
بمناسبة تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي
كلمة د. صفية انطون سعادة في 16 تشرين الثاني 2025.
نيويورك، الولايات المتحدة الاميركية.
(I)
أشكركم لدعوتي لإلقاء كلمة في مناسبة تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ ما يقارب القرن من الزمن، وأبارك لنيويورك انتخاب عمدتها زهران ممداني الذي يقدم نموذجا منفتحا وداعما لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومنها حق الشعب الفلسطيني في الوجود على ارضه.
مفهوم انطون سعادة القومي/الوطني المغاير للمفهوم القومي الغربي
انطون سعادة هو المفكر العربي الوحيد الذي اسس حزبا اصيلا واصليا. اسسه بناء على تاريخ وحضارة واوضاع سوريا الطبيعية (سوراقيا)، دون الاستناد على نظريات من خارج سياق هذا التاريخ.
لم يعتمد سعادة على ايديولوجيات غربية كالاشتراكية والشيوعية، او الفاشية والنازية كما فعل غيره لبناء حزبه، بل قدّم مفهوما مبتكرا ومغايرا للمفهوم الغربي في ما يختص بالدولة-الامة، والدولة القومية، ذلك ان مرتكزات عقيدته تنبع من تاريخ وحضارة هذه المنطقة، لا من التاريخ الغربي.
(2)
أسس الدولة-الامة في الحضارة الغربية.
لقد بُنيت الدولة- الامة في الغرب حول علاقات الدم واواصر القرابة، فاستقل الجرمان، وكذلك الفرنك، والساكسونيون، وغيرهم في دول مستقلة بعضها عن البعض الآخر. أي ان بدايات هذه القوميات كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بعلاقات القربى، ولم تكن تعتبر اي شخص من غير عنصرها يستطيع ان ينتمي اليها. وبعبارة أخرى، بُنيت هذه القوميات على المبدأ العنصري.
نجد ان تاريخنا وحضارتنا مغايرين تماما ومعاكسين للتجربة الغربية.
فمنذ بداية تأريخ الحضارة عندنا، أي نشوء الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، نجد مبدأ الاختلاط والقبول بالآخر المختلف، هو المبدأ السائد. يبدو ذلك واضحا في ملحمة قلقامش (The Epic of Gilgamesh) حيث نجد ان بنات الملك يلعبن دور المحتفي بالغريب القادم الى المدينة السومرية، فيستقبلنه ويتم الاهتمام به وتعريفه على عادات اهل المنطقة، بينما كان يُنظر الى الغريب في الحضارة الغربية كعدو يجب قتله أو نفيه! والأمثلة كثيرة، ومنها حالة الاندلس حيث تم رفض العنصر العربي نهائيا وقضي عليه من قبل اسبانيا البيضاء والكاثوليكية، في القرون الوسطى.
بُني تاريخنا على اسس مغايرة تماما للتجربة الغربية، والبرهان هو لوحة الفسيفساء الرائعة في منطقة الهلال الخصيب التي تعج بالأديان والملل والمذاهب والأعراق التي لم تتم ابادتها حين كانت الفرصة سانحة، بل تم احتواؤها ودمجها ضمن المجتمع الاصلي.
هذا هو مفهوم الدولة-الامة عند سعادة. الانتماء والمرجع هو الارض المشتركة، الارض التي تعبّر عن حضارتنا، وعن تفاعلنا معها.
مفهوم سعادة يساوي بين جميع ساكني ارض معينة بمعزل عن دينهم أو مذهبهم، أو عرقهم أو جندرهم. هم متساوون امام القانون، لا فرق بينهم لأن مصيرهم واحد، ولا أفضلية لعرق أو دين أو مذهب على آخر. هويتنا تنبع من الارض التي تجمعنا، من مكان اقامتنا، ونفقد هذه الهوية حين نهاجر نهائيا إلى بلد آخر ونستوطن هناك، ولا يعود عندنا جذور في وطننا الاصيل بعد مرور ثلاثة اجيال.
(3)
تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي " وسيلة " لا "غاية".
الحزب في نظر سعادة هو اداة مؤسساتية ضرورية لتحقيق مبادئه. الحزب ليس غاية، ولا يمكن ان يكون غاية، لأن الغاية حسب دستور سعادة "اقامة نهضة في سورية الطبيعية".
من المؤسف ان يصبح الحزب غاية بحد ذاته، فيتقوقع وينكمش ويبتعد عن الناس، فلا يحاورهم، ولا يدعوهم، ولا يشاركهم الآراء والأحاديث والنقاشات.
ولا ازال أذكر حين كنت طفلة صغيرة في بيروت ١٩٤٧، كيف كان والدي، ونحن معه، نشترك في رحلات عائلية لحزبيين وغير حزبيين، فنزور المناطق اللبنانية، ويتناقش الجميع خلال الرحلة، وعلى الغذاء، ويعم الحبور والارتياح لمعرفتهم ان هذا الحزب يهتم بأهل بلده وأمته، وان هذا حزب همه نهضتهم وتقدمهم، وتطورهم وسعادتهم وسعادة اولادهم وبناتهم، وان هذا حزب طليعي يرفض التخندق ضمن الحدود الطائفية، أو العرقية، فالارمني والشركسي والكردي كلهم سوريون طالما هم يعيشون على هذه الارض، وهم متساوين لا فرق بينهم وبين من هو من اصول عربية. كذلك انخرطت النساء في هذه الرحلات، فنظمن وشاركن في النقاشات، ولا أنسى منظر السيدة معزز روضة هذه الرسامة الرائعة والتي كانت من محبذي فكر سعادة، وهي تنتقل بكاميرتها من مكان الى آخر، تأخذ الصور وتحفظها في ارشيفها.
كانت النهضة تعني التفاعل مع المجتمع وعدم الانزواء، كانت النهضة تعني الفرح بالانطلاق نحو آفاق جديدة، وكسر الحواجز التقليدية بين الطوائف والاعراق، وبين الرجل والمرأة، فنراها الى جانبه في كل شأن عام.
كانت النهضة تعني الاشتراك في الحياة مع الآخر في كل اشكالها ومظاهرها، فننتقل جميعا من وضع قائم الى وضع أفضل وأجمل،
فهل هذا ما هو قائم اليوم؟
بدلا ان نشترك في الحياة ونتقدم جميعا خطوات الى الامام، تحولنا الى وعاظ كما يفعل رجال الدين. واخذنا نخبر الشعب اننا أفضل منه، ولا مجال للاشتراك معه، فهو أدني منا باشواط!!!!
تذكروا هدف سعادة: الحزب وسيلة والهدف نهضة وتقدم شعبنا.
(4)
لا "اقليات" و"اكثرية" في منظومة سعادة القومية/الوطنية
الانتماء للأرض، وهويتنا كشعب يحيا على هذه الارض منذ الاف السنين، ومساواتنا امام القانون بمعزل عن ديننا أو عرقنا أو جندرنا هو الضمانة لعدم وجود "اقليات" أو "أكثرية" في منظومة سعادة.
وجود "اكثرية" و"اقلية" ثابتة في مجتمع ما يعني ان المفهوم القومي في ذلك المجتمع يرتكز على نظام دولة عنصري اثني، أو ديني مسيطر، أي انها قومية تتمحور حول اثنية معينة، كالعرق الأبيض مثلا، أو دينا /مذهبا معينا، كالمسيحية أو الاسلام أو اليهودية.
حين تصبح هوية الانسان مرتبطة، ليس بالأرض، بل بالهوية الشخصية من دينية أو اثنية، حينئذ تبرز مشكلة الاقليات التي ستدمر المجتمع لأنها تقسمه الى جزئين: جزء مسيطِر، وجزء آخر مسيطَر عليه!
من هنا، طالب سعادة بإزالة الفوارق الدينية، والتعصب الديني الاعمى، ووجّه نداء إلى القوميين، حين نشبت الفتنة الدينية بين "النجادة" و"الكتائب" عام ١٩٣٦، اذ ناشدهم النزول إلى الشارع، والفصل بين الفريقين "لأن تحويل الوطن إلى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد الموحّد المصير إلى جيشين يتطاحنان للوصول إلى غاية واحدة هي الخراب القومي، عمل شائن لا يليق الا بالشعوب البربرية". (انطون سعادة، الاعمال الكاملة، الجزء الثاني: ٥٤-٥٥)
(5)
ظاهرة زهران ممداني، محافظ مدينة نيويورك
ان انتصار زهران ممداني في انتخابات نيويورك بالرغم من معارضة الاوليغاركية البيضاء له، وتدفق الاموال لإسقاطه، وكون نيويورك معقل المال ورأس المال، ظاهرة استثنائية وملفتة للنظر.
لقد حاولت اميركا "البيضاء" اسقاطه لكنه استطاع ان يتفوق باصوات شعب مختلط، وهو مجموعة من الطوائف والأديان والاعراق، ولا يوجد في الكون اليوم، مكان مماثل للولايات المتحدة الأمريكية من جهة الاختلاط العرقي والديني الممثل لكل المهاجرين القادمين من دول العالم قاطبة.
هذا الرجل المسلم، والاسمر الملامح، استطاع ان يعبّر عن تطلعات الاميركي /الاميركية الذي يرفض التفرقة بين "مستوطن" و"اصيل"، والذي يطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية، والذي يصرخ "كلنا مستوطنون"، ومعه كل الحق في ذلك، لأن "الابيض" مستوطن أيضا، وها هو هذا المستوطن الابيض يحاول ان يسيطر، وأن يقول بأنه هو الاصيل، وغيره من الاعراق دخلاء، بينما الحقيقة الساطعة ان الابيض ليس فقط دخيلا، بل عمل على إبادة الاصيل، وهم الهنود الحمر، سكان اميركا الاصليون.
لقد ثار ممداني على هذا الوضع، واعتبر ان الجميع متساوين، ولذلك تتوافق رؤيته مع رؤية سعادة الذي لا يفرق بين مستوطن وأصيل.
ان زهران ممداني لا يناصر القضية الفلسطينية المحقة فقط، بل يذهب أبعد من ذلك في تحديده لمفهوم الامة، ورفضه لأي شكل من أشكال العنصرية، فممداني يطالب بالاندماج والمساواة، ورفض عنصرية الابيض المتعالي، والذي يعتبر نفسه أنه اساس الحضارة، وأساس الدولة-الامة، وان لا نظير له، وكل الباقين هم برابرة متوحشين!!
ان خلفية ممداني هي خلفية
الآتي من اصول هندية، حيث تآخت الملل والاديان ، وتم تمزيق هذا النسيج الذي حاول غاندي حمايته، من قبل الاستعمار البريطاني، فدّمر مجتمعا مسالما، وخلق عنصرية وكرها وحروبا دموية، وتقسيما للهند طمعا في استخراج ثرواتها بلا رقيب او حسيب!