مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
العصبية القومية
 
ملحم، ادمون
 

 

 

في خاتمة كتابه العلمي "نشوء الأمم" يحلِّل سعاده ظاهرة من أبرز الظواهر الإجتماعية العامة في وقتنا الحالي ألا وهي ظاهرة الروح القومية التي امتاز بها الكنعانيون من بين جميع شعوب التاريخ القديم.

 

و"القومية" يقول سعاده، "هي الروحية الواحدة أو الشعور الواحد المنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان"[1]. ويضيف: "انها عصبية الأمة."[2] والعصبية التي عنى بها سعاده ليست عصبية دينية ولا "مجرد عصبية هوجاء"[3] أي نوعاً من التعصب السلبي الأعمى الذي يعني الوقوف مع الجماعة ظالمة كانت أو مظلومة وهو ميل يعاكس الحرية والتسامح ويفيد عدم التساهل وروح التفريق والتمييز بين الأفراد، بل هي نوع من التعصب للحياة واستمرارها واستجادتها وهي انحياز كلي لخير المجتمع وارتقائه وللإهتمام بحاجاته ومصالحه. وحسب سعاده، القومية هي ليست "نعرة دموية سلالية"، أي عصبية متولِّدة من النسب والقرابة، كما شرحها ابن خلدون في مقدمته، واعتبرها كالروح العشائرية القائمة على لحمة الدم التي تربط أبناء القبيلة الواحدة مع بعضهم وتجعلهم يتعاونون ويتكاتفون في الشدة والرخاء، بل هي عصبية منبثقة من روابط الحياة الإجتماعية في الإشتراك في وحدة الحياة والمصالح. ولغوياً، كلمة العصبية تمت بصلة الإشتقاق إلى كلمة "العصب" بمعنى الشّد والربط وكلمة "العصابة" بمعنى الرابطة. لذلك اعتبر سعاده ان القومية هي رابطة الأمة، وهي رابطة نفسية إجتماعية تعني "استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة."[4] إنها رابطة روحية متينة تربط أبناء المتحد الواحد مع بعضهم وتوحِّدهم وتولِّدُ فيهم الوعي للخير العام وللمصلحة العامة وللحقوق العامة.

 

وهذه العصبية التي شرح معناها سعاده هي ضرورية للتعاون القومي لأنها بمثابة الشعور الروحي الصادق الذي يولّد محبة الوطن ويدفع بأفراد الشعب الواحد للتعاون معاً في سبيل تحسين حياتهم الجامعة وتقدمها، و"التي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه"[5]، وفي سبيل الدفاع عن الحقوق والمصلحة القومية ودفع الأخطار التي قد تحدق بوطنهم. هذا الشعور الروحي العميق الحي يدعوه سعاده بالوجدان القومي ويعتبره أعظم ظاهرة نفسية إجتماعية في عصرنا الحالي، لأن بلوغنا هذا الحد من الشعور يعني "يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها."[6]

 

والإرتقاء إلى مرتبة الوجدان القومي، أي الشعور بشخصية الجماعة والتعبير عنها، "يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، إمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الإجتماعي وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويود خيره، كما يود الخير لنفسه."[7]

 

ما أحوجنا إلى الوجدان القومي في هذا الزمن الرديء، زمن الويلات والكوارث التي نواججها نتيجة إفلاس النظام الفاسد وعهر الطبقة السياسية الحاكمة. ألم تكن كارثة مرفاً بيروت نتيجة استهتار عدد كبير من المسؤولين في الدولة وإهمالهم لواجبات مسؤولياتهم لعدم وطنيتهم وغياب وجدانهم القومي؟ أليس ما يعانيه الشعب اللبناني من فقر وأوجاع وإذلال وخسارة لمدَّخراتهم في المصارف ناتج عن فقدان الحس الإجتماعي عند الطبقة السياسية المتكالبة على السلطة والساعية دائما لتحقيق مصالحها على حساب مصلحة الشعب؟ أليس ما يتحمّله اللبنانيون ويتعرضون له من إصابات وموت متزايد بالأمراض المستعصية نتيجة تلوث البيئة والعيش ضمن جبال من النفايات ومن فقدان الماء والكهرباء والتعليم والإستشفاء والوظائف والخدمات وشلل القضاء وغياب العدالة والحرية والكرامة.. أليس كل ذلك نتيجة فساد السياسيين وجشعهم وشعوذاتهم وعقم خططهم وأساليبهم وتفكيرهم الانحطاطي؟ 

 

ما أحوجنا اليوم إلى الوجدان القومي نتسلّح به لتمتين وحدتنا الاجتماعية وتحسين حياتنا بمعالجة مشكلاتنا ومعضلاتنا وتحقيق أحلامنا وطموحاتنا ببناء دولة حرّة، مستقلة، سليمة، لا يحكمها الإقطاعيون والنفعيون والطائفيون وباعة الوطن المرتهنون للإرادات الأجنبية، ولا وجود فيها للنعرات المذهبية والتكتلات الطائفية والتمثيل الطائفي والمحسوبيات ولا مراعاة فيها لحسابات المصالح الرأسمالية والإقطاعية والعائلية وللسياسات الشخصية النفعية ومآربها.

 

ما أحوجنا اليوم إلى الوجدان القومي نتسلح به لمواجهة الأخطار الخارجية المتمثّلة بأطماع العدو الخطير الزاحف إلينا، والذي لا يكّفُ عن اعتداءاته ودسائسه ومؤامراته، وبأطماع الدول الإقليمية والغربية التي تتسابق وتتنافس لتمتين نفوذها في بلادنا ولتحقيق مصالحها الحيوية ونهب ثرواتنا.

 

ما أحوجنا إلى الوجدان القومي في هذا الزمن الرديء، زمن القيادات المتنازلة عن الصراع وعن حقوقنا القومية، زمن الرضوخ للعدو المغتصب والسكوت عن سياساته التوسعية وممارساته الإجرامية الهادفة لطرد شعبنا من أرضه... بعض القيادات المنحرفة، التي لا تشعر بالعار، تتسابق للإرتهان للإرادات الغربية وبعضها الآخر يتسابق للصلح المذَل مع العدو والخضوع لوعوده الكاذبة.. لأنها قيادات باعت شرفها وباعت القضية المقدّسة وتاجرت بدماء آلاف الشهداء الذين سقطوا من أجل تحرير فلسطين ودفاعاً عن تراب الوطن، إبتداءً من الشهيد حسين البنّا، أول شهيد سقط في الصراع القومي المسلح المباشر لدفع الهجرة اليهودية الإستيطانية وذلك عام 1936، إنتهاءً بأبطال الجنوب اللبناني وأبطال الإنتفاضة أطفال فلسطين ورجالها ونسائها الذين ما زالوا حتى يومنا هذا يعتصمون بحق الصراع ويواجهون جيش العدو بإرادة صلبة وإيمان عظيم لا مثيل له في التاريخ مؤكدين بأن "في شعبنا قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ."[8]

 

إلى كل السياسيين المنحرفين، المتزلّفين، الذين ينافقون ويراوغون ويتسابقون لخدمة أعداء الوطن بنيل رضاهم وتنفيذ خططهم وطلباتهم بطعن المقاومين الشرفاء ومحاصرتهم.. إلى هؤلاء المتبّجحين بوطنيتهم وهم من أهل الفساد والنفاق الذين ينهبون خيرات البلاد، نردّد ما قاله سعاده العظيم: "ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الحرية وينالون العبودية التي يستحقون."[9]

 

نحن، مع كل المقاومين الشرفاء في بلادنا، بدأنا زمناً جديداً: هو زمن الإنتصارات، زمن البناء وتحقيق الآمال والغايات الكبيرة النبيلة..  وكما كنا، وما زلنا، نسوراً مشاركين في دحر الإرهابيين والأعداء الخارجيين، سنبقى مهتمين بقضايا أمتنا الداخلية ومدافعين عن حقوق الشعب وكرامته.. وسنبقى مهتمين بنشر عقيدتنا وإيصالها إلى النفوس "من أجل توحيد أمتنا وتهيئتها للوقوف موقفاً واحداً في ميدان تنازع البقاء والتفوق."[10]

 

إن أملنا الوحيد في تحقيق أمانينا وطموحاتنا الكبيرة يكمن في وحدتنا وتعاضدنا وتكاتفنا وفي عصبيتنا القومية وثقتنا بأنفسنا ومواهبنا وبأن فينا  قوة كامنة وقادرة على الخلق والإبداع والتفوق والإنتصار.

 

نحن أبناء النهضة القومية الإجتماعية العظيمة، وإقتداءً بزعيمنا الخالد، نقف أنفسنا ونعمل على توحيد أمتنا وتقوية معنوياتها وإبراز مواهبها "حتى تصبح الآمال التي تجول في مخيلة رجال سورية أفكاراً قابلة التحقيق بتولد القوة الفاعلة فيها."[11]

 

في هذا الزمن العصيب، نتسلح بالإيمان ونقتدي بالزعيم الخالد الذي قال "إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة."[12]

 

[1] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 167.

[2] المرجع ذاته.

[3] المرجع ذاته.

[4] المرجع ذاته، ص 130.

[5] المرجع ذاته، ص 167.

[6] المرجع ذاته.

[7] المرجع ذاته، المقدمة، ص 13-14.

[8] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث 1937، ص 54.

[9] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 168.

[10] خطاب الزعيم في العيد القومي، الزوبعة، بيونس أيرس، العدد 71، 15/01/1944.

[11] أنطون سعاده، رسالة إلى صديق حول موقف الحزب من العالم العربي، منشورة في "النهار"، بيروت، 22/01/1936.

[12]أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 25.  

 
التاريخ: 2021-05-30
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro