مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
أنطون سعادة... تتغيّر الأدوات والغاية ذاتها
 
الحاج، بدر
 

 

 

مؤامرة الجميزة بصيغة جديدة

 

 

سياسة إلغاء فكرة العداء للمشروع الاستيطاني الصهيوني في لبنان هي نهج ثابت في السياسة الرسمية اللبنانية منذ قيام ذلك المشروع على أرض فلسطين. في الماضي كانت الغلبة دائماً للحكام الذين جندوا علاقاتهم الدولية والعربية لاجتثاث كل تنظيم مقاوم في بنيته ونهجه. وما يحاولون اليوم تنفيذه بأوامر غربية وعربية هو عملياً تنفيذ لتمنيات ومطالب صهيونية ملخّصها: إذا لم تستطيعوا سحق المقاومة فنحن سنتولى الأمر! وكما جرت عوائد النظام السياسي اللبناني عند تعرضه لأي اهتزاز وخطر وجودي، فإنه يلجأ إلى الاستعانة بقوى عربية ودولية، بل حتى بإسرائيل، لإنقاذه.

 

هذا الاعتقاد المذكور أعلاه تثبته أحداث سبق أن وقعت في لبنان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، حدث مع صعود التيار الناصري في الخمسينيات من القرن الماضي ورغبة كميل شمعون في التجديد والالتحاق بحلف بغداد، أن انفجر الوضع. فسارعت السلطة إلى الاستعانة بالبحرية الأميركية التي وصلت إلى لبنان، وتدفق السلاح الإسرائيلي والإيراني، وكانت الطائرات الإيرانية تنقل السلاح ليلاً حيث تطفأ أنوار مدارج المطار وينقل السلاح إلى أنصار شمعون (راجع كتاب رؤوفين أرليخ «المتاهة اللبنانية»).

 

في ذلك الوقت كان السلاح الإيراني شرعياً ومرغوباً به لأنه كان موجهاً إلى صدور اللبنانيين. بعد جولات من القتال تمت تسوية الوضع وأنقذ النظام اللبناني بتسمية فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو الذي كان ينتظر على أحرّ من الجمر وصوله إلى كرسي بعبدا منذ سقوط بشارة الخوري عام 1952. وطويت صفحة قتال 1958 بتسوية بين مصر والولايات المتحدة الأميركية.

 

بعد سنوات قليلة، واجه النظام اللبناني أزمة جديدة أكثر خطورة تمثلت في وجود قوي للمقاومة الفلسطينية في لبنان بعد اتفاقية الطائف التي شرّعت ذلك الوجود والتي باركها سراً فؤاد شهاب. الانتشار الفلسطيني مزق بنية النظام الطائفي اللبناني بعد أن التحقت أعداد ضخمة من اللبنانيين بالتنظيمات الفلسطينية. هذا الوضع المستجد استنفر الصهاينة وتم التخطيط لتفجير حرب أهلية بالتعاون والتنسيق بين قسم من اللبنانيين ودعم قوى غربية وعربية.

 

وبما أنه لا ضرورة في هذه العجالة لتكرار أحداث تلك الحرب التي أدت إلى احتلال الجنوب والعاصمة بيروت، إضافة إلى المجازر التي ارتكبت، ثم هزيمة الاحتلال وطرده... فالمتعارف عليه أن شرارة تفجير تلك الحرب أشعلتها جريمة عين الرمانة في 13 نيسان 1975 عندما أعدّ مسلحو حزب الكتائب اللبنانية كميناً لحافلة كانت تقل مجموعة من الفلسطينيين العزّل من السلاح، العائدين إلى مخيم تل الزعتر في الضاحية الشرقية بعد مشاركتهم في احتفال فلسطيني، فسقط منهم عشرات الشهداء.

 

كانت «الكتائب» أداة تفجير الحرب الأهلية ووسيلة نشرها، وهي ذات سوابق في مثل هذه الأدوار. فهي التي ارتكبت جريمة الهجوم مساء 9 حزيران 1949 على مكاتب جريدة الحزب السوري القومي الاجتماعي «الجيل الجديد» في الجميزة، والتي أعقبها مباشرة في أقل من ساعة هجوم وحدات من الجيش والدرك على منزل زعيم الحزب أنطون سعاده ومركز الحزب في بيروت. وشمل الهجوم جميع الأراضي اللبنانية حيث تم اعتقال نحو 700 عضو في الحزب بناءً على خطة جرى وضعها سلفاً تهدف إلى التصفية الجسدية لزعيم الحزب واجتثاث فكره من لبنان.

 

هناك تشابه كبير ما بين ملاحقة وحصار سعاده وحزبه عام 1949، والحصار الذي تتعرض له المقاومة وبيئتها اليوم. السبب هو فلسطين. بالنسبة إلى قضية قتل سعاده وملاحقة أعضاء حزبه لا بد من العودة إلى بداية الصراع بين الحزب بقيادة سعاده والسلطة. عاد سعاده إلى لبنان في 2 آذار 1947 بعد نفي قسري دام تسع سنوات ونيف، ماطلت السلطة في السماح له بالعودة، ورفضت إصدار جواز سفر باسمه، وفي نهاية الأمر رضخت.

 

في يوم وصوله مباشرة أعلن في خطاب عودته أن «إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم». وقد وقع ذلك الكلام كالصاعقة على رؤوس قادة الحكم الذين كانوا يتفاوضون سراً مع العدو، لذلك صدرت بحقه مذكرة توقيف بعذر كاذب وهو التجني على الكيان اللبناني، لكن السبب الحقيقي كان موضوع فلسطين.

 

بالعودة إلى مؤامرة الجميزة التي جرت أحداثها في مثل هذه الأيام من عام 1949، لا بد من الإشارة إلى حدثين سبقا المؤامرة، وكانا سبباً أساسياً وحيداً لتنفيذها بالتنسيق بين «الكتائب» والسلطة. الحدث الأول وقع في 10 أيار حينما دخلت قوة عسكرية سورية بقيادة أكرم طبارة الأراضي اللبنانية وحاولت اعتقال الفلسطيني كامل الحسين ونقله إلى دمشق، لكنه حاول الهرب فأردي قتيلاً. وكان كامل الحسين أحد أبرز سماسرة بيع الأراضي في الجنوب والجليل إلى الوكالة اليهودية.

 

وبعد قيام دولة إسرائيل انتقل للعيش في لبنان وكان يتمتع بعلاقات ممتازة مع سياسيين لبنانيين أمثال رياض الصلح الذي منحه هوية لبنانية، وأحمد الأسعد وعلي العبدالله وغيرهم من أصحاب الأملاك في الجنوب والجليل. والجدير بالذكر أنه سبق لسلطات الاحتلال الفرنسي أن منعت كامل الحسين من دخول أراضي الانتداب الفرنسي بسبب نشاطاته في مجال بيع الأراضي في جنوب لبنان.

 

فجّر حادث مصرع الحسين العلاقات اللبنانية - السورية، واعتقل الضابط طبارة وجنود الفرقة التي يقودها. وشنت الحملات الإعلامية بين البلدين. وشكّل سعاده لجنة قانونية للتحقيق في ملابسات الحادث، ونشرت جريدة «الجيل الجديد» ما توصل إليه التحقيق بتأييد العملية السورية، وكان ذلك الموقف من المواقف اللبنانية القليلة.

 

وجاء رد فعل السلطة المزيد من التضييق على نشاطات سعاده، وتهديد أصحاب الصحف والطلب منهم عدم نشر أي بيان بقلم سعاده أو ما يصدر عن الحزب. لكن الأزمة انتهت بالمصالحة وتبويس اللحى على الطريقة العربية بعد تدخل مصري وسعودي. وكان ذلك مؤشراً إلى الدور العربي المشبوه الذي سيتضح لاحقاً.

 

 

محاربة «الهوس» بفلسطين

 


أشرنا في الجزء الأول إلى أن مؤامرة الجميزة التي جرت أحداثها في مثل هذه الأيام من عام 1949، سبقها حدثان، كانا سبباً أساسياً وحيداً لتنفيذها بالتنسيق بين «الكتائب» والسلطة. وقلنا إن الحدث الأول وقع في 10 أيار حينما دخلت قوة عسكرية سورية بقيادة أكرم طبارة الأراضي اللبنانية وحاولت اعتقال الفلسطيني كامل الحسين ونقله إلى دمشق، لكنه حاول الهرب فأُردي قتيلاً.

 

الحدث الثاني والأخطر بالنسبة إلى السلطة اللبنانية، كان خطاب أنطون سعاده في برج البراجنة بتاريخ 29 أيار 1949، الذي ردّ فيه على كلمةٍ لرئيس وزراء دولة إسرائيل الناشئة، ديفيد بن غوريون، ألقاها خلال حفلٍ أُقيم لخريجي مدرسة الضباط العسكرية. وكان بن غوريون قد أعلن في كلمته: «لم نصل إلى غايتنا... فنحن لم نحرر حتى الآن غير قسم واحد من بلادنا تحريراً كاملاً، أما الأقسام الباقية فسيكون مصيرها مصير القسم الذي تسيطر عليه قواتنا».

 

واستطرد: «سنجعل الحرب حرفة يهودية إلى أن يتم تحرير بلادنا بأجمعها. وسنقاتل ما لاح لنا خطر يحول دون تحرير تلك البلاد، بلاد الآباء والأجداد. ستتحقق رؤيا أنبياء إسرائيل، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أراضي الآباء والأجداد الممتدة من الفرات إلى النيل».

 

خطاب سعاده كان بمنزلة الضوء الأخضر للسلطة لتنفيذ مخطط تصفيته جسدياً، وحظر حزبه، واقتلاع أفكاره. الخطاب كان واضحاً ومنسجماً مع مواقف سعاده من المشروع الصهيوني، والتي عبّر عنها باستمرار منذ مطلع فتوّته. ومما جاء في ذلك الخطاب ما يأتي: «إنّ محق الدولة الجديدة المصطنعة هو عملية نعرف مداها جيداً.

 

إنها عملية صراع طويل شاق عنيف، يتطلب كل ذرة من ذرات قوانا، لأن وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال، وتمد الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها».

 

وخلُص إلى القول: «إن الدولة اليهودية تُخرّج اليوم ضباطاً عسكريين، وإن الدولة السورية القومية الاجتماعية التي أعلنتها عام 1932 [ذكرى تأسيس الحزب] تخرّج هي أيضاً بدورها ضباطاً عسكريين!».

 

على ضوء ما جاء في ذلك الخطاب، حزمت السلطة بصورة نهائية أمرها وقررت تصفية سعاده وحزبه. وهذا ما ذكرته مجلة «الصياد» المقرّبة من رياض الصلح، ونقلته الصحف اللبنانية مثل صحيفة «البيرق» المقرّبة من الكتائب اللبنانية والبطريركية المارونية ورئيس الجمهورية. ذكرت «البيرق»، في عددها الصادر في 22 حزيران، الآتي: «إن رئيس الوزارة بقي نحو ثلاثة أشهر يراقب الحزب القومي بصورة خاصة، ولم يشأ أن ينظر إليه بعين المبالاة والجدّ، إلا بعد أن وصل إليه أن عدداً من اللاجئين الفلسطينيين المهووسين انضموا إليه، ويؤلفون ضمنه خلايا لبث روح الحقد والتمرد والثورة».

 

إذاً، اتهامات الحقد والتمرد والثورة سببها «الهوس بفلسطين». لذلك، أخذت السلطة المتحالفة سراً مع العدو على عاتقها اقتلاع هذا «الهوس»، تماماً كما يحدث اليوم.

 

من ناحية أخرى، أدرك الفرنسيون منذ البداية، كما أشار تقرير ديبلوماسي فرنسي بتاريخ 13 حزيران 1949، أنه: «من الواضح أن الحكومة اللبنانية اختلقت هذه القضية (مؤامرة الجميزة) بهدف صرف الانتباه عن القضايا المحرجة الراهنة: القضية الفلسطينية، والإصلاحات التي تطالب بها المعارضة، وحل المجلس النيابي، وما إلى ذلك» (راجع Centre des Archives Diplomatique de Nantes, Beyrouth Ambassade, B 107).


في اليوم التالي، أعلن الصلح أنه بعد الاتصالات العربية والدولية التي أجرتها الحكومة، فإن الطوق حول سعاده والقوميين قد أُحكم، وأن مسألة تسليمه مسألة وقت. ونشرت جريدة «البيرق» في 21 حزيران تصريحاً له قال فيه: «لقد علق الدلو بالحبل، ولم يبقَ إلا أن نسحب الدلو (المقصود سعاده). انتظروا يومين على الأكثر لتسمعوا أنباء سارّة مدوّية». وفي اليوم التالي، أعلن الصلح أن «التدابير التي اتخذها مجلس الوزراء كفيلة بإلقاء القبض على جميع المطلوبين، وفي مقدّمتهم سعاده».

 

تغيّر الوضع بين لبنان والشام بعد نجاح الضغوط المصرية والسعودية والبريطانية والأميركية على حسني الزعيم. بداية التغيير كانت واضحة في توقيع سوريا في 20 حزيران على اتفاقية تسليحية مع بريطانيا، وكذلك في تصريحات الصلح بعد اللقاء «الأخوي» في صباح 26 حزيران في فندق مسابكي في شتورة، بين بشارة الخوري (يرافقه رياض الصلح والمقدم منصور لحود)، وبين حسني الزعيم ومرافقه النقيب كوراني ومحسن البرازي. وأشار البيان المشترك إلى أن الاجتماع استغرق ساعة: «وساده روح الودّ والإخاء اللذين يجمعان البلدين».

 

ويبدو أنه كان للبريطانيين والأميركيين، عبر المبعوثين ويليام سترونغ وسام كوبر، الدور الرئيسي في توحيد سياسة البلدين تجاه السياسة الأنغلو - ساكسونية، كما ذكرت صحيفة «البيرق» في 20 حزيران، إذ أشارت إلى أنه تم البحث في مسألة الإبقاء على الوحدة الاقتصادية، ومسألة الحزب القومي، والخلاف السوري - العراقي، وكانت وجهات النظر متطابقة.

 

تسارعت الأحداث في أواخر حزيران، وتدخل المحور المصري - السعودي مستخدماً الضغط والإغراء لدفع حسني الزعيم إلى تسليم سعاده. وأُعلن في 24 حزيران أن السعودية ستقدم قرضاً لسوريا قدره ستة ملايين دولار على أن يُسدد في غضون عشرة أعوام.

 

وفي 26 حزيران، أُعلنت نتيجة الاستفتاء بفوز حسني الزعيم بالغالبية المطلقة لرئاسة الجمهورية، فتدفقت برقيات التهنئة من المسؤولين اللبنانيين، وحزب الكتائب، والبطريركية المارونية. ولبّى بيار الجميل دعوة حسني الزعيم لزيارة الجبهة السورية برفقة الرئيس السوري.


وفي اليوم التالي، وصلت إلى دمشق بعثة ملكية مصرية برئاسة الفريق عمر فتحي باشا «لتهنئة» حسني الزعيم بفوزه، وبالطبع للحضّ على تسليم سعاده. وفي 28 حزيران، وصل وفد سعودي ضمّ فؤاد حمزة، مستشار الملك عبد العزيز، قادماً من بيروت «للتهنئة»، وفي «مهمة خاصة» أيضاً، وحضر اللقاء محسن البرازي، رئيس الوزراء السوري.

 

لم يكن ديكتاتور سوريا في موقع الرفض لما أملي عليه من قبل المحور المصري - السعودي، والأميركيين والبريطانيين، إضافة إلى حماسة محسن البرازي، زميل الصلح في العمل مع المخابرات البريطانية، لمبدأ التسليم. يُضاف إلى ذلك المصالح الأميركية، ممثلة بشركة «التابلاين». وهكذا تلاقت مصلحة الأنظمة العربية مع المصالح الغربية، فقرّر حسني الزعيم تسليم سعاده.

 

في 30 حزيران، نقلت جريدة «البيرق» تصريحاً لرياض الصلح بعد سؤاله متى سيُعتقل سعاده، قال فيه: «نحن على الطريق، وأملنا كبير باعتقاله قريباً جداً». وبدوره، أعلن مدير الداخلية: «لقد اهتدينا تقريباً إلى مقره، وسوف تسمعون ما يسركم في هذين اليومين».

 

وفي سياق حملة القمع التي تعرض لها القوميون، صدر مرسوم بحل الحزب السوري القومي الاجتماعي وأقدمت السلطة على طرد جميع الموظفين القوميين من وظائفهم واتهمت الحزب بالتعاون مع إسرائيل لقلب نظام الحكم، وعممت الاتهام الصحف المصرية وبصورة خاصة «الأهرام» و«La Bourse égyptienne» وكذلك «راديو الشرق الأدنى» الذي كانت تشرف عليه المخابرات البريطانية.

 

وفي اليوم نفسه، كتب سعاده في رسالته الأخيرة إلى زوجته جولييت المير: «إن الحال تغيّرت في الأيام الأخيرة عن القاعدة التي كانت عليها في الأيام الأولى لوصولي إلى حيث أنا. فبعد أن أُعطيت لي وعود بالمساعدة، وابتُدئت المفاوضة على مقدارها وكيفيتها، توقفت المساعي وتغيّر الاتجاه، وحصلت المضايقة التي رأيت بعض فصولها الأخيرة.

 

ولذلك أصبح من اللازم أن أحسب حسابات دقيقة، وأن أشرف بنفسي على التدابير الأخيرة، وأن أتهيّأ للانتقال السريع حالما أشعر أنه لا أمن عليّ حيث أنا. أما الوجهة التي أسلكها فتتوقف على سير بعض الأعمال» (أنطون سعاده، «رسائل إلى ضياء» ص 230).

 

أدرك سعاده أن موقف السلطة السورية قد تبدّل، ونُقضت كل التعهدات للقوميين، وأن التطورات ستؤدي إلى الأسوأ. وفي ذلك الجو التآمري من كل الجهات، أُقفلت جميع الطرق أمامه، وأيقن أن لا مجال إلا للمواجهة، ولا مفرّ من القتال، فالتراجع كان يعني التخلي عن كل المواقف والمبادئ التي انطلقت من رحمها النهضة.

 

 

قتل سعاده لم يَقتل روح المقاومة

 

 

عام 1949، واصلت السلطة اللبنانية حمْلتها على القوميين بشكل متصاعد، وأقدمت على طرد جميع الموظفين القوميين من وظائفهم واتهمت الحزب بالتعاون مع إسرائيل لقلب نظام الحكم، وعمّمت الاتهامَ الصحفُ المصرية وبصورة خاصة «الأهرام» و«La Bourse égyptienne» وكذلك «راديو الشرق الأدنى» الذي كانت تشرف عليه المخابرات البريطانية.

 

في الرابع من تموز سنة 1949، أصدر سعادة بلاغ الثورة القومية الاجتماعية الأولى، الذي يُعتبر بمثابة البرنامج السياسي للحزب في ذلك الزمن العصيب. شرح سعادة في إعلان الثورة تفاصيل الأحداث منذ مؤامرة الجمّيزة.

 

استناداً إلى تقرير سرّي كتبه الوزير الفرنسي المفوّض في لبنان أرمان دو شايلا في 15 تموز 1949 ووجّهه إلى وزير الخارجية الفرنسية روبرت شومان، فإنّ القرار النهائي السوري بتسليم سعادة إلى لبنان اتّخذ في 2 تموز وأُبلغ إلى وفد لبناني قدِم خصّيصاً إلى دمشق.


ويؤكّد دو شايلا، في سلسلة تقارير كتبها في شهر تموز، أنّ السعوديين والمصريين، إضافة إلى رئيس الوزراء السوري محسن البرازي، كان لهم الدور الأساسي في إقناع حسني الزعيم بتسليم سعادة (Centre des Archives Diplomatique de Nantes, Beyrouth Ambassade, B 268).

 

تعدّدت الروايات حول أين وكيف اعتقل سعادة؟ البعض، أمثال بشارة الخوري وفريد شهاب، يدّعي أنّ الأمن السوري سلّم سعادة إلى وفد عسكري لبناني على الحدود اللبنانية – السورية. كما اعترف الاثنان بأنّ حسني الزعيم اشترط على الحكومة اللبنانية أن يُقتل سعادة عند الحدود. وفي رواية أخرى، أعادت نشرها جريدة «البيرق» في 20 آب نقلاً عن مجلة «الجمهور» بعنوان «تحت جنح الظلام»، جاء ما يلي: «وفي ليلة ليلاء استدعى حسني الزعيم مدير الشرطة والأمن السيد أديب الشيشكلي وأبلغه رغبته في التخلّي عن أنطون سعادة وتسليمه إلى لبنان، فتردّد السيد الشيشكلي قائلاً إنه يعتبره لاجئاً سياسياً فلا يجوز اعتقاله، وكل ما يجوز هو أن يُجبر على مغادرة الحدود إلى البلاد التي يختارها».

 

«وفي اليوم التالي صدر أمر بعزل الشيشكلي واستبداله بالسيد الأسطواني. وفي نفس الليلة كان مدير الشرطة الجديد يدق باب السيد عصام المحايري ويطلب مواجهة سعادة. فأبلغه إنّ الزعيم يودّ مقابلته ليلاً، فاستغرب أنطون سعادة الأمر. ورغم الشكوك التي أخذت تراوده قَبِل بمرافقة مدير الشرطة إلى منزل الزعيم. ولكنه عند وصوله إلى بيت الزعيم فوجئ بوجود قائد الجيش اللبناني وقائد الدرك اللبناني ومدير الأمن العام اللبناني إلى جانب حسني الزعيم وحده وأركان حربه.

 

وعندها تقدّم قائد الجيش اللبناني لإلقاء القبض على سعادة فقال له سعادة: إنني في أرض سورية وفي ضيافة الجيش والحكومة السورية ولن أسلّم نفسي إلا بناءً على طلبهما. فما كان من حسني الزعيم إلا أن أمر أحد قوّاده بالقبض عليه وتسليمه. فأخرج سعادة من وسطه المسدس الذي أهداه إليه حسني الزعيم شاكراً».

 

وبغضّ النظر عن مكان اعتقال سعادة، فإنّ من سمّاه فريد شهاب «الضابط الكبير»، والذي رفض تسميته وكان ضمن الوفد العسكري المكلّف بجلب سعادة إلى لبنان، والذي قال له عندما توقّف الرتل الذي كان ينقل سعادة بالقرب من عنجر: «معي أوامر بتصريفو، شو رأيك؟» (حديث فريد شهاب مع مجلة «صباح الخير») كان قائد الجيش فؤاد شهاب وقد جرى التستّر على الاسم لثلاثة عقود ونيّف من الزمن.

 

وقع المتآمرون في ورطة لأنّ اتفاقهم مع حسني الزعيم كان يقضي بقتل سعادة على الحدود، لذلك سارعوا إلى قتله «قانونياً» بمحاكمة استغرقت بضع ساعات وجرى التنفيد فجر 8 تموز 1949 بعد توقيع كل من بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد أرسلان على مرسوم الإعدام.

 

صحيح أنّ رياض الصلح كان رأس حربة المخطّط لقتل سعادة ويتحمّل وزر الجريمة، إلا أنّ جريمة الآخرين الذين وقّعوا على قرار القتل توازي جريمته، فالكل قتلة. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ فريد شهاب أكّد (حديثه إلى «صباح الخير») على حقيقة أنّ جميع أهل السلطة كانوا مشاركين وموافقين على القتل.

 

ورغم قيام فريد شهاب بإحراق جميع الوثائق شديدة الحساسية والخطورة التي حفظها في أرشيفه بحجّة أنه «لا يريد توريط أسرته فيما بعد»، كما أبلغتني ابنته يمنى عندما كنت أراجع ملفات والدها... لكن لحسن الحظ نجت وريقة صغيرة الحجم من التلف تشير إلى مستوى السفالة والإجرام عند أهل الحكم. جاء في تلك الوثيقة التالي: «بعد صدور الحكم جمع (المقصود بشارة الخوري) حبيب أبو شهلا كزعيم للأرثوذكس وغبريال المر ورياض وقال إنّ لجنة العفو صدّقت الحكم فما رأيكم؟ رياض نفض سترته وقال أنا لا أحب الإعدام. حبيب قال: بالناقص عكروت ووافقه غبريال المر» (أوراق فريد شهاب، مركز الشرق الأوسط، معهد سانت أنطوني، جامعة أوكسفورد).

 

وفي صباح يوم 8 تموز أيضاً دفع لبنان ثمن التوقيع على اتفاقية اقتصادية مع سوريا وكان ثمنها «رأس أنطون سعادة». وهذا ما أشار إليه تقرير سرّي فرنسي بتاريخ 11 تموز 1949 نقله مخبر أثناء لقاء مجموعة من السياسيين والصحافيين في بيت مري، إذ نقل أحد الحاضرين عن كميل شمعون قوله: «دفع الحكم غالياً ثمن رأس سعادة للحفاظ على الخيط (أي خدمة مصالح الشيخ فؤاد الخوري وآل عريضة وآل عسيلي) ووقع الاتفاق الاقتصادي المقترَح من السوريّين».

 

لم يكن اغتيال سعادة مجرد تصفية جسدية لشخصية معارِضة، بل كان محاولة تصفية سياسية وفكرية لحركةٍ رأت في الكيان الصهيوني خطراً وجودياً، ورفضت التسويات، ودعت إلى نهضة جذرية تُغيّر واقع التبعية والتفكّك، وتحمل مشروعاً وحدوياً علمانياً تحرّرياً. وكان قتلُه رسالةً إلى كل من تسوّل له نفسه تحدّي المنظومة الطائفية التابعة، أو التجرّؤ على تجاوز «الخطوط الحمر» المرسومة دولياً وإقليمياً.

 

يظهر بوضوح، عبر سرد مجريات الأحداث التي أدّت إلى اغتيال أنطون سعادة، أنّ النظام اللبناني بأطرافه الطائفية كافة المشاركة في الحكم، لا يزال، رغم مرور كل هذه السنوات، غارقاً في التجاهل التام لخطر المشروع الاستيطاني. النظام بعهوده كافة، باستثناء تمايز واضح صبغ عهد الرئيس لحود، هو عاجز عن بناء قوة ردع للاعتداءات الصهيونية بأوامر من الغرب. المسموح له فقط الاهتمام بقوات قمع داخلي في حال تعرّضت البنية الطائفية إلى الخطر. لذلك يتّضح اليوم أنّ هاجسه الأساسي يتلخّص بالخلاص من القوة الردعية للمقاومة اللبنانية... وعلى عينك يا تاجر. تسأل من يدافع عن البلد، يأتي الجواب: الديبلوماسية. ليس هناك بلد في العالم على هذا القدر من الإذعان والخضوع للإرادات الأجنبية التي هي تعبير واضح عن الأهداف الصهيونية. غياب سعادة الجسدي لم يلغِ، كما توهّموا، انتشار أفكاره في أجيال جديدة. وما زرعه الشهيد حسن نصرالله من روح المقاومة والصمود في لبنان لم يدفن باستشهاده. وكما قال سعادة: «طريقنا شاقّ وصعب لا يسلكه إلا الجبابرة أصحاب الأكتاف القوية تحمل قضية كُتب لها النجاح لأنها قضية حق».

 

 

 
التاريخ: 2025-07-08
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 8، 9، و 10 تموز 2025
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2025 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro