مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
إدمون ملحم يقتفي أثر أب «الفلسفة الرواقية»: زينون الكنعاني لا الإغريقي
 
حمية، علي
 

 

 

 

منذ انطلاقتها في «رواق» أثيني، في القرن الثالث ما قبل الميلاد، كان عالم المتوسط يشهد مخاضاً ثورياً ودّع فيه الدولة – المدينة ونظامها المحكوم بجملة اعتبارات ضيّقة ربطت أفقه وميدانه ونشاطه بساحة البلدة أو المدينة (agora)، إذ ولد نظام جديد عُرف بالدولة العالمية (المعمورة) التي لا حدود لها ولا فواصل بين أجزائها ولا اعتبارات فردية أو فئوية تحدّ اندفاعتها المتفائلة نحو الأجمل والأكمل على امتداد العالم كله، ورافقت ذلك الانقلاب الثوري تحولات عميقة، فكرية وسياسية واجتماعية، هزّت أركان العالم القديم، في الصميم...

 

مذّاك، والرواقية، فلسفة ومدرسة ونظرة

 

جديدة إلى الإنسان في تلك الحقبة من تاريخ العالم القديم، هي مدار جدل، لم يهدأ حتى الساعة، بين مؤرخي الفكر الفلسفي والمشتغلين في رحابه، فلا يتردّد هؤلاء - إلا فئة قليلة منهم - في اعتبار زينون، مؤسّس الرواقية، فيلسوفاً يونانياً (إغريقياً)، كونه تكلم اللغة اليونانية ودرّس باليونانية في رواقه وكتب مؤلفاته. ولذلك يذهب هؤلاء البحاثة إلى القول بأنّ الرواقية، فلسفة زينون، هي إحدى مدارس الفكر اليوناني، وحجّتهم في ذلك أنّ الفلاسفة الذين اشتُهروا في هذه الفلسفة كتبوا ودرّسوا وحاضروا وبشّروا باليونانية، لا غيرها من لغات العالم القديم.


هنا، أعود بالذاكرة إلى العام الدراسي الجامعي 1974- 1975 حيث كنت طالباً مسجلاً في الجامعة اللبنانية سنة ثانية– فلسفة: حضرت، يوماً، صفاً للدكتور حسين القوتلي، مدير دار الإفتاء في الجمهورية اللبنانية، وصدف أنّه كان يحاضر في الفلسفة اليونانية، وتحديداً الرواقية. ولما انتهى من شرحه، استأذنته في الكلام معترضاً على ما قاله في الرواقية وفي مؤسسها زينون الرواقي. حاولت، من دون جدوى، إقناعه بـ«سوريّة» زينون وبالأصول السورية وليس اليونانية للرواقية، فما كان منه إلا أن قاطعني قائلاً: «نحنا بسعيد عقل واحد مش مخلّصين فكيف بسعيدين؟» (كان سعيد عقل، في نظر خصومه، يرمز إلى النزعة الفينيقية المتزمتة التي ترد كل إبداع في العالم إلى أصل فينيقي)، أجبته بأنني سأقدّم له بحثاً في الموضوع، فوافق. في الأسبوع التالي، جئته ببحث من اثنتي عشرة صفحة، فأخذه مني، وبعد مدة توفاه الله، فلم يتسنَ لي معرفة ما إذا كان قد اقتنع بوجهة نظري في الموضوع!

 

في هذا السياق، وفي كتابه «الفلسفة الرواقية» (دار أبعاد للطباعة والنشر ـــــ 2022)، عمل إدمون ملحم على أن يقدّم لنا زينون ابن الثقافة السورية وأحد مبدعيها، في آن، فيؤيّد ويؤكّد أطروحات بعض الكتبة والشرّاح ممن صرَّحوا بسوريّة زينون وفلسفته، ويُعارض ويناقش أطروحات بعضهم الآخر ممن تسمّروا في عماوة أبصارهم، فضلّوا في تهجمهم على الرواقية ومؤسسها ضلالاً بعيداً. وقد حشد الدكتور ملحم، تأييداً لرأيه المنتصر لسوريّة زينون، عَلَماً وفكراً، كل الأفكار والحجج والبراهين التي ساقها المؤرخون المنصفون، عرباً وأجانب، مؤسساً موقفه على مقاربة «سعاده» لهذه المسألة الحسّاسة. تلك المقاربة التي شقّت الطريق لاتجاه جديد في الدفاع عن أفكار زينون وأفكار سواه من المبدعين السوريين الذين أغمط حقهم في ثنايا الترحال والجغرافيا.


إن سوريا، لا اليونان ولا إيطاليا، هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر المتوسط، فحوّلته إلى «عالم» جديد صار أساساً للتمدن الغربي الحديث، يقول سعاده ويتبنّى قوله ملحم. وعلى خلفية الصراع العنيف على السيادة البحرية في المتوسط بين السوريين والإغريق أولاً، ثم بين السوريين والرومان، نشأ صراع قوي جداً في الفكر والثقافة: بين أدب الإغريق وأدب السوريين (وضمناً الفلسفة) وبين أدب السوريين وأدب الرومان، يُضيف سعاده ويتبنى ملحم أيضاً قوله. إلا أن المدرسة الإغريقية – الرومانية التي أرّخت لتلك المرحلة لم تنصف السوريين أبداً ولم تعترف لهم بأي فضل وبأي قيمة.

 

وبما أنّه لم تسلم الموثقات والمؤلفات عن التاريخ السوري، لا من حريق صور بعد فتح الإسكندر ولا من حريق قرطاجة بعد فتح سيبيو، أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ وقفاً على اتجاه المدرسة الإغريقية – الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران. أمر حثَّ ملحم وكوكبة من زملائه الباحثين على التأكيد والمجاهرة، على الملأ، بأن زينون سوري (كنعاني) يعود في جذوره إلى صيدون، على الساحل الشرقي للبحر السوري المعروف في الجغرافيا الحديثة بـ «المتوسط»، وأن فلسفة زينون، أي الرواقية، تعبّر عن خطط النفسية السورية وتندرج في خط الفكر السوري المستقل عن أي تأثير أجنبي، إغريقي أو روماني، وهي بكل تأكيد، فلسفة تختلف في مقاربتها للقضايا الفلسفية الكبرى، من مثل السؤال عن الكون والإنسان والمعرفة والقيمة والحقيقة، عن مقاربة الفكر الإغريقي أو سواه لهذه القضايا.

 

تعود جذوره إلى صيدون، والرواقية تختلف في مقاربتها للقضايا الفلسفية عن الفكر الإغريقي


إنه لمن المؤسف حقاً، أن تاريخ سوريا ــــ خصوصاً بعد موجة الفتوحات الكبرى التي تعرّضت لها، فتوحات الفرس والإغريق والرومان والعرب والفرنجة ـــــ كان يُكتب من قبل مؤرخي المدرسة الإغريقية ــ الرومانية. تلك المدرسة التي أغمطت السوريين حقهم في الإنتاج الفكري والملحمي والفني، ورمت إلى تشويه إبداعاتهم في المجالات الأخرى، وقد نال زينون وفلسفته من سهامها الكثير!


إن هذا التشويه لدور السوريين التمديني والتثقيفي في عالم المتوسط والانتقاص من حقوقهم فيه، مردّه إلى انهيار السيادة السورية، لأجيال طويلة، وانقطاع استمرار التاريخ القومي بعامل الغزوات الخارجية، العنيفة والمدمّرة، وإلى انعدام المصادر السورية التاريخية التي يجب اعتمادها، وحدها، في كتابة تاريخنا القومي، الفكري والسياسي والأدبي والفني والعسكري، وعدم التعويل كثيراً على المصادر الأجنبية التي، غالباً ما كانت – وما زالت - متحيّزة.


إن مساهمة إدمون ملحم في هذا الحقل المعرفي، عرضاً ومرافعةً، أتت متميزة. ولذلك، فأمثاله مدعوون لمتابعة البحث والتنقيب والمرافعة لإنصاف الفكر السوري وتأثيره العمراني ليس فقط في عالم المتوسط، في عهد زينون، بل في العالم كله!

 

 
التاريخ: 2022-08-12
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 12 آب 2022
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro