مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الإستقلال الفكري في فلسفة أنطوان سعاده
 
حوراني، رامز
 

 

 

 

إنّ الهوية القومية لأية أمة من الأمم هي تتويج لمراحل تاريخية طويلة، ونتيجة لتفاعلات مادية وروحية على أرض واحدة. لذلك فالهوية القومية ليست عنواناً نظرياً في الفراغ، إنما هي نتاج الجماعة في الإختيار والإرتقاء والإستقلال. وهذا ما أكد عليه أنطوان سعاده منذ البداية.

 

إنّ أول ما نلاحظه في فلسفة سعاده هو تشديده على مطلب الإستقلال الفكري. وسعاده في هذا الصدد إنطلق مما هو كائن ليصل إلى ما يجب أن يكون، ولكن اهتمامه بما هو كائن خاضع لإهتمامه بما يجب أن يكون. وهذا يعني أن سعاده يريد دراسة الواقع بقصد تغييره. ومن هذه الزاوية رصد سعاده البلبلة الفكرية والثقافية التي سيطرت في عصره على الواقع الفكري للأمة السورية، فوجد الأسباب كامنة في فقدان الشخصية الثقافية المستقلة نتيجة لعوامل عديدة أهمها: تراجع الوعي بسبب عصور الإنحطاط، التجزئة السياسية وظهور التقوقع الطائفي والمذهبي نتيجة لسياسات المستعمرين، والثقافة الأحادية المتمثلة بالإطلاع على الثقافات الغربية ومحاكاتها دون العودة إلى الإطلاع على تراثنا، لمعرفة ما يوافقنا من هذه الثقافات وما لا يوافقنا.

 

إن الإستقلال الفكري الذي دعا إليه سعاده يبدو واضحاً في قوله التالي: "ولكننا لا نعترف بمبدأ الدعاوة الأجنبية، يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً"[1].

 

لم يكتفِ سعاده بتوجيه هذا النداء بل تعداه إلى رسم الطريق، وكيفية الإنفتاح على مختلف المدارس الفكرية القديمة والحديثة. ويظهر ذلك في قوله: "التكلم فيما نعرفه عن بعض الفلاسفة الغربيين، أو المفكرين السياسيين، أو الذين اكتشفوا اكتشافات علمية، لا يكفي ليكون نهضة منا نحن... إن النهضة لها مدلول واضح عندنا، وهو خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد، إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة، نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا، وشخصيتنا القومية الإجتماعية، إلى نظرة قومية جلية إلى الحياة والعالم"[2].

 

ومن المظاهر التي تؤكد الإستقلال الفكري لأمة من الأمم عند سعاده هي أن تكون المثل العليا للأمة إنعكاس لمسارها التاريخي والنفسي، وهذا ما يشير اليه سعاده في قوله: "إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا، ونعلن أنه في النفس السورية كل علمٍ، وكل فلسفة، وكل فن في العالم... إذا لم تقوَ النفس السورية، وتنزّه عن العوامل الخارجية، وسيطرة النفسيات الغربية، فإن سوريا تبقى فاقدة عنصر الإستقلال الحقيقي، فاقدة المثل العليا لحياتها"[3]. ولكن ينبغي ألا يفهم من ذلك أن سعاده يقصد بالإستقلال الفكري، رفض الفكر العالمي، وعدم التفاعل معه، فهو يدعو إلى التفاعل مع الأمم الأخرى، والتشارك معها لإيجاد رؤية إنسانية راقية للبشرية، فيها كل الحق والخير والجمال. وهو يعبّرعن ذلك قائلاً: "فيجب إذن أن نعود إلى حقيقتنا، وأن ننزّه حقيقتنا عن العوامل الخارجية. لا يعني هذا أيضاً أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى... فالإستقلال الفكري والشعوري – النفسي لا يعني مطلقاً الإنعزال عن العالم، أو الإنعزال عن التفاعل مع العالم"[4].

 

إن الإستقلال الفكري الذي يريده سعاده، هو الذي يقوم على أساس حرية الإختيار الواعي، لأن أي قيمة مهما كانت عظيمة، ومهما كانت راقية، لا يمكنها أن تحافظ على جوهرها، إذا فرضت فرضاً على ذات أخرى. لذلك علينا أن نمتلك ذاتاً واعية، فاحصة، مدركة، تقدر أن ترى الحق والخير والجمال، وأن تشترك مع الآخرين في رؤية ذلك إنطلاقاً من عواملها الخاصة.

 

وهكذا يبدو لنا أن الإستقلال الفكري الذي يسعى إليه سعاده يعدُّ مظهراً من مظاهر السيادة الواعية للأمة، ودليلاً على المخزون الثقافي لهذه الأمة، وهذا ما يجعلها قادرة على المشاركة الفعالة مع الأمم الأخرى في بناء الحضارة الإنسانية الخلاقة، بعيداً عن روح السيطرة القائمة على الفرض أو التقليد.

 

إنّ الإستقلال الفكري عند سعاده مطلوب لحماية النهضة القومية من السيطرة الأجنبية، ومن التفسخ الذي يؤدي إليه التعلق بمدارس فكرية مستوردة ومتعارضة، ومطلوب كواسطة، وكمدخل إلى حركة الإبداع التي تكشف فيها الأمة نظرتها إلى الحياة وإلى العالم، وتجدد بها حيويتها وفاعليتها. وهذا الإستقلال المطلوب لا يقتضي كره الأجنبي، بل الإنفتاح على مختلف الإتجاهات الفكرية العالمية، التي تشكل في مجموعها ثقافة العصر ونقدها من وجهة النظر القومية، كما أنه يعني الإهتمام القومي بالتراث القومي الذي يغذي الشعور بالهوية، والإيمان بالنفس، ويعطي النفسية مناعة حيال التيارات الأجنبية الوافدة على الثقافة القومية، وقد تكون هذه التيارات منافية للخصائص الروحية للأمة.

 

إنّ الإستقلال الفكري عند سعاده ليس عنواناً نظرياً إنه خاضع للتفاعل بين الإنسان والأرض، وهذا التفاعل هو الذي يراكم عبر التاريخ الخصائص المميزة للمجتمع. علاقة الإنسان بالأرض في فلسفة سعاده، ليست علاقة سكونية، بل هي تفاعل بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، فالأرض بتقديمها الإمكانيات تفرض على الإنسان أن يراعيها في سد حاجاته، ولكنه يعود من ناحية ثانية فيرد الفعل، ويطورها حسب إمكانياته الخاصة، لأن نظرة سعاده للتفاعل بين الإنسان والطبيعة ليست نظرة يكون الإنسان فيها طرفاً منفعلاً يحمل الإنطباعات التي تدفعه الطبيعة بها، دون أن يكون في وسعه التأثير فيها، وينتج عن هذا التفاعل الإنصهار الروحي بين الجماعة وتطور هذا الإنصهار وتنوعه عبر الزمن يؤلف عند سعاده ما نسميه روح المجتمع أو روح الأمة. وهكذا فالحدود الجغرافية التي تحدد الإقليم تحصر البشر ضمنها، وتحد من امتدادهم امتداداً غير متناهٍ، فالبشر الذين يعيشون ضمن بيئة معينة يحيون حياة واحدة، ويؤلفون مجتمعاً واحداً، له روح واحدة.

 

إنّ نظرة سعاده الديناميكية للمجتمع تبيّن لنا أن روح المجتمع، أو البيئة الإجتماعية هي شيء ثابت، مستمر الفعل ودائم التأثير، ينطلق مندفعاً مع الزمان، فيذيب في انطلاقة كل تنافر قد يصطدم به، ويوحّد كل تباين قد يطرأ على الجماعة التي تشكّل تدريجياً في وحدة قائمة على روابط مادية – نفسية وهذا المجتمع الموحد يصبح ذا اتجاه نفسي واحد، وذا نظرة واحدة للكون والفن والحياة، تنعكس في منشأته الفكرية والمادية والفنية.  

 

 


[1]   أنطوان سعاده: سلسلة النظام الجديد – الجزء الثاني – المحاضرات العشر – منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، ص 35

[2]  نفسه: ص 15

[3]  نفسه 108

[4]  نفسه: 115

 
التاريخ: 2023-06-13
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: الندوة - نشرة الكترونية تصدر عن الندوة الثقافية ال، الرابع
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro