مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
كلمة الدكتور ربيع الدبس في ندوة مؤسسة سعاده للثقافة حول كتاب "البحث عن زيوسودرا" لمؤلِّفه نزار سلّوم
 
الدبس، ربيع
 

اضغط هنا لحضور ندوة مناقشة الكتاب

 

 

لم يكن صدفةً اختيارُ المؤلِّف نزار سلوم لكتابه الجديد عنوانَ (البحث عن زيوسودرا- عن مشروع أنطون سعاده ومصير سورية). لعله، بالوعي الغائيّ، يضم نَصّه الجديد المثقل بجدلية الحامل والمحمول إلى الأعلام الذين أماطوا اللثام عن رموز أساطيرنا التي يفرّقها عن الخرافات مغزاها الفلسفيّ العميق. والحقيقة أن ثمة ملاحمَ بابليةً ثلاثاً يجمع بينها خطُّ الطوفان أو الفيضان. وفي ملحمة جلجامش الأسطورية التي هي أقدم عملٍ أدبي معروف في التاريخ، إشارة إلى أوتنابشتيم وهو الاسم الأكّادي لزيوسودرا السومري، حيث يقوم زيوسودرا (الذي يرجّح مؤرخون أنه نُوح فيما بعد) بمخاطبة جلجامش عام 2600 قبل الميلاد قائلاً: "اليعسوب يولَد ليُحلّق، لكن وجهه لا تلوّحه الشمس إلا ليومٍ واحد...هل هذا هو الخلود؟ منذ القِدم لم يكن هناك خلود. النائم والميت متشابهان".

 

معنى هذه السطور أنه ليس مهماً كم نُعَمّر، بل ماذا نترك من بصمات. لذلك يُنصَح المرء بعدم النوم عن مواكبة مساعيه لأن النائم عن العمل كالميت.

 

"البحث عن زيوسودرا" كتاب جمع مؤلفُه الصرامة العقلية بلحظةِ لقاءٍ خاص مع سعاده وسورية. مِن هنا فرادة القراءة التي دَوّنها، وهي قراءة محفوفة بالصعوبات العقلية والسياسية والدينية، لكنها محفورة في الوجدان، القادر أن ينبض أيضاً خارج الصندوق المقفل. ويقيني أن التفكير السليم يتطلب أحياناً تحطيم القوالب التي خِلْنا يوماً أن التفكير لا يستقيم إلا بها.

 

ولعل الكتاب الذي نتناوله اليوم بالقراءة النقدية هو، قبل أن يكون صرخةً وجدانية، صرخةٌ فكرية رافضةٌ بقاءَ الحركة القومية الاجتماعية حبيسةَ الدوران المأساوي في حلقة مُفْرغة هي أقرب إلى اللاقضية منها إلى القضية. أليست الحركةُ القومية الاجتماعية ممزقةً بحقيقةٍ لا يُنكرها سوى المكابرين، وهي حقيقة كونها حركةً انتمتْ إليها أجيالُ آمال فإذا بها تغدو أجيال آلام، مهما كابرَ بعضنا أو تغاضى أو خدع نفسه... من دون إغفال أن القول بالعقل شَرعاً أعلى لا يجوز بأي وجه أن يُرفَع في وجه الدِّين ومؤسساته فقط، بلِ الأحرى رفْعُه في وجه الممارسات اللاعقلانية داخلَ التنظيمات المأزومة عينها دونما استثناء.

 

أغْلَبُ الظن أن إحدى الأوّليات التي رمى إليها الكتاب هي ضرورة التطابق الذي أراده سعاده بين النهضة والعقيدة والحركة، خصوصاً في مواجهة تسونامي التدمير الشامل لسورية فيزيائياً ومعرفياً. وقد عَمَدَ سعاده العظيم، بوصفه مُفاعلَ نارٍ ونور، إلى البدء بعمليات قيصرية من الجذور، مِنَ المنطلقات، من الأبجدية القومية الخصبة لكنِ الملوثة شعبياً بالعُجْمة أو بالانغلاق.

 

فاعتصَمَ بالعقل العمليّ المتخطّي، المسكون برؤى الآفاق وبالقلق الخَلّاق. وقد عَصَفَتْ في ذهنه غاباتٌ من الأسئلة الكبرى، فخاضَ رحلة الإجابات الشاقة، وقفز بسرعة إلى ملحمة 1949 المثلومة، لأن معطياتها داخلياً وخارجياً لم تكن قد نَضَجَتْ بالكامل.

 

يتضمن الكتاب سؤالاً نقدياً محورياً عما إذا كانت المؤسسات قد حملتْ بذاتها العلة البنْيوية. ولعل اللباقة التلميحية للكاتب قد حالت بينه وبين التصريح بالهُوة التي فَصَلَتْ وتَفْصل في الحركات التاريخية الكبرى ما بين الطرح والممارسة. لكن، أياً يَكُنِ اسمُ المؤسسة أو الحزب أو الحركة وأياً يكنِ المصطلح المستخدَم لِمُجَسّم النهضة، فهو يفيد الأمة المصغّرة أو قَوَام الدولة القومية.

 

ومن الأسئلة المِفصلية للكتاب، سؤالُ المؤلِّف الداعي إلى إجابة مُلزِمة عليه: هل نَصُّ سعاده نهاىي مقفل أم مرجعيّ توليديّ مفتوح للتجاوز؟ وما مِن شك في أن المؤسسات لم تعمَد بعد 75 عاماً على استشهاد المؤسِّس إلى تقديم إجابة وافية على هذا السؤال المركزي الذي تبايَنَ الأفرادُ في مواقفهم منه. وإذْ علّلَ المؤلف ابتعاد سعاده عن وصف حركته بالثورة رغمَ تمتُّع هذا الوصف بطاقة استقطابية، فإنه يؤكد على المعادلة التالية: "الثورة لا تخوض معركةَ وعيٍ مسبق، فليس من طبيعتها أن تُنشئ أمة غائبة عن نفسها، بل تتحدد طاقتها بتغيير اتجاه أوضاع هذه الأمة وسياساتها وسلطاتها". لكنّ اللحظة التاريخية لم تُؤاتِ مشروعَ التغيير ولا تحقيق الغاية المنصوص على عناوينها وجزئياتها في المادة الأولى من الدستور، حيث جرى تفكيك الدورة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة للأمة، الطّعينة في وحدتها أصلاً. كما تَمّ تلغيم مستقبل سورية الطبيعية، وفقَ المؤلف، بمشاريع تفخيخية متعددة أولُها المشروع الصهيوني الذي تَقّدّمَ في مشروعه، بدءاً من فلسطين، بتواطؤ دولي ورعاية بريطانية خاصة. وثانيها تَمَثّلَ بالمشروع "العربي" الذي وضعه الانكليز أيضاً على حاملٍ سُمّيَ "الثورة العربية الكبرى"، المنطوية على تمليك ثلاثة كيانات وليدة هي الشام والعراق والأردن للأسرة الهاشمية الحجازية. صحيح أن ذلك المشروع لم يسلك تماماً وفق الوعود الاستعمارية، إلا أنه بما تَحَقّق وبما لم يتحقق قد أسهَمَ في توليد ودعم حركات إسلامية وعروبية عملتْ باستمرار على محاربة الشخصية السورية ومرتكزاتها الفكرية والتاريخية. أما ثالثها فهو مشروع اللبننة المنغلقة، الذي بدأ مسيحياً لكنه تَمَظْهَرَ فيما بعد بتنظيمات طائفية متنابذة حيناً ومتقاطعة المصالح أحياناً أخرى. ورابعُها مشروع الدولة الكردية المسماة مستقلة، والتي وُعدَ بها دعاتُها قديماً وحديثاً في إطار التسعير الاستعماري المتواصل لولاءات جزئية تتزيّا بيافطات الاستقلال وحق تقرير المصير. وقد أضيفَ على الاختلاطات المِلّية الكثيرة (المرتبطة بذاكرة فئوية وثقافة فئوية) صراعٌ سُنّيّ- شيعي تأجَّجَ في العقود الأربعة الأخيرة بوتيرة مُفجعة...من دون أن ننسى في لوحة الأزمة المزمنة ألوان الاستعمار الفرنسي ودوره المناهض لسيادتنا القومية، إضافة إلى الدور التركي المنخور بهستيريا العَثْمَنة.

 

أما دعوة المؤلف إلى "سَوْرَنَة" الأديان فتبدو فكرةً تحمل في أحشائها بذْرتها الجهيضة، برغم الإخراج المبتكَر الوارد في البند الرابع (ص127) حول التصدير الافتراضي لرسالة سماوية واحدة، تنقُل الجدل حول ماهية الدِّين من عِلم الكلام إلى عِلم الاجتماع، إذْ لا يكفي إسقاط مفاهيمنا العَلمانية على المقدسات المسيحية والإسلامية، المتصلة في دورها بمقدَّسات يهودية. وإذا كان للعقائد الدينية سردياتها فإنّ للعقيدة القومية الاجتماعية سرديتها هي أيضاً.

 

إنّ عملية "السّوْرَنة" المطروحة لا تبدو واقعية في خطها الثقافي الأصيل الممتد إلى سومر، بوصف الحضارة السومرية شعلةَ التمدن الأرقى في تاريخنا. كما أن تلك العملية تبدو أقربَ إلى التفكير الرغائبي منها إلى الإمكان الاجتماعي -الايديولوجي -السياسي -الفقهي -النفسي، ما دام جزءٌ كبير من شعبنا مشدوداً إلى مرجعية شيخه وإمامه وكاهنه وبطريركه، أكثر من انشداده، لا إلى المرجعية الحضارية لحمورابي وجلجامش وأوغاريت فقط، بل أكثر من انشداده إلى الثورة المعرفية-الرقمية، ومن مرجعية العقلانية الحديثة وموجباتها بدءاً من حرية التفكير التي هي مفتاح جميع الحريات.

 

لكنّ المعروف عن واضِع الكتاب أنه لا يتّصف بعقلٍ تبسيطي بل بعقلٍ منهجيّ مُرَكّب. لذلك تحدث (ص133) بوحي من "نشوء الأمم" عن أن وعي الذات يبتدئ من حقيقة الاشتراك في وحدة الحياة، وهو اشتراك يفرض وحدة المصير خارج التخَندُق المذهبي والديني. وهذا الوعي يشترط تغيير المنصة التي تَتَموْضع فيها الجماعات التي عزلتْها تواريخُها، نحو منصّة أخرى تفاعلية تُمَكّن هذه الجماعات من تغيير رؤيتها للآخَر بحيث تراه إلى جانبها بدلاً من أن يكون في مواجهتها... لكنْ ونحن في العَقد العاشر على التأسيس، ألا يُذهلنا أن الحزب الذي نشأ على إحلال فكرة الأمة محل فكرة الطائفة والمذهب والعشيرة والطبقة والأنا، تكاد تغيب عن شعبه المُشَرذَم فكرةُ الأمّة كما أرادها مشروعُ النهضة، لتفترسه العصبيات التجزيئية التفسيخية الكارثية؟

 

خاتمة: قد يكون هذا الكتاب أعمق قراءة تشخيصية لمآل حزبٍ عظيم اهتزّتْ صورته وخبا ألقه (مؤسسةً لا عقيدة)، قبل أن تخبو فرادته وفاعليته ودوره ورُتَبُه وبياناته. لذلك يبدو صعباً على القارئ أن يختزل القراءة في عددٍ محدود من الأفكار. أولاً لأن فيه ترسانة فكرية وتحليلية. ثانياً لأن شلاله الغزير متدفّق من الينبوع. وبعيداً عن المجاملات التي لا تُقَدّم الحقيقة بقدر ما تُغَيّبها، أقول إنّ مراجعاتنا لكتاب "البحث عن زيوسودرا" قد لا تُنصف المؤلف لجهة قيمة الكتاب الحقيقية. من هنا دعوتي لجميع المهتمين أن يطالعوا هذا الإصدار النوعي، لا إرضاءً لكاتبه بل بحثاً عن زيوسودرا الجديد، بَاني سفينة الخلاص الجديدة التي تلاطم أمواج الطوفان الصاخبة قبل أن تنتصر عليها بقوة الإرادة وبالوعي الصراعيّ المُنتِج.

 
التاريخ: 2024-02-03
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro