مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
شيخ الصحابة
 
الدبس، ربيع
 

 

 

 

 

كنت طفلاً يوم سمعت في دارنا للمرّة الأولى اسم عبدالله قبرصي. ولم أكن في ذلك العمر أعي المدلولات العميقة لِلَقب الأمين أو المحامي او الأديب. وشيئاً فشيئاً بدأتُ أدرك المكانة التي للرجل في تاريخ الحركة النهضوية التي أطلقها أنطون سعاده بقوة عبْر الحزب السوري القومي الإجتماعي. كما أخذتُ أتبيّن عُمق العلاقة التي تربط أسرة الدبس بالأسرة المثلثة قبرصي – بربر – الخوري. وكان الأمين قبرصي هو العنقود الذي عرّف والدي بكرمة باعث النهضة. وجاءت المفاهيم القومية الإجتماعية لتصقل علاقة الصداقة التي بدأت عائلية وَغَدَتِ التزاماً بقضية. هكذا ارتحَبَتْ تلك العلاقة وتجذّرتْ لتصبح أرقى وأعمق، متخطيةً العلاقة المدرسية او العلاقة الإجتماعية التقليدية أو علاقة محامٍ بموكِّل، أو علاقة أدبية تشد كاتبيْن أو شاعريْن أو مثقفيْن...جاءت التعاليم الجديدة لتتجاوز بمبادئها العلاقات الجزئية والولاءات الضيقة فيعانق معتنقها الأمة كلها وفق منظور قومي نهضوي هادف، تحدده الرؤيةُ الفلسفية الشاملة، وتسوده روحيةُ الوجدان القومي الحي، ويترجمه عمل جِدّي منظم يبدأ بالإيمان الكبير ولا ينتهي بالانتصار.

 

هكذا تمرس المناضل الأثيل عبدالله قبرصي بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة، وكتب سيرته بالإيمان والتضحية والعذابات، وأسس عائلة قومية إجتماعية مرموقة بعطائها وسمعتها وموقعها الإنتاجي في الوطن وعبر الحدود...هكذا شعَّ ربُّ العائلة بأنوار النهضة، من موقع العضوية إلى أرفع المسؤوليات القيادية المركزية، فدعاه الدكتور عبدالله سعاده "ضمير النهضة" ولقَّبه آخرون بقنبلة المنابر. والحق أنه كان صوتاً داوياً من أصوات الحق القومي والإنساني، في قصور العدل، وعلى المنصات الثقافية والسياسية – القومية، حيث تقاطع طرحُ المحامي البليغ بطرح ِالمناضل المقدود من صخرِ الأساس.

 

وصخورُ الأساس في النهضة القومية الإجتماعية لم توجد بذاتها ولم تخْلقها العجائب...رعاها المؤسس المربي برموش عينيه حتى صلُب معدنُها وتفولذ. ألم يقلْ سعاده العظيم إن نهجه التأسيسي قام على "بناء النفوس المؤهلة في العقيدة والنظام"، وأن "العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة"...؟

 

باكراً، قرأ جيلُنا له "نحن ولبنان" و"من وحي الظلام" و"مصرع السمنة" حيث يتوهج إنسان شفاف لم يختلط لديه الضعف بالرأفة، ولا تساوى الحق بالباطل. كما أقبل جيلنا على قراءة "عبدالله قبرصي يتذكر" في حلقات صحافية إِبّان الحرب الأهلية في السبعينات، ثم في كتاب ذي أجزاء خلال الثمانينات. وأذكر أن عميد الثقافة في الحزب، قُبَيل الاجتياح المعادي، كلفني الإطلاع على الجزء الأول من المذكرات قبل النشر فوجدتُ في الكتاب صفحات مشرقات بالنضال والعز والفكر النيّر. وإذْ وجدت في حنايا الكتاب ما لا يصح نشره صارحتُه كما صارحه العميد المعني فلم يقتنع وأصر على نشر ما كتب بالكامل. عندها أحيل الموضوع على رئيس الحزب الذي أقنعه، بصعوبة، أن يحذف بضعة أسطر لا تُقدّم ولا تؤخر. وهكذا حُسمت المسألة وطُويَ الموضوع. ثم تعمقتْ الأواصر بيننا إلى حدٍّ باح لي فيه شيخ الرعيل الأول بالأثير من أشجانه ومكتنزاته، وما زلت أحفظ بين أوراقي رسالة بخط يده بعث بها إليّ من قبرص إلى أوستراليا عام 1985 وتبلغ سبعاً وعشرين صفحة مفعمة بِلذّة النضال والمعلومات التاريخية لكنها مشُوبة بالقلق القومي من الخطط الجهنمية التي يحوكها الأعداء ضد شعبنا وحقنا والقضية. وفي تلك الرسالة المطولة، يشدد قبرصي على تجسيم الإيجابيات وتعميمها حصراً للسلبيات في إطارها الأضيَق ووضعاً للعثرات في سياقها الظرفي وتغليباً للصراع الأساسي مع العدو، وهو صراع يحتاج إلى كل ضمة من رفقائنا وكل ذرة من قوانا. بذا نُكَرم شهداءنا الأبطال وتقرّ عيونُهم بأهلية المتابعين من حَمَلَة الراية وأصحاب القضية.

 

كَتب شيخ الصحابة في مذكّراته أن سعاده رأى في مقاربته للأمور اتكاء إلى نظرة شاعرية. وهو لم يُنكِر ذلك بالمطلق، لكنه أَنكر النظرَ الدائم إلى الحقائق الكبرى بالمنظار الشعري، مع أن الناقد الكبير أنطون غطاس كرم طرح سؤالاً استقرائياً جوابه كامن فيه: "أليس الشعر في عليا رؤاه أَكمَلَ المعرفة" ؟

 

وليس صحيحاً أن الأمين الراحل قبرصي "هتف وحده لوحدة اليمين الحزبية"، كما ورد في إحدى كلمات رثائه، وأن رصيده لدى سعاده "مكّنه وحده من أن يكون حُرَّ المناقشة والاعتراض". فهذا الزعم يسيء إلى الكاتب والمرثي وإلى تاريخ الحزب كذلك. إن الذين ناقشوا زعيم الحزب وناقشهم وحاوروه وحاورهم ليسوا قليلين، وفي طليعتهم فايز صايغ، وغسان تويني، وفخري المعلوف، ومأمون أياس، ونعمة ثابت، وهشام شرابي، وعصام المحايري ،وعبدالله سعادة، وفؤاد أبي عجرم ،ورهطٌ آخر من مثقفي الحزب الكبار. وعمد سعاده – برغم وقته الضيق وانشغالاته المتشعبة الضاغطة – إلى مناقشات طويلة وإلى تدوين رسائل عدة للذين ناقشوه في الوطن وعبر الحدود. هذه حقيقة أولى دامغة.

 

وثمة حقيقة ثانية مؤكَّدة تدحض ادعاءاتٍ قرأناها بعد انتقال الشيخ الجليل من هذه الدنيا كالقول إنه بموت عبدالله قبرصي انطوت الزوبعة، كأن الزوبعة قطعة قماش تُطوَى لا رمزٌ يَمُور وحالةٌ تتجدد. فآلاف المناضلين، الذين من بينهم أنجالُ عبدالله قبرصي وكريمتاه، يتمثلون في كل يوم مآثر عبدالله قبرصي ويلدون في كل يوم مآثرَ جديدة، وتختلج في نفوسهم زوبعةُ المجد واجباً ونظاماً وحرية وقوة.

 

والذي سأل الغائبَ الكبير: "أبكي غيابَك أم غيابي"؟ فاته أن الجزء الثاني من مقطوعة الشاعر الشهيد كمال خير بك، والذي يختزن معنى القصيد هو: "وجوادُك الفضّيُّ يصهل عند بابي". فيا أبا صباح، أيها المتحدر من دده – الكورة، الساكن في عاصمة لبنان والمسكون بسوريةَ كلها، أيها المَنسُول من قَصَب المقالع، المغزول من لون الزوابع، كنا نَعلَم أن ساعة الحق تقترب مهما تمنينا استِئخارها. ولكن اسْتقرَّ في نفوسنا أنّ شعلتك، التي أضاءت قرناً كاد ان يكتمل، ستغالب الإنطفاء الطبيعي للجسد الفاني.

 

ستبقى خميرتُك المباركة نابضةً في معجن النهضة، وسيبقى أمثالُك أيقونةً من فضائلَ لا من شعائر، بل ذخيرة معنوية تَحملها مواكبنا في القلب والوجدان والخاطر، حتى إذا مالتْ صروف القلب أو عزّتِ القدوة، تعود إليها لتستنطقها الأجيالُ الوليدة، وتلك التي لم تولد بعد.

 

 

 

 
التاريخ: 2007-10-26
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: النهار، 26/10/2007
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro