
بقيت جغرافية «سوراقيا» واحدة عبر العصور وحتى بداية القرن العشرين حين مزّقها الاستعمار الغربي بهدف الإمعان في السيطرة، وتأليب الفئات الشعبية بعضها ضد البعض الآخر عبر إثارة النعرات الطائفية والإثنية، ولا يزال يمارس السياسة ذاتها. فالحرب الطائفية التي حذّر منها سعادة واعتبر أنها لا تؤدي إلا إلى «الخراب القومي» نشبت في لبنان عام 1975 ودمّرت البلد، وحين انتهى المستعمر من استعمال الطائفة المسيحية لمآربه الخاصة وقضى على وجودها، انتقل إلى تأليب السنة ضد الشيعة، والكردي ضد العناصر الأخرى، ولن يتوانى عن تدمير هذه الحضارة التي هي نقيض الحضارة الغربية القائمة على التطهير العرقي والديني كما يبيّن تاريخ الغرب منذ بداية الحضارة الغربية في اليونان وبعدها
الامبراطورية الرومانية، ثم الكنيسة الكاثوليكية والدولة الحديثة العنصرية وهيمنة العرق الأبيض. فحضارة «سوراقيا» حضارة اندماجية منفتحة، محبة للآخر، تقبله ويصبح جزءاً منها، سواء أكان هذا الآخر مختلفاً دينياً أم إثنياً، ولولا هذا القبول لما وُجد عندنا هذا العدد الكبير من الاثنيات والملل. لذلك شدّد سعادة على أن الشعب المقيم على أرض "سوراقيا " شعب واحد بمعزل عن دينه أو إثنيته أو جندره، وعلى هذا الأساس أصبح شعار الزوبعة التوحيدي علم حزبه:
«زوبعة الحزب السوري القومي الإصلاحي نشأت من فكرة سوريّة خالصة أرادت أن ترمز إلى الاتحاد الشعبي بإزالة الفوارق الدينية. هذه الزوبعة هي الطريقة الوحيدة للجمع بين الصليب والهلال متدامجين ومتحدين اتحاداً متيناً في حركة واحدة. هذا هو رمز الزوبعة، وليس تقليد الصليب المعقوف الألماني، («الأعمال الكاملة»، الجزء السابع، الصفحة 79 ، العام 1944). وتظهر الصور كيف أن سعادة أشرك كل الطوائف والمذاهب والإثنيات رجالاً ونساء في نهضته ولم يستثن أحداً من شعبه في بلاد الشام.
خلال فترة القرن العشرين، ركّز المستعمر على ترسيخ حدود سايكس-بيكو، وإقناع كل كيان من كيانات سوراقيا بأنه بلد نهائي وأن جاره ألدّ أعدائه، ولسوء الحظ اقتنع عدد كبير من السكان بهذا المنطق وحسبوا أنفسهم «العرق الأبيض» الجديد في المنطقة، وأصبحوا يحاربون في سبيل انعزالهم وبناء كيان مستقل لهم، ويعملون بكل قوتهم ضد أي مشروع وحدوي ويستجلبون الغربي والإسرائيلي لدعمهم ضد أخيهم في المواطنة والعيش المشترك، وهذا تماماً ما حاول سعادة تلافيه، إذ كان هاجسه إعادة اللحمة إلى «سوراقيا»، لأنه يعرف مسبقاً أنه من المستحيل أن ينجح أحد الكيانات التي قام الاحتلال الغربي بإنشائها من الحصول على أيّ استقلالية سياسية أو اقتصادية بسبب هزالها وضعفها وعدم استحواذها على الإمكانات
المادية الضرورية حتى لو شاء شعبها تغيير الأمر الواقع، وارتأى، كما والده من قبل، أن الوحدة ضرورية لتعميم ثقافة واحدة تؤسّس لوحدة المجتمع.
إذاً، يصبو سعادة إلى توحيد المجتمع قبل أي شيء آخر، وإزالة الانقسامات العمودية من إثنية ودينية، واعتبار هذا التنوع مصدر غنى ثقافي بالغ الأهمية كونه يشير إلى هذه الحضارة المتميزة عن غيرها في هذه النقطة بالذات، أي انفتاحها وتسامحها تجاه الآخر، فلا تقتله أو تلغيه أو تهجره، ما أدى إلى الحفاظ على كل هذه التلاوين الرائعة بالرغم من تضاربها في بعض الأحيان.