مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
سعاده رائد "مدرسة المراجعة التاريخية العالمية.
 
حمية، علي
 

 

أولى أنطون سعاده النقد بعامة والنقد الفلسفي بخاصة أهمية، منذ بداية وعيه السياسي، وهو فتى في السابعة عشر من عمره. واذا كان اهتمامه النقدي في المرحلة الأولى – أي قبل تأسيس الحركة القومية الإجتماعية سنة 1932 - انصبّ على درس ظاهرات عامة، دولية في معظمها، فإنه تركّز في المرحلة الثانية – أي خلال الخمسة عشر سنة التي سبقت استشهاده سنة 1949 - على درس الحالة القومية في الهلال الخصيب وما يتفرّع عن هذه الحالة أو يرتبط بها من قضايا ومسائل إقليمية أو دولية، فكرية أو سياسية أو إقتصادية.

 

في المرحلة الأولى، مرحلة الشباب، حيث كان العمل السياسي غير مستحوذ تماماً على اهتماماته، فضلاً عن تحرره من أي التزام عائلي مباشر ما أتاح له إمكانية الإستفادة القصوى، من الوقت المتاح، في الدرس والمتابعة لكل ما يجري في العالم، تفرّع إنتاجه النقدي في السياسة والفلسفة والإقتصاد، فلم يهمل أية ظاهرة دولية، أو حادثة سياسية أو تاريخية أو حربية، إلا وتناولها بالدرس والنقد.

 

هكذا حظيت حوادث كبرى في التاريخ كالثورة الفرنسية، والثورة الروسية، ومسألة الخلافة في الإسلام، وسقوط الولايات المتحدة الأميركية "الأدبي"، وثورة الشرق، ومسألة الأقليات في البلقان، وعصبة الأمم وقضية السلام العالمي، بإهتمامه، وكتب في تحليلها وتعليل أسبابها ونتائجها مئات الصفحات. الأمر الذي لم يكن مألوفاً، كثيراً، في العالم العربي حيث كان المثقفون مأخوذين بالمنجزات العلمية والفلسفية الغربية يتقولون فيها مذاهب شتى، ويجمعون على تقدميتها وضرورة تبنيها وتأسيس حياتنا القومية على قواعدها. وسنكتفي، هنا، بعرض قراءته، وهو شاب، لحادثتين كبيرتين ومتناقضتين هما: الثورة الفرنسية، و"ثورة الشرق."

 

في مقال بعنوان "الحرية وأم الحرية: تأملات في الثورة الفرنسية" (الأعمال الكاملة، م1، ص46 - 56) كتبه في سان باولو، البرازيل، سنة 1923، خالف سعاده إجماع الكتاب، من مؤرخين وسياسيين وعلماء، في الثورة الفرنسية، واعتبرها "أعظم مجزرة عرفها التاريخ وأكبر خدعة خُدع بها العالم" وأخذ على ممجدّي تلك الثورة، من مؤرخين وكتاب وشعراء، اقتصار تعليلهم لحوادثها على الوجهة التاريخية فقط، وهو برأيه تعليل ناقص لأنه لا يقوم على دراسة فلسفية سيكولوجية لأسباب تلك الثورة ونتائجها، ولا يعتمد على تفكير عميق في علوم الحياة والنفس، فضلاً عن انه لا يدرس طبائع الشعب الفرنسي وغرائزه دراسة وافية. ونَحا باللائمة على روسو وفولتير وسائر الكتّاب الذين حرّضوا، في كتاباتهم، على الثورة، لأنهم ربطوا بين الاستبداد والعبودية اللذين كان يرزح تحت نيرهما الشعب الفرنسي والمبدأ الأرستقراطي بشكل عام، معتبرين الثورة الفرنسية ثورة الديمقراطية ضد الأرستقراطية، أو بالحري، ثورة الحرية ضد الاستبداد والعبودية، وهذه هي "الصفة السامية" في الثورة الفرنسية التي يهتف بها العالم!؟. وهو ما استنكره سعاده معتبراً أن الأرستقراطية على أنواع، منها أرستقراطية المال ومنها ارستقراطية الحسب ومنها ارستقراطية النبوغ، نافياً عنها أن تكون بالضرورة، ملازمة للملكية والإستبداد، ذاهباً إلى القول أنها موجودة في الجمهورية أيضاً، وهو ما يعني أن الارستقراطية موجودة في كل نفس تضطرم بشعلة الإرتقاء والتفوق. ونبّه سعاده إلى أن إجحاف الجمهورية الفرنسية، بعد الثورة، بحقوق الانسان لم يكن أقل من إجحاف الملكية بها، في إشارة واضحة إلى حروب نابليون وما جرّت على الشعوب الأوروبية (ومن ضمنها الشعب الفرنسي) من ويلات، وحروب فرنسا الإستعمارية في الخارج، والحرب العالمية الأولى التي كانت فرنسا شريكاً أساسياً فيها، بل محرّضاً على نشوبها.

 

وفي مقال بعنوان "بدء النهاية: ثورة الشرق" (الأعمال الكاملة، م1، ص199 - 202) الذي نشره في مجلة "المجلة" في البرازيل، سنة 1925 انتقد سعاده ما أسماها "الفلسفة الغربية العقيمة" التي تدّعي، في كل مرة يصطدم فيها الشرق بالغرب ويعود الإصطدام على الشرق بالخسارة، أن ذلك الإصطدام يُعدّ خذلان البربرية أمام المدنية، ناسبة إلى القوات الغربية دائماً مجد المحافظة على المدنية، ذاهبة إلى اعتبار كل نهضة وطنية في الشرق ترمي إلى الحرية والاستقلال حركة بربرية تهدّد المدنية التي تحمل أوروبا لواءها. والغريب، برأيه، أن فريقاً من كتاب الشرق انطلت عليهم هذه الخديعة الغربية وسلّموا، هم أيضاً، بأن الشعوب الشرقية ليست أهلاً للحرية والاستقلال ولا تصير كذلك إلا إذا سيطرت عليها الشعوب الغربية أولاً وأعدّتها للحرية والاستقلال. ولكن سعاده تنبأ بقرب اندثار تلك الفلسفة المتحيّزة التي أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين لأن "النهضة الشرقية العامة ضد بربرية أوروبا أصبحت محتمة كالقضاء والقدر!".

 

وتابع سعاده في الإتجاه نفسه، في مقال آخر، بعنوان "علم التاريخ وسلام العالم" (الأعمال الكاملة، م1، ص245 - 249 )، حيث كشف عمّا أسماها "الفلسفات المتغرضة" أي الفلسفات التي تبطن أغراضاً غير فلسفية، من سياسية وتوسعية واستعمارية، دون أن تفصح عنها تماماً، تلك الفلسفات التي ترى كل صدام يحدث بين الغرب والشرق بأنه صدام بين المدنية والهمجية، وتعرّف الأمم الآسيوية بأنها أمم منحطة متوحشة، الفلسفات التي تتحكم بكتب التاريخ الموضوعة بين أيدي الناس بما تحشوها به من أكاذيب وأضاليل متغرّضة، غير آبهة للنتائج السيئة التي قد تترتب على مثل هذه السياسة التربوية والتوجيهية الهوجاء التي توغر الصدور بالحقد والكراهية، وتحمل على إثارة الحروب، وتصدّ المساعي التي يبذلها "المفكرون الانسانويون" Humanistes  في سبيل تحقيق السلام العام، معلناً فساد هذه الأفكار من الوجهتين الفلسفية والمنطقية . وذكر في مقاله أن من بين كتب التاريخ العام في البرازيل، حيث كان مهاجراً، كتاباً نال شهرة واسعة في تلك البلاد وقال أنه لم يشأ أن يدخل في جدال مع المؤلف حول فساد الحقائق التاريخية الواردة فيه أو صحتها ولكنه أراد أن يأتي على بعضها مما له علاقة بنظرياته المتقدمة في علم التاريخ وتأثيره في تطور العالم الإجتماعي والعمراني. يذكر المؤرخ في المقدمة الضافية لحروب قرطاضة ورومة ما ترجمته بالحرف: "حين أعلنت الحرب كانت قرطاضة أكبر وأغنى من رومة في تماثيلها ومراكبها وكنوزها، بيد أن شعبها الذي هو من عنصر آسيوي سامي كان أحطّ في التمدن من الرومانيين الذين تثقفوا في جوار اليونان وعرفوا فنونهم وثقافتهم، محسّنين الفيلق الحربي بتقسيمه إلى فيالق وشرازم". ويُعلّق سعاده بالقول أن في هذه الفقرة الصغيرة نوعاً من أنواع "الفلسفة المتغرّضة" فضلاً عن أن الرأي الذي تضمّنه لا علاقة له بالتاريخ من حيث هو علم. والمفهوم من كلام المؤرخ المتقدّم أن القارة (آسية) والعنصر(السامي) هما الفارق في الإرتقاء المدني، وأن كل شعب آسيوي سامي هو، طبعاً، أحطّ من كل شعب آخر أوروبي: هندي/ آري، وأن تقسيم الفيلق البري هو مقياس الرقي الوحيد.

 

ويضيف سعاده قائلاً: إذا سلمنا جدلاً بهذه النظرية فإننا لا بدّ نحار في تعليل كيف أن الرومانيين انكسروا شرّ كسرة في أرقى مظاهرهم المدنية في (الجيش) أمام قوات هانيبعل. وإذا كان السرّ في القارة والعنصر فلماذا كان النبوغ الفينيقي أعظم من كل نبوغ روماني في ذلك العهد؟ ولماذا ينسى المؤرخ المشار إليه أن الخوف من النبوغ الفينيقي الآسيوي حمل الرومانيين على حرق قرطاضة بعد الخطب الرنانة التي كان (كاتون)، أشهر خطباء الرومان، يلقيها في مجلس شيوخ رومة. وعزّز سعاده استشهاده السابق باستشهاد آخر من المؤلف نفسه ليثبت وجود التغرض والنزعات المتغرّضة عنده، فيقول أن المؤرخ أتى على التحسينات التي أوجدها العرب في تطور المدنية، واعترف بها، ولكنه ما لبث أن ختم كلامه على الأتراك وسقوط القسطنطينية بقوله: "من المحتمل أن عهداً جديداً يبتدىء حين تزول من أوروبة الأمبراطورية التركية التي هي الآن في حالة النزع، كما أن العهد العصري ابتدأ منذ طرد البقية العربية من إسبانية".

 

ويختم سعاده نقده للكاتب والكتاب بالقول أن التلاميذ الذين يتعلمون التاريخ العام في المؤلف المذكور يخرجون إلى الحياة العملية، رجالاً ونساءً، حاملين في قلوبهم الكره والإحتقار للشعوب الآسيوية إجمالاً وللعنصر السامي والفينيقيين والعرب بوجه خاص. ودعا سعاده في هذا المقال إلى تنقية كتب التاريخ من الفلسفات المتغرضة، ووجه نداءً إلى معاهد العلم في العالم كله يدعوها فيه إلى عقد "مؤتمر عام" يقوم بمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ المعوّل عليها في التدريس عند جميع الأمم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر المعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الخارجة عن دائرة العلم. فهل يمكننا، تأسيساً على رأي سعاده في الفلسفات المتغرضة المبثوثة في كتب التاريخ، اعتباره أحد مؤسسي "مدرسة المراجعة التاريخية" (Révisionnisme)  التي انطلقت في مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم ؟.

 

 

 
التاريخ: 2022-10-17
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro