لم يستطع هذا المراهق أن يفهم لماذا " هم" أفضل منا، ولماذا نصّبوا أنفسهم كحاملين لـ«الحضارة» يبيعونها لمن يتصورون أنه مجتمع جاهل، متخلّف، بربري ومتوحّش، وهو الذي وُلد عام 1904 كسوري، إذ إن «لبنان الكبير» لم يكن موجوداً قبل دخول الفرنسي وتمزيقه لبلاد الشام بمعاونة البريطاني. هذه البريطانيا العظمى التي تنبّأ الدكتور خليل سعادة، والد أنطون، باندثارها حين قال عام 1931: «سوف تستيقظ بريطانيا وفرنسا إلى الأخطار التي تحيق بهما متى نشبت حرب عالمية أخرى، وستكون تلك الحرب الهائلة بدء تفكك الإمبراطورية البريطانية» (مجلة الرابطة، عدد 222 في الثالث من آذار 1934).
تجَسّد طفولة سعادة مآسي كل أطفال منطقة الهلال الخصيب من تشريد وتهجير وجوع ودمار واختفاء الأهل والأصدقاء وتناثرهم في بقاع العالم بحثاً عن الاستقرار والطمأنينة، فلا السلطنة العثمانية أمّنت لهم ازدهاراً وتطوراً في بلدهم يسمحان لهم بالبقاء، بل احتكرت كل الخطوط التجارية القادمة من الشرق الأقصى وحوّلتها إلى الغرب عبر إسطنبول، ولا هي استطاعت الدفاع عن إمبراطوريتها أمام الزحف الغربي للاستيلاء على المواد الأولية كالنفط، فتكرّست الهيمنة الغربية التي ستمنع البلاد من النهوض عبر تقسيمها لإضعافها وإخضاعها وتحويل سكانها إلى عبيد على أرضهم يستهلكون ما تنتجه الآلة الغربية الهائلة.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حطّ أنطون سعادة مع إخوته عند أخواله المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية بانتظار ما ستؤول إليه أحوال والدهم الذي اضطر لمغادرة مصر بعد دعمه لثورة عرابي باشا. وما إن استقر الدكتور خليل سعادة في البرازيل حتى طلب من أولاده ملاقاته هناك. كان الدكتور خليل سعادة قد تخرّج طبيباً جراحاً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في الكلية السورية البروتستانية (الجامعة الأميركية في بيروت) مع زملائه يعقوب صروف، بشارة زلزل، شبلي الشميل وجرجي زيدان، وهي أسماء كبيرة لمعت في فضاء المنطقة في السياسة والأدب والطب والصحافة.
لم يستطع أنطون سعادة أن ينسى مأساة وطنه، أو أن يتخلى عن أمته التي اعتبرها كأمّه. رفض أن يتأقلم مع الواقع الجديد، فطالما بلاده ليست في خير، لن يكون هو في خير أيضاً. عكف على دراسة التاريخ، وكتب الاجتماع ومتابعة مجريات السياسات الدولية وانكبّ على قراءة كل ما يمتّ إلى بناء الأمة الوطنية/القومية بصلة: النظريات، أنظمة الحكم، المجتمع والشعب، الاقتصاد والسياسات الدولية. نشأت علاقة خاصة بين أنطون ووالده الذي بدوره قرّر إهمال ممارسة اختصاصه في الطب، والتفرّغ إلى الكتابة في صحيفة سياسية أصدرها الاثنان وحيدين، ودون معاونة أحد، حتى إن أنطون تعلّم صف الأحرف المطبعية، فكان يكتب المقال رأساً عبر صفّه في الجريدة. وبذل الاثنان حياتهما من أجل توعية أهل بلادهما، وإرشادهم إلى طريق الخلاص، طريق بناء الدولة الوطنية التي وحدها تستطيع أن تواجه الدولة الغربية بكل جبروتها وصلافتها.
وكما تخلّى الأب عن مكانة مرموقة وبحبوحة مادية نتيجة مركزه كطبيب، خاصة وأنه ترأّس مستشفى في عكا قبل رحيله إلى مصر؛ كذلك الابن، تخلّى عن أي طموح مادي وعاش حياة متقشّفة شديدة البساطة، ولم يتطلع أو يشفق على نفسه للحظة لأنه اتخذ قراراً لا رجعة عنه: «يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة كي أساعد على تضميد جراح أمّتي البالغة» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول: 43).