المعولم مكتوبة باللغة الإنكليزية، وبأسماء مستعارة غربية، وكتابات معادية للعولمة وأدواتها؛ واستراحة، بعد عناء، في مطاعم ماكدونالد وكنتاكي وهارديز. ولم يبق الأمر عند هذا الحد، بل تعدى ذلك إلى الاحتجاج على مقاطعة المباريات الرياضية من قبل الحكومة الصينية لأن الشباب لا يجدون غضاضة في الفصل بين السياسة والرياضة.

 

    هذا التناقض، حسب يان، يدل على أهمية الثقافة المعولمة التي تسعى، وتنجح غالباً، في زرع المتعة في نفوس مختلفي الثقافات، وتبقي، في الوقت نفسه، على العصبية القومية والوطنية. ما يعني الفصل بين الثقافة والسياسة، وإن كان بين الثقافة والسياسة علاقة الكل بالجزء. ثقافة العولمة لها سياستها المخصوصة في علاقتها مع العالم أجمع، ما يستدعي أن يكون للسياسة الوطنية والقومية ثقافتها المخصوصة أيضاً باعتبارها جزءاً (السياسة) من كل (الثقافة).

 

    يعالج يان علاقة الصين بالعولمة على النهج الذي وضعه بيرغر ذي الأوجه الأربعة للعولمة الثقافية. نخبة رجال الأعمال، نادي الكلية، الثقافة الشعبية والحركات الاجتماعية. ويرى الباحث أن الوجهين الأخيرين هما اللذان ظهرا بشكل بيّن على مندرجات الحياة اليومية للصينيين. أما الوجهان الأول والثاني، فقد بقيا في أيدي شرائح اجتماعية تمثل النخبة اجتماعياً وسياسياً، مع لفت النظر إلى أن لعبة التحكم بهذه الوجوه الأربعة من قبل الدولة لم تكن ناجحة دوماً (ص45).

 

    وجدت الدولة، بأوجهها كافة، أن لا مناص من التعامل مع العولمة باستيعابها أولاً، ومن ثم إدارتها، باعتبارها تحكم باسم نظام شمولي له إيديولوجيته ذات النظرة المحددة إلى العالم؛ وهي النظرة التي تتناقض، في العمق، مع توجهات العولمة وتداعياتها. ولكن.. كيف يمكن التعامل بين الشيوعية والعولمة؟ وخصوصاً إذا كان ثمة قناعة تامة لدى مختلف شرائح المجتمع الصيني بأن الصين لا يمكن أن تكون دولة حديثة، بمعزل عن العولمة.

 

    من هنا، رأت الصين، كدولة، أن تقوم هي بدور تنظيم العلاقة بين أيديولوجيتها القائمة على ملكية وسائل الإنتاج، والإيمان العميق بالعقيدة الماركسية اللينينية- الماوية، وبين العولمة باعتبار ثقافتها الاستهلاكية وإيديولوجيتها المبنية على حرية التبادل في سوق حرة عالمية.

 

    بالنسبة للوجه الأول، نخبة رجال الأعمال، بدأ يظهر في الصين، حسب يان، ما يمكن تسميته بالمواطن المعولم. إلا أن هذه الصفة الحديثة كان لها أن تصطدم في أحيان كثيرة، معلنة وغير معلنة، مع الصفة القومية للمواطن الصيني. وغالباً ما تظهر هذه الصفة الأخيرة عندما يرى المواطن أن ثمة تضارباً بين المصالح المعولمة والمصلحة الوطنية الصينية (ص42). إلا أن هذا التضارب عادة ما يمر دون ردود فعل وطنية، باسم منطق العولمة ذاتها، ولكن ليس في شكل دائم. فإذا انخرطت سيدة صينية بالكامل في المنطق المعولم بعد ان رأت نفسها أكثر راحة في أميركا، وهي بذلك مواطنة "عالمية"، بقيت سيدة أعمال صينية ثانية "صينية في المحصلة" عندما رفضت انخراطها المعمق في المنطق المعولم، بعد أن لمست بالفكر والممارسة توجه هذا المنطق الوجهة المناقضة لمصلحة بلادها (ص41-42). وإذا كان هذا الوجه، أو ذاك، حائراً بين أن يكون معولماً، أو وطنياً قومياً في الصين، فإن الوجه الثالث واضح تماماً من خلال فئة مؤلفة من أناس يجسدون نمط "التاجر الكونفشيوسي".

 

    ما يحصل في الصين شبيه، إلى حد ما، بما يحصل في تركيا. فالأيديولوجيا الشيوعية في أسسها وتداعياتها تعمل بما يتشابه مع الإسلام الاقتصادي والسياسي في تركيا. وفي كلتا الحالتين، اعتبارات الأيديولوجيا ترخي بثقلها على كيفية التعامل مع مقتضيات العولمة وتأثيراتها. وإذا انقسم اقتصاديو تركيا بين إسلاميين وعلمانيين وحداثيين برغماتيين، قضت ثقافة الأعمال الصينية بأن يكون ثمة تنوع شديد في الملكية لم تستطع إيديولوجيا ملكية الإنتاج ووسائله، من قبل الدولة، أن تحصر هذه الملكية فيها. فتعددت أشكال الملكية وتنوعت. وانفتح المجال واسعاً للقدرة على التواصل مع العالم الخارجي، ومن خارج الدولة.

 

    هذه الثنائية في عملية الإنتاج بين الدولة، من جهة؛ وخارجها، من جهة ثانية، وفي ظل التوجه الأيديولوجي الذي يحكم الدولة، جعلت أنماط السلوك في التعامل مع الخارج مختلفاً. كما فرض هذا التوجه على الشركات الحكومية نمط تعامل محافظاً تجاه الداخل، كما تجاه الخارج، في كل ما يختص بمنطق العولمة. إلا أن عدم وضوح الوجه الأول، المتمثل بكبار رجال الأعمال والقادة، في تعامله الصريح مع العولمة واندماجه فيها، جعل طرق التعامل مختلفة، حتى بين المسؤولين الكبار في الشركات الحكومية، هؤلاء الذين هم أقرب إلى السلطة السياسية من كونهم رجال أعمال، ويتصرفون باعتبارهم أهل السلطة في تعاملهم مع الخارج. وهم في هذه الحالة يعتبرون أنفسهم صينيين أكثر من أي شيء آخر.

 

    المنطق نفسه، حسب يان، ولكن من الجهة المقابلة، يظهر لدى مسؤولي الشركات الخاصة، أو المشتركة في ملكيتها بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص. فهم يرون أنفسهم غربيين أكثر من كونهم صينيين، نظراً لتنشئتهم الأكاديمية في الغرب والمحاكاة الثقافية الغربية بكل أبعادها، وإن كان ثمة ثوابت لا يمكن إلغاؤها، أو استبدالها، تعتبر نواة الثقافة الصينية، من مثل العلاقة بين الجنسين، وتربية الأطفال، والعلاقات الشخصية (ص44). كما أن هذه المحاكاة تضرب الشباب أكثر من غيرهم، وتخضع للنقد من قبل الأكبر سناً.

 

    المشكلة الأساسية التي يواجهها المجتمع الصيني هي في كيفية ملاءمة الشباب الحداثيين الصينيين لمواصفات التاجر الكونفوشيوسي الوارث لصفات المندارين المتمتع بالأخلاق والمواظب على العمل والمستعد لأن يتعلم باستمرار. ومدى تأثير العولمة على هذه المواصفات وتحويلها إلى مواصفات حديثة تتلاءم مع ما هو واقعي في عصر العولمة. وما يظهر، أن بيئة الاعمال الجديدة في الصين غيرت من مواصفات "الماندرين" وجعلته أكاديمياً ورجل أعمال ومفتقداً، في الوقت نفسه، للمواصفات الأساسية للمثقف الصيني الذي يتمتع بالمعايير الكونفوشيوسية التي ساهمت في شكل أساسي في نهضة المجتمع الصيني، ومن أهمها: الاخلاق بما تفصح عنه من عمل الخير والاستقامة واللباقة، بالإضافة الى الذكاء والجدية اللازمة في العمل.

 

    سارت النزعة الشبابية الحداثية الصينية جنباً الى جنب مع إيديولوجيا الدولة الاشتراكية دون صدام، إلا عندما وصلت إلى المفاصل الأساسية التي لا يمكن السكوت عنها، كما حصل في أحداث 1989 التي لم تمر  إلا بعد أن خلّفت وراءها فائدة مزدوجة للدولة والمجتمع. واعتمد الطلاب بعد ذلك، وبصورة مرنة، نظريات ومناهج فكرية حديثة مستلهمة من الغرب، ومبنية على أيديولوجيا الليبرالية المرنة ودائمة الحركة. وأصبح من السهل التعرف على أفكار فيبر وسارتر وليفي ستروس وأرون وكافكا وغيرهم، دون الشعور بالحاجة إلى مشاكسة الدولة ومواجهتها.

 

    وإذا كانت الدولة قد فرملت توجهات الشباب الغربية، فقد ظهر من حاول أن ينظر إلى الماضي بعين الحاضر ويلائم بين أصالة الماضي وحداثة الحاضر لبناء المستقبل. وكان الهم الأساسي لجميع المثقفين الصينيين هو كيفية الافادة من النظريات الغربية في فهم وتغيير الواقع الصيني، ليدخل في الحداثة الصينية، قبل أن تكون حداثة معولمة.

 

عولمة الثقافة الشعبية 

 

    لم تبق تجليات العولمة الثقافية بمعزل عما يحصل في الصين. بل على العكس، تجلت عناصر هذه الثقافة في شكل ساطع في المجتمع الصيني الذي استقبل بحرارة أفلام الحركة والتشويق وموسيقى البوب، بالقوة نفسها لاستقباله المباريات الرياضية وسلاسل مطاعم الوجبات السريعة والمشروبات الغازية. وما يهم في هذا النقل المباشر، ليس استهلاك ما يستهلكه المواطن المعولم في الغرب، كما في العالم، بل ما يتماشى مع ذلك، من سلوك يسود في الغرب، ومن علاقات تشي بتغير عميق في الثقافة الوطنية، وإن كان يقدم كل ذلك بقالب من نمط الحياة الصينية (ص51).

 

    إلا أن من المؤكد أن النزعة الاستهلاكية طبعت الثقافة الصينية بطابعها، كما طبعت مختلف أصقاع العالم. وهذا هو أهم توجهات العولمة، إن كان على صعيد الثقافة أو على صعيد الاقتصاد. وتحولت، بذلك، الإيديولوجيا الماركسية، والقيم التقليدية الصينية، معاً، إلى إيديولوجيا استهلاكية تيسّر توجهات العولمة، من ناحية؛ وتخفف من قوة الدولة القوية، وتُطوّعها، من ناحية ثانية. وكان سلاح هذه النزعة الذي لا يمكن أن يقاوم، وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمتوفرة بكثرة، وآخر ما توصلت إليه وسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات.

 

    هذا التحول الجديد، ساهم في إفلات الاعلام الصيني من قبضة الدولة، ومن رقابتها، باعتبارها صاحبة إيديولوجيا شمولية. فانتشرت وسائل الاعلام الخاصة من صحف ودوريات ودور نشر، واستجابت لمتطلبات السوق، وما يوفره ذلك من تأجيج للنزعة الاستهلاكية من خلال ما تقدمه الاعلانات من أموال تضمن استمرارية هذه الوسائل، من جهة؛ وتضمن استمرارية الاستهلاك بوتيرة متصاعدة، من جهة ثانية.

 

 المجتمع المدني في الصين

 

    أكثر ما يحذر النظام الشمولي، مؤسسات المجتمع المدني. ويعتبر أن من أولى المهام لديه محاولة احتواء هذه المؤسسات، بما يضمن استقرار المجتمع وثبات وضع النظام. يظهر ذلك في علاقة الدولة مع الكنيسة، كما مع منظمات دينية محظورة تعتبر مضادة لتوجه النظام الذي يهادن ويسمح بالنشاط الديني الذي لا يتعارض مع توجهه.

 

    أما الحركات الدنيوية، وبحكم اتصالاتها مع مثيلاتها في العالم أجمع بما يفرضه نشاطها المعولم، فقد حازت على اهتمام الدولة من باب رعايتها لكل أوجه النشاط المجتمعي. فقادت منظمات حماية المستهلك بعد أن تأسست باعتبارها قطاعاً خاصاً. وأصبحت ذات قوة شملت المجتمع الصيني بكامله، وبالتالي منظمة حكومية تهتم بشؤون المستهلكين حقوقاً وحماية (ص55).

 

    أما حركة البيئة فهي منظمة دولية غير  حكومية تتلقى الدعم والمساعدة من منظمات وهيئات أجنبية. وهي بذلك أكثر استقلالا في علاقتها مع الدولة. تهتم هذه الحركة بالبرامج التعليمية المتعلقة بالبيئة وغرس الاشجار وحماية الحيوانات. وتنفذ في برامجها ما هو مطلوب منها من الهيئات الداعمة أكثر مما يستوجب تلبية الحاجة المحلية (ص56).

 

    أكثر ما ظهر الصراع بين الدولة والمنظمات المدنية في الصين، كان في العلاقة مع المرأة. كانت الدولة تحتكر العمل النسوي، إلى أن بدأت تداعيات العولمة تظهر في التعاطي مع قضية المرأة. وكان مؤتمر بكين النقطة الفاصلة في هذا التوجه. وهو الذي دعا الدولة إلى تغيير سياستها تجاه المرأة. وتبنت ما يتناقض مع التوجه الماركسي في طريقة التعاطي مع قضايا المرأة. وبدأت نشاطات النوع الاجتماعي تظهر، والدراسات النسوية تتفاعل في المجتمع الصيني. وظهر أن ثمة اختلافاً في التوجه بين الدولة والمنظمات المدنية التي تتعاطى شوؤن المرأة. وظهر أكثر ما ظهر في تبني المنظمات الدولية غير الحكومية منظمات المجتمع المدني النسوي في الصين، وما تبع ذلك من دعم مادي وتقديم منح الدراسات، بما يخالف التوجه الايديولوجي للدولة الصينية. وهذا ما ساهم في توسيع الهوة بين العولمة النسوية والتوجه الوطني.

 

الصين والعولمة

 

    باختلاف الأوجه الأربعة للعولمة وتأثيراتها في الصين، لا شك ان المنطق المعولم يفعل فعله، وخصوصاً في الممارسة  اليومية للحياة العملية المتصفة على العموم بالنزعة الاستهلاكية، والأخذ بنمط الحياة الغربية. إلا ان ما يحصل لا يدل، في المطلق، على الغرق في الثقافة الغربية، بقدر ما يدل على ممارسة الحياة الغربية بلباس وذهنية صينيين. فالصين تبقى الصين، والغرب يبقى الغرب، وإن كان ثمة الكثير من أوجه المحاكاة بين النمطين من الحياة.

 

    وهنا لا بد من طرح تساؤل أساسي: هل ما يصدر عن العولمة، بأوجهها كافة، وبالتالي من الغرب، هو ملك لهذا الغرب؟ وإذا كانت العولمة الثقافية محددة، بتوجهها ذاته، بأنها تدعو الى التعدد والتنوع ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، فهل يمكن أن تدعو، ضمناُ، إلى التماثل والتوحد؟

 

    لقد أثبتت الممارسات العملية أن المجتمعات المحلية والثقافات الوطنية توجد دوماً آليات تعاملها مع ما هو معولم، ما يكفل تجديد ذاتها وتكيفها مع مقتضيات العولمة وآليات إشتغالها. وقد أثبتت انها تمتلك القدرة على أقلمة ما هو عالمي، ونجحت في إلباس مضمون العناصر الثقافية أثواباً محلية بما يتلاءم مع ما هو محلي وما هو معولم.

 

    على صعيد كبار رجال الاعمال، لا مشكلة لديهم في التعامل مع العولمة الثقافة باعتبارهم مشاركين في صنعها. ومقتنعون بأن أي ثقافة ذات هم إنساني عام هي ثقافة معولمة، ولا يهم بعد ذلك، إن كانت من صنع الغرب أو الشرق.

 

    وإذا كانت ثمة عنصران أساسيان في دفع عجلة العولمة الثقافية إلى مداها في الصين؛ وهما الشركات المتعددة الجنسية، والدولة الصينية باعتبارها مديرة هذه الظاهرة العالمية، فإن العولمة الثقافية لا يمكن لها الانتشار والنجاح بدون دور فعال للمثقفين الصينيين، وبدون الفئة  المستهلكة، لحمة العولمة وسداها.

 

    في سبيل نشر ثقافة العولمة اعتمدت الشركات المتعددة الجنسية على أقلمة منتوجاتها وإظهارها على أنها محلية، إن كان في انتشارها، أو في تجهيزها للمواد الاستهلاكية.  فتظهر، لذلك، مطاعم ماكدونالد على أنها صينية، كما أفلام كوداك  "الصينية" قبل أي شيء آخر (ص62).

 

    أما الشباب، الحلقة المستهلكة على الأكثر، فلا تجد ضيراً في أن تنغمس استهلاكياً بما ينتجه الغرب حسب المنطق المعولم، وأن تبقى متمسكة بقوميتها ومنددة بالهيمنة الأميركية ثقافياً وسياسياً وإعلامياً. وهذا ما يدل على أن العولمة الثقافية قادرة على التعايش مع النزعة القومية والوطنية.

 

    إلا أن ما يجعل العولمة تسير في خطى حثيثة في الصين هو تسويغها ثقافياً وساسياً من قبل المثقفين الصينيين، من الناحية؛ والدولة الصينية ذات الإيديولوجيا السياسية والعقيدية، من ناحية ثانية.

 

 

  المثقفون الصينيون والعولمة الثقافية

 

    تناول المثقفون الصينيون ظاهرة العولمة بالتأمل والدرس،  حتى قبل انتشارها في العقد الأخير من القرن العشرين. وقد استشرف السياسيون الصينيون مفاعيل هذه الظاهرة مبكرين، انطلاقاً من كونها التعبير الجديد عن الحداثة؛ حداثة المجتمع وحداثة الدولة. وقد جاء هذا التقدير للعولمة في الوقت الذي بدأ ينظر الغرب إلى الحداثة باعتبارها ظرفاً ماضياً أوصله إلى عصر ما بعد الحداثة.

 

    ينظر المثقفون الصينيون إلى العولمة  باعتبارها قدراً حتمياً لا يمكن تجنبه أو تجاهله. ويعتبرون أنهم جديرون بتوجهاتها، وما يمكن أن يصدر عنها . فهي بالنسبة إليهم شأن ناشئ عن تطورات اجتماعية تاريخية لم تكن الصين بمنأى عنها. وهي ذات تاريخ تليد في تكوين حضارتها بذاتها وبأدواتها هي؛ حضارة جديرة بأن تكون معولمة. إلا أن التاريخ وأحداثه جعلت من الصين دولة تابعة، ومن ثم شبه منعزلة، إن كان إبان حكم الغرب، أو الحكم الصارم للحزب الشيوعي. وأصبحت الآن في حكم القادرة على فك عزلتها ومشاركتها في صنع العولمة، ولكن بأيدي الدولة التي لا تزال تؤمن بالمادية التاريخية وبملكية وسائل الانتاج (ص64).

 

    من هنا، بدأ الانفتاح على الغرب. وبدأ التداول في موقع الصين في العالم، وفي ما عليها أن تكون لتكسب مشاركتها في القرية الكونية التي لا تنتظر أحداً للدخول إليها. وكان أهم ما تم نقاشه، حسب يان، مسألة الاصلاح والانفتاح. إصلاح النظام ليتماشى مع المنطق المعولم، والانفتاح على الثقافة الغربية دون عقد نقص أو شعور بالدونية. والأهم من ذلك، تقديم الدولة الصينية نفسها "على أنها التجسيد الحي لإرادة الأمة، وتطالب بالتالي بولاء الشعب الصيني ودعمه من أجل بلوغ الهدف النهائي للأمة، هدف تحديث الصين"(ص67).

 

الدولة وإدارة العولمة

 

    يتناول يان كيفية تعامل الدولة اقتصادياً مع العولمة. ويعتبر أن تفشي منطقها سبق الصين واهتماماتها، وبالتالي دفعها إلى الالتحاق بها متأثرة بتوجهها. وقد أظهر قولاً لساوندرز يبين فيه أن قادة الصين سلموا بضرورة الاندماج بالاقتصاد العالمي ولكن بأقل ما يمكن من الخسائر، وبما يتناسب مع شروطهم (ص67).

 

    ويسحب يان هذه الملاحظة على الشأن الثقافي. فيستشهد بقول شهير لأحد الزعماء الصينيين: "إن أسراب الذباب والبعوض تتدفق عليك حين تفتح نافذتك"(ص67). هذا التشبيه المجازي يدل على خطورة الأفكار الجديدة والقيم الثقافية الغربية، المصاحبة للتكنولوجيا والاستثمار، على النظام السياسي الاجتماعي- الصيني القائم على الإيديولوجيا الماركسية -  الماوية. إلا أن الدولة أبقت على سياسة الانفتاح، وخسرت هيمنتها على العديد من مجالات الحياة الاجتماعية في الصين، بما يعني حلول عناصر ثقافية أجنبية محلها.

 

    ما يجعل الصين، دولة ونظاماً، تتوجه هذا الوجهة، حسب يان، الحاجة الماسة إلى التلاؤم مع توجهات العولمة بما يكفل الحفاظ على وجودها. وهذا يتطلب المحافظة على النمو وإيجاد المزيد من فرص العمل لملايين الشباب. والدليل الأكبر على تصميمها للدخول في ركاب العولمة سعيها الدائم والمستمر للدخول في منظمة التجارة العالمية (ص68).

 

    يعتبر يان أن الهم الأساسي للصين في تعاملها مع الأوجه الأربعة للعولمة الثقافية حسب افتراضات بيرغر، هو التحكم في عملية التحول مع الحفاظ على النمو. وهنا، يمكن فهم سبب وضع الباحث الوجه الأول  المتمثل بكبار الأعمال والقادة، والوجه الأخير المتمثل بممارسات الثقافة الشعبية في خانة الأقل أهمية، بالمقارنة مع الوجهين الثاني والثالث، المتمثلين بالنشاط الثقافي الصيني والحراك الاجتماعي المتأتي من نشاط مؤسسات المجتمع المدني. فالوجهان الأقل أهمية، بالنسبة للدولة، يعبران عن إمكانية "التنفيس" أو الحد من الاحتقان الذي يمكن أن يتأتى من التناقض بين قيم المجتمع الصيني وقيم العولمة، على الأصعدة كافة، من خلال ترك الشارع يتصرف بقدر أكبر من الحرية مع مقتضيات العولمة وتداعياتها. أما التعامل مع النشاط الثقافي الصيني، فشأن آخر. كذلك مع المؤسسات المدنية الصينية التي لها، في الغالب، توجهات مستقلة عن الدولة. لذلك تفرض السلطات الصينية في تعاملها مع هذين الوجهين رقابة مشددة للابقاء على التحكم في أمور الدولة والمجتمع، لما للشأن الثقافي من تأثير على توجه الدولة الإيديولوجي، ولما للحراك الاجتماعي من فعل في مفاصل المجتمع وفي فئاته الاجتماعية والسياسية.

 

    يعطي يان للنشاط الرسمي الأولوية في مواجهة النفوذ الثقافي الأجنبي بإعادة انتاج ثقافة الحزب والمخزون الثقافي الصيني. واستعملت في نشاطها سيطرتها على وسائل النشر والاعلام قدر الامكان، متسلحة بسلطتها في حال الخروج على السيطرة. كما تستعمل أسلوب الترغيب والترهيب في التعامل مع وسائل الاعلام والمراكز الثقافية (ص70). وفي الوقت نفسه، تستعمل أساليب التعامل مع الموظفين، ومع انتاجهم الاعلامي، بطريقة مغايرة لأساليب الدولة الحزبية، بما يتماشى مع نمط التوظيف الغربي. إلا أن المهم هو عدم التعرض للدولة الحزبية، ومن ثم الانفتاح، في شتى أشكاله. والاستثمار الأجنبي مضطر إلى التعامل مع موجبات العمل حسب ما ترتئيه الدولة في الشأن الثقافي، إن كان على مستوى التعاطي مع ثقافة ما بعد الحداثة الغربية، أو مع ثقافة الطعام.

 

    يبين يان، بما لا لبس فيه، أن القيادة السياسية الصينية وحرس الإيديولوجيا الماركسية-الماوية في الصين يتعاطون مع العولمة الثقافية على أنها من تداعيات الحداثة الغربية التي يمكن التعامل معها انطلاقاً من ثوابت الدولة الحزبية. وبالتالي على العولمة الثقافية، أو أي جانب آخر منها، أن تبقى خاضعة لسلطة الدولة وتحت إشرافها وبقيادتها. ومن هذه الناحية، عملت الدولة على حماية النواة الصلبة للثقافة الصينية من التأثيرات القوية للثقافة الأجنبية وتداعياتها على الساحة الصينية. فقامت بخطوات هامة لتقوية وسائل الاعلام الوطنية عن طريق الادماج، أو التغذية المباشرة، لمواجهة الاعلام الغربي بكل وسائله. وقد حظيت السلطات الصينية بدعم الكثير من منظمات المجتمع المدني الصيني لحماية الصناعة الثقافية القومية والتراث والهوية الوطنيين. إلا أن التوجه العام يدعو للمزيد من الانخراط في المنطق المعولم، ويعمل على ذلك، إن كان على صعيد الانفتاح، إو على التشجيع على جلب الاستثمارات الأجنبية، ما يعني القبول بالتحولات الجديدة لتخدم ما هو قائم، مع مرونة متزايدة للنظام، لامتصاص هذه التحولات وإدارتها بما يتناسب مع إيديولوجيا الدولة القوية.

 

    مثال الصين يبين أن لا إمكانية لشمول العولمة ومنطقها الغربي أصقاع العالم كافة. كما أنه يبين، كما المثال التركي أن العولمة قابلة للتلون، وخصوصاً في جوانبها الثقافية بتلوينات المجتمعات الاقليمية التي تحط رحالها فيها. كما أنها قابلة لأن تتحول إلى عولمات كثيرة، وهو عنوان الكتاب الذي يضم هذه المطارحات، على قدر ما هو موجود من حضارات، أو مجتمعات  وازنة، على صعيد العالم كله.

   

 

[1] . بيتر إل. بيرغر، سامويل هنتنغتون، ( محرران) عولمات كثيرة، التنوع الثقافي في العالم المعاصر، مكتبة العبيكان، 2004، الرياض، والاحالات في متن النص تعود إلى صفحات من الكتاب.

[2] . صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات،وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة أبو شهيوة وخلف، الدار الجماهيرية، 1999، مصراته، ليبيا، 590ص.

[3] . بيتر بيرغر، التكوين الاجتماعي للحقيقة بالمشاركة مع توماس لوغمان؛ والزواج وإعادة بناء العالم الاجتماعي بالمشاركة مع كيللنر (بالانكليزية)، التفصيل في قائمة المراجع.

[4] . أنظر في هذا الخصوص، التحليل الناقد للعصر الإمبراطوري الأميركي في،

  •  مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الامبراطورية، إمبراطورية العولمة الجديدة، تعريب فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، 2002، الرياض، 592ص.

[5] . للتفصيل حول هذه المسألة، وحول إدارة شؤون العالم الاقتصادية من قبل الدول الصناعية الكبرى ودورها في زيادة الهوة بين الشمال والجنوب، أنظر،

  • هانس– بيتر مارتين، هارالد شومان، فخ العولمة، 238، عالم المعرفة، 1998، الكويت.

[6] . إيرغون أوزبودون وإي. فؤاد كيمان، "العولمة الثقافية في تركيا، الأطراف الفاعلة، الخطابات، الاستراتيجيات"، في،

  • عولمات كثيرة، مذكور سابقا، ص 425-456.

[7] . أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة ثلجي وعبد الجليل، الدار العربية للعلوم ومركز الجزيرة للدراسات، 2010، بيروت، قطر، 644 ص. (ظهر هذا الكتاب بالتركية لأول مرة في العام 2001).

[8] . أنظر في هذا الخصوص للتفصيل المنظمات الاقتصادية الثلاث في تركيا، في ،

  • بيرغر وهنتنغتون، عولمات كثيرة، مذكور سابقاً، ص ص 435-447.

[9] , للمزيد من التفصيل حول توجهات هذه المنظمات ونقد نشاطاتها، أنظر،

  • المصدر نفسه، ص ص449-452.

[10] . يونكسيانغ يان، "العولمة المدارة، سلطة الدولة والتحول الثقافي في الصين"، في عولمات كثيرة، المصدر نفسه، ص ص39-79.

 
التاريخ: 2021-05-31
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro