مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
ظاعهرة الوجدان القومي
 
نصري العقل، جهاد
 

 

 

اضغط هنا لمشاهدة الندوة

 

 

 

 "إنّ عظمة الحزب القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي "

                                                                                   ســعــاده

 

  • "إنّ فلسفة سعاده تتكشّف عن قضايا ومفاهيم جديدة ساميّة. وهي تحتاج إلى دراسات عديدة. إنّها تفتح إمكانيات إنتاج فكرّي جديد، يخطو بالمجتمع خطوة خطيرة نحو ذروة القوّة وغلبة الموت"، سعاده، من مقالة "نظرة سعاده إلى الإنسان".
  •  
  • "إنّ الوجدان القوميّ هو أعظم ظاهرة إجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن"، سعاده، من مقدمة كتاب "نشؤ الأمم".

                             *****************

 

 

     سعاده خصّ"الوجدان القومي" أهمية بالغة في بنائه الفكري الفلسفي – العلمي الرائع والمتكامل، حتى أنّه خصّص مقدمة كتاب "نشؤ الأمم"، والفصل السابع الأخير منه (الإثم الكنعاني)، لشرح هذه الظاهرة الإجتماعية العظيمة "التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدن" (1).

 

    ولم يغب تعبير "الوجدان القومي"، عن شروحات بعض المبادئ (التعاليم) السورية القومية الإجتماعية (2)، فهو أحد الركنين الأساسيين اللذين تأسست عليهما الحركة القومية الإجتماعية؛ في مقالة "لائحة العقاقير لا تصنع طبيبا" يقول سعاده : "تأسست الحركة القومية الإجتماعية على مبادئ الوجدان القومي والعدل الإجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن .." (3) . وفي مقالة "النظام"، يؤكد سعاده أولوية "الوجدان القومي"، في بنية الحزب العظيمة ، بقوله :" وممّا لا شكّ عندي فيه أنّ عظمة الحزب السوري القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي، وإظهار شخصية أمّة عظيمة كانت مهملة وإيجاد أسس نهضة تحقّق وصول الأمة إلى مرتبة الحياة المثلى اللائقة" ( 4).

 

    في كتاب "نشؤ الأمم"، لـ سعاده، ورد تعبير "الوجدان" في عدّة صيغ، منها:" الوجدان القومي"، و"الوجدان القومي أو الإجتماعي"، و"روحية الأمة ووجدانها" و"الوجدان الإجتماعي"، و"الوجدان الحيّ".

 

    وفي التعاليم – المبادئ، لـ سعاده، ورد تعبير الوجدان في عدّة صيغ أيضا، من بينها: في المبدأ الأول: "الوجدان الحيّ"، وفي المبدأ الرابع "الوجدان القومي الصحيح"، وفي المبدأ السادس "الوجدان القومي"، وفي السابع "الوجدان السوري القومي" .

 

    أمّا في رسالة سعاده السادسة إلى غسان تويني، فقد ورد التعبير: "إيجاد الوجدان السوري القومي الإجتماعي" (5)، أي بإضافة كلمة "السوري"، على التعابير المتقدمة، وسنوضح ذلك في سياق الدراسة.

 

    وفي مقالة "نهضة سورية وسط الجوع والنار"، ورد تعبير الوجدان القومي العام (6).

 

الوجدان في تعاليم سعاده

 

  • في النصوص
  •  

نستعرض النصوص التي تضمّنت تعابير الوجدان المشار إليها فوق في كتابات سعاده

 

1 – "إنّ الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة إجتماعية في عصرنا، وهي الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدّن.

ولقد كان ظهور شخصية الفرد حادثا عظيما في إرتقاء النفسية البشرية، وتطوّر الإجتماع الإنساني. أمّا ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأنا وأبعدها نتيجة،  وأكثرها دقّة ولطافة وأشدّها تعقدا، إذ أنّ هذه الشخصية مركب إجتماعي – إقتصادي – نفساني، يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية جماعته – أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الإجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه، ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.

 

كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القومي، الشعور بشخصية الجماعة، لا بدّ لأفرادها من فهم الواقع الإجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعيّن مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والإرتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضا، ويضيع جزء غير يسير من فاعلية وحدته الحيوية، ويضعف فيه التنبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج.

 

وإن درسا من هذا النوع يوضح الواقع الإجتماعي الإنساني في أطواره وظروفه وطبيعته، ضروريّ لكلّ مجتمع يريد أن يحيا، ففي الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها، ولا تخلو أمّة من الدروس الإجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار" (7).

 

2 – "لا يصح قول بلنتشلي (8) متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميته إلا في الأقوام الغافلة عن نفسها ووحدة اجتماعها، أمّا الأقوام المتنبهة الحيّة الوجدان القومي أو الإجتماعي فيمكنها أن تقبل لغّة جديدة ولا تفقد خصائصها القومية الأخرى، وهذه أرلندا يعود إليها تنبهها القومي وعصبيتها بعد قرون من سيطرة اللغة الإنكليزية"(9).

 

3- "وأمّا التاريخ فهو سجل مجرى حياة الأمة، وخطورته هي في القومية، في روحية الأمة ووجدانها، لا في الأمة بعينها، فإنّ ذكريات ما قامت به الأمة وما عانته تقوي الوجدان القومي. ووحدة الأمة هي التي تعيّن التاريخ القومي. فلولا ما حدث من وحدة الإغريق بعد الإسكندر لظلّ تاريخ الإغريق تواريخ أثينا واسبرطة وطيبة ومكدونيا، أو تواريخ الدوريين واليونانيين والهلينيين الخ.."   راجع" نشؤ الأمم"، الفصل السابع.

 

4 – "بقي في تحديد منتشيني (10) عبارة قوية هي كون الأمة مجتمعا طبيعيا من أبرز صفاته خضوعه للاتحاد في الحياة والوجدان الإجتماعي.

 

هذه هي نقطة الإبتداء الحقيقية الأساسية لوجود الأمة ولتعريف الأمة. شرط المجتمع، ليكون مجتمعا طبيعيا أن يكون خاضعا للإتحاد في الحياة والوجدان الإجتماعي، أي أن تجري فيه حياة واحدة تشمل المجموع كلّه وتنبه فيه الوجدان الإجتماعي أي الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فتتكوّن من هذا الشعور الشخصية الإجتماعية بمصالحها وإرادتها وحقوقها "(11).

 

5 – "ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القومي الذي هو أبرز الظواهر الإجتماعية العامة العصرية فقد بلغنا هذا الدّين الإجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالم، ونُعِت في بعض الظروف بالخديعة الكنعانية أو الإثم الكنعاني.. إنّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشى على قاعدة محبة الوطن والإرتباط الإجتماعي وفاقا للوجدان القومي، للشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير.." (12).

 

6 - القومية، إذن، هي يقظة الأمّة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها. وقد تلتبس أحيانا بالوطنية التي هي محبة الوطن، لأنّ الوطنية من القومية، ولأنّ الوطن أقوى عامل من عوامل نشؤ الأمة، وأهم عنصر من عناصرها. إنّها (القومية) الوجدان الحيّ الفاهم الخير العام، المولد محبة الوطن، والتعاون الداخلي، بالنظر لدفع الأخطار التي قد تحدّق بالأمة ولتوسيع مواردها، الموحد الشعور بوحدة المصالح الحيوية والنفسية، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة، بالتعصب لهذه الحياة الجامعة التي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه" (13).

 

7 – " فالأهداف العملية المباشرة التي يجب أن يتوخاها العاملون عبر الحدود، في مقدمتها:

 

إيجاد الوجدان السوري القومي الإجتماعي في مغتربينا بوجه عام، وإقناعهم بمبادئ نهضتنا الأساسية والإصلاحية، ودعوتهم بطرق متنوّعة إلى اعتناق هذه المبادئ باعتبارها الوحيدة المعبّرة عن شخصيتنا القومية وحقوقنا ومصالحنا والتي لا نهضة لأمتنا إلا بها، كما هو الواقع.." (14).

 

       8 - “والحقيقة أنّ قومية السوريين وحصول الوجدان الحيّ لهذه القومية أمران ضروريان لكون سورية للسوريين، بل هما شرطان أوليان لمبدأ السيادة القومية، وسيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه وعلى وطنه الذي هوأساس حياته، وعامل أساسي في تكوين شخصيته“(15).

 

       9 – "إنّ هذا المبدأ، أي المبدأ الأساسي الرابع (16)، يُنقذ سورية من النعرات الدموية، التي من شأنها إهمال المصلحة القومية العامة، والإنصراف إلى الإنشقاق والفساد والتخاذل. فالسوريون الذين يشعرون أو يعرفون أنّهم من أصل آرامي لا يعود يهمهم إثارة نعرة دموية آرامية ضمن الأمة والبلاد، ما دام هنالك إتباع لمبدأ الوحدة القومية الإجتماعية، والتساوي في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والإجتماعية، بدون تمييز بين فارق دموي أو سلالي سوري. وكذلك الذي يعلم أنّه متحدّر من أصل فينيقي(كنعاني)، أو عربي أو صليبي لا يعود يهمه سوى مسألة متحده الإجتماعي الذي يجري ضمنه جميع شؤون حياته والذي على مصيره يتوقف مصير عياله وذريته وآماله ومثله العليا هذا هو الوجدان القومي الصحيح" (17).

 

      10 – " فهو، أي المبدأ الأساسي السادس، (18)، أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي، والضامن لحياة الشخصية السورية واستمرارها" (19)

 

    11 – " والحقيقة أنّ من أهم عوامل فقدان الوجدان السوري القومي، أو من عوامل ضعفه، إهمال نفسية الأمة السورية الحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية...وبما خلّده سوريون عظام...أضف إلى ذلك قوادها ومحاربيها الخالدين... (20).

 

     12- "والحزب السوري القومي الإجتماعي أخرج العمل القومي الإجتماعي من فضاء الفوضى إلى نطاق الوضوح والتحديد، إلى معرفة صحيحة للأمور الموجودة والمقصودة، ولذلك قلت في كتابي إلى الأستاذ حميد فرنجيه الذي أرسلته له من سجن الرمل: إنّ عملي أوضح وحدّد المقاصد الكبرى والمنطلقات للحياة القومية والوجدان القومي" (21).

 

   13 -   "إنّ البلاد اليوم تجاه ما تأمله من إنشاء نظام إقتصادي إجتماعي راق هي أحوج ما تكون إلى رجال العلم، رغم هذه التخمة الكاذبة من المتعلمين، وسرّ هذا الفقر هو أنّ هنالك مزيتين إذا فُقِدتا من المتعلم، كان علمه عبئا على مجتمعه؛ أولا : الإختصاص الفنيّ، وثانياً : الروحية الإجتماعية، وهاتان المزيتان لا يمكن لهما أن تنشأ قبل ظهور الوجدان ووضوح الشخصية القومية" ( 22) .

 

    14 – "إنّ مصير سورية لا يتوقف على نتيجة الحرب أو العوامل الخارجية والإرادات الأجنبية، إلا لفاقدي الشعور بشخصية سورية وإرادتها، الذين لا يساوون أنفسهم بها، وإن كانوا من أبنائها. أمّا أصحاب الوجدان القوميّ، فيرون أن مصيرها لا يتوقف على شيء من ذلك، بل على الصراع الداخلي بين إحياء الوجدان القومي في الشعب وبين إماتته، بين إيجاد إرادة الأمة السورية فعليا في التاريخ وإعدامها منه، بين نفسية النهضة السورية القومية الواعية المؤمنة المنشئة تاريخ سورية الحديث المستقل، ونفسية الخمول والتفسخ الروحي والإنحلال الوجداني، والتعويل على التواريخ الغربية التي أنشأتها إرادة غير سورية" (23).

 

  15 – "إنّ الوقت القصير، نسبيا، الذي مرّ على نشؤ النهضة السورية القومية التي أيقظت النفسية السورية من سباتها العميق، لم يكن كافيا للإنتصار النهائي على مؤسسات العهد البالي، وتهيئة الأمة السورية ماديا وعمليا أيضا لمواجهة الأحداث الإنترناسيونية المقبلة. ولكن إذا كانت النهضة السورية القومية لمّا تصل إلى هذه الدرجة من كمال الإستعدادات، بسبب المقاومة الداخلية التي قام بها الرجعيون والنفعيون ومحترفو السياسة ورجال الشركات السياسية، فهي قد هيأت النفس السورية، بإيجاد الوجدان القومي العام، وبتحويل الشبيبة السورية من قوّة إستمرارية لعهد قديم إلى قوّة دافعة لعهد جديد. وفي هذا العمل العظيم ســاوت الحركة السورية القومية بين الذين انضموا إلى الحزب السوري القومي فعليا، وبين الذين لم ينضموا، فالأفكار السورية القوميّة أصبحت اليوم قائدة للأجيال السورية الجديدة كلّها، بدون إستثناء حتى الذين يتحزبون ضد الحزب السوري القومي"   من مقالة "نهضة سورية وسط الجوع والنار"، الزوبعة ، العدد17، تاريخ1/4/1941 (24) .

 

 

في المفهوم:

 

أولا: الوِجدان في المعاجم:

وِجدان (مصدر وَجَدَ)، وجدان المرء هو نفسه، وقواه الباطنية. وهو مجموع الأحاسيس والإنفعالات والعواطف والإتجاهات والميول التي يتفاعل معها أو يتأثر بها، من حبّ وكراهية وتعاطف ولذّة أو ألم وميل ونفور، إلى إلخ.. من أحاسيس إنسانية مختلفة.

 

قالوا في دور الوجدان في الحياة الإنسانية: "دور الوجدان مهم في حياة الفرد والجماعة. فتركيب الإنسان والعلاقات البشرية جدّ معقّدة، فهو ليس ذلك التركيب الآلي الأتوماتيكي الذي يتحرك بسبب إثارات أو حركات خارجية، كما هو شأن كلّ جسم ماديّ لا يملك الحيوية الذاتية والإندفاع الذاتيّ. وليس الإنسان في نفس الآن ذلك الكائن العقلي فيتحرك طبق رؤيته العقلية المسيطرة، ويتصرف بإرادة محضة لا يشاركها إحساس ولا حبّ ولا بغض، ولا غضب ولا سرور. وتختلف الرؤى بين مجموعة من الفلاسفة على أن يكون الإنسان إرادة محضة، وعقلا محضا، وأن ينطلق من أفعاله وتصرفاته من الإحساس بالواجب الأخلاقي والشعور بالإلتزام فقط.

 

إنّ للوجدان أثرا كبيرا في الفكر وفي السلوك إذ يدفع نحو بعض المواقف ويمنع من بعض، ويقرّر بعض الأفكار ويحول دون البعض الآخر.

المشاركة الوجدانية هي القدرة على فهم وإدراك مشاعر الآخرين والإحساس بها “.

الوجدان هو، باختصار، في "لغة المعاجم"، قيمة مدرحية فردية بحتة، فمن حيث "الروح" فإنّ وجدان المرء هو نفسه، وقواه الباطنية، وأثره كبير في فكره. أمّا من حيث "الممارسة"، فيبدو أثره واضحا في سلوك الفرد، في أفعاله وتصرفاته، ، إذ يدفع به لاختيار او الإلتزام ببعض الأفكار أو المواقف ورفض  الأخرى، ومن هنا كان دور الوجدان مهما  في حياة الأفراد والمجتمعات على السواء، ويتبلور ذلك في المشاركة الوجدانية التي هي القدرة على فهم وإدراك مشاعر الآخرين والإحساس بها .

 

ثانياً: في كتابات سعادة

 

          في السياق التاريخي لإرتقاء النفسية البشرية، نحن أمام ظاهرتين أو مرتبتين إجتماعيتين بارزتين: الأولى ظهور شخصية الفرد، والثانية ظهور شخصية الجماعة ؛ ممّا لا شك فيه أنّ ظهور شخصية الفرد كان حادثا عظيما في إرتقاء النفسية البشرية، وذلك من خلال معرفة الفرد لنفسه، أي شعوره بشخصيته، وإحساسه بحاجاته، وفهمه لنفسيته، وطلبه الخير لنفسه، أمّا ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأنا، وأبعدها نتيجة وأكثرها دقّة ولطافة، وأشدّها تعقدا، إذ أنّ هذه الشخصية مركب إجتماعي – إقتصادي – نفساني، يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية جماعته – أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الإجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه، ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه .

 

 

 الوجدان القومي

 

     كلّ جماعة ترتقي إلى المرتبة الثانية، اي الشعور بشخصية الجماعة، تكون قد بلغت حدّ الوجدان القومي الذي “هو أعظم ظاهرة إجتماعية في عصرنا، وهي الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدن".

 

     إنّ إرتقاء الجماعة إلى مرتبة الوجدان القومي يتوجب على أفرادها فهم الواقع الإجتماعي، وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهذا لا يحصل إلا بالدرس العلمي المنظّم للواقع الإجتماعي الإنساني، لأنّ في هذا النوع من الدروس تحصين للمجتمع وحماية لمصالحه من الأخطار المحيطة به من الداخل والخارج على السواء، "وإن درسا من هذا النوع يوضح الواقع الإجتماعي الإنساني في أطواره وظروفه وطبيعته، ضروريّ لكلّ مجتمع يريد أن يحيا، ففي الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها، ولا تخلو أمّة من الدروس الإجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار" ( 25) .

 

   وإذا تتبعنا ظهور ظاهرة الوجدان القومي في سياقها التاريخي، لوجدنا جذورها الفكرية الأولى تعود إلى الكنعانيين، الذين يعود إليهم الفضل في إرساء أسس هذا "الدّين الإجتماعي الخصوصي" (26)، القائم "على قاعدة محبة الوطن والإرتباط الإجتماعي وفاقا للوجدان القومي، أي الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير.."(27).

 

يقول سعاده: "ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القومي الذي هو أبرز الظواهر الإجتماعية العامة العصرية فقد بلغنا هذا الدّين الإجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالم، ونُعِت في بعض الظروف بالخديعة الكنعانية أو الإثم الكنعاني ( ولنا عودة لتفصيل هذه الفكرة) ومن الهام جدا للعلم الإجتماعي أن نستقصي سبب نسبة الرابطة القومية المؤسسة على فكرة الوطن إلى السوريين الكنعانيين، لأنّ هذا الإستقصاء يساعدنا على فهم هذه الرابطة الروحية المتينة .

 

 ولا بدّ من الإعتراف بأنّنا لم نقف في ما طالعناه من كتب التاريخ والإجتماع على سوى الإشارة السريعة إلى أصل الوطنية الكنعانية، ومع ذلك فلن يصعب علينا اكتشاف السبب بدرس أحوال الكنعانيين الإجتماعية والسياسية.

 

 إنّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشى على قاعدة محبة الوطن والإرتباط الإجتماعي وفاقا للوجدان القومي (الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير) ..."( 28) .

 

 يستوقفنا تعبير "الشعور" في تعريف سعاده للوجدان القومي على أنّه “الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير"؛ في سياق كلامه عن "الدولة الديمقراطية القومية"، يقول سعاده إنّ: "...اختراع الورق والطباعة فتح الأعين والبصائر وأيقظ الشعور ..." وفي شرحه ليقظة الشعور، يقول : "إنّ استيقاظ الشعور بالوحدة الحيوية والمصلحة الواحدة والرابطة الواحدة في الحياة في أشكالها وأسبابها واتجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التعبير عن إرادتها فكان ذلك بدءَ نشؤ القومية" ( 29).

 

    ويشكّل الوجدان القومي العامود الفقري في المبادئ – التعاليم السورية القومية الإجتماعية؛ فهو الأول في بنية الحزب، وهو الركن الأساسي في تأسيس الحركة، وهو من الأمور الضرورية في فهم الحقوق القومية، وشرط أساسي لمبدأ السيادة القومية، حتى أنّ سعاده رأى أنّ خطورة التاريخ هو في القومية، في روحية الأمة ووجدانها، لا في الأمة بعينها.

 

    الوجدان القومي هو أحد الركنين اللذين تأسست عليهما الحركة القومية الإجتماعية (الركن الثاني هو العدل الإجتماعي)(30).

 

     الوجدان القومي له الأولوية في بنية الحزب التي تقوم على 3 ركائز (أولا-الوجدان القومي، ثانياً- إظهار شخصية الأمة العظيمة وثالثاً - إيجاد أسس نهضة..." وأبعد من ذلك، فقد أكّد سعاده “أنّ عظمة الحزب القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي (31)

 

     الوجدان القومي شرط أساسي وضروري لمبدأي الحقّ القومي والسيادة القومية: “والحقيقة أنّ قومية السوريين وحصول الوجدان الحيّ لهذه القومية أمران ضروريان لكون سورية للسوريين، (اللام في للسوريين، هي لام الحقوقية)، بل هما شرطان أوليان لمبدأ السيادة القومية، وسيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه وعلى وطنه الذي هوأساس حياته، وعامل أساسي في تكوين شخصيته "(32). ويرى سعاده "أنّ أهم عامل في فقدان السيادة هو فقدان الوجدان القومي".

 

 ما تقدّم من شروحات حول الوجدان القومي يقع، من حيث الشكل، في الإطار النظري من دراستنا، وبقي أن نشير إلى أنّ سعاده ضمّن المبادئ الأساسية الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن الناحية العملية، أي الأسس التي وضعها من أجل توليد الوجدان القومي وتقويته، كما تطرّق إلى بعض المخاطر التي تواجه الوجدان القومي.

 

 إنّ أهمية المبدأ الأساسي الرابع (33) تكمن في أنّه من أهم العوامل في تولّيد الوجدان القومي الصحيح، فهذا المبدأ ينقذ سورية من النعرات الدينية، إضافة إلى أنّه يوجد مبدأ الوحدة القومية الإجتماعية ووحدة المصير، وبناء عليه "لا يعود يهمه (الفرد) سوى مٍسألة متحده الإجتماعي الذي يجري ضمنه جميع شؤون حياته والذي على مصيره يتوقف مصير عياله وذريته وآماله ومثله العليا (34).  

 

  أمّا المبدأ الأساسي السادس "الأمة السورية مجتمع واحد" فهو أساس الوحدة القومية ودليل الوجدان القومي والضامن لحياة الشخصية السورية واستمرارها"، ونسجّل، للأهمية، ما أورده سعاده في شرحه لهذا المبدأ في كتيب التعاليم- المبادئ: "إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها (فصل الدّين عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب) . وهذا المبدأ هــو مــن أهــم الــمــبــادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كلّ سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي، ودليل الوجدان القومي، والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها.

 

أمّة واحدة- مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح، ووحدة المصالح، هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الإجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة، التي لا يمكن التعويض عنها بأيّة ترضيات وقتية.

 

في الوحدة الإجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة، والعلاقات السلبية، وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكّفل بإنهاض الأمة.

 

في الوحدة الإجتماعية، تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة، وتضمحل الأحقاد، وتحلّ المحبة والتسامح القوميين محلها، ويُفسح المجال للتعاون الإقتصادي وللشعور القوميّ الموحّد، وتنتفي مسهّلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

 

إنّ الإستقلال الصحيح، والسيادة الحقيقية، لا يتمّان ويستمران إلا على أساس وحدة إجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة، فقط، يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي إجتماعي مدني صحيح. ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة، وفيه يؤمَّن تساوي الحقوق لأبناء الأمة" (35). 

 

ويؤكد سعاده، في المبدأ السابع، إنّ من اهم عوامل فقدان الوجدان السوري القومي، او من عوامل ضعفه، إهمال نفسية الأمة السورية التي تميّزت بها عبر تاريخها الحضاري، ويُشدّد في هذا الإطار على معنى الإستقلال الروحي الفكري، الذي هو إستقلال نفسي بكل معنى الكلمة،هذا الإستقلال الذي هو شيء واضح ومبدأ فاعل له فاعلية عظيمة في حركة الحزب السوري القومي الإجتماعي لأنّه يوجه الفكر والشعور إلى الحقيقة الداخلية، إلى الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكلّ طبيعته ومواهبه ومثله وأمانيه .  ويردّ سعاده، العوامل الخاصة في فقدان الوجدان القومي وإضعافه إلى إهــمــال نفسية الأمة السورية الحقيقية الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية.  وفي هذا المجال يورد سعاده العديد من هذه العطاءات والمآثر القومية الرائدة التي أُهملت فأدّت إلى إضعاف الوجدان القومي، والى فقدانه في بعض الحالات، ومنها: إختراع الأحرف الهجائية، التي هي أعظم ثورة فكرية حدثت في العالم.  وإنشاء الشرائع التمدنية الأولى، والثقافة السورية المادية – الروحية، والطابع العمراني في البحر السوري.. وبما خلّده سوريون عظام، ويذكر سعاده منهم على سبيل المثال: الفيلسوف زينون الرواقي وبار صليبي ويوحنا فمّ الذهب وإفرام والمعري وديك الجنّ الحمصي والكواكبي وجبران. ويضيف سعاده إلى تلك المجموعة "طائفة" أخرى من القادة والمحاربين الخالدين في تاريخ الأمة من سرجون الكبير إلى إسرحدون وسنحاريب ونبوخذنصر وأشور بني بال وتقلاط فلاصر وحنون الكبير وهاني بعل ويوسف العظمة الثاوي في ميسلون، ويخصّ سعاده، هاني بعل بصفة "أعظم نابغة حربي في كلّ العصور وكلّ الأمم". طبعا سعاده لم يقفل الباب على هؤلأ العظام، بل تركه مشرّعا أمام طائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديما وحديثا - وهذا الأمر بحاجة إلى دراسات معمّقة، وقد ظهر العديد منها، ويبقى أن نتابع الكشف عن هؤلأ المشاهير والقادة العظام في تاريخنا الثقافي القومي، لأنّها تساهم في تقوية الوجدان القومي الإجتماعي العام) - (36). في الخلاصة هنا نقول: إنّ من أهم عوامل تقوية الوجدان القومي هو في وعي ذاكرة الأمة في إنجازاتها ومعاناتها، فإنّ ذكريات ما قامت به الأمة وما عانته يقوي الوجدان القومي. في المقابل، فإنّ من أهم عوامل إضعاف الوجدان القومي في الجماعة هو في إهمال نفسية الأمة السورية الحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي مآثرها الثقافية. وعلى هذا الأساس يحب أن نفهم قيمة الفكر القومي الإجتماعي في يقظة الوجدان القومي وتقويته والقضاء على عوامل ضعفه بغاية إنشاء تاريخ سورية القومية الإجتماعية الذي يضع الأمة سورية في مصاف الأمم العظيمة المتقدمة والراقية

 

" ليس هناك أثمن من هذا المبدأ في العمل القومي". بهذه العبارة استهلّ سعاده المبدأ الأساسي الثامن : "مصلحة سورية فوق كلّ مصلحة"، والذي أنهى فيه المبادئ – التعاليم، ليُدلّل بشكل واضح وجازم، بأنّ معرفة التعاليم والإيمان بها لا يكتملان إلا بالعنصر الثالث الذي هو العمل بها، من أجل حياة الأمة، فهو  دليل النزاهة للعاملين، ومقياس الحركات والأعمال القومية كلّها، وهو الذي يقيد جميع المبادئ بمصلحة الشعب وبهذا المبدأ الواقعي يمتاز الحزب على كلّ الفئات السياسية في سورية، لأنّه يُعبّر بشكلّ عملي ومحسوس عن يقظة الوجدان القومي الإجتماعي . ونظرا لأهمية هذا المبدأ في ترسيخ معنى الوجدان القومي ودوره، فقد خصّص سعاده الجزء الأكبر من تشريح هذا المبدأ في المحاضرات العشر (المحاضرة السادسة)، لشرح القاعدة الأساسية في التفكير القومي الإجتماعي القائمة على لغة المفاهيم الجديدة، وهو القائل في شرح هذا المبدأ “إنّ عملي أوضح وحدّد المقاصد الكبرى والمطلقات للحياة القومية والوجدان القومي"، وقد عالجنا هذا الموضوع في الحلقة الأولى، المنشورة في "الكتاب القومي"، المجلّد السابع.   وعلى أساس هذا المبدأ نُدرك معنى وقيمة فكرة "الولأ القومي"، الذي هو الشرط الذي لا غنى عنه لنهوض الأمة وتحقيق خير المجتمع القومي. وفي هذا الولأ يتساوى العامل والصناعي والتاجر والأديب والفنان، ويتساوى أيضا العالم والجندي، إنّ العالم أيضا من المجتمع وعلمه للمجتمع لا لنفسه. العالم أيضا يشعر ويحسّ قضايا أمته ويفهم إنّ علمه جزء من ثقافة مجتمعه وإنّ في مواهبه مزايا جنسه وأمته (37)، هذه هي قمّة الوجدان القومي العام، التي يتساوى فيها جميع المواطنين من منتمين إلى الحركة القومية الإجتماعية ومن غير المنتمين إليها. وإنّ مصير الأمة يتوقف على هذا الصراع الداخلي المرير بين إحياء الوجدان القومي وإماتته، يقول سعاده:

 

"إنّ مصير سورية لا يتوقف على نتيجة الحرب أو العوامل الخارجية والإرادات الأجنبية، إلا لفاقدي الشعور بشخصية سورية وإرادتها، الذين لا يساوون أنفسهم بها، وإن كانوا من أبنائها. أمّا أصحاب الوجدان القوميّ، فيرون أن مصيرها لا يتوقف على شيء من ذلك، بل على الصراع الداخلي بين إحياء الوجدان القومي في الشعب وبين إماتته، بين إيجاد إرادة الأمة السورية فعليا في التاريخ وإعدامها منه، بين نفسية النهضة السورية القومية الواعية المؤمنة المنشئة تاريخ سورية الحديث المستقل، ونفسية الخمول والتفسخ الروحي والإنحلال الوجداني، والتعويل على التواريخ الغربية التي أنشأتها إرادة غير سورية" (38).

 

سعاده، أيضا، يقول: إنّ الحركة القومية الإجتماعية قد هيأت بإيجاد الوجدان القومي العام الشبيبة السورية إلى قوّة دافعة لعهد جديد يتساوى فيه المنتمون إلى الحركة وغير المنتمين إليها:

 

 "إنّ الوقت القصير، نسبيا، الذي مرّ على نشؤ النهضة السورية القومية التي أيقظت النفسية السورية من سباتها العميق، لم يكن كافيا للإنتصار النهائي على مؤسسات العهد البالي، وتهيئة الأمة السورية ماديا وعمليا أيضا لمواجهة الأحداث الإنترناسيونية المقبلة. ولكن إذا كانت النهضة السورية القومية لمّا تصل إلى هذه الدرجة من كمال الإستعدادات، بسبب المقاومة الداخلية التي قام بها الرجعيون والنفعيون ومحترفو السياسة ورجال الشركات السياسية، فهي قد هيأت النفس السورية، بإيجاد الوجدان القومي العام، وبتحويل الشبيبة السورية من قوّة إستمرارية لعهد قديم إلى قوّة دافعة لعهد جديد. وفي هذا العمل العظيم ســاوت الحركة السورية القومية بين الذين انضموا إلى الحزب السوري القومي فعليا، وبين الذين لم ينضموا، فالأفكار السورية القوميّة أصبحت اليوم قائدة للأجيال السورية الجديدة كلّها، بدون إستثناء حتى الذين يتحزبون ضد الحزب السوري القومي" (39) من مقالة "نهضة سورية وسط الجوع والنار"، الزوبعة، العدد 17، تاريخ 1/4/1941.

 

 

مراتب الوجدان القومي:

 

إذا تتبعنا ظاهرة بروز "الوجدان" الإنساني تاريخيا، تستوقفنا المحطات أو المراحل الأتية:

 

أـ الوجدان الفردي: ظهور شخصية الفرد حادثا عظيما في ارتقاء النفسية البشرية وتطور الإجتماع الإنساني

 

الشعور بشخصيته الفردية، وإحساسه بحاجاته، وفهمه نفسه، وإدراك مصالحه الخاصة، والإهتمام بنفسه، وحصر الخير بذاته

 

ب – الوجدان القومي: هو أعظم ظاهرة إجتماعية في عصرنا، وهي الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدن. ولقد كان ظهور شخصية الفرد حادثا عظيما في إرتقاء النفسية البشرية، وتطوّر الإجتماع الإنساني. أمّا ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأنا وأبعدها نتيجة،  وأكثرها دقّة ولطافة وأشدّها تعقدا، إذ أنّ هذه الشخصية مركب إجتماعي – إقتصادي – نفساني، يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية جماعته – أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الإجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه، ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه .....في هذه المرتبة ينحصر إلتزام  الفرد أو الجماعة  بـ "فهم الواقع الإجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه.."

 

ج - الوجدان القومي الإجتماعي: هو ما ذكرناه عن الوجدان القومي مضافا إليه الفهم العميق للواقع الإجتماعي والإلتزام الكلّي بمتطلباته، ولعلّ عبارة سعاده الخالدة، "كلّ ما فينا هومن الأمة، وكلّ ما فينا هو للأمة، حتى الدماء التي تجري في عروقنا، ليست ملكا لنا، هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها"، تختصرمعنى الوجدان القومي الإجتماعي.

 

  • الوجدان القومي العام
  •  

هيأت النهضة السورية القومية الإجتماعية النفس السورية، بإيجاد الوجدان القومي العام، وبتحويل الشبيبة السورية من قوّة إستمرارية لعهد قديم إلى قوّةدافعة لعهد جديد. وفي هذا العمل العظيم

 

هـ -(إيجاد)الوجدان السوري القومي الإجتماعي

 

إيجاد الوجدان السوري القومي الإجتماعي في مغتربينا بوجه عام، وإقناعهم بمبادئ نهضتنا الأساسية والإصلاحية، ودعوتهم بطرق متنوّعة إلى اعتناق هذه المبادئ باعتبارها الوحيدة المعبّرة عن شخصيتنا القومية وحقوقنا ومصالحنا والتي لا نهضة لأمتنا إلا بها، كما هو الواقع.." (41)

 

دعوة القوميين الإجتماعيين في بلاد الإغتراب إلى العمل من أجل "إيجاد الوجدان السوري القومي الإجتماعي" في نفوس المغتربين السوريين بوجه عام وإقناعهم بمبادئ النهضة، ودعوتهم إلى اعتناقها، وذلك دون التخلي عن ولائهم وواجبهم تجاه المجتمعات التي تستضيفهم، وقد عبّر سعاده عن موقفه هذا في العديد من كتاباته، خصوصا في الصحف والنشرات التي أنشأها في بلاد الإغتراب، وعلى وجه التحديد في البرازيل والأرجنتين (42)

 

  • الوجدان الإنترنسيوني: وهو يتطلّب من كلّ أمّة أن تضيف إلى شعورها بشخصيتها، شعورها بشخصية الأمم الأخرى، وأن تزيد على إحساسها بحاجاتها إحساسها بحاجات الأمم الأخرى ،وأن تجمع إلى فهمها نفسها فهمها نفسية الأمم الأخرى، وأن تربط مصالحها بمصالح الأقوام الأخرى ، وأن تشعرمع أبناء المجتمعات الأخرى كشعورها مع أبناء مجتمعها، وتهتمّ بهم وتودّ خيرههم، كما توّد الخير لنفسها . إنّ نظرة سعاده إلى الحياة والكون والفنّ تضع العالم أمام مفهوم متقدم لمعنى "الوجدان الأنترنسيوني" ومعنى الوحدة الإنسانية الحقيقية لجميع الناس، وخصوصا التساوي التام بموارد الخير، وتوزيع الموارد الأولية في الأرض على البشر بالتساوي والعدل. إنّ رسالة سعاده في هذا المعنى هي الإطار الحقيقي لنشؤ عولمة حديثة يسود فيها السلام والخير بين جميع أبناء البشر.

 

 

الحوار في "كلية سعاده" حول الوجدان القومي.

 

تحت إسم "كليّة سعاده"، نظّمت عمدة الإذاعة والإعلام أول "دورة إذاعية مركزية" في ضهور الشوير، في صيف العام 1987، بإشراف العميد الشهيد حبيب كيروز (مجلة الثقافة ع 19، خريف 1991)، وتلتها دورة ثانية، باسم "الشهيد حبيب كيروز" في شهر تموز من العام 1988، في نفس المكان بإشراف العميد حيدر الحاج إسماعيل، وكنت أنا ناموسا للدورتين، بصفتي ناظرا للإذاعة والإعلام في منفذية المتن الشمالي . في الدورة الثانية تطرقنا بشكل ثانوي إلى موضوع "الوجدان القومي"، وقد طرحت على مدير الكليّة الأمين حيدر الحاج اسماعيل مجموعة من الأسئلة حول الوجدان القومي، وقد أجابني عليها خطيّا، (ونشرها في ما بعد في "النشرة الإذاعية"، العدد الأول، تاريخ أيلول 1988، ص3-5، تحت عنوان رسائل)، ونظرا لأهميّة هذا الحوار، في دراستنا هذه، أنشره بحرفيته :

 

"تسلّمت عمدة الإذاعة والإعلام رسالة من أحد الرفقاء تضمّنت مسائل فكريّة ثلاث، هي:

 

  1. مسألة العلم والفلسفة والعلاقة بينهما عند سعاده عموما، ومسألة صفّة كتاب "نشؤ الأمم"، على وجه الخصوص: هل هي علميّة، أم فلسفية، أم كلاهما؟

 

  1. مسألة معنى "الوجدان"، وهل هو وسيلة أم غاية؟

 

  1. مسألة الفكرة المركزية عند سعاده؛ هل هي الأمّة أم غيرها، مثل "الإنسان – المجتمع؟ وفي رسالة الرفيق مناقشات لتلك المسائل مسندة بأقوال كثيرة للزعيم (مع الأسف لم أحتفظ بنسخة عن تلك الرسالة).

 

وقد أجابت العمدة على تلك الرسالة بما يلي:

 

"أولا: العلاقة بين العلم والفلسفة لا ينكرها إلا الجاهلون، هذه العلاقة وجودها برهان على أنّ هنالك علم غير الفلسفة، وفلسفة هي غير العلم. وإلا كيف يمكن الكلام على علاقة بين شيئن ليسا بشيئين؟ هذا في أيامننا. أمّا في الماضي فكانت المعرفة العلميّة بكلّ صورها، والمعرفة الفلسفية بكلّ صورها، جملة واحدة من المعرفة، أي لم يكن هناك فصل أو تميّيز بينهما، حتى كان ظهور العلوم الطبيعية والمنهج العلميّ اللذين رسما الحدّ النظريّ الفاصل بين العلم والفلسفة. في أيامنا كلّ علم يتبعه فلسفة، فهناك علم الرياضيات، وهناك فلسفة الرياضيات، وعلم الفيزياء وفلسفة الفيزياء، وعلم التاريخ وفلسفة التاريخ، وعلم الإجتماع وفلسفة علم الإجتماع الخ..

 

    بكلمة أخرى، كلّ علم يتبعه فلسفة معاصرة، لا تكون بدون الإستناد إلى علم من العلوم، وإذا كان العلم بالتعريف، مختصّ بالكشف عن قوانين سلوك الظواهر أو الأشياء، فإنّ الفلسفة مختصّة بتعريفنا بالمبادئ المشتركة للعلوم علم الفلك جوهره معرفة قوانين سلوك الكواكب وغيرها، وعلم نفس الأطفال جوهره المعرفة بقانون سلوك الأطفال، وعلوم الرياضيات من حساب وجبر وهندسة وميكانيك جوهرها المعرفة بقوانين سلوك الأعداد والمقادير والخطوط والأشكال.  

 

   مقابل ذلك نجدّ أنّ الفلسفة مثل فلسفة الرياضيات جوهرها معرفة المبادئ العامة المشتركة (الأساسية) الموحدة (الجامعة) لكلّ ما تقدّمه علوم الرياضيات من معارف حتى يمكن إشتقاق هذه المعارف من تلك المبادئ.

 

  وفكرة المبدأ المشترك نضرب عليها مثلا بسيطا هو التالي:

 

لنفترض أنّ أمامنا ثلاثة أشياء وهي: لون أصفر ولون أحمر ولون أخضر. بالنسبة لعالم الفيزياء هناك أشياء ثلاث مختلفة إذ أنّ كلّ لون يُحدّد بعدد إهتزازاته في الثانية، لكن بالنسبة للفيلسوف هناك شيء واحد هو اللون، فاللون هو مبدأ تلك الأشياء، أو هو المبدأ الجامع لها، أو المبدأ المشترك بينها. لذلك قيل في القديم أنّ الفلاسفة هم حكماء، لأنّ مهمتهم الجمع بين الأمور والكائنات والمعارف، في حين أنّ العلماء مهمتهم الفصل بين مجموعات الأشياء والكائنات والظواهر في دوائر مختلفة، كدائرة الفيزياء، ودائرة الكمياء، ودائرة الرياضيات، ودائرة التاريخ، الخ..

 

ونضرب مثلا آخر من تعاليم سعاده، فنقول: هناك لبنانيون في سورية، وهناك فلسطينيون في سورية، وهناك شاميون في سورية، وهناك عراقيون في سورية، وهناك أردنيون في سورية، وهناك كويتيون في سورية، وهناك قبرصيون في سورية، وهناك في الأهواز وسيناء وكليكيا والإسكندرون مواطنون في سورية. أي هناك لبنانيون (سوريون)، وفلسطينيون (سوريون)، إلخ..، فتكون النتيجة بالنسبة للفلاسفة أن الــســوريــة (الهوية أو القومية)، هي المبدأ الجامع بين هذه الكيانات.

 

فكرة أخيرة لا بدّ من ذكرها ونحن بصدّد الكلام عن العلم والفلسفة، هي أنّ العلماء يهمهم الإجابة على السؤال كــيــف ؟، فهم يبحثون عن كيفية سلوك الأشياء والظواهر يصوغونها في صورة معادلات نسميها قــوانــيــن. لذلك قلنا منذ البداية إنّ العلم مختصّ بالكشف عن قوانين سلوك الظواهر والأشياء.

 

الفلاسفة بالمقابل، يهمهم الإجابة على السؤال لــمــاذا؟، لذلك فإنّ مبدأ النسبية أو ما يقارنه يعتبر العامود الفقري لكّل فلسفة، حتى ليمكن القول إنّ كلّ جملة من المعارف يدخلها مبدأ النسبية هي فلسفة، وفي اعتقادنا أنّ ذلك معيار من معايير التمييز بين الفلسفة والعلم.

 

 

كــتــاب "نــشــؤ الأمــمــم" 

 

بعد هذه المقدمة العمومية عن العلم والفلسفة والعلاقة بينهما، نتقدّم على كتاب   "نشؤ الأمم" لـ سعاده.

 

الكتاب، وفقا للمقدمة التعريفية التي وضعها صاحبه، هو "كتاب إجتماعي علمي بحت"، إذا صفة الكتاب محسومة حسما واضحا في هذه العبارة، ويجيء الحسم مؤكدا، عندما يُضيف سعاده إلى عبارتها السابقة قوله: "تجنّبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة"، إنّ عبارة سائر فروع الفلسفة، معناها كلّ ما يمكن أن يُسمى فلسفة. وعندما يُضيف سعاده عبارة: "ما وجدت إلى ذلك سبيلا"، فإنّه لا يقصد تعطيلا لمعنى العبارة السابقة أو اتجاهها، بل يقصد ما يلي: أيّها القارئ الكريم، إذا وقعت في كتابي بعض العبارات التي تدخل في باب التآويلات النظرية أو الفلسفية، فاعلم أنّ ذلك ليس من جوهر الكتاب الذي عرفتك به، أنّه كتاب :"اجتماعي علمي بحت"، بل هو أمر عرضي .

 

نعود الآن إلى بعض أسئلتكم للإجابة عليها   

 

السؤال الأول: هل شملت عبارة "سائر فروع الفلسفة"، الفلسفة القومية الإجتماعية؟

 

جوابنا: بالتأكيد، ولوكان سعاده يقصد أن يكون كتابه حول قضية خطيرة مثل الفلسفة القومية الإجتماعية التي هي أهم ما جاء به، لكان كتب، عن ذلك، صراحة في مقدمة الكتاب، ولكنه لم يفعل ذلك.

 

الــوجــدان الــقــومــي الإجــتــمــاعــي

 

السؤال الثاني: هل تدخل فكرة "الوجدان القومي" الواردة في مقدمة كتاب "نشؤ الأمم" في باب الفلسفة أم في باب علم الإجتماع؟

جوابنا هو ما دام الكتاب علميا كما وصفه صاحبه، إذا، يجب أن ننظر إلى فكرة "الوجدان القومي نظرة علمية، فنجعلها تابعة لعلم النفس الإجتماعي.

 

ونضيف القول: إنّ المعنى العلمي النفسي الإجتماعي لفكرة "الوجدان القومي" هي أساس للمعنى الفلسفي الذي نقع عليه في كتابات سعاده الأخرى عندما يتحدث عن القومية والروح القومية وما شابه، مثلما هو علم الرياضيات الأساس لفلسفة الرياضيات.

 

السؤال الثالث: هل الفصل السابع المختصّ بــ "الإثم الكنعاني" ومعنى المتحد وتعريف الأمة، علم أم فلسفة، أو علم وفلسفة معا؟

 

جوابنا إنّه علم في علم بشهادة المقدمة ذاتها.

 

السؤال الرابع: هل الخلاصات في نهاية كلّ فصل من فصول الكتاب معارف علمية أم فلسفية حينا وعلمية حينا آخر؟

 

جوابنا العمومي: قد يكون بعضها يدخل في باب التآويلات النظرية أو الفلسفية، ولكنّها تظلّ في كلّ الأحوال عرضا لا يؤثر على الصفة الثابتة للكتاب، نعني الصفة العلمية.

 

في مسألة معنى الوجدان، تقولون إنّ العميد فسّر معنى الوجدان بالوجود، بل في حين أنّ مراجعتكم لِما كتب سعاده في معنى الوجدان والوجود أوصلكم إلى الإستنتاج بأنّ هناك فرقا بين المعنيين.

 

جوابنا: إنّ العميد لم يفسّر معنى الوجدان بالوجود، بل حاول أن يقرّب معنى فكرة الوجدان باعتماد بيت من الشعر للشاعر المتنبي، عندما كان معاتبا صديقه سيف الدولة، عندما قال:

 

       يا مَن يعزّ علينا أن نفارقهم          وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم

 

كإنّنا به يقول: يا صديقنا يا سيف الدولة إنّ فراقنا لكم صعبٌ حتى أنّ وجودنا بعد فراقكم سيتحوّل إلى عدم، في ذلك البيت من الشعر نرى أنّ الوجدان يُفيد الوجود، كما أنّ الحسبان يُفيد الحساب، والعرفان يُفيد المعرفة. الخ... فالقصد كان تقريب معنى فكرة الوجدان من الأذهان عن طريق استخدام وسيلة إيضاح كانت لحسن ذاكرة المحاضر، بيتا من الشعر.

 

لو أنّ قاموسا لغويا كان بين أيدينا لكنا اعتمدناه. على كلّ حال إنّ قواميس اللغة كثيرا ما تستعمل الأشعار لشرح الألفاظ، لإنّ الألفاظ معناها في أصلها، وفي استعمالها. هذا من جهّة ما حصل.

 

من جهّة ثانية، لقد استفدنا من فكرة الوجود تلك لكي نقول : إنّ فكرة الوجدان القومي تُفيد فكرة وجود القوم، ثمّ تقدّمنا خطوة جديدة في الشرح، فقلنا : إنّ الوجدان القومي هو وجود القوم في النفس ولما كان القوم يعني الأمّة (ليست القومية إلا ثقّة القوم بأنفسهم واعتماد الأمة على نفسها)، قلنا: إنّ الوجدان القومي هو وجود الأمة في الشعور أو الشعور بوجود الأمة .يتضح ممّا تقدم أنّ المسألة لم تكن مسألة لغوية محض، بل المدخل كان لغويا، ولكن المراحل الأخرى كانت تحليلية، انتهت بنا إلى القول: بأنّ فكرة الوجدان القومي مرتبطة بفكرة وجود الأمة، لذلك فإنّ فكرة الأمة هي الفكرة المركزية عند سعاده .

 

وتذكرون أنّنا وصلنا إلى ما وصلنا عندما كنا بصدّد البرهان على أنّ الفكرة المركزية عند سعاده هي فكرة الأمّة، ذلك كان الموضوع الرئيسي، وليس فكرة "الوجدان القومي"، وإنّنا عرضنا لفكرة "الوجدان القومي"، عندما كنا نستشهد بقول لــ سعاده في مقالة له، تحمل عنوان "النظام"، في "الآثار الكاملة"، الجزء الثاني، والتي جاء فيها: "وممّا لا شكّ فيه أنّ عظمة الحزب التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي.."، أي في الكشف عن فكرة وجود الأمة في شعور الأفراد وعقولهم وإحساسهم تماما كا ورد في مقدمة كتاب "نشؤ الأمم". إنّ الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة إجتماعية في عصرنا، إلى أن يقول: "أمّا ظهور شخصية  الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأنا"، إلى أن يقول: "إذ أنّ هذه الشخصية مركّب إجتماعي- اقتصادي- نفساني، يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية جماعته - أمتّه، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته، إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه، فهمه نفسية متحده الإجتماعي.

 

ماذا يعني هذا الكلام الواضح؟ ماذا يعني سعاده بأنّ الوجدان القومي يتطلّب أن يضيف الفرد إلى شعوره بشخصيته، شعوره بشخصية أمته، سوى أن تكون أمته من حيث شخصيتها موجودة في شعوره؟

 

وماذا يعني قول سعاده: إنّ الوجدان القومي يعني أيضا أن يزيد الفرد على إحساسه، ويجمع إلى فهمه إحساسه بحاجات مجتمعه وفهمه لنفسية متحده الإجتماعي، غير أن يكون مجتمعه موجودا في إحساسه وعقله؟

 

أليس هذا ما قلناه، عندما ذكرنا إن الوجدان القومي هو وجود الأمة في العقل والشعور، أو هو الأمة موجودة؟

 

بالنسبة إلى فكرة ربطكم بين فكرة الوجدان وفكرة الوجود، نقول: إنّها فكرة متحققة في استعمالنا لفكرة "الشعور" في شرحنا لـ "الوجدان القومي"

 

بالنسبة إلى أقوال سعاده التي ضمنتموها رسالتكم، لا نكاد نجدّ قولا وردت فيه عبارة "الوجدان القومي"، لا يفيد سياقه أنّ المقصود في الوجدان القومي" وجود الأمة في ساحة الشعور، أو دائرة العقل. يمكنكم العودة إلى تلك الأقوال للتثبت من ذلك. لكن على سبيل المثال سنحلّل أحد هذه الأقوال؛ مثلا قول الزعيم: "والحقيقة أنّ قومية السوريين التامة، وحصول الوجدان الحيّ لهذه القومية أمران ضروريان لتكون سورية للسوريين". إنّ حصول الوجدان الحيّ لهذه القومية يعني حصول وجود الأمة وجودا في شعورنا وإحساسنا وعقولنا

 

هل الوجدان القومي وسيلة أم غاية؟

 

الآن نتقدم إلى قولكم أنّ الوجدان القومي "وسيلة وليس غاية وأنّه واسطة أو حلقة الوصل بين الوحدة الإجتاعية والوحدة الروحية ". واضح أنّ هذا الكلام كلامكم وليس كلام سعاده، وأنّ الإستنتاج استنتاجكم وليس استنتاجه، مع ذلك لنناقشه معكم.

 

إذا كان الوجدان القومي يفيد وجود الأمة، فهل تقبلون أن يكون وجود الأمة وسيلة، وإذا كانت الأمة كذلك، فما هي غايتها؟

 

في غاية الحزب وحدها نجدّ أنّ الغاية هي الأمة. هي الأمة لجهة بعث نهضتها الداخلية، ولجهة تحصين الأمة بالسعي لإقامة جبهتها العربية، فالنهضة الداخلية للأمة والجبهة العربية للأمة هما غاية الحزب. على كلّ حال نكتفي بهذا المقدار من التحليل البسيط، ونترك الباقي لتأملكم.. أمّا الفكرة الأخيرة التي تناولها هذا الحوار، فهي "مسألة الفكرة المركزية عند سعاده".  (43)

 

 

"الاثم الكنعاني" أو "الخزعبلة"

 

إستكمالا للبحث في معنى الوجدان القومي، وقد خصّ سعاده الفصل الأخير من كتابه “نشؤ الأمم"، لشرح ظاهرة الوجدان القومي التي تعود بجذورها إلى تراثنا القومي، كان لا بدّ من إطلاع القارئ على ما ورد في كتاب "جمهورية أفلاطون" حول العنوان الذي انتقاه سعاده للفصل السابع من كتابه " نشؤ الأمم" ، أي "الإثم الكنعاني .   

 

 ينهي سعاده كتابه "نشؤ الأمم" بهذه العبارة: "إنّ الاثم الكنعاني لا يزال فاعلا فينا، وقد أصبح فاعلا في العالم كلّه".

 

قد يستغرب البعض ويؤكده افلاطون، من أن أصول الدولة الديمقراطية الأولى ظهرت في الالف الثالث ق.م في المدينة – الدولة الفينيقية (الكنعانية) السورية، التي صارت فيما بعد طرازا أخذ عنه الاغريق والرومان فالعالم. ومن المفيد واستكمالا لهذا البحث ودقته ان نستعرض الحوار الذي جرى بين افلاطون على لسان سقراط وشقيقه غلوكون، والذي بدأه سقراط بالسؤال: أو حقا تسمية هؤلاء بالحكام الكاملين؟ وفي الاجابة يوافقه غلوكون بقوله: هكذا أرى.

 

يذكر ان الفيلسوف اليوناني افلاطون، اثناء اغترابه القسري 499-387ق.م عن مدينته أثينا، إثر موت معلمه سقراط اعداما بالسم، زار عدة بلدان منها مصر، صقلية، ايطاليا، فلسطين والغانج.

 

وبعد عودة افلاطون الى اثينا، وكان قد بلغ الاربعين، وضع كتابه الشهير "جمهورية افلاطون"، الذي قال فيه امريسون " ان افلاطون هو الفلسفة ، والفلسفة افلاطون، وانعم على كتاب الجمهورية بكلمات عمر بن الخطاب عن القرآن، عندما قال: احرقوا المكتبات لان قيمتها موجودة في هذا الكتاب"

 

وفي فلسطين، انعجن افلاطون، كما يقول ديوارانت، في طينة الأنبياء، ومن المؤكد ان يكون افلاطون، قد اطلع في فلسطين، على الدين الاجتماعي الخصوصي بالكنعانيين، والذي اسماه جهلا منه به: "الخزعبلة"، وعنه اخذ قوبنو وذكره هرتس حيث نعت هذا الدين "بالخديعة الكنعانية او الاثم الكنعاني" .

 

 

"الخزعبلة": أبناء الأرض

 

لنقرأ "الخزعبلة" وقد جاءت بشكل حوار بين افلاطون على لسان سقراط وشقيقه غلوكون:

         سقراط: أو حقا تسمية هؤلاء " بالحكام الكاملين“؟ لاتصافهم بالعناية والسهر حتى لا يريد اصحابهم في الوطن، ولا يقدر اعداؤهم في الخارج، ان يحدثوا أدني ضرر للدولة، والشبان الذين دعوناهم الساعة حكاما نسميهم "مساعدين" وهم الذين وظيفتهم انفاذ قرارات الحكم.

 

غلوكون: هكذا أرى.

 

سقراط: واذا كان الحال كذلك أيمكننا ان نختلق وسيلة حكيمة نتمكن بها تمثيل دور وهمي فالقصص التي ذكرنا آنفا، فنقتنص حتى الحكام، بأفعل الذرائع، فنقنع العامة فقط؟

 

غلوكون: أي نوع من القصص؟

 

سقراط: ليس شيئا جديدا، بل قصة فينيقية، تداولتها ألسنة الشعراء، والناس موقنون بصحتها. على انها لم تحدث في عصرنا، ولا علم لي بأنها حدثت في غيره من العصور. ولكننا نقدر أن نجعلها خبرية موثوقاً بصحتها، فنحتاج الى حيلة نافذة لاقناعهم.

 

غلوكون: أرى إنك تتردد في الافصاح.

 

سقراط: سأقول، ولا أدري بأية جرأة وأي ايضاح أوردها، فأولا: احاول اقناع الحكام انفسهم، ثم اقناع الجنود معهم، وبعدهم سائر الأمة، ان كل ما امليناه عليهم لتهذيبهم حدث كأمر واقعي، ولكنه حلم، وفي حقيقة الأمر انهم هذبوا وثقفوا في جوف الأرض، حيث طبعوا اسلحتهم وادواتهم وكمل تهذيبهم، وحين ذلك ولدتهم امهم الحقيقية، وهي الأرض، أي انها قذفت بهم الى سطحها، فيجب ان يحتموا بالمنطقة التي هم فيها كأم وكمرضع، فيصدون عنها الغزاة، ويحسبون سكانها، أبناء الأرض، اخوتهم.

 

غلوكون: ولسبب كاف كنت تخشى ان تورد هذه الخزعبلة.

 

سقراط: فسمعا لبقية القصة: سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الاله الذي جبلكم، وضع في طينة بعضكم ذهبا ليمكنهم ان يكونوا حكاما، فهؤلاء هم الاكثر احتراما، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العديد ان يكونوا زراعا وعمالا وضع نحاسا وحديدا. ولما كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبا، وهكذا يلد كل من يلد. وقد أودع الحكام من الله، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، هذه الوصية، ان يخصوا اولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم. فاذا ولد الحكام ولدا ممزوجا معدنه بنحاس او حديد فلا يشفقن والده عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه الى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا او عاملا، واذا ولد العامل اولادا ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة، وجب رفعهم الى منصة الحكم، أصحاب الذهب حكاما، وأصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: ان المدينة التي يحكمها النحاس والحديد فهي الى البوار، فهل عندك من حيلة لاقناعهم بهذه الخزعبلة؟

 

غلوكون: لا حيلة في اقناع أبناء هذا الزمان. على انني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم واحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الاسطورة.

 

سقراط: وحتى هذه القصة قد تفيد في جعلهم أكثر اهتماما بالدولة وبعضهم بالبعض الآخر. فاني اظن اني افهمتك. ولكننا سنترك هذه الاسطورة الى ما قضي به عليها..."   (44)

 

بناء عليه ان ما ذهب اليه افلاطون في حديثه عن "القصة الفينيقية" التي عنونها بــ  "أبناء الأرض"، مؤكدا تداول الشعراء الفينيقيين لها، وهو الشاعر الذي قيل فيه "ان الصعوبة في فهم افلاطون تكمن في هذا المزيج المسكر بين الفلسفة والشعر والعلم والفن..".

 

أضف إليه، وهو الأهم، تأكيد افلاطون على يقين الناس (الكنعانيين) بصحة هذه القصة والاعتقاد بها، وهو الباحث عن عقيدة لأبناء شعبه تكون حلا للمشاكل الأخلاقية والسياسية والنفسية التي كان يتخبط بها المجتمع الإغريقي القديم، تمهيدا لإيجاد "دولة مثالية"، رأى افلاطون صعوبة تحقيقها، مع انها كانت قائمة فعلا في كل مدينة سورية كنعانية.

 

المضمون العقدي

         في "القصة الفينيقية" التي رواها افلاطون مضمون عقدي قومي، تبرز خطوطه العامة في ما يأتي:

 

         أولا: "هذبوا وثقفوا في جوف الأرض، حيث طبعوا اسلحتهم وادواتهم، وكمل تهذيبهم...".

 

         تبين هذه الفكرة، مبدأ التفاعل المادي- الروحي بين الأرض وانسانها. فالبيئة تحدد الجماعة من عدة وجوه: الحدود الجغرافية، طبيعة الأقليم وشكل الاقليم وتعد الفوارق الشكلية للجماعات البشرية، كما ان الترابط بين البيئة والجماعة في انواع الحياة وفوارق الاشكال وميزات العمران والاتجاه التمدني ضئيل جدا، وشخصية الجماعة مرتبطة بالارض، فلا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة.

 

ثانياً: "وحين ذلك ولدتهم امهم الحقيقية، وهي الأرض، أي انها قذفت بهم الى سطحها ..."

تظهر هذه الفكرة، مبدأ اهمية الأرض- أرض الوطن للحياة – حياة الجماعة، فالأرض هي الأم الحقيقية، التي تتمثل فيها وحدة الحياة واستمرار الحياة وعز الحياة، انها الرابط المقدس المنظم لوحدة الحقوق والواجبات الطبيعية بين الأرض-الأم وأبنائها.

 

ثالثاً: "فيجب ان يحتموا بالمنطقة التي هم فيها كأم وكمرضع، فيصدون عنها الغزاة...".

تبرز هذه الفكرة، مبدأ العلاقة الحيوية بين الشعب والبيئة الطبيعية، فيتعلق الشعب بالبيئة، اساس حياته فلا يفارقها، ولا يرضى عنها بديلا، تماما، كالطفل الرضيع، يتعلق بأمه، فتعطيه من قلبها وعقلها ودمها. وفي المقابل، يحمي الشعب بيئته، فيصونها، ويدافع عنها، فيعطيها كل ما اعطته، حتى دمه متى طلبته وجدته.

 

رابعاً: "ويحسبون سكانها، أبناء الأرض، اخوتهم".

 

تمثل هذه الفكرة، مبدأ الاخاء القومي، ارتباط الشعب بالأرض – الأم، وهي الظاهرة القومية الأولى في العالم، ويقظة الوجدان القومي، الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فضلا عن تأكيد نظرية المساواة بين الأخوة أبناء الأرض الواحدة.

 

خامسا: "... سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الاله الذي جبلكم ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العديد ان يكونوا زراعا وعمالا وضع نحاسا وحديدا. ولما كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبا، وهكذا يلد كل من يلد. وقد أودع الحكام من الله، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، هذه الوصية، ان يخصوا اولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم، فاذا ولد الحكام ولدا ممزوجا معدنه بنحاس او حديد فلا يشفقن والدوه عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه الى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا او عاملا. واذا ولد العامل اولادا، ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة، وجب رفعهم الى منصة الحكم، اصحاب الذهب حكاما، واصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: ان المدينة التي حكمها النحاس والحديد فهي الى البوار". فهل عندك من حيلة لإقناعهم بهذه الخزعبلة؟

 

 

تعليقا على ما ذهب إليه سقراط في كتابه الشهير "جمهورية أفلاطون" نورد الملاحظات الآتية:

 

قيام الدولة – المدينة السورية

لنفهم هذه الفكرة، يجب ان نتتبع مراحل قيام الدولة المدينية السورية الفينيقية (الكنعانية) التي صارت فيما بعد طرازا اخذ عنه الاغريق والرومان فالعالم.

 

وباكرا أي ابتداء من حوالي الالف الثالث ق.م.، عرفت فينيقيا الملكية الانتخابية، فالدولة الديمقراطية، التي هي "دولة الشعب او دولة الأمة، هي الدولة القومية المنبثقة من ارادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه".

 

فالملكية كانت انتخابية دستورية، والملك (الذي في طينه ذهبا)، يجب ان يكون "حاكما كاملا"، يتصف بالعناية والسهر على مدينته، "حتى لا يريد اصحابهم في الوطن، ولا يقدر اعداؤهم في الخارج، ان يحدثوا أدنى ضرر للدولة"، فالملك يجب ان يكون قائدا قدوة لشعبه، فهو المسؤول الأول عن حماية المدينة، يتقدم جيشه في القتال، يقود الاسطول البحري في المعارك، يسهر على الأمن، يقيم العدل، ويؤدي الحساب عن أعماله امام الالهة وأمام مجلس الشيوخ، واذا قصر الملك في واجباته عزل.

 

ومع ان العرش كان وراثيا، فليس من الضروري ان يرث الولد البكر والده اذا لم يكن اهلا للمسؤولية – ( فاذا ولد الحكام، ولدا ممزوجا معدنه بنحاس او حديد فلا يشفقن والدوه عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه الى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا او عاملا): وفي هذه الحالة ينتقل الحكم الى الأصلح والأنسب من اولاده، واذا كان قاصرا تضطلع الوالدة او الشقيقة بمسؤولية الوصاية، وكم من امرأة في تاريخنا تولت السلطة، فلم تقل شأنا ولا قيادة عن الملك، الى جانب احترامها كإلهة، وقيامها بدور "الكاهنة الكبرى".

 

أما اذا خلت العائلة لسبب ما، من وجود شخص مؤهل للاضطلاع بمسؤولية الحاكم الكامل، فتنتقل السلطة الى عائلة اخرى، الى ملك (في طينه ذهب)، حتى لو كان من عائلة مغمورة (واذا ولد العامل اولادا، ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة، وجب رفعهم الى منصة الحكم، اصحاب الذهب حكاما، واصحاب الفضة مساعدين). وهكذا كان الانتقال من الملكية الدستورية الى الدولة الديمقراطية، انتقال حدث في ظروف طبيعية هادئة دون ثورة او نزاعات، حتى اذا خلت المدينة من حاكم كامل، ابتدع شعبنا سلطة جديدة تؤمن ترسيخ الديمقراطية، فغدا يرئس الدولة قاضيان واحد للادارة واخر للعدل، يختارهم مجلس الشيوخ المنتخب من مجلس الشعب، وعندما حاول مجلس الشيوخ في قرطاجة ان يحصر السلطة الفعلية في فئة منه، وقف في وجهه هنيبعل وسن تشريعا جديدا نزع بموجبه الحصانة عن هذه الفئة، وأعاد السلطة الى مجلس الشيوخ الذي اخضعه للقانون والنظام، وجعل مدة ولايته سنة واحدة، كما حظر التجديد لانتخاب القاضيين او أحدهما. هكذا أسس شعبنا اول دولة ديمقراطية في التاريخ، وانشأت تلك الدولة اول امبراطورية بحرية اعمارية في العالم، شعت منها المدنية في البحر السوري، ومنه الى سائر انحاء العالم، حتى قيل لكل انسان وطنان: وطنه الذي ولد فيه وسورية.

 

وهكذا، اعطى السوريون الكنعانيون العالم الدين الاجتماعي، الذي من أبرز خصائصه ما يأتي:

 

اولا: يقظة الوجدان القومي.

 

ثانياً: ظهور الرابطة القومية المؤسسة على فكرة الوطن، التي لازمتهم حتى انتشارهم خارج مدنهم- دولهم، فاذا بالعلاقة لم تنقطع، وإذا بالحنين لم يجف وهذا لم يكن شأن المدن اليونانية ومستعمراتها مثلا.

 

ثالثاً: التفاهم والتقارب والتعاون بين المدن الفينيقية – الكنعانية الخمس والعشرين، الذي تبلور في قيام "حلف" في طرابلس، مثلا، بين جاليات ارواد، صور وصيدون للتباحث في الأمور المصيرية.

 

علما ان التنظيم السياسي في المدن – الدول الكنعانية دام مئات السنين، دون ان يتعرض لأزمات او حروب داخلية.

 

رابعاً: الاخاء القومي، الذي عرفته تلك المدن، واقتنع به الحكام والناس (كلكم اخوان في الوطنية)، جنّب تلك المدن، بالرغم من عددها، الحروب الداخلية، فلم تتحارب، بل ظلت محافظة على صفة الشعب الواحد المتضامن في الحياة، علما ان تلك المدن كانت تتحد اذا داهم احداها عدو خارجي، وكانت "القيادة" فيها تنتقل من مدينة الى أخرى، دون نزاع، او اقتتال، لان عقيدة "أبناء الأرض" وروح الديمقراطية قد فعلتا فيها، ومهّدت لقيام الثورة السورية الفكرية العظمى الأولى في التاريخ، والتي تحتاج الى دراسات متخصصة فيها.

 

وإذا كانت المدن السورية الكنعانية – الفينيقية قد تمكنت من المحافظة على صفة الشعب الواحد المتضامن في الحياة، للأسباب التي ذكرناها، والتي أدت الى تجنب الصراعات الداخلية، فان الحروب الداخلية التي شهدتها الدولة السورية القديمة خصوصا مع الاشوريين والكلدانيين، كان لها مدلولاتها القومية الخصوصية، منها:

1- : الاتجاه الواحد الهادف الى الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب.

2-: النزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكون والتي استكملت فيما بعد تكونها.

 

باختصار، فان الحروب الداخلية في تاريخ الدولة السورية القديمة، كانت تهدف الى توحيد الوطن السوري، من هنا أهميتها، بل ضروريتها في تأكيد الاتجاه القومي العام للمجتمع السوري الصاهر لمختلف الجماعات النازلة في بيئته وتحويلها الى مزاج واحد وشخصية تاريخية واحدة.

 

ختاما، يسأل أفلاطون: "هل عندك من حيلة لإقناعهم بهذه الخزعبلة؟"

 

 الجواب: لا حيلة في إقناع أبناء هذا الزمان. على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم، وكلّ الأجيال التالية بهذه الأسطورة. (راجع الحوار أعلاه)

 

إذا كان أفلاطون، وكلّ ما بُني على فلسفته يرتكز على إبتداع الحيلة عن طريق الأسطورة لإقناع أجيال أمته، بصحة عقيدة الأرض،  فإنّ سعاده جاء برسالة آمن فيها بالحقيقة العظيمة التي في نفوس أبناء أمته : "..إنّ النفسية السورية قد برهنت وتبرهن اليوم بالبرهان التشريحي والعملي على أنّها عظيمة المقدرة، مستكملة شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح، وإنّ لها المقدرة على إدراك واستيعاب كلّ ما يمكن أن تستوعبه وتدركه في هذا الوجود . إنّها نفس تقدر في ذاتها على المعرفة والإدراك وتمييز القصد، وتصوّر أسمي صور الجمال في الحياة. إنّها نفس تسير بوعي ولها كلّ مؤهلات الإدراك الشامل العام لشؤون الحياة والكون والفن" (45).  هذا هو الوجدان السوري القومي الإجتماعي الصحيح.

 

 

 

الــهــوامــش

 

  1. سعاده، راجع مقدمة كتاب "نشؤ الأمم".
  2.  سعاده، المبادئ (التعاليم) السورية القومية الإجتماعية.
  3.  سعاده، الأعمال الكاملة، الجزء الثامن، ص 308؛ (...عندئذ تأسسست الحركة القومية الإجتماعية على مبادئ الوجدان القومي والعدل الإجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن...). راجعه للأهمية
  4.  سعاده، الأعمال الكاملة، ج2، ص67.
  5.  سعاده، شروح في العقيدة، طبعة آذار 1958، ص 88؛ (إيجاد الوجدان السوري القومي الإجتماعي في مغتربينا بوجه عام، وإقناعهم بمبادئ نهضتنا الأساسية والإصلاحية، ودعوتهم بطرق متنوّعة إلى اعتناق هذه المبادئ باعتبارها الوحيدة المعبّرة عن شخصيتنا القومية وحقوقنا ومصالحنا والتي لا نهضة لأمتنا إلا بها كما هو الواقع).
  6. سعاده، جريدة الزوبعة، العدد17، تاريخ أول نيسان 1941.
  7. سعاده، راجع مقدمة "نشؤ الأمم".
  8. سعاده، جريدة الزوبعة، العدد 17، تاريخ 1 نيسان 1941، "سورية وسط الجوع والنار"
  9. إلى 13 - سعاده، نشؤ الأمم، راجع الفصل السابع (الإثم الكنعاني).  

14- سعاده، شروح في العقيدة، ص88.

15- سعاده، راجع المبدأ الأساسي الأول (سورية للسوريين والسوريون أمّة تامة).

16 و17 - سعاده، راجع المبدا الأساسي الرابع (الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي).

18و19 – سعاده، راجع المبدأ الأساسي السادس (الأمة السورية مجتمع واحد).

20 – سعاده، راجع المبدأ الأساسي السابع (تستمد النهضة السورية القومية الإجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي)

21- سعاده، المحاضرات العشر، راجع المحاضرة السادسة.

22 – سعاده، الأثار الكاملة، الجزء الثالث، ص 197 – 198.

23 و24 – سعاده، الأعمال الكاملة، ج4، ص188-190.

25- سعاده، نشؤ الأمم، الفصل المقدمة.

26-29، سعاده، نشؤ الأمم، الفصل السابع.

30- راجع هامش رقم 3.

31 – راجع هامش رقم 4.

32 – راجع هامش رقم 15.

33 – راجع هامش 16.

34 – راجع هامش رقم 17.

35- سعاده، المحاضرات العشر، راجع شرح المبدأ السادس الأساسي في المحاضرة الخامسة.

36 – سعاده، المبدأ الأساسي السابع، وشرحه في المحاضرة السادسة من المحاضرات العشر.

37- سعاد، شروح في العقيدة، طبعة آذار 1958، "القنبلة الجهر فردية وتفوّق الأمم"، كتبت عام 1945، ص 19-22.

38 – سعاده، الأعمال الكاملة، ج4، ص 188-190.

39 – سعاده، جريدة الزوبعة، العدد17، تاريخ أول نيسان 1941

40 – راجع هامش 39

41– سعاده، شروح في العقيدة، مرجع سابق، 88

42 – جهاد العقل، موسوعة صحافة الحركة القومية الإجتماعية، الجزء الثاني

43 – عمدة الإذاعة، النشرة الإذاعية، العدد الأول، أيلول 1988، ص 3- 5"رسائل"

44 – جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، ص 108 -110.

45 – سعاده، المحاضرات العشر، راجع محاضرة الزعيم السادسة.

 
التاريخ: 2022-01-14
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro