بين قرنٍ مضى وآخر يبدأ ومنذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، خاضت النهضة التي بشّر بها أنطون سعاده معركةً مستمرة بين الفكر والواقع. فالحزب لم يكن مجرّد تنظيمٍ سياسي، بل مشروعًا إنسانيًا متكاملًا هدفه إعادة بناء الإنسان والمجتمع على أسسٍ علميةٍ وأخلاقيةٍ وحضارية. وقد وُلد الحزب في مرحلةٍ كانت الأمة السورية تعاني من الاحتلال، والتجزئة، والأمية، وانهيار الاقتصاد الزراعي والصناعي، وهيمنة العصبيات الطائفية التي قسّمت المجتمع إلى جزرٍ متناحرة. فجاء فكر سعاده ليطرح رؤيةً جديدة تُعيد تعريف معنى الوطن والمواطنة والكرامة، وتربط بين حرية الفرد وسيادة المجتمع.
غير أنّ طريق النهضة لم يكن مفروشًا بالورود. فقد واجه الحزب مقاومةً شرسة من الأنظمة التي رأت في فكره خطرًا على مصالحها، ومن القوى الخارجية التي خشيت من مشروع يوحّد الأمة ويحرّرها من التبعية، ويوحد قدراتها لمواجهة المشاريع الاستعمارية المتحالفة مع المشروع اليهودي الاحتلالي التوسعي في فلسطين. كما واجه أزماتٍ داخليةً ناجمةً عن الانقسامات الفكرية والتنظيمية، إضافة الى تراجع التربية المناقبية، وضعف الانفتاح على التحولات التكنولوجية والعلمية التي غيّرت وجه العالم في العقود الأخيرة. هكذا، ضاعت العقيدة في جدل التنظيم، وتراجع المشروع إلى الشعارات.
لكنّ الفكرة لم تمت، لأنها فكرة حياة. لقد كانت كلّ انتكاسةٍ درسًا، وكلّ خيبةٍ فرصةً لإعادة التفكير. واليوم، ونحن نقترب من المئوية الأولى لتأسيس الحزب (1932–2032)، نجد أنفسنا أمام لحظةٍ تاريخية لإحياء المشروع القومي بروحٍ جديدة. فالعالم يعيش ثورةً رقميةً كبرى أعادت تشكيل موازين القوة وتوزيع الثروة والنفوذ، ولم يعد الاستقلال السياسي كافيًا دون السيادة المعرفية والتكنولوجية. لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى سلاحٍ استراتيجي، كما تحول اقتصاد المعرفة إلى ميدانٍ جديد للتنافس بين الأمم. فإذا أرادت النهضة أن تبقى مشروعًا حيًا، فعليها أن تدخل هذا العصر لا كمتلقٍّ، بل كفاعلٍ منتجٍ ومبتكرٍ وصانع مستقبل.
لم تكن النهضة التي أسسها سعاده ثورةً ضد الماضي فقط، بل ثورةً من أجل المستقبل. فسعاده لم يُرِد حزبًا عقائديًا منغلقًا، بل حركة وعيٍ وتغييرٍ دائم تستلهم العلم وتخدم الإنسان.
واليوم، بعد قرنٍ من التجربة، باتت الحاجة أكثر إلحاحًا لإعادة قراءة هذا الفكر في ضوء التحديات الجديدة التي تواجه الأمة وأهمها التفكك الاجتماعي، والفساد المؤسسي، والتبعية الاقتصادية، واستلاب العقول عبر الإعلام والثقافة الاستهلاكية.
ليست النهضة معركةً سياسية فحسب، بل مشروعا حضاريا متكاملا يبدأ من الإنسان، فالإنسان النهضوي هو الذي يتحرّر من الخوف، ويملك القدرة على التفكير النقدي والإبداعي، ويتحمّل مسؤولية ذاته ومجتمعه. لذلك، يجب أن تنتقل النهضة من الوعظ إلى التكوين، ومن التلقين إلى التربية على الوعي والفعل. فكما قال سعاده: “المجتمع معرفة والمعرفة قوة”، وهذا قبل عقود من ظهور ما يسمى اليوم بعصر المعرفة، والمعرفة حاليًا هي معرفة رقمية، تكنولوجية، علمية، وإنسانية واجتماعية في آنٍ واحد.
ان إعادة قراءة النهضة تعني أيضًا إعادة تعريف مفهوم القومية الاجتماعية في زمنٍ باتت فيه الحدود أقلّ صلابة، والمجتمعات أكثر تداخلًا. فالقومية الاجتماعية اليوم ليست انغلاقًا على الذات، أو عنصرية شوفينية مقفلة ومتعالية، بل انفتاحًا على العالم من موقع القوة والهوية. هي وعيٌ للمصلحة العامة، التي على أساسها تتشكل الإرادة العامة الجامعة الموحدة، لا تعصّبٌ للجماعة. وهي سعيٌ لتكامل الكيانات في سورية الطبيعية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا ضمن مشروعٍ واحدٍ للنهضة المستقلة.
وفي عصر التحوّل الرقمي، يمكن لهذه النهضة أن تتجسّد عبر بناء اقتصادٍ معرفيٍّ مشترك يوظّف العقول السورية في الداخل والمغتربات في مشروعاتٍ تكنولوجيةٍ وإبداعيةٍ متكاملة، تعيد للأمة حضورها في العالم الحديث.
إنّ النهضة الجديدة هي ثورةٌ علميةٌ ثقافيةٌ اقتصادية، تنطلق من التعليم والإنتاج لا من الشعارات. ترفض ثقافة الموت والانغلاق، وتؤمن بأنّ التضحية الكبرى اليوم هي في العمل والإبداع والعلم والإنتاج، لا في الانفعال والانتظار. فالنهضة الحقيقية هي التي تصنع الحياة الراقية لشعبها، وتحوّل الألم إلى معرفةٍ، والمعرفة إلى قوّةٍ منظمة.
ولكي تتحول النهضة إلى فعلٍ تاريخيٍّ معاصر، لا بدّ من مشروعٍ مرحلي واقعيٍّ متكامل يعيد وصل الفكر القومي الاجتماعي بمتطلبات العصر. يقوم هذا المشروع على ستة محاور مترابطة تشكّل معًا الإطار العملي للمرحلة المقبلة، حيث يتوحّد الوعي القومي مع التكنولوجيا، والثقافة مع الاقتصاد، والفكر مع العمل الميداني:
الثقافة هي الركيزة الأولى لأي نهضة، لأنها تصوغ الوجدان الجماعي وتعيد توجيه البوصلة نحو الغاية القومية الكبرى. ففي عصر السرعة والافتراضية، تتعرض الهوية القومية لمحاولات تشويه وإلغاء عبر الإعلام الموجّه والثقافة الاستهلاكية والعزلة الطائفية.. فالهوية ليست شعارًا يُرفع، بل مشروع وعيٍ وأسلوب حياة، ووقودٌ وجدانيٌّ يجعل المواطنة التزامًا بالرسالة لا مجرد وراثةٍ قانونية أو عاطفية. لذلك فالمطلوب اليوم أن:
− نعيد تعريف الثقافة بوصفها قوة بناءٍ لا ترفًا فكريًا — من خلال إنتاجٍ فنيٍّ ومعرفيٍّ يعكس قيم النهضة بلغة هذا القرن.
− إنشاء منصّات رقمية للأدب والفكر والفنون، ومراكز بحث تُعيد قراءة التاريخ والوجدان المشترك، هو المدخل لاستعادة ثقة الجيل الجديد بانتمائه وهويته.
النهضة تبدأ من المدرسة، وتنضج في الجامعة، وتزدهر في العمل.
التربية الحديثة مطالبة بتجاوز الحفظ والتلقين، نحو تعليمٍ يربّي على التفكير النقدي والإبداعي والقيادة.
ينبغي أن تتوجّه المناهج الى تنمية القدرات العقلية والوجدانية والاجتماعية للمتعلم، مع إدخال الذكاء الاصطناعي والبرمجة والعلوم التطبيقية ومهارات ريادة الأعمال ضمن أساسات التعليم القومي.
المدرسة النهضوية الحديثة ليست مكانًا لتلقين المعارف، بل بيئةٌ لتكوين الشخصية القادرة على التحليل، والإنتاج، وتحويل المعرفة إلى قوةٍ عملية.
بهذه المقاربة، يصبح التعليم هو بوابة اقتصاد المعرفة ومحور التحول الاجتماعي، وأداة تحصينٍ وطني ضدّ الجهل والتطرف والاغتراب الثقافي.
اذا كان الاقتصاد هو الميدان الذي تُختبر فيه صدقية الشعارات فالنهضة القومية الاجتماعية اليوم مطالبة بإطلاق ثورةٍ اقتصاديةٍ معرفيةٍ تعيد للأمة استقلالها وكرامتها. فالثروة لم تعد في الأرض وحدها، بل في العقول المبدعة، والمختبرات، والمنصات الرقمية، وفي قدرتنا على تحويل الفكرة إلى منتجٍ يضيف قيمةً ويخلق فرصًا.
إنّ بناء اقتصادٍ رقميٍّ منتج يدمج الزراعة والصناعة والخدمات بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ويولّد قطاعات إنتاجية وخدماتية رقمية ذكية جديدة، هو الضمان الوحيد لبقاء الأمة في ميدان المنافسة العالمية. فالتحول نحو اقتصاد المعرفة يوفّر بيئةً جديدة للابتكار، ويخلق قطاعاتٍ مستحدثة في التعليم الإلكتروني، والطاقة المتجددة، والأمن السيبراني، والاقتصاد الأخضر. كلّ ذلك يجب أن يتم في إطارٍ من العدالة الاجتماعية، بحيث لا يتحول التحول الرقمي إلى مصدرٍ جديد للتفاوت، بل إلى أداةٍ لإطلاق الطاقات الكامنة في المجتمع.
تواجه الكيانات في سورية الطبيعية اليوم تحديًا وجوديًا لا يقلّ خطورة عن أي احتلالٍ خطر. انه تفككٌ داخليٌّ متزايد، وانقسامٌ اجتماعيٌّ وطائفيٌّ واثني يضرب النسيج الوطني، وغياب آليةٍ واضحةٍ للتعاون والتكامل بين هذه الكيانات التي تجمعها الجغرافيا والتاريخ والمصير. اما الحدود السياسية فقد أصبحت أضيق من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تربط سكان هذه الكيانات، مما يوهن الدورة الحياتية الاقتصادية الاجتماعية في بيئة الهلال الخصيب، فيما الأنظمة العاجزة تُغذّي الانغلاق والانقسام بدل التكامل.
بالمقابل، يقدّم عصر اقتصاد المعرفة والتحول الرقمي فرصةً نادرة لتجاوز هذا التفكك من خلال بناء شبكاتٍ تكامليةٍ جديدة تعتمد على العلم والإنتاج والابتكار، لا على السياسة الضيقة، والفئويات الكيانية والطائفية والعرقية التي غذاها الاستعمار على مدى قرن كامل حتى الآن. من هنا، يُقترَح أن يكون في صلب المشروع النهضوي المستقبلي إنشاء مجلسٍ للتعاون الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي، يعمل كإطارٍ تنسيقيٍّ بين حكومات الكيانات في سورية الطبيعية لتبادل الخبرات، وتوحيد التشريعات، وربط البنى التحتية الرقمية والتعليمية والبحثية، على طريق التعاون والتكامل الاقتصادي، وتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية. مجلسٌ يُعيد مفهوم التكامل القومي في بعده العملي:
- تكاملٌ في الطاقة والزراعة والتعليم والبحث العلمي،
- وتعاونٌ في مجالات الأمن السيبراني، والتجارة الإلكترونية، والابتكار الصناعي والتبادل التجاري والترانزيت والطاقة، للاستغلال الأمثل للموارد والموقع الجيوسياسي المتميز
- وتنسيقٌ في السياسات الاجتماعية والبيئية.
بهذه الرؤية، يضطلع الحزب السوري القومي الاجتماعي بدورٍ محوريٍّ في قيادة هذا المسار:
- تحصين المجتمعات من الداخل عبر ترميم النسيج الاجتماعي.
- مواجهة الطائفية والقبلية بمشاريع وحدةٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ واقتصاديةٍ حيّة،
- وبناء شبكات تواصلٍ ومؤسساتٍ إنتاجٍ وتعاونٍ مشتركةٍ تُعيد إلى الأمة شعورها بالانتماء العضوي إلى كيانٍ واحدٍ متكامل.
فالنهضة لا تتحقق بإعادة رسم الحدود، بل بإعادة بناء الروابط الحية بين الإنسان وأخيه في الكيان الآخر، عبر المصالح المشتركة والعمل المنتج والوعي الجماعي بالمصير الواحد.
الحوكمة القومية يجب أن تستند إلى مبادئ المساءلة، وتقييم الأداء، وتوزيع الصلاحيات على أساس الكفاءة لا الولاء. فالإدارة الحديثة هي التي تجعل من المعلومة أساس القرار، ومن التخطيط أداة التنفيذ، ومن الرقمنة وسيلةً للشفافية لا للبيروقراطية كما يجب أن يتحول العمل الإداري في الحزب والمؤسسات الوطنية إلى نموذجٍ يُحتذى، يقوم على القيادة بالمثال، والعمل الجماعي، واحترام الوقت والإنتاجية. فالإدارة هي الجسر الذي يصل الفكر بالفعل، والعقيدة بالتطبيق. الثابت انه لا نهضة بلا نظام، ولا نظام بلا عدالةٍ وشفافية.
النهضة مشروع حياة، وحمايتها تتطلب فهمًا متطورًا للأمن القومي فالمخاطر لم تعد عسكريةً فقط، بل تشمل الحروب السيبرانية، والاختراقات الإعلامية، والتضليل الرقمي، والهيمنة الاقتصادية. وعليه فالمطلوب:
- نظام دفاع ذكي يجمع بين العلم والإدارة والانضباط
- تطوير القدرات الدفاعية التقليدية بأسلحة دقيقة وتكنولوجيا محلية
- إنشاء مراكز أبحاث للأمن السيبراني والمعلوماتي
- بناء وعيٍ إعلاميٍّ وشعبيٍّ يحصّن المجتمع من الحرب النفسية والتفتيت الثقافي
- تعزيز الأمن الاجتماعي الداخلي كحاجزٍ أمام محاولات الاختراق والتمزيق
بهذا المعنى، يصبح الأمن فعل حياةٍ منظم، لا ردّ فعلٍ يستبطن خوفًا أو فوضى لأن الدفاع عن الأمة اليوم يبدأ من المدرسة والجامعة، كما يبدأ من المصنع والمختبر، وينتهي في كلّ عقلٍ يعي مسؤوليته تجاه الوطن والكرامة.
في زمن الانقسام الحزبي وفقدان الثقة، يمكن لمؤسسة سعاده للثقافة أن تكون منارة فكرية وواحة لقاء. فهي ليست حزبًا ولا بديلًا عن الحزب، بل حاضنة تجمع القوميين والمثقفين من مختلف الاتجاهات لتأهيل جيلٍ جديدٍ من القيادات الواعية المتخصصة في الفكر، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والإعلام.
وتسعى المؤسسة إلى بناء رأس مالٍ بشريٍّ نهضويٍّ يُجيد استخدام أدوات العصر دون أن يفقد جذوره من خلال المنتديات الفكرية، والدورات التدريبية، والمراكز البحثية، والبرامج الثقافية والفنية، يمكن للمؤسسة أن تُعيد وصل الفكر القومي الاجتماعي بالحياة اليومية، وتُمهّد الأرضية لوحدة الحزب والمجتمع. ودورها أن تُبقي شعلة الوعي متقدة إلى أن تتوحّد الإرادة السياسية على مشروعٍ قوميٍّ جامع. إنها فضاءُ الحوار البنّاء، ومختبرُ الأفكار الجديدة، والمدرسة التي تُخرّج الإنسان النهضوي القادر على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الوجدان القومي والعقل العلمي.
مع اقتراب المئوية الأولى لتأسيس الحزب، تقف النهضة أمام لحظةٍ مصيرية فإمّا أن تبقى حنينًا إلى الماضي، وإمّا أن تتحوّل إلى مشروع المستقبل.
ولقد أثبت التاريخ أنّ الفكر القومي الاجتماعي هو أعظم محاولةٍ لخلق وعيٍ جديدٍ في هذه الأمة، لكنّ نجاحه اليوم مرهونٌ بقدرته على مواكبة التحوّل العلمي والتكنولوجي والاقتصادي العالمي. إنّ معركتنا لم تعد فقط ضد الاستعمار السياسي والمشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي، بل ضدّ الجهل والفساد والتبعية الفكرية. وعلينا أن نبني وطنًا يُفكّر بعقله لا بغرائزه، ويُنتج بعلمه لا بشعاراته، ويصون كرامته بالوعي لا بالخوف. فلتكن السنوات القادمة عقدَ الفعل لا التبرير، عقدَ البناء لا الندم والندب.
ولتكن مؤسسة سعادة للثقافة منارة الفكر والبحث، والحزب القومي أداة تحقيق النهضة في هذا العصر، والجيل الجديد شعلة النهضة المتجددة. هكذا فقط نستحقّ أن نحتفل بمئوية الحزب لا كذكرى ماضية، بل كبدايةٍ لقرنٍ جديدٍ من الوعي، والعمل، والإبداع، والانتصار.