برع السوريون في مختلف المجالات العلمية والفلسفية خلال العصور الكلاسيكية، والتي استمرت منذ دخول الإسكندر سورية عام 333 قبل الميلاد، وهو عام انتصاره في معركة إيسوس وحتى نهاية العصر البيزنظي عام 636 ميلادية، ومن الفلاسفة البارعين في فكرهم وعبقريتهم خلال العصر البيزنطي كان الفيلسوف السوري الدمشقي "دمسقيوس Damaskios،Damascius" خير مثالٍ لفكرٍ فلسفي سوري أصيل، حيث استطاع أن يصبح معلّماً للفكر الأفلاطوني المحدث في أثينا خلال القرن السادس الميلادي، و"دمسقيوس" المولود في دمشق عام 480م، درس في الإسكندرية على يدي "أمونيوس"، ثمّ تابع درسه في أثينا على يدي الفيلسوف "إيزودورس الغزاوي"، وقد استلم زعامة الأكاديمية بعدَه، وبعد أن أغلق الإمبراطور البيزنطي "جوستنيانوس" مدارس أثينا الفلسفية عام 529م، رحل إلى فارس في عهد الملك الفارسي "كسرى أنوشروان"، ومن المؤرخين من يذكر أنّه قصد مدينة "حرّان" هو و"سمبليقوس الكيليكي" ومن ثمّ توجه إلى مصر ليتوفى فيها عام 544م، وقد عُرف عن "دمسقيوس" حبّ الورع، حيث يلاحظ ذلك من خلال كتابه "حياة إيزودورس".
ومن أهم أعماله الفلسفية أنّه دوّن شروحاً حول محاورات "بارمنيدس" و"تيماوس" لأفلاطون، كما قام بوضع مؤلف "مسائل وحلول في المبادئ الأولية". وله كذلك رسالة مطولة بالمبادئ، وهي شرح للقسم الأخير من محاورة "بارمنيدس"، فكلّ البنيان الهرمي الثابت لدرجات الوجود، الذي صمّمه وأشاده الفيلسوف "أبروقلوس" تداعى ليخلي مكانه لحياة روحية وصوفية، شرّعت الأبواب وفتحت السُبل من جديد أمام منازل الوجود العليا، وما كان يشغل بشكل كبير عقل "دمسقيوس" كان تهديم المقولات التي جمّدها "أبروقليوس" وتبيان عدم ارتكازها إلى أيّ نقطة استناد، ففي محاورة الفيلسوف "بارمنيدس" حيث قال: «لا يجوز اتخاذ الواحد المفارق المتعالي بوظائفه المحددة (توحيد الواقع) مبدأ أول، ففوق الواحد يوجد الفائق الوصف الممتنع عن الجميع العادم الارتباط، والمفارق إلى حدّ لا يعود معه يحوز حقاً التفارق؛ ذلك أنّ المفارق مفارق لشيء ويظلّ محتفظاً بعلاقة ما بما هو مفارق له، إذاً يجب وضع المبدأ خارج التراتب الهرمي وفوقه، وأن نمتنع عن نسبة أي نظام وأيّ تراتب هرمي إليه، لكن هل يأتي مع ذلك شيء منه إلى أشياء هذه الدنيا»؟، هذا الشيء هو ما يحتويه كلّ وجود من شيء ممتنع على الوصف ممتنع على الفهم، وكلّما ارتقينا صُعُداً التقينا أكثر فأكثر بفائق الوصف «فالواحد أكثر امتناعاً عن الوصف من الوجود والوجود أكثر امتناعاً عن الوصف من الحياة والحياة أكثر امتناعاً عن الوصف من العقل»
لقد كان "دمسقيوس" قريباً إلى جدل أفلوطين، فالفائق الوصف مثله مثل الأول الذي قال به أفلوطين في رسالته عن إرادة الواحد، وبالمقابل فإنّ الواحد نظراً إلى أنّه علّة يتحدد بوظيفة وبعلاقة، كما كان "دمسقيوس" مفعماً بالشّك إزاء تلك الطريقة التي قال بها كلّ من الفيلسوفين "يامبليخوس" و"أبروقلوس" في تعيين المبادئ، فعينها الكبير في نظره أنّ المعاني التي تتداولها بصدد المبادئ لا معنى لها إلا في المشتقات، فمن ذلك أنّ هؤلاء حينما يرغبون في بيان الكيفية التي تشتق بها من الواحد الجذري الكلية الأحادية، التي هي أشبه بالمجموع المتحد للموجودات المعقولة، يجعلون من هذه الكلية المتحدة تركيباً لمبدأين متعارضين يسمونهما؛ الواحد والثنائي أو الحدّ واللامحدود أو كذلك الأب والقوة، وكذلك كان لدى "دمسقيوس" تصوّر جديد للثلاثي الأولي تحلّ فيه محلّ الآناء الثلاثة (الثبات والانبثاق والارتداد)، حدود ثلاثة لا ينال تثليثها من وحدتها؛ الأول من هذه الحدود واحد -كلّ-، فهو واحد بذاته وكلّ من حيث أنّه مُنتِج للثاني؛ والثاني كلّ -واحد-، كلّ بذاته وواحد بفعل الأول؛ والثالث يأخذ من الأول الواجد ومن الثاني الكلّ، وكلّ حدّ من هذه الحدود الثلاثة أشبه بمظهر أو وجه لوجود واحد، وكذلك رأى "دمسقيوس" أن العالم المحسوس ليس صورة لكل الوجود ما فوق الحسي برمته، وإنّما هو كسرة صغيرة فقط من هذا الوجود، وبالتالي من عالم المُثُل.
لقد نقل دمسقيوس الفكر الفلسفي خطوات متقدمة نحو التفكير بمبادئ فلسفية وفكرية وعقلية وتأملية، تمثلت فيما كتبه ودوّنه وعلّمه لتلامذته، استفاد منها معظم الفلاسفة الذين أتوا بعده، فكان -بحق- منارة علمية لهم، ولكن للأسف يبقى "دمسقيوس" شخصية مغمورة، في دراستنا بشكل عام، فقليلون هم من يأتون على ذكر هذا الفيلسوف الحاذق.
1- Preus, Anthony, Historical Dictionary of Ancient Greek Philosophy, Plymouth 2007.
2- برهبيه، إميل، تاريخ الفلسفة، ج2، تر: جورج طرابيشي، ط2، دار الطليعة، بيروت 1988.
3- الحفني، عبد المنعم، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، ج1، ط2، القاهرة 1999
.
مصدر الصورة:
https://licentiapoetica.com/damasciuss-influence-and-legacy-32754f93e330