مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
جورج خضر في عيده المئة... نحّاتُ معرفةٍ لا عابدُ أصنام
 
الدبس، ربيع
 

 

أمير اللاهوت المشرقي المعاصر بلا منازع. هكذا كان يحلو لنا، مُقَدِّرين ومُعجَبين، أن نُكَثّف التوصيف عن ابنِ طرابلس الذي رفَض التشرنُق فانسكب بَهاؤه على شتّى المناطق والطوائف، تماماً كما انسكبَ التنوعُ الإنساني في نفسه بالحُبّ الآسِر. صحيح أنه درس الحقوق واللاهوت والفلسفة دراسةً أكاديمية في أوروبا، إلا أنه انطلق من التراث- تراثنا المشرقي الروحي المُضاء بكلمة الحياة والمُشِع بإشراقاتها الأسطع.

 

نحّاتُ معرفةٍ لا عابدُ أصنام، بل مشروعُ محبةٍ وتواضُعٍ وتَعَمُّق وتثقيف في زمن المظاهر والوجاهة والضحالة والتفاهة: «الفقراء والمساكين هم أسيادنا». هذه كانت إحدى وصاياه لعشرات الكهنة الذين زرع فيهم أن الكهنوت رسالة لا وظيفة، قبل وبعدَ أن يرسُمَهُمْ شمامسة أي خُداماً للكلمة الإلهية، في خِضَمّ ارتقائهم سُلّمَ الكهنوت الذي جَهدَ لجعله عِلماً وتضحية لا رتبةً وإغراءات. تكريمات لا تُحصى من مؤسسات محلية وعربية ودولية سُجِّلَتْ في مسيرة الرجل الذي لم يبحث يوماً عن تكريم.
 

وألقابٌ عديدة أُطلِقَتْ على المطران الزاهد بالألقاب، منها: «أسقف العربية» و«لاهوتيّ السياق العربي» و«الذهبيّ القلب والقلم». إلا أن فِكْر جورج خضر (المولود 6 تموز/ يوليو 1923) وأدبه فرضا المحبة والتقدير والاحترام على قرائه وسامعيه وعارفيه، كجيلنا الذي نهلَ مِن مَعِينه، في المؤلَّفات الغزيرة وفي الرسائل والحوارات والندوات المشتركة والإطلالات المتواصلة، رشفاتٍ جوّانية تَحَوّلتْ، بقدوة مُعَلمه الإلهي، إلى ينبوع ماءٍ حيّ. وقد كرّمه بعد تجاوزه التسعين بأعوام، داخلَ مقره المُطِل مِن ربوة متنيّة في برمانا على بيروت، بطريركُ أنطاكية وسائر المشرق يوحنا العاشر، قبل أن يَخْلفَ المطرانُ المثقف سلوان سَلَفَه على أبرشية جبل لبنان الواسعة، أي جبيل والبترون وما يليهما في مصطلحات التوزيع الإداري الداخلي. والبطريرك يازجي، الذي لم يُعِرْ أخاه المطران المخطوف بولس منذ سنوات اهتماماً يفوق أي مواطنٍ سوري أو لبناني من أي طائفة، هو نفسه الذي أجاب إعلامية خلال الحرب الضَّروس على سوريةَ الأبية سألَتْه عما سيفعله لحماية المسيحيين بالقول الهادر: «لا أقبل هذا السؤال ولا هذا المنطق. فواجبنا حماية السوريين جميعاً من المؤامرة التي تتعرض لها بلادُنا، كلُّ بلادِنا».


لقد أَطلَقَ خضر شلالاً من المقالات المعرفية ذات الأسلوب الأخّاذ في التاريخ واللاهوت والفكر السياسي-الاجتماعي-الأخلاقي. وتوزعتْ مقالاته على عدة دوريات كصحيفتَيْ «النهار» و«لسان الحال» ومجلة «النور». لكن نصوصه الأكثر ديمومةً في قالب المقالات جاءت في نشرة «رعيتي» التي ما زالت مرجعاً للمُستقِين من الشلال. وهو، إلى عمله الرعائي والثقافي الممتد على مدى عقود كاهناً قبل عام 1970 ومطراناً بعدها، قد دعا إلى مجتمعٍ موحَّد باعتبار أن الهوية الجامعة هي بِنْية ذهنية محَكُّها صادقُ التطبيق لا كاذبُ الشعارات. كما مثّل، مِنْ موقع الأسقف المتقدم ورفعَةِ المُواطن المشدود إلى إخوته في المواطَنة، إشراقاتِ الحوار المسيحي-الإسلامي الأصيل في لبنان والخارج: «أحمل المسلمين في قلبي لأن الله حامِلُهم، لأن كرامتهم كرامتي، لأننا نحن المشارقة نموت معاً ونحيا معاً وغيرُ ذلك لغو».


والمتروبوليت خضر أصلاً أستاذ جامعي للحضارة والفكر الإسلامِيَّيْن في الجامعة اللبنانية، وعضو مجلس الأمناء في «جامعة البلمند»، ورئيس مجلس إدارة «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا)، ورئيس «البيت اللبناني-الروسي»، والمؤسس الحقيقي لـ «حركة الشبيبة» التي لعِبَتْ دوراً مفصلياً في التركيز على البُعد التنويري الروحي للكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، حيث التجدد والانفتاح واجِبان كَيْنُونيّان في مقابل الانغلاق والتَخَشُّب، وحيث الأفق المشرقي خَفّاقٌ بنبضات حضارية واحدة.
نشير عموماً إلى الكُتب والأطروحات والرسائل الجامعية غير القليلة التي تناولت مدرسته الفكرية وأركانها الانفتاحية السمحاء، إضافة إلى مشاركاته في تأليف كتب عدة، لكننا نَذكُر أهم مؤلفاته وفقاً للعناوين التي صَدَرَتْ بها تلك المؤلفات: «أنطاكية الجديدة»، «فلسطينُ المستعادة»، «هلِ الدِّين أفيون الشعوب؟»، «الرجاء في زمن الحرب»، «لو حكيتُ مسرى الطفولة»، «حديث الأحد»، «ثماني كلمات في الرعاية»، «الحركة: ضياء ودعوة»، «مطارح سجود»، «سَفَر في وجوه»، «الحياة الجديدة»، «هذا العالَم لا يكفي»، «وجوه غابت»، «أذكروا كلامي (رؤى في الرعاية)»، «المُعَلّم (عظاته وفكره- 3 أجزاء)»، «اغتنوا بالله، سلسلة «شذرات من نور»»...


لا يخامرنا الشك مُطلقاً في أنّ جورج خضر تنكّبَ مشروعاً إصلاحياً نهضوياً من قلب المؤسسات الكَنَسية. وهو يدرك تماماً، بمعية المؤسِّسين الفاعلين في حركة الشبيبة، أن ثمة علاقة جدلية بين المؤسسات الدينية والدولة: تفاعلاً أو تضادّاً، تجديداً أو تقليداً. وعليه، فالنهوض ليس في القلب فقط، بل في العقل كذلك.


ما مِنْ شك في أنّ المطران الجليل، الذي قدّمتْه مسيرتُه النقية قبل نصوصه، والمتأثر استثنائياً بِيوحنا وبولس ورهط من آباء الكنيسة الكبار في كشفهم البِشاريّ المُعَمّق لرسالة المسيح الخلاصية، يتقاطع مع الصوفيين الكبار الذين عشقوا الله وعملوا على الاتحاد به في احتراقٍ لا تَبْرد حرارته، كمحيي الدين ابن عربي القائل: «الطُّرُق إلى الله تتعدّدُ بتعددِ المسالك»، أو السّهرَوَردي الواصِف شوقه لله بالقول: «لا يكون المُحب إلا مشتاقاً أبداً»، أو جلال الدين الرومي الجازِم: «مَنْ يحملْ صدره في قلبه لا يعنيه ظلامُ العالمين»، أو شمس التّبريزي الصارِخ: «اِسألْ نفسك مع شروق الشمس، متى ستُشرق أنت؟». يخاطب المطران خضر ربَّه في نَصٍّ مُشْبع بالنفحات الصوفية فيقول: «يا سيدي المرفوع على عاري، المصلوب على يأسي، يا مَنْ غَدَتْ كلُّ مرارةٍ جُلجلته وكلُّ غفلةٍ مسمارَه. أيها المسيح الفادي، يا مُعَلّم، يا مُنبِتاً لليقظات المُضْنية. جئتَ إليّ في ليلي. تجيء دائماً إلينا في الليل لأنك هناءُ السماوات والأرض، دماءُ الورود التي تتفتّح في الصّحارَى. قُدِّستَ يا رب، مَنْ كان لك فإنه يقظانُ إلى الأبد متجنّدٌ للتنبيه، حُرٌّ من النوم، من ظلمة نفسه والتاريخ» (كلمات إنجيلية، ص71-73).


شاقّة مهمة الإحاطة بينبوع روحي وفضاءٍ معرفي دعا خلال قرنٍ حافل بالمتغيرات إلى الخروج من الذِّهن القَبَلي وإلى صيانة الثوابت الأخلاقية في الدِّين والدنيا، وحذّرَ الناس من أن يَنحتوا في عقولهم الأوثانَ بدلاً من القِيَم. وقد رعى، بقدوة المحبة الأعظم، جميع أفراد شعبه بغض النظر عن اصطفافاتهم السياسية والعقَدية والمذهبية، مفرِّقاً بالطبع بين ذوي النزاهة وبين الفاسدين، وما بين الديانة الحية النقية من جهة، والتجمعات الدينية الملطخة بمعاصيها من جهة أخرى. وها هو يبدأ بِكَهَنته فرداً فرداً: «أنتَ راعٍ لِمَنْ تلتقيه...لا تستطيع أن تنام وربُّك يصلبه المسيحيون. لا تستطيع أن تخدم إذا لم تكن عارياً من الخطيئة. والكمال هو السعي إلى الكمال».



* أستاذ جامعي وباحث في الحضارات

 

 
التاريخ: 2023-07-05
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، الأربعاء 5 تموز 2023
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro