صدر مؤخرًا في بيروت عن دار أبعاد للطباعة والنشر، كتاب جديد للرفيق الباحث شحادي الغاوي بعنوان "نقد الفكر الديني في التوراة والإنجيل ونشوء الصهيونية المسيحية"، وهو عمل فكري جريء يتناول بإمعان النقد والتحليل أسس الفكر الديني التوراتي والإنجيلي، والكيفية التي شكّلت بها تلك النصوص وتفسيراتها قاعدةً لولادة تيار لاهوتي - سياسي معقّد يُعرف بـ"الصهيونية المسيحية".
الكتاب الذي يقع في خمسة فصول، لا يأتي - كما يحرص الكاتب على التوضيح في مقدمته - بدافع العداء للإيمان أو لنفي القداسة من قلوب المؤمنين، بل بدافع من الرغبة في تنقية المقدّس من الخرافة، وتحقيق توازن ضروري بين القلب المؤمن والعقل الناقد. ففي رؤية المؤلف، لا يُمكن بناء إنسان حر ومسؤول في عصرنا، ما لم يتحرر العقل من الارتهان للمفاهيم المتوارثة التي اتخذت طابعًا "مقدّسًا" من دون مراجعة أو مساءلة.
ويقول الكاتب إن "المقدّس"، حين يغدو غير قابل للنقاش، يتحول إلى حجاب كثيف يحول دون إدراك الحقيقة، ويمنع المجتمعات من التحرر من قيود الماضي. ولذلك فإن الكتاب لا يستهدف في جوهره نسف الإيمان، بل يُوجّه نداءً إلى العقل الإنساني، داعيًا إلى عدم التسليم الأعمى، وإلى ضرورة استخدام العقل الذي هو - بحسب تعبيره - "هبة الله الكبرى للإنسان".
وفي معرض تمييزه بين الإيمان الأصيل والتفسيرات الخرافية التي لُبّست لبوسًا مقدّسًا، يولي الكاتب اهتمامًا خاصًا بشخص السيد المسيح، لا كمجرد رمز ديني، بل كمفصل حاسم في الوعي الروحي الإنساني. وهو إذ يفكك ما يسميه "تزوير هوية يسوع"، يُصرّ على الفصل بين يسوع الإنسان الثائر والمبشّر برسالة الرحمة والعدالة، وبين ما فُرض عليه لاحقًا من هوية دينية مزوّرة تستند إلى تراث توراتي مشبع بالعقيدة العنصرية والتاريخ التدميري.
فالكاتب يرى أن قيمة يسوع تكمن في تعاليمه، لا في نسبه، وأن الانشغال بأصوله العرقية، يهودية كانت أم غير يهودية، يُبعدنا عن جوهر رسالته. ويذهب أبعد من ذلك، حين يرفض بقوة نسب يسوع إلى داوود – لا لأن النسب العرقي بحد ذاته مهين، بل لأن ربط يسوع بالنبوءات التوراتية ومعناه الروحي بها، يُسقط عليه إرثًا دينيًا لا يمت بصلة إلى روحه أو نظرته إلى الإنسان والكون. فيسوع، بحسب الكاتب، لم يأتِ ليكمل التوراة، بل ليقلبها على رؤوس صنّاعها.
ويؤكد المؤلف أن ما يستفزّ الضمير الحرّ هو جعل يسوع "ابنًا لداوود"، أي "ابنًا للتوراة ونبوءاتها"، لا "ابنًا للروح"، كما تفيد عقيدة الحبل بلا دنس، والتي لها - من وجهة نظر الكاتب - دلالة رمزية عميقة: أن يسوع ليس نتاج نسل بشري، بل رسالة كونية محررة من أي انتماء عرقي، وهذا هو سرّ عالمية المسيح وسموّ دعوته.
ويشرح المؤلف أن بيئة يسوع الأولى كانت غارقة في مفاهيم "الإله الخاصّ بالشعب الخاصّ"، وفيها كانت تُرتكب المذابح والمجازر باسم الاصطفاء الإلهي. فجاء المسيح - الثائر على هذا الإله الحصري - ليبشّر بإله المحبة، الإله الذي لا يفرّق بين الشعوب، ولا يبارك القتل ولا يشرعن الاحتلال.
إن يسوع الناصري، كما يقدمه الكتاب، لم يكن مجرد واعظ سلام، بل كان صوتًا حادًّا في وجه الكهنة، وموقفًا نقيًا ضد تديّن يبرّر الظلم باسم الإله. لقد وقف في وجه الناموس، لا ليؤكده، بل لينقضه. فليس غريبًا، يقول الكاتب، أن يتحالف رجال الدين والسياسة معًا لصلبه، لأن دعوته ضربت أساس تحالفهم القائم على التوراة، ومصالح الهيكل، وسيوف الإمبراطورية.
وهكذا يُعيد المؤلف قراءة يسوع بعيدًا عن الصورة المزوّرة التي سوّقتها لاهوتيات الهيمنة الغربية، ليظهره كثائر أخلاقي - روحي، كوني الانتماء، محرِّر للعقل والروح من العبودية، ومبشِّر بإله لا يختار شعبًا دون آخر.
وينبه المؤلف إلى أن خطورة الصهيونية المسيحية لا تكمن فقط في تأويلها المغلوط للنصوص الدينية، بل في التحالف المصلحي العميق الذي ربط هذا التيار بالحركة الصهيونية العالمية، سياسيًا واقتصاديًا وروحيًا، بما مهّد الطريق أمام نشوء ما يشبه "عقيدة حرب مقدسة" في الوعي الغربي، دعمت المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، واعتبرته جزءًا من خطة إلهية لا يجوز مناقشتها أو الوقوف ضدها.
الكتاب إذًا هو دعوة شجاعة إلى تفكيك البنية اللاهوتية التي غذّت الصهيونية المسيحية، وإلى مساءلة التداخل بين السياسة والدين في بناء المواقف والتحالفات، من خلال قراءة تحليلية للنصوص والوقائع. كما يحاول أن يُعيد للمسيح موقعه الحقيقي كنبي للسلام وليس كرمز لحرب لا تنتهي.
إنه كتاب موجه لكل من يحرص على أن يكون الإيمان سبيلًا للتحرر لا أداة للعبودية، ولكل من يريد فهم الآليات العميقة التي حكمت العلاقة بين الغرب المسيحي والمشروع الصهيوني، ليس من زاوية المؤامرة، بل من زاوية الوعي النقدي والمساءلة العقلانية.