مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الجانب الانطولوجي في فلسفة سعاده المدرحية
 
معتوق، محمد
 

 

 

مجلة فكر العددان التاسع والعاشر

شباط – آذار 1977      

 

تجتهد هذه الدراسة في طلب امرين :

 

  1. تصويب بعض الآراء والأفكار حول فلسفة سعاده المدرحية في تجاوز لهذه الأفكار والاراء لا يلتزم بنشرها او الاشارة الى مطلقيها، بل يكتفي بالبلوغ الى اهداف التساؤلات التي يطرحها هؤلاء فيقدم اجوبة اخرى تعمدنا ان لا نجتهد فيها اجتهادا يحمل النصوص المعتمدة غير ما تحتمل.

 

  1. فتح ملف الفلسفة المدرحية بدءا من الجانب الانطولوجي فيها الذي نعتقد انه الجانب الاساس في هذه الفلسفة . وعليه فنحن مستعدون ان نشارك كل ذوي الاهتمام والخبرة في مختلف جوانب هذه الفلسفة وهؤلاء الى تكوين رؤية مستقرة ثابة للفلسفة المدرحية عموما.

 

 

منذ مطلع العام 1947 وحتى غيابه في تموز 1949 – وضع سعاده في رأس اهتماماته التأكيد لاتباعه وتلامذته ان الفكر القومي الاجتماعي الذي آمنوا به لم يقصد منه ان يخدم حقبة تاريخية محددة ينتهي دوره بانتهائها. كما لم يقصد منه ان يكون لخدمة الأمة السورية الى العالم كله.

 

ولم تكن رسالته الثانية الى القوميين الاجتماعيين في كانون الثاني من العام 1947 الا إعلانا عن بدء خطة جديدة في توضيح فكر سعاده. فلم يبق الامر مقتصرا على اعلان النتائج العملية لفلسفة زعيم النهضة القومية الاجتماعية بل تجاوز ذلك وخصوصا في المحاضرات العشر التي القاها في الندوة الثقافية وشرح فيها مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته شرحا مستفيضا جديدا وفي غالبية "انه من الحسن ان يفكر الادراك العادي بديمكريطس وصكرات وافلاطون وارسطو واوغسطين وزينون ونيتشه، ولكني حين افكر في الفلسفة لا افكر بهذه الاسماء بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الاخيرة عينها التي فكر فيها هؤلاء الفلاسفة".

 

" ان اساس الإرتقاء الانساني هو اساس روحي – مادي (مدرحي). وان الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه ... ان العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة تنقذه من هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالم – فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية – هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم".

سعاده

الخطب التي القاها في الفترة من 1947 الى 1949 وفي الحلقات الفكرية التي قادها الى توضيح المنهج الذي اتبعته الفلسفة العادية في تكامل غير منظم اتى على القواعد والقضايا الأساسية لهذه الفلسفة في اسلوب معالجة تحليلي تفكيكي في القضايا النظرية المعقدة واسلوب معالجة تركيبي في  الشؤون ذات المساس بالقضايا السياسية المحلية والانترناسيونية.

في الرسالة الثانية  المشار اليها يقول سعاده : آمنتم بي معلما وهاديا للأمة والناس (: هنا العالم) ومخططا وبانها للمجتمع الجديد ( في كل مكان) وقائدا للقوات الجديدة الناهضة الزاحفة للمجتمع الانساني الجديد، قائد لقوات التجدد الانساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حراراتها المحمية وضياءها المنير الى الامم جميعا، داعية الأمم الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده. وعقيدة تفسيره من الجهة الاخرى بالمبدأ المادي وحده، والاقلاع عن اعتبار العالم ضرورة. عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية. والى التسليم معنا بان اساس الإرتقاء الانساني هي اساس روحي مادي (مدرحي) وان الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمسغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمسعنين عن المادة وفلسفتها".

 

" ....ان العالم يحتاج الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها . وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالم فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم".

 

هكذا قدم سعاده عام 1947 ما كتبه والقاه منذ تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي على انه " فلسفة جديدة" تنقذ العالم من تخبطه. وقد كان يشير في ذلك الى تكامل فلسفته وتماثلها مع الفلسفتين المادية والروحية وتمايزها معهما عن الفلسفات الجزئية. فهو اذن يحيل دراسية الى ما سبق ودبجه من مقالات والقاه من خطب ومحاضرات ليستخلصوا منه مساقط هذه الفلسفة ونواحيها المختلفة لتكون لهم منارا في فهم العالم وتفسيره وتغيره.

 

عبر سعاده وفق الرسالة الثانية. يمكن للأمة السورية اذن ان تدعو العالم الى ترك عقائد التفسير الاخرى والى التسليم مع السوريين بعقيدة التفسير المدرحية. كما عبره ايضا ووفق الرسالة ذاتها يمكن للأمة السورية مرة اخرى ان تقدم للعالم فلسفة يحتاجها للانقاذ والتغيير. فهو اذن لا يقدم فلسفة تفسر العالم ولا تبادر الى تغييره وهو ايضا لا يقدم فلسفة تغير العالم وفق مسلمات نهائية قاصرة تفرض نفسها، او يفرضها اصحابها على العالم . الموقف الأول هو موقف هيغلي. اما الموقف الثاني فهو موقف هتلري نازي.

 

ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتحدث فيها سعاده عن الطبيعة المادية الروحية للاشياء ولكنها كانت المرة الأولى التي يشير فيها الى تكامل فلسفته وقدرتها على التعامل مع العالم في اعلى مراتب تمدنه. منذ ذلك الوقت صار سعاده يلي اهتماما كبيرا القواعد الفلسفية لفكره. كلما سنحت الفرصة مادة اكثر وضوحا استنتجها بنفسها منعا للتأويلات والاجتهادات المنحرفة ليمكن استعمالها عند دراسة فلسفته وربما كان هذا هو دافعه عندما اعاد تنظيم الندوة الثقافية بأشرافه وعندما تنأول بالنقد الفلسفات الاخرى المحلية منها المقتبسة عن الفلسفات المثالية الشرقية والاجنبية التي بدأت تستحيل افراد كان بعضهم اعضاء في الحزب كوجودية بردياييف.

 

وقد اوضح سعاده بنفسه منهجه فالنظر الى العالم اخذا هذه المهمة بالنيابة عن تلامذته ودارسيه. فاوضح منذ البداية " ان شأن كل فيلسوف يبحث عن الحقيقة لكن والحقيقة الكلية تحديدا.اما الحقائق الجزئية التي يحتمل فيها الجدل والتأويل فلم تكن من اهتمامات انسانه. 

ان انسانه لا يخطىء لانه ليس الانسان الفرد. في حين ان الانسان الفرد يخطىء فيصحح خطأه فرد آخر في مجتمعه. ان انسان سعاده هو المجتمع . الانسان – المجتمع.

 

وهكذا كان لا بد من تعريف الحقيقة وايضاح مستلزمات التعرف اليها . يقول : " لا بد لقيام الحقيقة من شرطين اساسين :الأول الوجود بذاته اي ان يكون الشيء موجودا والثاني ان تقوم المعرفة لهذا الوجود والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن ان تكون له بدونها".

 

الا ان هذه العوامل المكونة للحقيقة ليست موجودة بهذا الاستقلال التمييزي الحاد. ذلك ان " الترابط هو الترابط في الذاتية والوضعية وهي في ضمير الانسان واحد. وعند التحليل تميز بينهما. ولكن في ضمير الانسان هما واحد. الفاعل والمفعول هما شيء واحد في ضمير الانسان. لكن عند تقسيم الموضوع يمكنني الكلام عن اثنين ولو كانا في ضمير الانسان واحدا.

بهذا يصبح الوجود وجودا معروفا. غير المعروف فهو عدم. لان " كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق هو الذي هو شيء هو المطلق الواضح. كن  لا وضوح لا يمكن ان يكون قاعدة لاي حقيقة" كذلك فان " افتراض المجهول لا يكون حقيقة، فلا استطيع القول ان جبلا في مكان ما اندك او لم يندك، وان زلزالا حدث الا بالمعرفة الصحيحة".

 

ويناقش سعاده اصحاب النظرية القائلة بان الوجود ليس بحاجة الى من يعلمه طالما انه موجود. وهي نظرية سميت بنظرية " الوجود الموضوعي " حيث تكون الاشياء موجودة ولو كان وجودها خارج وعينا. والواقع ان فلسفة سعاده في هذا المجال لا تقف عند حدود التناقض الكامل مع هذه النظرية. ان فلسفة سعاده تصنف ضمنا الموجودات الى واحدة ذات طبيعة وظيفية واخرى تفتقد الى هذه الطبيعة. وعنده ان هذه الاخيرة هي لا شيء. هكذا يعرف اللاشيء. فالشيء عنده هو الوجود المتصور في الوعي والقابل لان ينتج في تصوره في الوعي حقيقة. فالافتراض بالوجود هو مادة غير قابلة للمعرفة. يقول سعاده " بعض المدارس تقول ان الحقيقة لا تحتاج الى عالم. فما قيمة الحقيقة آنذاك. يجب ان نفترض وعيا اخر وهو وعي الله. وبما ان الانسان لا يشارك الله المعرفة، فالقيم يجب ان تبقى مربوطة بالانسان. وعندما تصبح للانسان النظرة الالهية يمكنه ان نفترض غير هذا".

 

اما الوجود الموضوعي فيكون بين الافراد وليس بالاضافة الى المجتمع كله. فاذا غاب جانب من الحقيقة عن احد الافراد فاخطأ. اصلح له فرد اخر خطأه. اما الحقيقة الكاملة ، العلم بكافة اشكال الموجودات فموجودة في المجتمع كل " وجود موضوعي بالنسبة للمجتمع ، هو عند سعاده، لا شيء.

 

الوجود اذن هو كل ما هو قابل للتصور في الوعي الانساني. اذ لا وعي اخر خارج الوعي الانساني. اماوعي الله فمسألة لا يقاسمه فيها احد. ( بهذا ابعد سعاده عن فلسفته كافة المسائل المتعلقة بما وراء الطبيعة. فهي عنده لا شيء. دون ان يعني ذلك موقفا دينيا معينا).

 

وبهذا يكون الوجود وجودا ماديا – روحيا . فليس ثمة مادة ذات وجود مستقل. كما ليس ثمة روح ذو وجود مستقل. ذلك ان الروح ( او النفس ) هو العقل والشعور، الاحساس والفكر. فلا وجود للاحساس والفكر دون تصورات الوجود المادي. ولا وجود للمادة دون ان تكون موعاة بالفكر والاحساس.

 

فالمعرفة اذن هي اطلاق قوى الفكر والشعور لاستيضاح وجود معين استيضاحا كاملا لا لبس فيه يوفر الطمانينة للنفس. " فكل لا وضوح لا يمكن ان يكون اساسا لايمان صحيح... فالوضوح – معرفة الامور والاشياء معرفة صحيحة - هو قاعدة لا بد من اتباعها في اية قضية للفكر الانساني والحياة الانسانية". والوجود عند سعاده نوعان : الوجود بذاته – او الوجود المطلق. والوجود بغيره. وقد أولى سعاده النوع الأول معظم اهتمامه . فالوجود بذاته هو الوجود الاكبر الذي تنتج عنه معرفته الحقائق الكلية . انه الأمة المجتمع – الوطن – الشعب.

 

والوجود بذاته هو وجود كلي صدر عن عدة وجودات جزئية. الا انه اكتسب صفات مختلفة عن صفات كل من هذه الوجودات منفردة ومجتمعة. فالأمة السورية ذات خصائص تختلف عن خصائص اي من الجماعات التي قدمت الى سورية واقامت فيها وأنشأت عليها حياة. و"المجتمع ليس مجرد مجموع عددي من الناس. ان المجتمع غير المجموع. ان المجتمع اعمق بكثير من المجموع العددي واسمى بكثير منه. انه اعلى بما لا يدرك قياسه عن نظرة تحسبه مجرد عدد من الناس " وكذلك فالمصالح القومية لا يمكن ان تكون مجموعة مصالح الافراد والجماعات في المجتمع القومي. " فليس بالامكان جعل مجموعة مصالح الطوائف مصالح عأمة واحدة لان ذلك يكون مخالفا لطبيعتها".

 

والوجود بذاته يكتسب خصائصه وطبيعته من تفاعل الوجودات الجزئية التي انتجته. ولكنه لا يعود فيتخلى عنها او عن اي منها اذا استلب احد هذه الموجودات الجزئية. فانقراض طائفة او جماعة عرقية معينة في داخل المجتمع القومي لا ينقص من خصائص هذا المجتمع الخصائص التي اتصفت بها الجماعة المنقرضة ( وهذا التفكير هو في اساس المسألة الحقوقية القومية. فعند سعاده " ان الوطن ملك عام لا يجوز حتى ولا لافراد سوريين – التصرف بشبر من ارضه تصرفا يلغي او يمكن ان يلغي فكرة الوطن الواحد وسلأمة وحدة هذا الوطن الضرورية لسلأمة وحدة الأمة السورية، وفي المقابل فان الأمة السوري قد اكتسبت شخصيتها منذ زمن بعيد ولن ينفع في تغيير هذه الشخصية موجات الهجرة الوافدة على سورية ولن يغير ذلك في هويتها القومية وخطط نفسيتها).

 

انه بمجرد ان يتحول وجود معين الى وجود بذاته الى وجود كلي، فانه يتخذ لنفسه خصائص له ثابتة تحدده وتعرف به، فاذا هي تغيرت ، تغيرت طبيعة نفسها. وان بروز خاصية معينة لهذا الوجود بذاته للمرة الأولى لا يعني اطلاقا ان هذه الخاصية قد اكتسبت للتو، بل ان الظروف التي طرأت عليه قد حكت جوهره. فاظهرت ما ضمر من خصائصه، ولم تكسبه خاصية جديدة. يقول سعاده " ان للصعوبات فضلا واحدا هو حك المقدرة . ولكن ليس لها تسبيب الخلق. ان الخلق والإبداع هما مقدرة ذاتيه روحية فكرية  تتغلب بقوتها وبفاعليتها على كل صعوبة وتنتصربالرغم  من الصعوبات لا بسبب الصعوبات " ويقول : " ان بعض الاوضاع في ذاتها تتطلب بعض الاشكال في ذاتها".

 

الوجود بذاته اذن هو وجود أول. منه يكون الإنطلاق. واليه يكون التوجه هكذا عند سعاده . فكل فكر يجعل الوجودات الاخرى موضوعا له هو فكر جزئي . وكل حقيقة شرطها الأول وجود اخر هي حقيقة جزئية.

 

الأمة وجود بذاته . والحزب وجود بذاته ايضا. لان الحزب هو الأمة مصغرة . وبالقياس نفسه يمكن الإستدلال على خصائص الحزب الوجودية  تلك التي اذا فقد احداها تغيرت طبيعته:

الحزب هو الجماعة الجديدة يقول سعاده. انه الجماعة الجديدة المتكونة من أفراد جماعات قديمة هي الطوائف والعشائر والقبائل والطبقات والأعراق. الا ان الفرد في الحزب لا يعود عضوا في جماعته القديمة ولا يدخل الى الحزب حاملا مصالح تلك الجماعة وغاياتها واهدافها. فاستراتيجية الحزب هي إعادة تكوين الشعب داخل بوتقة الحزب. وإعادة التكوين تكون بتفتيت الجماعات القديمة وادخال عناصرها المكونة لها عنصرا عنصرا الى الجماعة الجديدة والى المصالح الجديدة. من هنا كان تأكيد دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي على الإنتساب الإفرادي وعلى اداء القسم افراديا. هذه مسألة ذات علاقة أساسية بفلسفة سعاده.

وللحزب السوري القومي الاجتماعي خصائصه الثابتة المكتسبة من فكره وتاريخه. وكل خاصية جديدة ليست الا خاصية متضمنة برزت بعد ان كانت ضامرة. وأعضاء الحزب ينمون قدراتهم ويقدمون نتاجاتهم المختلفة الى الحزب : فاذا خرج واحد او اكثر بقيت خصائص الحزب ثابتة وبقي تاريخ الحزب في ملامحه الأساسية هو اياه.

 

وقد تنفق هذه الاوصاف مع أوصاف أحزاب اخرى. الا ان الإتفاق لا يعدو كونه ظاهريا عارضا او اتفاق تسبب به النقل والتقليد الببغائيان. ان ما يؤكد عليه سعاده في مثل هذا المجال هو الروح التي تقف خلف العمل. فالقائد هاني بعل قطع جبال الألب وجماعات متوحشة قامت بالعمل نفسه. الا انه داخل العمل الواحد يقوم به طرفان لا تصلح مقارنة الأشكال بل المضامين التي يستدل عليها من الأهداف والسوية الثقافية والإرادة.

 

من الوجود الأول اذن يكون البدء.

اما الوجودات الاخرى . الوجودات بغيرها. فهي لا تكتسب قيمتها الا بارتباطها بالوجود الأول. انها فكرة مطلقة لا حدود لها . فهي مبهمة. فاذا تحددت توضحت. ولا يكون تحديدها الا بالاضافة الى الوجود الأول. هكذا هو الدين . " ان الدين للحياة ولتشريف الحياة وليست الحياة للدين ولتشريف الدين" وكذا هي السياسة. انها من بلوغ الاغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد ان يرتبط فيها لانها رابطة المجتمع. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الاغراض القومية باقرب الطرق وأقل التكاليف".

وكما الدين والسياسة كذلك هو الاستقلال. انه واسطة لتحسين حياتنا وترقيتها وجعل ارادتنا في الحياة نافذة" لذلك" نريد الاستقلال لان لنا مقاصد في الحياة، مقاصد نريد ان نحققها. ولا يمكن ان نحققها الا بواسطة الاستقلال".

 

لقد جعل سعاده كافة الموجودات بغيرها والقيم لخدمة الوجود الأول الذي هو الأمة. انها عنده الوجود المادي الروحي الأتم. منها واليها يكون البدء والتوجه لانها " حقيقة أولية ومنها يجب ان نتبدىء لانها هي الوجود الذي نراه ونلمسه وندركه بالحاسة وبالفكر الذي نحياه".

 

كان هم سعاده اذن كما كان هم الفلاسفة حميعا البحث عن الحقيقة. بهذا لا يختلف سعاده عن الفلاسفة في شيء. الا ان مدرسته الفكرية التي وضع قواعدها واسسها هي مدرسة الانسان، المدرسة التي تقصر امكان تبيان الحقيقة على الوعي الانساني. ولكن الانسان عنده غير الانسان عند الفلاسفة السفسطائيين الاغريق. انه ليس الانسان الفرد بل الانسان في خصائص مجتمعه ومعارفه وتاريخه وقدراته الذاتية الظاهرة والكامنة. هذا هو الإنسان عند سعاده. هذا هو انسان سعاده. الإفتراق اذن بدأ من تصور سعاده الخاص للحقيقة. انها حقيقة وجودية لاميتافيزيقية. لقد جعل سعاده العقل " الشرع الاعلى والاساسي " فهو الذي يحدد الحقيقة، اي يعطي الوجودات فيمتها بمعرفتها " وبدأ الإفتراق الاكبر عندما اعتبر الانسان انسان الجماعة التأمة. لان كل انسان اخر، بدأ بالانسان الفرد المفترض افتراضا ( لانه لا وجود له) مرورا بأنسان الجماعة الصغرى هو انسان في تناقض مع الوجود الأتم يعظم ويقل . هذا في الجانب النظري. وفي الجانب النظري ايضا ان المجتمع هو مجموعة افراد بالضرورة . الا ان الاستدلال عليه، على خصائصه وقدراته لا يكون في عصر الانتماءات الجزئية المتناقضة – بدراسة احوال فرد هذه المجموعة ولا حتى افراد المجموعة جميعاً. ان المجتمع هو خصائصه الثابتة في احوال تحرير العقل من كل المؤثرات الجزئية العابرة. فهو عمليا خارج حدود هذه الجماعة من الافراد.

 

هكذا لا تكون فلسفة سعاده، فلسفة عقلية محدودة او فلسفة وضعية كما في التعبير الفلسفي. ان العمل البنائي – كالعمل الإستدلالي في الجانب الانطولوجي من فلسفة سعاده – هو عمل مادي – روحي ( او مادي نفسي ) وليس عملا ماديا – عقليا. يقول سعاده " ان العقل والشعور، ان عمل الاحساس والفكر هو كل نفسي لا يمكن ان يزال العقل منه " ان العقل عند سعاده، في مواجهة الوجودات الأولى هو عقل متحيز لأنه عقل مجتمعي اي انه عقل يحمل خصائص المجتمع لنفسية ذلك لان الوجودات الأولى هي وجودات مركبة ومعقدة في حين ان الوجودات الأخرى – الوجودات بغيرها – هي دائما وجودات بسيطة . لذلك تكون العلوم الوضعية واحدة في كل المجتمعات لان العقل الذي يواجهها هو عقل مجرد غير متحيز – بينما العلوم الاجتماعية – المتفرعة عن الوجود الأول – هي علوم يختلف النظر فيها بين مجتمع وآخر. لتغير طبيعة  العقل الذي يواجهها.

 

هناك عقل فردي او افرادي يهتم بدراسة الوجودات بغيرها. والعقل المجتمعي وحده يستطيع ان يواجه الوجودات بذاتها، لانه وحده يستطيع ان يعيد تركيبها فهو اذن وحده يستطيع ان يدرسها ويعيها.

 

العقل المجتمعي عند سعاده ليس عقلا مجردا. ان العقل المجتمعي ونفسية المجتمع لفظتان مترادفتان لذلك فالعقل المجتمعي ليس عقلا واحدا في كل المجتمعات انه عقل خاص. يتحدث سعاده، عن " العلاقة الوثيقة بين الفيزياء ونفس الانسان – بين نفسية المجتمع واشكاله الفيزيائية – الى العلاقة بين السيكولوجيا والفيسيولوجيا فلا يمكننا مطلقا ان نفهم بعض الأفعال والاحداث الشخصية النفسية دون ان  نعلم خصائص فسيولوجية الشخص المختص، الصادرة عن تلك الأفعال والاحداث. ان هنالك علاقة وثيقة بين النفسية الداخلية . بين المقدرة العقلية وبين الاشكال الفيزيائية للانسان". ويقول : " ان الأمة السورية تشكل حقيقة فزيائية ، حقيقة دموية سلالية و حقيقة نفسية لا يمكن ان نفهم بدون هذه الحقيقة المادية الاجتماعية".

 

ويستند سعاده في ذلك الى اعتقاده بان " هناك علاقة وثيقة بين الشكل الروح ، بين فراسة الانسان التشريحية الخارجية ونفسيته ومقدرته العقلية. فمن مجرد النظر الى وجه انسان او رأسه ندرك حالا وسريعا ولأول وهلة ما يقم عنه شكله من مقدرة وقوة نفسيتين، من ذكاء وتوقد ونشاط روحي ونباهة عقلية. او من تحجر عقلي وترهل في القوى المدركة. من نقص لا يحيز مقدرة عقلية عالية او مؤهلات ثقافية ذاتية راقية" هكذا يوضح سعاده ما يعنيه بالترابط بين الروح والمادة. وهو هذا اساس فلسفته المدرحية التي اعلن انها عقيدة لخلاص العالم كله معنية بالقضايا الأساسية الثابتة. يقول :" ان قواعد الفكر التي نشأت عليها هذه النهضة القومية وينمو بها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفية عميقة تتنأول المسائل الأساسية غير التي ترتبط بوقت معين تمضي بمضيه او بشكل من الأشكال الجزئية. بل هي عأمة ثابتة او بالمعنى الفلسفي المطلق ليست منسوبة الى وقت او حالة معينة وقتية تزول بزوال تلك الحالة".

 

 

**********

 

اعتمد في اعداد هذه الدراسة على ثلاثة مراجع :

  • المحاضرات العشر
  • شروح في العقيدة
  • حلقة فكرية قادها سعاده نشرت لأول مرة في " البناء" أول آذار 1971
 
التاريخ: 2021-05-30
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: مجلة فكر
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro