مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
العقلُ النَّقديُّ أبجديَّةُ الإنسانِ الجديد
 
الدبس، ربيع
 

 

كلُّ عملٍ حضاريٍّ يبدأ بالعقل، فالعقلُ هو سمةُ الإنسان الحضاري. وإذا كان البناء الحقيقيُّ يرتكز على الإنسان فمعنى ذلك أنَّ الوجود البشريَّ العقلانيَّ ينمو بالتجدُّد، أي بالصيرورة المنبثقة من ممكناتٍ لا من حتميَّات.

 

إستنادًا إلى هذا القياس المنطقي نسأل: أيُّ إنسانٍ جديدٍ إليه نرنو؟ وهل يمكن تنشئة هذا الإنسان بغير التربية والتعليم: في المدرسة والجامعة والمنزل والمجتمع؟ هل التعليم الحقيقيّ مبني على الكمِّ أم على النَّوع؟ وهل هو إلاّ استثمار في الوعي، أي في العقول، وبالتّالي في اقتصاد المعرفة؟

 

يقول الفيلسوف النّمساويُّ المعاصر كارل بوبر، الذي عاش في بريطانيا، والذي يُعتبر أحد روَّاد الفلسفة العلميَّة الحديثة، خصوصًا بعدما هيمَنَتْ مسألة المعيار على انشغالاته الفكريَّة: «ليس لطرحٍ عقلانيٍّ تأثيرٌ عقلانيٌّ على من لا يريد أن يتبنَّى طرحًا عقلانيًّا». وقد هدف بهذه المعادلة التفكيكيَّة الصّارخة إلى تأسيس مناخٍ باحثٍ عن معيارٍ يميّز ما هو عِلْم عمَّا ليس بِعِلْمٍ. ويرى بوبر Popper في كتابه النّوعي «المجتمع المفتوح» أنَّ الحضارة الإنسانيَّة لم تستيقظ بعد من صدمة ميلادها التي هي صدمة التحوُّل من المجتمع القبَلي أو المغلق (بما في ذلك تأثير القوى السِّحريَّة)، إلى المجتمع المفتوح الذي يُطْلق القوى النّقديّة لدى الإنسان.

 

هذه المعادلة تحفِّزنا إلى اعتماد مزيدٍ من الصّراحة. فالعربُ لم يدخلوا طور العقل النّقديّ لكلّ شيء، ولطريقة التعامل مع المقدَّس... إنَّ التقدُّم الهائل في العلوم والتقنيَّات على المستوى الكوني يضعُ الناطقين بالضاد أمام تحدِّياتٍ لم يكن لها مثيل حتّى في زمن ما يُسمَّى النّهضة العربيّة. وإذا لم يكفَّ الإنسانُ في العالَم العربي عن أن يكون ماضويًّا وحرفيًّا ودائمَ الاستحضار للموروثات، فحياتُه لغوٌ وفواتٌ حضاريّ... إنَّ المطلوب هو أن نتطلَّعَ إلى المستقبل لنصنعه. إنَّهُ أهمُ من الماضي يصنعنا. يجب التغلُّب على الخشية من الإيغال في المسيرة العقليَّة. ونخشى أن تكون الشُّعوبُ العربيّةُ ما زالت بعيدةً عن الاستقراء لأنّها تستنتج كلَّ شيءٍ من نصوص الأقدمين.

 

ما من شكٍّ في أنَّ دراسة العلوم، بدءًا من منهجيَّاتها، تقودُ الإنسانَ من التربية النَّمطيَّة إلى التربية الخلاَّقة، إذْ ينبغي أن يستقرَّ في يقين الطَّالب كيف يَدْرس ويعمل ويُبدع، أكثر من أن يطبعَ ذهنَهُ بالكليشيهات ويستسلم للنَّماذج النَّمطيَّة المعلَّبة. إنَّ شبكة الانترنت وسائر وسائل التَّواصل ونقل المعلومات ينبغي أن تكون حقولاً معرفيَّة لا أدواتٍ مشبوهة لغسل الأدمغة. وهذا يعني المتابعة المستمرَّة لمهمّةِ بناء العقول النَّقديَّة الواعية، كما يعني التّربية العمليَّة على أنماطٍ سلوكيَّة متمدنة، وحمايةَ التّلاميذ من العنف المدرسيِّ والأُسَريِّ الذي لا تستطيع الدِّراسة الموضوعيَّة إنكارَهُ. ففي إحصاءٍ أجرَتْهُ منظَّمةُ "اليونيسيف" عام 2016 على عيِّنةٍ من 7000 طفل فلسطينيّ وسوريّ(شامي) ولبنانيّ حول العنف بشتَّى أشكاله الجسديَّة والمعنويَّة واللّفظيَّة، تبيَّن أنّ 57 بالمئة من الأطفال اللبنانيِّين يختبرون العنف، و65 بالمئة من الأطفال السّوريِّين، و82 بالمئة من الأطفال الفلسطينيِّين. وقالت ممثلِّة المنظَّمة في لبنان تانيا شوبويزا: «حين يشعر الأطفال بالأمان ولا يواجهون تهديدًا بالعنف، تزيدُ قدراتُهم على التركيز والتعلُّم وعلى النّمو بشكلٍ أفضل. وفي نهاية المطاف يتحوَّلون إلى أعضاء فاعلين في المجتمع».

 

العنفُ، إذًا، لا يُنشى فردًا صالحًا ولا يُربِّي على المواطَنة، مع أنَّ الغاية السَّامية من التربية هي إعداد الإنسان للحياة الكاملة، أي للدّور الواعي، والإنتاج الفاعل. إذ ذاك يكون كلُّ مواطنٍ خفيرًا كما سبق للأديب الكبير سعيد تقيّ الدّين أن طَرَح. فالمواطن الحقيقيّ هو بطبيعته حارسٌ لبلاده، حريصٌ على مصالحها، ومنارةٌ تشعُّ بالمناقب، لا مرآة تعكس المثالب والمعايب. هذا المواطن الحقّ متحرِّرٌ من قيود التّبعيّة Heteronomy التي تجعله حبيس قضبانها. أليست المواطَنة بارقة واعدة بوصفها بديلاً عن الانسداد العصبويّ البدائيّ المقفَل، وعن الفكر الوصائيّ الذي يفرض قوالبه المعلّبة على عقولٍ يريدها مشروطة لا حرَّة؟ وما من ريبٍ في أنَّ المواطَنة تفيد تعميق مفهوم الدّولة المدنيّة، بالمثال قبل الموعظة، وبالقدوة قبل الشِّعار.

 

لقد بلغ التشرنق ببعض المجتمعات المغلقة حدَّ منعِ الأجيالِ النّاشئة لديها من الاطّلاع على كتبٍ تنويريَّة هدفها إعادة النَّظر في مسلَّماتٍ أثبتت حركة التطوّر أخطاءها التَّاريخيَّة. وقد اعتبر بعض المؤرِّخين الأميركيِّين أنّ التنوير عمومًا – الأوروبيّ أوّلاً والأميركي ثانيًا – حركةٌ تاريخيَّةٌ، بل نظريّة استقامت بالهجوم على جذور الثّقافة الأوروبيّة التّقليديّة المقدّسة والسّحريّة، والاحتكار الاقتصاديّ، وتفكيك الهرميّة الاجتماعيّة، وعلمنة المؤسّسات والأفكار، وتقويض مشروعيّة الحكم الإلهيّ والأرستقراطيّ وخضوع النّساء للرّجال، وعلى الاستعباد عامّة والسّلطة الثيولوجيّة خاصّة. نقول ذلك مؤمنين أنّ التّنوير في أعماقه مشروعٌ متواصلٌ لا ينتهي بإنجاز ولا ببضعة إنجازات ليتوقّف، كما نقول ذلك مؤمنين أنّ ما يَصْلُح للمجتمعات الغربيّة قد لا يصلح للمجتمعات العربيّة والعكس صحيح، لكن لا بدَّ من إعادة النّظر في أسباب كلّ من التخلّف والتقدّم هنا وهناك، وبالتّالي البناء على مقتضى تلك الأسباب وتلك النتائج.

 

لا بدّ، في هذا السّياق، من إشاراتٍ مفصليَّة تلقي أضواء كاشفة على عمليّات التّقييم والتّقويم لكلّ من ظاهرتي التخلّف والتقدّم. من تلك الإشارات:

 

1- إستجواب الرؤية الثّابتة المعتبَرة أساسًا أبديًّا خالدًا لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.

 

2- إعادة قراءة المنطق اللاّهوتيّ الصّارم، الجاعل من الغيبيَّات شأناً مسيطراً على الحالات الواعية.

 

3- رفض تكريس اللاّمعقوليَّات في منظومات التربية والتعليم والمجتمع والدولة.

 

4- رفض هزيمة التيّار العقلاني في واقع بلادنا.

 

5- تحويل التّنويريّين من نخبةٍ محدودة إلى حالةٍ شعبيّةٍ فاعلة.

 

رُبَّ قائلٍ إنّنا نوسّع الخطوات المأمولة في منطقةٍ عاصفةٍ «ينشأ فيها جيلٌ عربيٌّ بين بلدانٍ تتحوّل إلى حطام» كما عبَّر عبد اللطيف الزبيدي في جريدة "الخليج" عام 2012. ناهيك عن الضّرورات المعيشيَّة غير المتوافرة لبعض المجتمعات، فكيف بالكماليَّات وبالعدّة اللاّزمة للنهوض؟!

 

لا شكّ أنَّ القراءة النّابهة ضرورة أكيدة لأيّ تقدُّم، بل لأي حركة مقاومة للجمود. والقراءة، باعتبارها فعلاً تمدّنيّاً للإنسان المعاصر، هي في تراجعٍ مقلق لدى جيل الشّباب. فالشَّبابُ في أيّة دولةٍ هو الرأسمال الأوّل، غير أنَّ أحد أسرار عهد الشّباب في العالم أجمع لا في العالم العربي فحسب، هو التمسّك بكنز القراءة الذي من دونه لا تتمخّض الحضارات العظيمة، على الرّغم من رأي إينشتاين الذي جاء فيه: «هناك عِلْمٌ واحدٌ هو الفيزياء. والباقي كلُّهُ تفاصيل». فالفيزياء أيضًا عِلْمٌ لا يتبحَّرُ فيه إلاَّ العقلانيُّون المحلِّلون القارئون الجِدِّيُّون.

 

إنّ الإبداع، في علم الفيزياء أو في غيره من العلوم، هو أوّلاً تفكير حرّ، وشغف بالبحث عن الحقيقة. فالتكوين السّليم لعقول النّشء لا ينجزه التعليب المحدود والتصنيع الجاهز، بل التربية العلميّة ذات البعد النّقديّ. وهنا لا بدّ من العمل على ردم الهوَّة بين المدرسة والمجتمع بصيغة تنتقل العمليَّة التعليميَّة عبرها من فعلٍ عنوانه تخريج حَمَلَة شهادات، وفي أحسن الأحوال بعض النُّخَب، إلى فعلٍ يؤنسن المجتمع على قاعدة الوعي الإيجابيّ بالحقوق والواجبات، والمواءمة الخلاَّقة بين الأصالة والتطوُّر، بحيث تكون ثقافة إنساننا الجديد ميزان التّمييز بين الجيِّد والرّديء، فالهدف هو الانتماء الواثق إلى العقل لا الإنسياق وراء الأوهام والأساطير.

 

إنَّ المهمّة الأساس للتعليم النّقديّ Critical Pedagogy هي أن تجعل الطلاّب يتفحّصون الفرضيَّات والأيديولوجيَّات والقيم والمصالح المنعكسة في المعرفة، حتى يقوموا بدورهم في الإنتاج المعرفيّ بدلاً من اكتفائهم بالبقاء مستقبِلين غير ناقدين. وهذا يتمّ عبر ما دعاه الخبير البرازيلي باولو فريري «تربية إثارة الأسئلة»، في مقابل ما أسماه تربية الإيداع Banking Education أو Depositing، التي تعتمد على ترحيل المعلومات. وثمّة ابتعاد، في المناهج التربويّة الحديثة، عن النّظرة السّابقة القائمة على شحن الطّالب بالمعلومات، فمنهج ما بعد الحداثة يتمثّل في الانتقال من المنحى التراكميّ في تقديم المحتوى إلى المنحى التّحويليّ وأسلوب الاستكشاف. إلاَّ أنّ علينا الإشارة هنا إلى أنّ نظريّات ما بعد الحداثة انتقدت مبالغة الحداثة في تقدير العقل وتمجيده، وكذلك التركيز على المواد العلميَّة. وقد انعكس ذلك على النّظر إلى المعرفة، باعتبارها في ما بعد الحداثة، تنشأ في سياقٍ ثقافيّ. وكان الفيلسوف الفرنسيّ فرنسوا ليوتار سبّاقًا في طرح مفهوم ما بعد الحداثة في كتاب عن التّعدّديّة الثّقافيّة وتعدّد أنماط الحياة، عنوانه "الوضع ما بعد الحداثيّ"، علماً أنّ باحثين آخرين يُرجعون أصول هذه النّظريّة إلى نيتشه الذي أنكر أصلاً أن تكون هناك طريقة للوصول إلى الحقيقة، من دون أن يشكِّك في وجود وسائل معرفيَّة يمكن اعتمادها. والسّؤال: هل نحن – في العالم العربيّ المترامي الأطراف – جاهزون لمواكبة تلك التحديّات؟ وإذا لم نكن جاهزين فهل نحن راغبون في الجهوزيّة وقادرون عليها؟ متى وكيف؟

 

إنّ الرّغبة أو الإعراب عنها لا يفيان بالغرض. فالدّول العربيّة، في غالبيّتها، لم تتوصَّل بعد إلى خططٍ رؤيويَّة تحدّد أوّليّاتها التعليميّة، علماً أنّ الأوليّات المتباينة لهذه .الدول، إضافةً إلى نقص التمويل، هما عاملان بَيّنان في تفسير التأخّر الاستراتيجي في البحث العلمي لتلك البلدان. فالدّراسات الموضوعيَّة تشير بجلاء لا لبْسَ فيه إلى أن لا نهضة لأيّ دولة من دون تأمين متطلّبات البحث العلميّ، المتقدّم والرّصين، أي تأمين الإنتاج العلميّ والثّقافيّ الجاد بدلاً من الإيغال في استيراد كلّ شيء بما في ذلك المعرفة.لذلك جزم الرائد العقلاني أنطون سعاده أن "الأمة تريد نهضةً لا حُلّة". ولعلَّ أبجدية النهضة كامنة أولاً في فَهْمِها مشروعاً، كما أن أبجديَّة المعرفة قائمة في معادلة التحرر: تَحَرُّر النفْس والعقل والقول والفعل.

 

ثمّة حوار أخّاذ، مرويّ قبل ألفيْ عام لكنّه محتفظ براهنيّته. جرى الحوار بين الفيلسوف اليونانيّ الرّواقيّ أبكتيتوس وبين تلميذه أريان.

 

الفيلسوف: هل يستطيع أحد أن يجعلك تصدّق ما ليس بِصدق؟

 

التّلميـذ: لا.

 

الفيلسوف: هل يستطيع أحد أن يُجبرك على فعل ما لا تعتقده؟

 

التّلميـذ: نعم.

 

الفيلسوف: كيف؟

 

التّلميـذ: إذا هدّدوني بالموت أو بالسّجن.

 

الفيلسوف: فإذا لم تخف من الموت أو السّجن، هل يستطيع؟

 

التّلميـذ: لا.

 

الفيلسوف: أنت إذْ ذاك حرّ.

 

إنّ في النّصّ المذكور حريّة جوهريّة واحدة هي حرّيّة التفكير النّقديّ التي هي أساس جميع الحرّيّات. ولعلّ مفهوم الحرّيّة الذي نتداوله في عصرنا الحالي قد جرى تحديده في عصر التّنوير. وكانت الفكرة ببساطة تقوم على التخلّص من التعصّب للجمود العَقدي والتعميم والأحكام المسبقة. هذا يعني حسب إيمانويل كانط في التّعريف الشّهير للتنوير Enlightenment «خروج الإنسان من سباته العقليّ الذي وضَعَ نفسه بنفسه فيه، عن طريق استخدام العقل». أمّا المذهب الوجوديّ فيعتبر الفرد حرًّا حيث يقول سارتر وكامو ما معناه: (ترقد لعنة الحرّيّة على الإنسان سواء شاء أم أبى). وحتى لا يُفهم تطرّقنا إلى الوجوديّة فهماً خاطئاً نقول إنّ الوجوديّة تعني حرّيّة الفرد وعدم التكبّل بالقيود، وأنَّ الإنسان متفرّد ذو تفكير وإرادة واختيار، ولا يحتاج إلى موجِّه. لكن الوجوديَّة اتجاهات وأفكار متباينة أكثر منها نظريَّة فلسفيَّة واضحة المعالم، ويجزم بعض النّقّاد أنَّ الاضطراب الذي تعاني منه الوجوديَّة Existentialism لم يمكّنْها من أخذ مكانها بين العقائد والأفكار. لكنَّ الوجوديَّة تركّز على أنّ الإنسان، بوصفه فردًا، يقوم بتكوين جوهر ومعنى لحياته. والإنسان هو من يختار معتقداته ومسؤوليّته الفرديّة بمعزل عن أيّ نظامٍ مسبق. وهذه الطّريقة الفرديَّة للتعبير عن الوجود هي الطّريقة الوحيدة للنّهوض فوق الحالة المفتقرة إلى المعنى المقنَّع (كالمعاناة والموت وفناء الفرد). ومهما يكن من أمر، فإنّ الحرّيّة تكتسب قيمتها المحوريّة في الفكر الغربيّ بعد ارتباطها العضويّ بقيمة الواجب. وهذا شأن ما زال ضعيف الفاعليَّة في الثّقافات العربيّة، مع الأسف. وحتّى لا تبقى فكرتنا هذه تجريديَّة، نُشير إلى رأي صاحب الكتاب الأشهر عن "العقد الاجتماعيّ" جان جاك روسّو، فهو إلى جانب مساهمته الواضحة في أطروحات عصر الأنوار، كان أيضًا ذا مشروع تربويّ اعتبر فيه أنّ الغاية من تربية المواطن هي الحصول على الحرّيّة والفضيلة. فلا يمكن أن تكون هناك وطنيّة بلا حرّيّة، وفي المقابل لا حرّيّة بلا فضيلة. فالقيمتان الحضاريّتان هاتان متلازمتان تلازماً حياتيّاً لا انفصام له إلاّ بموت الفرد.

 

هذه الإضافات الفكريَّة المؤسِّسة للعصور الحديثة بلورت فرضيَّات في الحرّيّة تتأرجح بين المحدود والمطلق. وقد ثبت بعضها حتّى صار أشبه بالمبادئ العامّة، ومنها:

 

1- إنّ الحريّة حقّ طبيعي للإنسان، أو خير للإنسان لكنْ بشرط ارتباط ذلك الخير بمسؤوليّة الواجب.

 

2- إنّ الحرّية تعني التحرّر من القيود المانعة للنموّ وللتطوّر.

 

3- إنّ الآفاق أو الامتدادات المشروعة للحرّيّة تتحدّد بعد أن نحدّد ما هو الحق، من أجل أن ندرك ما هي الحرّيّة التي من حقّنا. ويتضمّن ذلك بالطبع الإجابة العامّة على السؤال التالي: هل الحقّ نسبيّ متغيِّر أم أنّه حقّ له صفة الثّبات؟

 

4- تحديد الهويّة (الإنسان – المجتمع) بشكلٍ واضح لكنْ دينامي. كما أنَّ مفهوم الهويّة يمكن تطويره جنباً إلى جنب مع الحرّيّة والإرادة والسِّيادة.

 

5- العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تكامل لا علاقة تضادّ.

 

6- شرعيّة الدولة تكمن في عدالتها، التي تتوافر بتوافر الحريّة والمساواة والكرامة.

 

7- إنّ حكم القانون مبدأ لا يجيز المساس شرعاً بحياة الأفراد أو حرّيتهم أو أملاكهم إلاّ عن طريق إجراء قانونيّ.

 

8- القانون يجسّد الحرّيّة بكونه ارتقائيّاً، لأنّ الإنسان بطبيعته الحرّة يجنح إلى التطوُّر لا إلى العودة إلى الوراء. والقانون يجب أن يمكّن روح التقدّم من البقاء حيَّة، متوثّبة.

 

أين نحن في العالَم العربيّ من هذا كلّه؟

 

نحن لا نريد، قطعاً، استنساخ النّماذج الغربيّة. لكنّنا مدعوُّون إلى الاستفادة ممّا هو مفيد، بصرف النَّظر عن روَّاده وصُنَّاعه. ومتى أيقنَّا أنَّ النسق العقلانيّ لا يتنافى مع مصالحنا العليا، بل مع المستثمرين في ضرب تلك المصالح، كان لا بدّ من تشكيل بنْية ذهنيّة جديدة ترفض استحكام بنى التخلّف فينا حتى لو كان هناك من يرعاها، ليس فقط كنسق بل أيضًا كنظريّة. فالنّظريّة التي يمكن تكذيبها، بواسطة الخبرة، تُعدَّل أو تُستبدَل، بكل بساطة، وهكذا تنموالمعرفة العِلمية كما يقول روّادها. إن العقلنة Rationalism موقف يشمل الاستعداد للإصغاء إلى الحجج النقديّة والتعلّم من الخبرة. وأفضل معاني العقل والمعقوليّة في رأي بوبر هو معنى الانفتاح للنقد. وإذا كان النّقد تعريفاً للعقل، فإنّ العلم عقليّ، باعتبار أن العلم أشبه ما يكون بمؤسّسة معيارها النّقد. وهذه المؤسّسة معنيّة بإبطال أو تكذيب Falsification ما يجري البرهان على ضرورة سقوطه، حتى لو سبق تصنيفه من القواعد أو الباراديغمات، كما يؤكد توماس كُون في كتابه الشّهير" بنْية الثّورات العلميّة".

 

لقد رأى مؤسّس علم العمران البشري وفيلسوف التاريخ ابن خلدون، في رؤية حلقاتيّة لتفسير التّاريخ، أنّ العمليَّات الديالكتيكيّة والدوريّة للحِقَب هي التي تعلّل التقلّبات في الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. وجاء بفكرة أنّ الوحدات الاجتماعيّة التي تملك وعياً جمْعياً قوياً تهيمن على الجماعات الأخرى الأقلّ استلهامًا للإدراك الجمْعي. وقد رأت الباحثة البريطانيّة مارغريت ماكاي أنّ الطريقة الخلدونيّة لفهم التّاريخ تُعرَف اليوم بعلم الحضارة. وفي اعتقادها أنّ هيغل، الذي أتى بعد ابن خلدون بأربعة قرون، قد أخذ عن الأخير المبادئ الديالكتيكيّة المنبثقة من العلاقة المركّبة بين الأضداد. وهكذا لا يكون الفتح المعرفيّ لهيغل متمركزًا في هذا المضمار، بل في اعتباره أنّه من خلال الصِّراع الديالكتيكي ومن خلال رديفه الدّامي: الحرب، يمكن التطلّع إلى أمم منتقاة تقع على عاتقها المهمّة التاريخيّة المتمثّلة في دفع الإنسانيّة أفقيّاً وعموديّاً نحو المطلق والكمال.

 

هذا الدّرس الخلدونيّ في الفتح المعرفيّ، دون سائر الدّروس الأخرى في تواريخ العرب، قادر وحده على تحفيز الملكات الأصيلة الكامنة في الداخل قبل الخارج المصنَّع ونماذجه الجاهزة لتذهيننا عليها، في عمليّة استلاب فكريّ ونفسيّ، تتورّم معها النّزعة الفرديّة، ويتماهى فيها الدّخيل مع الأصيل، دونما ضوابط للانتفاخ الفرديّ، الخطير على مفهوم المواطَنة العضويّة، وعلى انخراطنا الطّوعي المسؤول في رابطة الدولة والمجتمع، وهي الرابطة التي تبلغ في أهمّيتها حدّ القداسة، بالمعنى المناقبي الاجتماعيّ والإنساني للكلمة.

 

قد لا نكون من المشدوهين بأطروحات هيغل، لكن علينا الإقرار بأنّ هذا الرّجل التاريخي الذي عَبَرَ من الحرم الجامعي المحدود إلى الفضاء الفلسفي المطلق قد أصاب كبد الحقيقة، في متلازمة الدولة والأخلاق، عندما كتب في "فلسفة الحقّ" أنّ الدولة هي الحقيقة الواقعيّة للفكرة الأخلاقيّة. وهذا يعني بوضوح أنّ الفكرة الأخلاقيَّة، الكائنة مبدئيّاً في العائلة والمجتمع ودُور العبادة، لا تتجلّى بفكرها وتطبيقها إلاّ في الدولة. وكفى بذلك التجلي عنواناً لمنظومة الدّولة كلها.

 

* أستاذ الفكر السياسيّ – الاجتماعيّ في الجامعة اللّبنانيّة.

 

 
التاريخ: 2021-05-31
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro