مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
فصل المقال في ما بين الأممية والقومية من اتصال
 
قراءة في كتاب سعاده إلى شارل مالك سنة 1938
حمية، علي
 

 

 

اضغط هنا لمشاهدة فيديو الندوة

 

مدخل

 

لم يفصل سعاده، فصلاً تاماً، بين الأممية والقومية، أو الكونية والمحليّة، كفكرتين متناقضتين كلياً،  أو كمجالين معزولين، أحدهما عن الآخر، في جزيرتين نائيتين، بل كان، على الرغم من دعوته إلى القومية السورية- والقومية لبعضهم تتناقض مع الأممية- وعلى الرغم من اتهامه بالشوفينية وكره الأجنبي من قبل سلطات الإنتداب الفرنسي- البريطاني على سورية والقوى المحلية المؤتمرة بأوامرها ، يؤكد، دائماً، على جدلية العلاقة بين الأممية والقومية، ذاهباً إلى القول أن سورية، بلاده، هي جزء من هذا العالم، بل هي القلب منه، إذ لم تبخل، يوماً، عن رفد العالم المتوسطي وما وراءه من عوالم أخرى، بكل علم وكل فكر وكل فن وكل صناعة أو غلال، بل ذهب أبعد من ذلك عندما تساءل في كتابه "نشوء الأمم"(1938): "هل يُصبح العالم كله أمة واحدة؟"، ويُجيب: "من يدري؟"، تاركاً لعوامل التواصل والتفاعل بين الشعوب تفعل فعلها في هذا الميدان.

 

هذه الفكرة الجدلية بين العالمية والقومية تظهر جلية في مؤلفات سعاده، خصوصاً في كتاب "نشوء الأمم" و "الصراع الفكري في الأدب السوري"(1942) و"المحاضرات العشر"(1948) وفي عشرات المقالات والخطب المبثوثة في مؤلفاته الأخرى، خصوصاً" كتابه إلى شارل مالك سنة 1938. فماذا جاء في هذا الكتاب/ الخطاب الذي سيشكل محور بحثنا:

 

 

أول نصّ إبداعي بالعربية:   

                                  

النص/ الخطاب عبارة عن كتاب" نقد وتوجيه"(1) أرسله انطون سعاده، صاحب الدعوة إلى القومية السورية الإجتماعية، إلى الدكتور شارل مالك، أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، في ربيع سنة 1938، يناقشه فيه رأيه في معنى الفلسفة، وفي علاقة الفكر بالأدب، والخاص بالعام، والمحلي بالكوني، والقومي بالعالمي (الأممي)– هذه العناوين التي كان مالك قد أثارها في محاضرة له ألقاها في الجامعة المذكورة، في السنة نفسها.

 

 

 

نص الكتاب

 

"عزيزي الدكتور مالك،

 

بسرور شديد تسلمت هديتك الثمينة "معنى الفلسفة"وقد قطعت مطالعتي جمهورية أفلاطون ومجرى أعمالي التفكيرية لأقرأ هذا الخطاب الجديد الذي تستحق زبدته أن تكون قسماً من مجرى بعثنا القومي الفكري، أو ظاهرة من ظواهر هذا البعث. وإني أحسبه أحد أدلّة يقظة الأمة السورية الفكرية.

 

لست أقصد القول إن "ما تعني الفلسفة" خطاب خطير إلى الدرجة القصوى في حدّ ذاته، بل إنّ خطورته قائمة في أنه يمثل أحد اتجاهات البعث القومي الفكري الفاعلة الموجهة، وكونه شيئاً في بدء البعث أو في نقطة الابتداء من التوجيه عظيماً بقدر عظم القصد منه.

 

ولست آخذ عليك محاولتك العظيمة التوفيق بين الفلسفة والعقل العادي حين تتكلم عن الشرق الأدنى بمعنى العالم العربي، وحين تحاول أن تخاطب الشرق الأدنى كله كما لو كنت تخاطب وحدة ثقافية فكرية يمكن أن تسمع خطابك وتتأثر به. فتنسى أن فاعلية الفكر هي التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق الذي تشمله، كما امتدّ الفكر السوري قديماً إلى الإغريق من غير أن يخاطبهم، وكما امتدّ الفكر الإغريقي إلى الأمم الغربية وشرقي المتوسط من غير أن يتصور إقليماً معيناً من أقاليم العالم ويخاطبه. وتنسى أن هذا الإقليم الكبير "الشرق الأدنى" ليس إلا شتاتاً من العمران ومن الإجتماع ومن الثقافة. فتخاطبه كما لو كان مجموعاً واحداً متجانساً متلاحماً فيذهب خطابك في دورة واسعة، فتقع بعض حباته على الصخر، وبعضها على الرمال المحرقة، وبعضها يذرّ على الأرض الصالحة ذراً من غير فلح وزرع، فإذا نبت أعطى غلة قليلة.

 

ولست آخذ عليك هذه المحاولة العقيمة حين تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية "الخاصة" العربية والإسلامية، ولا تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية الخاصة، السابقة الفلسفة العربية الإسلامية.

 

لا. لا آخذ عليك شيئاً من هذا لأني أوقن أن الفيلسوف المؤمن بحقيقته وحقيقة فلسفته لا يلبث أن يدرك عدم حاجته إلى وسائل العقل العادي ليشق الطريق لفلسفته، التي هي، في ذاتها، خروج على المعتاد. ولكني آخذ عليك هذه الحملة العنيفة علينا من أجل ما حلّ بأمّتنا، في العصور المتأخرة من الظلم والطغيان، اللذين أفقداها حيويتها الفلسفية، حتى ابتذل فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي. والإدراك العادي ليس مصيبة حلّت بنا وحدنا، بل حقيقة، عندنا منها ما عند غيرنا، مع اعتبار فارق المرتبة الثقافية بيننا وبين غيرنا.

 

إنك، يا أخي، تجور علينا كثيراً حين تستعمل هذه العبارة:

 

“I hardly think I am mistaken when I say that we do seem to have a very strong antiphilosophical streek in our very being”

 

وحين تقول إنه من المستحيل علينا أن نرتفع عن شهوات الجسد إلى الأفكار والحق والحب والوجدان. فقد جرى في الماضي، قبل نكباتنا العظيمة، أننا ارتفعنا فوق هذه الأمور الدانية إلى المرامي السامية من الفكر والحق والحب والوجدان. وها نحن نعود، وأنت في عداد حججنا، إلى الارتفاع من القاع الذي ألقتنا فيه النوازل التاريخية.

 

أرى جلياً أنك، بهذه الحملة الشديدة على شعبنا، تريد أن ترفعه وأن تعيد إليه حقيقته التي أضاعها. ولكني أرى أنّ في تعابيرك أحكاماً عليه تصغّره في عين نفسه وتجعله يفقد ثقته بحقيقته وبمؤهلاته للنهوض. إنك تكاد تنتقم منه، بدلاً من أن تؤدّبه وتعلمه.

 

ومع ذلك، فإني أرى كيف تعود فتدرك ذلك وتحاول أن تنتشله وتريه اتجاه النور. ولكني أعتقد أنه يكون قد خاف كثيراً من نفسه حتى لم تعد له بها ثقة ولم يعد يصلح لشيء سوى أن يكون قطعاً تحرك بالسياط والعصيّ.

 

كم أحببت حملتك على الإدراك العادي والتفكير المعتاد المسيطرين في مجتمعنا. وكم أحببت اتجاهك الصحيح نحو نور الحقيقة والجمال والحب والعدل. وثق أن شعبنا كله، كل الشعب السوري، مؤهل للأخذ بهذا الاتجاه بقيادة فلاسفته الذي يدركون حقيقة نفسيته التي كادت طبقات الحوادث التاريخية تطفئ نورها.

 

إذا كان معنى الفلسفة الفلاسفة أنفسهم، كما تقول، فأشد حاجة شعبنا إلى هذا المعنى. إنّ الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقّف وارتقى، والفلسفة تظل فلسفة. والعالم لا يحتاج فقط إلى الفلسفة، بل يحتاج إلى الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيث يوجد معطٍ يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل.

 

وإنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة.

 

وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تحدّق، من خلال هذه الأسماء، في الحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الحقائق والمرامي في أعماق نفسك وتحس تياراتها الخفية الجارية من تحت الطبقات التاريخية المطبقة عليها، فتكتشف نفسك - نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوّتها- فتخرج فيلسوفاً لا ناقل فلسفة. وحينئذٍ تجد الحلقة المفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منها. حينئذٍ لا تعود بك حاجة لمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة.

 

هذا هو فكري وشعوري في صدد خطابك الثمين، أقوله من أجل "نظام العقائد الأساسية" الضروري لتسديد حياة الأمة. واقبل احترامي الكلي وإخلاصي.

 

ولتحي سورية.

 

في 10 أبريل/نيسان 1938

 

الإمضاء: أنطون سعاده"

 

تكمن أهمية هذا النص/ الخطاب، على المستوى الفكري بعامة، والفلسفي بخاصة، في أنه:

 

أ- أول نصّ فلسفي إبداعي بالعربية في العصر الحديث، نص يؤسّس للقول الفلسفي بالعربية، من جهة، ويُحدّد شروط الإستقلال الفلسفي الصحيح، من جهة أخرى، بعد محاولات سابقة، أشبه ما تكون بالإرهاصات منها بالمحاولات الجادة، عرفها خطاب التنوير العربي، في مرحلة ما يُسمّى بـ "عصر النهضة"(1875- 1939) على يدّ فرنسيس المراش الحلبي في كتابه "غابة الحق"(1865) وفرح أنطون في روايتيه: “لدين والعلم والمال أو المدن الثلاث" (1903) و"الوحش الوحش الوحش أو سياحة في أرز لبنان"(1905)، محاولات أو قل: إرهاصات مزجت بين الفلسفة والعلم، والدين والسياسة، والإجتماع والإقتصاد، والواقع والخيال في نصوص شبه روائية، اعتمدت على النقل والترجمة والإقتباس، وجاهدت في  المواءمة بين آداب وفلسفات عصر التنوير الأوروبي، من جهة، وموروثات عهود الإنحطاط التي رزحت بلدان المشرق العربي، تحت وطأتها، زمناً طويلا، من جهة أخرى. وإذا وضعنا، جانباً، محاولة شبلي شميل الرائدة في ترجمة النظرية التطورية أو ما بات يُعرف بالعربية بـ "فلسفة النشوء والإرتقاء"(1885) والجهد الجبار الذي قام به لتعميمها في العالم العربي، لقلنا أن الفضاء العربي، في تلك الفترة، كان في شبه خواء فلسفي، بالمعنى الدقيق للعبارة.

 

لقد وجدت في هذا النص/ الخطاب ليس فقط البدايات الفلسفية لسعاده/ الشاب، بل البدايات الفلسفية الجادة الأولى في عالم اللغة العربية في العصر الحديث، إذ لم يسبق لي أن قرأت نصاً، باللغة العربية، يشبه هذا النصّ إن لجهة القضايا التي تناولها بالدرس، أو لجهة اللغة الجديدة التي صيغ فيها، أو لجهة المصطلحات التي استنبطها والمفردات التي استعملها، أو للمنهج الذي استخدمه للتأسيس لقول فلسفي جديد بالعربية ونظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن، بالعربية أيضاً!. الأمر الذي دفع أحد أساتذة الفلسفة في جامعة القاهرة إلى القول، بلفة الواثق العارف، في مؤتمر فلسفي في بيروت(2004): "لو أن سعاده لم يكتب إلا هذه السطور(أي الخطاب إلى مالك) في مجال الفلسفة لكفَته لأن يدخل في عداد الفلاسفة الكبار، فهي دليل على عقليته الفلسفية الفذّة، وعمق تفكيره الذي تجلى بأروع ما يكون في هذه السطور، وأكاد ألمح، بهذا التمييز، عنده، بين الفيلسوف وناقل الفلسفة، والمرسل والمتلقي، فوكو ورسل في تحليلاتهما لمنهج قراءة الخطاب وعلاقة العقل القائد بالعقول التابعة، وتوينبي في نظريته في قاعدة التحدي والإستجابة التي تسيّر الثقافات وتدفع عجلة الحضارة للتقدم"(2). مع أن الأول، أي فوكو، رحل بعد سعاده بـ 35 سنة (1984)، ورسل بـ 21 سنة (1970)، وتوينبي بـ 26 سنة.

 

 

ب- يرسم الخطاب/ النص صورة المشهد الفلسفي في المشرق العربي في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، فإذا هي صورة قاتمة انحطّ فيها التفكير الفلسفي من جراء قرون الانحطاط المتطاولة والفتوحات الأجنبية المتعاقبة التي تلت سقوط الدولة السورية، حقبة العهد العباسي، إلى درجة "ابتذل" فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي السطحي. كل ذلك، على الرغم من التباشير بنهضة جديدة حملها النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قرن العلم والثورات الكبرى، الصناعية والفكرية والسياسية، على ما يذهب، فخوراً، فرنسيس المراش الحلبي في مقاله المشهور: “القرن التاسع عشر". ولكن نص سعاده، على عكس نص مالك، لا ينتهي برسم هذه الصورة البائسة للمشهد الفلسفي في المشرق العربي بخاصة وفي العالم بعامة، ولا يُقفل الباب في وجه أية محاولة تغييرية واعدة، بل يُبقيه مفتوحاً أمام الشعوب الحيّة، الناهضة، لتستعيد حيويتها الفلسفية بقيادة "فلاسفتها العظام" كما جاء في الكتاب.

 

 

ج- يطرح الخطاب تصوراً جديداً لمفهوم الفلسفة ودورها، تصوراً لم تعرفه هذه البلاد في تاريخها البعيد والقريب، فيميز، على هذا الصعيد، بين التفكير الفلسفي والتفكير العادي، من جهة وبين الفيلسوف وناقل الفلسفة، من جهة ثانية، مبرزاً دور الفيلسوف الذي يدرك، قبل غيره، نفسية شعبة الحقيقية التي كادت الحوادث التاريخية المتعاقبة، عندنا في المشرق المتوسطي، أن تطفئ نورها تحت طبقاتها المتراكمة، فيكشف هو عن هذه النفسية الأصلية التي تشي، برأيه، بكل حق وكل خير وكل جمال في العالم.

 

د- يعيّن النص شروط تطور الفكر الفلسفي من الحيّز القومي الخاص إلى الفضاء العالمي العام، أو ما يُعرف، اليوم، بـ "جدلية الكونية والخصوصية"، فيرى أن جودة الخطاب الفلسفي ورغبة الفيلسوف في أن يكون عالمياً عنصران لا يحددان، مجتمعين أو منفصلين، هذه السيرورة (الprocessus) من الخصوصية إلى الكونية، ومن القومية إلى العالمية، كما يزعم عدد كبير من المشتغلين في الفكر والفلسفة. إن ما يحدّد هذه السيرورة من الخصوصية إلى الكونية، على الصعيد الفلسفي، هو ما يسميها سعاده بـ"فاعلية الفكر" التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق العالمي أو على جزء منه. وإن ما يُحدّد هذه السيرورة، على الصعيد الأدبي والفني، هو التصاق الأديب او الفنان بخصوصية تجربته المجتمعية، والتزامه التعبير عنها بكل ما أوتي من عبقرية وإبداع. فبقدر ما يلتصق الأديب أو الفنان بهذه التجربة بقدر ما يستطيع الإنطلاق منها إلى رحاب العالمية بتلقائية غير مقيّدة بحاجز من جغرافية أو خصوصية ثقافية، محققاً بهذه النقلة التلقائية ذلك التطابق التام بين الهمّ القومي بتفاصيله الخصوصية والهموم الإنسانية بعموميتها، حيث يمتلك الجزء (أي المجتمع القومي) قوة أو فاعلية التعبير عن كلية إنسانية أشمل. 

 

ه- يكشف النص الأهمية التي أولاها سعاده للفلسفة والتفكير الفلسفي والاستقلال الفلسفي، بالنسبة لحركة النهضة القومية الناشئة حديثاً في المشرق العربي، في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، ولكل حركة نهضوية قومية، بشكل عام، فينشئ المؤسسات الثقافية العامة التي تعنى بالفكر والفلسفة تحديداً، منذ بداية دعوته القومية. هذه الناحية من الخطاب أسّست لنظرية الإستقلال الفلسفي، في الفكر العربي المعاصر، والتي أبدع ناصيف نصّار في شرحها في كتابه الطليعي “طريق الإستقلال الفلسفي"(1977).

 

و- يؤسس هذا الكتاب للاتجاه الفلسفي الجديد الذي اختطه سعاده لحركته القومية ولشعبه وأمته، والذي بدأت ملامحه تظهر في كتاباته الأولى في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، واتخّذ شكله النهائي عشية استشهاده في أواخر الأربعينيات من القرن نفسه.

 

 

 

تمهيد:

 

هذا النص، إذاً، عبارة عن كتاب وجهه أنطون سعاده إلى شارل مالك العائد حديثاً، دكتوراً في الفلسفة، من الولايات المتحدة الأميركية في أوائل سنة 1937، والمتعاقد للتدريس في "كلية البنات" التابعة للجامعة الأميركية في بيروت، وكان صيته قد سبقه إليها قبل وصوله بفترة.

 

أما المناسبة فتعود إلى خطاب بالإنكليزية في "معنى الفلسفة" ألقاه الدكتور مالك في طلاب الكلية المذكورة وأهدى نسخة مطبوعة منه إلى سعاده الذي كان، يومذاك، محور المشتغلين بالفكر عموماً وبالقضية القومية خصوصاً، فقرأه سعاده وكتب إليه باسطاً رأيه في الخطاب بشكل عام، وفي القضايا الأساسية التي أثارها بشكل خاص.

 

وكان سعاده ومالك قد تعارفا منذ عودة الأخير إلى بيروت والتحاقه مدرساً للفلسفة في الجامعة الأميركية التي كان سبقه إليها سعاده مدرساً للغة الألمانية، كمادة اختيارية، وناشطاً في أوساط الطلبة والمدرسين، بدءاً من العام الدراسي 1932-1933. وما لبثت أواصر الصداقة أن توطّدت بين الرجلين فانتشرت أخبارهما في الأوساط الفكرية في بيروت وخارجها. واقترب الدكتور مالك، بالفكر والروح، من الحركة القومية الاجتماعية التي كان سعاده قد أسّسها في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، لأنه رأى في أتباعها، كما قال، "ميزة فكرية صحيحة"، ووجد فيهم "أقوى عناصر الفكر". وتبين له أنها حركة تشتمل على "كل العناصر الفلسفية التي تجعل منها قضية صحيحة، واضحة، كلية ذات نظرة شاملة إلى الحياة والكون والفن"، على ما جاء في اعترافه لسعاده في أحد الاجتماعات بينهما ونقلته مجلة "النظام الجديد"، عندما نشرت كتاب سعاده إلى مالك.

 

ونظراً للقيمة الفكرية العالية التي يتميز بها هذا النص، وما يحمل من دعوة صريحة إلى التفلسف والاستقلال الفلسفي في ذلك العهد المبكر – والأمة مغلولة اليدين تراوح في مكانها، حائرة، بين التمسك بالقديم، والتطلع إلى الجديد – وجدت أنه لم ينل ما يستحق من الدرس والاهتمام، ولم يستفد المشتغلون بالفكر عموماً والفلسفة خصوصاً من مخزونه الفكري العميق، ولم يوظف في المحاولات التائقة إلى التأسيس لقول فلسفي جديد باللغة العربية وفلسفة عربية جديدة، على الرغم من الصيحات التي ما انفكّت تشكو، هنا وهناك، غياب ذلك النص الأصيل وتلك الفلسفة المستقلة.

 

هذه الناحية من النص – بالتحديد- هي ما شغفتني به منذ قرأته، لأول مرة، في سنة 1978، ودفعتني إلى إخراجه، من عتمة النسيان إلى دائرة الضوء، نصاً أصيلاً، ومعاصراً، إنصافاً لكاتبه، وخدمة للفكر العربي الذي لا يزال ينقصه الكثير في الإنتاج الفلسفي.

 

 

 

القضايا الفكرية الأساسية: 

                                                           

يطرح النص عدداً من القضايا الفكرية الأساسية نستعرض أهمها تباعاً:

 

  1. القضية الأولى تدور حول أهمية الموضوع الذي تناوله الد كتور مالك في خطابه، ألا وهو "معنى الفلسفة"، ما دفع سعاده، فور استلامه نسخة منه، إلى قطع مطالعته "جمهورية" أفلاطون، على ما ذكر في كتابه إلى مالك، ليتفرغ إلى قراءته، ويوجّه، بعدها، إليه كتاباً يضمّنه رأيه في الخطاب وفي المشكلات الفكرية التي أثارها، وليوعز سعاده بنشره، بعد عشر سنوات (1948) - وقد انقلب الدكتور مالك من صديق إلى خصم- في مجلة "النظام الجديد"، المتخصصة في الأبحاث الفكرية والفلسفية.

 

 

2. القضية الثانية تتناول ما يسميها سعاده بـ"فاعلية الفكر"، وهو مصطلح يُعبّر فيه عن دور الفكر في تجاوز الجغرافية والحدود القومية. ففي كتابه إلى مالك، يطرح سعاده مجموعة أسئلة: متى يصبح الفكر عالمياً؟ بل متى يصبح لنا، كسوريين، فكر عالمي؟ وكيف؟ وهل العالمية في الفكر (أو الفلسفة) تتحقق بمجرد أن يخاطب مفكر (أو فيلسوف) العالم كله، بلغات العالم كلها، أوبلغة واحدة سائدة على الصعيد العالمي، كالإنكليزية مثلاً؟ أم أن "العالمية" ترتبط بـ "فاعلية الفكر"، هذه الفاعلية التي تنشدها كل أمة حيّة تائقة إلى تحقيق نهضتها القومية، داخلياً وإلى تعميم نظرتها إلى الحياة والكون والفن، عالمياً؟.

 

بعد سنوات قليلة من كتابه إلى شارل مالك، وفي مناقشته لآراء كبار كتاب سورية ومصر، خصوصاً الريحاني وخليل مطران والعقاد وحسين هيكل وطه حسين، في أجوبتهم على سؤال مجلة "الهلال" سنة 1933 "هل يصبح لنا أدب عالمي؟ "، يستعيد سعاده الفكرة نفسها، ولكن من زاويتها الأدبية هذه المرة، في كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري"(1942)، فقد وجد أن العقاد فهم من الأدب العالمي "انتشار الكتب بواسطة الترجمة والطبع في مختلف اللغات، لا قيمة الأدب العالمية". ورأى أن توفر المترجمين والطباعة الحسنة وشركات النشر والتوزيع ونسبة عدد القراء وغيرها من عوامل النشر الأخرى التي يعوّل عليها العقاد كثيراً لجعل الأدب القومي أدباً عالميا " تشكل أموراً سطحية لا يمكن أن يقوم عليها أدب عالمي لأمة من الأمم". واعتبر كلام طه حسين عن "ضعف اتصال" أدباء العربية بالآداب الأجنبية كسبب للضعف الحاصل في النهضة الأدبية والفكرية، كلاماً شكلياً لا أساسياً، لأن الاتصال بالآداب الأجنبية – على أهميته- لا يصنع أدباً جديداً، ولا يرتقي بأدب الأمة إلى مرتبة الأدب العالمي.

 

 

 

فاعلية الفكر في الفلسفة

 

في كلامه عن شرط "الفاعلية" في الفكر (أو الفلسفة)، يأخذ سعاده على مالك ما أسماها محاولته "العقيمة" في مخاطبة الشرق الأدنى كله دفعة واحدة (أي التوجه إلى شعوبه وأقوامه، كلها، في خطاب بليغ أو نظرية جديدة أو مقالة مبتكرة)، ظناً منه أن مخاطبة إقليم كبير مترامي الأطراف، متعدّد الثقافات، كالشرق الأدنى، تجعل من مالك، أو من غيره من الطامحين إلى العالمية، مفكراً عالمياً، أو مفكراً إقليمياً، على أقل تعديل، فينسى هو وأمثاله أن الشرق الأدنى، في حقيقته الإجتماعية وتركيبه الأتنولوجي وأمزجة شعوبه النفسية والشعورية والروحية ، ليس مجموعاً ثقافياً واحداً يمكن أن يسمع خطابه ويتأثر به، بل هو مجموعات ثقافية متنوعة وأحياناً متصادمة، فضلاً عن أنه، في هيئته الإجتماعية، شتات من العمران ومن الاجتماع، لا مجتمع واحد! ولذلك يرى سعاده أنه من العبث أن يخاطب فيلسوف الشرق الأدنى كما لو كان هذا "الشرق" مجموعاً واحداً، من العمران والثقافة والاجتماع، لأن خطابه، في هكذا حالة، يذهب في دورة واسعة متشعبة "فتقع بعض حباته على الصخر، وبعضها على الرمال المحرقة، وبعضها يذرّ على الأرض الصالحة ذرّاً من غير فلح وزرع، فإذا نبت أعطى غلة قليلة!".

 

ليست هذه، إذاً، هي الطريقة الصحيحة ليصبح لنا - أو لغيرنا- فكر عالمي وفلسفة عالمية. إن "فاعلية الفكر" المنبثقة عن نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن (أي عن فلسفة أصلية) هي، وحدها، التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق الذي تشمله فيمتدّ الفكر(ينتشر) أو يتقلّص، جغرافياً، بحسب فاعليته، مداً، أو جزراً؛ ولا تكفي رغبة الفيلسوف في أن يكون، هو أو شعبه أو كلاهما، عالمياً حتى يصير كذلك، لأن خطابه – مهما يكن بليغاً- سيبقى أمر نجاحه مرهوناً بمدى فاعلية الفكر الذي يمثّل وليس بكثرة الجموع التي يعتقد، واهماً، أنه يخاطبها كلها وأنها تسمع خطابه وتتجاوب معه.

 

"فاعلية الفكر" التي يختزنها الإنتاج الفكري من جهة، وحصول "النظرة الجديدة" إلى الحياة والعالم من جهة ثانية، هما، عند سعاده، الشرطان الأساسيان ليصبح لنا فكر عالمي، بل يمكن القول أنهما شرطان في شرط واحد لأن "الفاعلية" بنت النظرة الجديدة، فحيث لا توجد نظرة أصلية جديدة منبثقة من حقيقة الشعب نفسه لا يوجد فكر فاعل في محيطه وفي العالم أجمع. إن العالمية في الفكر بعامة وفي الفلسفة بخاصة يفرضها الفكر الحي نفسه بما يحمل من قضايا إنسانية عميقة، وفاقاً لنظرة أصلية جديدة إلى الإنسان والتاريخ والحياة.

 

ويعطي سعاده مثلين أو أنموذجين على شرط "الفاعلية الفكرية" التي تجعل من فكر ما فكراً عالمياً أو كونياً: الأول هو امتداد "الفكر السوري" قديماً إلى اليونانيين، من غير أن يخاطبهم في لغتهم أو في ديارهم أو في مصالحهم المباشرة، امتداد حصل بواسطة الأساطير والملاحم الأدبية الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية التي أثرت تأثيراً كبيراً في الأساطير الإغرقية وساعدت على نشوء الشعر الكلاسيكي والتفكير الفلسفي(3) والثاني هو امتداد "الفكر اليوناني" إلى الأمم الغربية، وشرقي المتوسط، من غير أن يتصوّر إقليماً معيّناً من أقاليم العالم ويخاطبه".

 

وقد توسّع ناصيف نصار، حديثاً، في هذه الفكرة في كتابه "الإشارات والمسالك" (2011) الذي ردّ في أحد فصوله على أطروحة طه عبد الرحمن في"الحق العربي في الإختلاف الفلسفي"(2009) والتي تناول فيها مسائل فلسفية كالخصوصية والكونية، والتواصل، والمجال التداولي، وقومية الفلسفة. وإذا كان عبد الرحمن يؤسس أطروحته على مبدأ الصراع بدل التواصل مع الآخر، فإن نصار يطرح التواصل مع الآخر، على قاعدة الكونية والخصوصية، في تمايزهما، الواحدة عن الأخرى، كما في تفاعلهما، متابعاً ما طرحه، في كتابه "طريق الإستقلال الفلسفي" (1975)، من اجتهادات بهذا الخصوص. فإذا كان موضوع الفيلسوف، بحسب نصار، هو الإنسان، فإن خطاب الفيلسوف هو خطاب الإنسان مفكراً بعقله في ذاته وفي العالم حوله. هذا هو معنى كونيته. أما من جهة خصوصيته، فالفيلسوف، بوصفه صانع الفلسفة وصنيعتها في آن، هو شخص حيّ، يعيش ويفكر في مجتمع معين له تاريخه الخاص، وبالتالي، فإن تفكيره، موضوعاً ومنهجاً، يتشكل تحت شرط الخصوصية. لا يُمكن أن نتواصل مع فلسفة هايدغر، مثلاً، من دون أن نأخذ في الإعتبار شخصيته، ووضع الأمة الألمانية في أيامه، وخصائص اللسان الألماني وانشغافه به، وحالة الحضارة الغربية / الأوروبية في القرن العشرين، يقول نصّار؟ حجته، أن فلسفة هايدغر لم تتكوّن أصلاً خارجاً عن تأثيرات هذه الخصوصيات الألمانية والأوروبية بعامة. إن الفكر العربي المعاصر، لا سيما الخطاب الفلسفي، يخلص نصّار إلى القول، محكوم بالتواصل الإيجابي مع الفكر الآخر، لا سيما الغربي، لا بالصراع التصادمي، شرط أن لا يؤدي هذا التواصل إلى التغريب أو التبعية أو محاكاة الآخر ببغائيا أو الإنجرار الأعمى وراءه، بل إلى التفاعل الخلاق على قاعدة الكونية والخصوصية(4).

 

 

 

فاعلية الفكر في الأدب وسائر الفنون

 

إن ما يقوله سعاده عن شرط "الفاعلية" في الفلسفة والفكر عموماً يعمّمه على الأدب وسائر الفنون الأخرى، فالأدب من حيث هو صناعة يُقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يُمكن أن يُحدث تجديداً أو توقاً إلى العالمية من تلقاء نفسه، فهو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور- في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. بهذا الإتجاه الجديد يمكن أن يترافق الأدب والحياة، فيكون لنا أدب جديد لحياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه، فهم نابع عن نظرة جديدة أصلية للحياة والكون والفن لا يُمكن بدونها أن ينهض الأدب، ولا أن يصير لنا أدب عالمي يسترعي اهتمام العالم وتكون له قيمة عالمية. فإذا نشأت هذه النظرة الجديدة أوجدت فهماً جديداً للقضايا الإنسانية، كقضية الفرد والمجتمع وقضية الحرية وقضية الحق وغيرها. وبعض هذه القضايا يكون قديماً فيتجدّد بحصول النظرة الجديدة وبعضها ينشأ بنشوء هذه النظرة(5).

 

إنطلاقاً من هذا الفهم للتجديد الأدبي المشروط بحصول النظرة الجديدة إلى الحياة، يُبرّر سعاده تناول بعض المواضيع الأجنبية، بعد نشوء الأدب القومي الخاص على نظرة أصلية إلى الحياة ، فيكون تناول تلك المواضيع بهذه النظرة الجديدة أو بهذا الوعي الجديد الذي له خصائصه فيُكسبها من خصائصه ما يضيف إليها ألواناً وأشكالاً متميّزة. ولكنه يشترط أن تكون تلك المواضيع ذات أهمية خارقة، تاريخية أو حقوقية أو إنسانية، قابلة الإشتراك بين الشعوب أو بين بعضها(6). ويعطي، مثلاً، فردريك شلر، الشاعر المسرحي والكاتب الألماني الشهير (1759-1805) الذي ألف سنة 1801"عذراء أورليان" (Die Jungfrau Von Orleans) أو جان دارك، البطلة الفرنسية. ولكن هذه المسرحية ليست العمل الذي أعطى شلر مقامه الأدبي والمنزلة العالمية في الأدب، على ما يُجمع النقاد، بل روايته الشعرية "حرب الثلاثين سنة"(1618-1648) التي جرت في ألمانية بين الكاثوليك والبروتستانت. الموضوع، هنا، ألماني صميم، مع أن غستاف أدلف بطل البروتستانت في الرواية /المسرحية هو ملك أسوج (غير الألماني) وقد تدخل في شؤون النزاع الديني الألماني ودخل في تاريخ ألمانية. الموضوع وسياقه، يقول سعاده، أبرزا شاعرية ممتازة وجدت نفسها في بيئتها وفي بيتها، وتمنى أن تكون صورة أبطال سورية في قصائد شعرائها أبهى سناءً من قصيدة شلر في ولنشتين، بطل الكاثوليك في الرواية، وجديرة مثلها باحتلال مركز عالمي ممتاز(7).

 

 

3- القضية الثالثة تتمحور حول ماهية الفلسفة وضرورتها والحاجة إليها في بداية حياتنا القومية؟

 

يُميّز سعاده، هنا، بين ما يُسمّيه: الإدراك العالي والإدراك العادي، والفيلسوف وناقل الفلسفة، كما يُميّز بين الفلاسفة كمبدعين وبين المرامي النفسية الأخيرة التي يُنشدها هؤلاء المبدعون في أفكارهم وفلسفاتهم.   

   

ويخلص سعاده إلى القول، في هذه المسألة، أن الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقف وارتقى لأنه سيبقى مشغوفاً بالوقائع المتغيرة الماثلة أمامه، لأنه لا يطيق أن يجهد نفسه في البحث والتقصّي عن حقائقها الأساسية وأبعادها النفسية؛ وإن الفلسفة ستظل فلسفة لأن العقل الفلسفي لا ينحطّ إلى الأمور الدانية ولا ينفعل، بالحوادث الجارية؛ غير أنه لا مناص، في الأخير، من تدبّر كلا الفهمين معاً: الإدراك العادي السطحي والإدراك الفلسفي، لأن العالم يحتاج إلى الإدراك العادي حاجته إلى الإدراك الفلسفي العالي انطلاقاً من بديهة مؤداها أنه : حيث يوجد عقلُ معطٍ مبدع يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل!..

 

وعليه، يصبح الناظر في الحقائق النفسية الأخيرة فيلسوفاً، في حين يبقى المأخوذ بالأسماء الفلسفية الكبيرة، ناقلاً للفلسفة. ولذلك يخترق العقل الفلسفي الحواجز، بين مختلف الثقافات والأمم، فيمتدّ إلى ما وراء حدود الأمة، ويفرض نفسه واتجاهه على النطاق الذي يشمله، بفعله وفاعليته، من غير أن يتصوره، مسبقاً، كنطاق أو إقليم محدّد، أو يخاطبه مستهدفاً إياه، تحديداً.

 

هكذا نجد "الحلقة المفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي، وندرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية الأمة وقبول الشعوب القريبة منها، ولا يعود، عندها، حاجة لان ينادي فلاسفتنا الشرق الأدنى أو العالم العربي لان فلسفة أمتهم تكون قد أصبحت فاعلة".

 

هذا الكلام لسعاده المشبع بنقد عميق للتيارات الفكرية الغربية الوافدة وللمتأثرين بها في بلاده وفي دنيا العرب قاطبة، والمتضمن شرط حصول النظرة الجديدة إلى الحياة في كل طموح، فردي أو جمعي، نحو العالمية في الفكر أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، جاء في مرحلة حرجة، سياسياً وفكرياً، على الصعيد العالمي، هي المرحلة الفاصلة بين  الحربين العالميتين، الأولى والثانية، حيث أخذت الفلسفات الوجودية والكيانية والشخصانية مكانها إلى جانب الفلسفات الماركسية والوضعية والمثالية في العالم العربي، وظهر مبشرون بها ودعاة لها من بينهم شارل مالك، وفايز صايغ في سورية، وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي في مصر. وأدّى تسرّب هذه الأفكار إلى إهمال مثقفينا حاجة بلادهم الحقيقية إلى فلسفات أصلية نابعة من صميم واقعها وملبية لطموحات أبنائها إلى السيادة والتقدم، واتجاههم إلى اقتباس هذه الأفكار بكليتها من دون أي نقد لها.

 

 

قواعد المنهج النقدي

 

وقد سجل سعاده الملاحظات النقدية التالية التي شكلت قواعد منهجه الفلسفي:

 

  1. إقبال مثقفينا على الأفكار الوافدة بدون أن يكون لهم رأي وموقف صريحين منها لا يؤدي إلى إبداع فكر أصيل.

 

  1. عاب على مثقفينا ما اسماه "التكلم المبعثر" الذي انخرطوا فيه في الوقت الذي كان يجب أن يدققوا في الأفكار والمفكرين الغربيين قبل أن يقبلوا هذه الأفكار أو يتأثروا بأصحابها.

 

 

  1. فرّق بين ما يمكن تسميته "الفكر الفطري" و"الفكر المضطرب". الأول، على سذاجته، هو أكثر استقلالاً فلسفياً ونفسياً، والثاني هو أكثر تبعية وإثارة للبلبلة والتخبط الفكريين.

 

  1. ميّز بوضوح بين الإدراك العادي والإدراك العالي، وبين ناقل الفلسفة والفيلسوف وأظهر حاجتنا الماسة إلى التفلسف الصحيح.

 

 

  1. الأفكار المقتبسة من الخارج لا تعبر، برأيه، عن عوامل النفسية الصحيحة، وحدها النظرة الأصلية المنبثقة عن نفسيتنا الحقيقية تستطيع أن تقوم بهذه المهمة الجليلة.

 

  1. النهضة هي خروج من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي إلى نظرة جلية، واضحة، إلى الحياة والعالم.

 

 

 

مركز النص من العمارة الفكرية

 

بعد هذا العرض للأفكار وبالتالي للانتقادات والتوجيهات التي ضمّنها سعاده كتابه إلى شارل مالك، ننتقل إلى تعيين موقع هذا النص من العمارة الفكرية التي أرسى قواعدها سعاده والتي ندر مثيلها في الشرق الأدنى كله، على ما أجمع معظم النقاد(8).

 

كتب سعاده هذا النص في ربيع سنة 1938، وكان يومها قد خرج منتصراً من ثلاثة اختبارات قاسية واجه فيها قوى الانتداب الفرنسي- البريطاني في سورية وقوى الرجعية المحلية المرتبطة بها، وكان قد أنجز في صيف سنة 1936 "شرح مبادئ" الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأنشأ في خريف سنة 1937 "الندوة الثقافية" ووضع "دستور الحزب"، ونشر في ربيع سنة 1938 كتابه العلمي الرائد "نشوء الأمم"، وقد أظهر في هذه الأعمال كلها، وفي فترة لم تتجاوز الخمس سنوات، تميزاً واضحاً عن جميع الذين اشتغلوا في سياسة البلاد وقضيتها القومية: ففي حين ثبُت موقفه على الأساس القومي بعد أن أوصلته دروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى تحديد مفهوم الأمة، بشكل علمي، لأول مرة، وتعيين حقيقة أمته تعييناً مضبوطاً بالعلوم الحديثة، استقرت مواقف السياسيين الآخرين على الأساس السياسي، و"السياسة من أجل السياسة" لا يمكن أن تكون عملاً قومياً، بالمعنى الصحيح، كما جاء في رسالته من السجن إلى محاميه حميد فرنجيه في سنة 1935.

 

وفي حين أعلن سعاده في  تلك السنة قيام الدولة القومية مصغّرة في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّس، محارباً الدعاوات الأجنبية، وخصوصاً الألمانية والإيطالية، واضعاً قواعد الاستقلال الفكري، ورابطاً مصير الأمة بإرادتها هي بعد أن كانت مرهونة للإرادات الأجنبية، كانت جماعات كثيرة من المثقفين والسياسيين والمتزعمين الذين تخرجوا من المعاهد العلمية الأجنبية ضائعة، مضطربة، مشوشة، مجرّدة من الثقة بمواهب الأمة، معترفة بعدم جدارة الشعب بالتطلّع إلى السيادة القومية، مقتنعة بان الحال الراهنة أمر إلهي أو طبيعي لا سبيل إلى تغييره، مبررة ضعفها وترددها، في كل مرة، بمركز(موقع) البلاد الذي يجعلها مطمح أنظار الدول القوية، منتهزة كل فرصة لإقامة الدليل على عدم جدارة الأمة بالنهوض وعدم أهليتها للتطلع إلى الاستقلال(9).

 

بهذا المعنى، يمكن القول أن ظهور سعاده في هذه البلاد شكّل حادثاً خطيراً جداً، ففضلاً عن درسه المسألة القومية ومسألة الجماعات عموماً والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها، واختطاطه طريق نهضة قومية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية المتضاربة وتوحيدها في عقيدة واحدة وتوليد العصبية القومية الضرورية للدفاع عن حقوق الأمة ومصالحها في الحياة.. أوجد، لأول مرة، في تاريخ البلاد الحديث، قضية الفكر الفلسفي الأساسي، ووضع أمام العقل قضايا الحياة والوجود الكبرى وقضايا الحياة العملية.

 

لقد حرص سعاده، منذ البداية، على التأسيس للوعي الفلسفي، والتفكير الفلسفي، والإنتاج الفلسفي، مما دعا ناصيف نصار إلى القول: "لا يجوز إغفال كونه (سعاده) من أكثر السياسيين في جيله اهتماماً بالفلسفة، وتشديداً على ضرورتها للحركة الثورية، واجتهاداً في سبيل تعيين القواعد الفلسفية لعقيدته" (10). وقد ذهب كمال يوسف الحاج قبله إلى القول أن "أنطون سعاده دفع بالسياسة والفلسفة إلى آخر حدود الالتزام، إلى التحزب بالحزب، وفي الحزب تسيّست الفلسفة وتفلسفت السياسة. إن سعاده فيلسوف قبل كل شيء وفوق كل شيء... بفضله، ولأول مرة، تتفلسف الحزبية فتتحزّب الفلسفة" (11).

 

إنها المرة الأولى، بلا شك، في تاريخ العالم العربي الحديث، يتنبه فيها مفكر قومي، إلى أهمية الثقافة بعامة والفلسفة بخاصة لحركة التحرّر الوطني، فيُنشئ في حزبه "ندوة ثقافية" و"عمدة (وزارة) للثقافة والفنون الجميلة" في خريف سنة 1937 "لنقل الفكر من السطحيات ومسائل الإدراك العادي إلى الأساسيات وقضايا العقل العلمي والفلسفي" كما جاء في تعريفه للندوة الثقافية وأعمالها(12). ويوكل أمر هاتين المؤسستين إلى مفكرين كبار، من أمثال: فخري المعلوف، كريم عزقول، يوسف الخال، لبيب زويا، جورج عطية، فؤاد سليمان، هشام شرابي، أدونيس وحليم بركات.

 

جاء في "قانون الندوة الثقافية" الذي أصدره بمرسوم في سنة 1948، أي بعد عشر سنوات على إنشائها، إن غايتها "التعمق في درس التعاليم القومية الاجتماعية المتضمّنة في المبادئ والشروح التعليمية والتمكن منها، وإيضاح المبادئ والقيم والقواعد القومية الاجتماعية والقضية الناشئة عنها والنظرة إلى الحياة والكون والفن الحاصلة منها، والمسائل والقضايا التي تعالجها(..) وبعث التراث السوري الفكري والإنتاج الدراسي والأدبي والفني على هذه الخطط، إحياءً للقيام الجديدة وتحقيقاً للثقافة السورية القومية الاجتماعية المشتملة عليها" (13).

 

وجاء في الفقرة (ب)، من المادة الخامسة، من القسم الأول، من القانون نفسه التي تحدد شروط العضوية في الندوة: أن يكون العضو "فاهماً الفلسفة القومية الاجتماعية، ونظرتها إلى الحياة والكون والفن(..) متفهماً القضايا الفكرية الأساسية والمشاكل العملية على ضوئها" (14).

 

وجاء في الفقرة (د) من المادة نفسها "أن يكون العضو دارساً منتجاً إنتاجاً(...) صحيحاً، وأن يُعدّ درساً واحداً، على الأقل، في السنة يحمل نظرة النهضة القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن" (15).

 

وجاء في المادة السادسة عشر تشكيل ثلاث لجان رئيسية دائمة في الندوة أولها "لجنة الأبحاث الفلسفية" (16).

 

 

النص نواة أولى لفكر سعاده الفلسفي

 

إذا كان كتاب "نشوء الأمم" لسعاده يتضمن تحديده لمفهوم الأمة وكيفية نشوئها ومحلها في سياق التطور الإنساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع، متجنباً فيه الخوض في التأويلات والاستنتاجات الفلسفية، فإن كتاب "النقد والتوجيه" إلى الدكتور مالك يشكل النواة الأولى لتفكيره الفلسفي الذي تطوّر لاحقاً حتى اخذ شكله النهائي، في أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم.

 

 بعد سنة ونيف على هذا الكتاب (كانون الأول 1939) وقد انفجرت الحرب العالمية الثانية ودخل العالم في نفق مظلم جراء الصراع العنيف الذي شطره شطرين، أحدهما "ديمقراطي" والآخر "كلي"، يعلن سعاده من بينوس آيرس، في الأرجنتين، إن بلاده لا تقف "مكتوفة اليدين" تجاه هذا الصراع الهائل، وإن النهضة القومية تقول: "إن ليس بالمبدأ المادي ]الماركسي/الاشتراكي[ وحده يُفسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظام عام ثابت في العالم، وأنه ليس بالمبدأ الروحي ]الفاشي/النازي[ وحده يحدث ذلك(..) وإن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامع - بفلسفة جديدة تقول أن المادة والروح ضروريان كلاهما للعالم"(17).

 

ويضيف في الخطاب نفسه، منتقداً دعوة كل من الطرفين المتحاربين إلى إقامة نظام جديد للعالم وفق مبادئه ومصالحه:"إن النظام الجديد للعالم لا يمكن أن يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادة(..) بل على قاعدة التفاعل الروحي- المادي(...) وإن النهضة القومية الاجتماعية تتقدم إلى العالم واثقة أنه يجد فيها الحلّ الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المعقدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئنّ إليه الجماعات الإنسانية كلها وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واطراد الارتقاء في سلم الحياة الجديدة"(18).

 

في هذا النص (خطاب الأرجنتين، سنة 1939) يكشف سعاده، لأول مرة، عن انه صاحب فلسفة جديدة هي الفلسفة المدرحية التي تحمل تصوراً جديداً للعالم، وإن كانت هذه الفلسفة مبثوثة، من قبل، في كتاباته الأولى، لا سيما في رسالته إلى المهاجرين السوريين في سنة 1934، وخطابه المنهاجي في سنة 1935، ورسالته إلى حميد فرنجية في سنة 1935 أيضاً، وشرح مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1936، ودفاعه أمام "المحكمة المختلطة" في سنة 1936 أيضاً، ورسالته الثانية إلى المهاجرين السوريين في سنة 1937.

 

ثم أن هذا النص هو أول نص فلسفي في اللغة العربية، في العصر الحديث، يقدّم تأويلاً جديداً لمفهوم التطور الإنساني، من خارج التفسيرات الكلاسيكية التقليدية التي تقاربه عادة بوصفه ناجماً إما عن عوامل مادية بحت وإما عن عوامل روحية بحت. كما أنه أول نصّ يطرح تصوراً مختلفاً للنظام العالمي الجديد الذي بدأ يتبلور، خلال الحرب العالمية الثانية، على قاعدة التصادم لا التفاعل بين القوى المادية والقوى الروحية.

 

وهو، أخيراً، نص متميز بلغته ومفرداته، فضلاً عن موضوعه، مما يدل على أن سعاده لا يتناول في تحليلاته مسائل فلسفية عادية كما يفعل أكثر الفلاسفة في بدايات تفلسفهم، بل يشكّ نظره في القضايا الجوهرية الكبرى، من مثل قضية التطور الإنساني التي يتمحور حولها هذا النص. وهذا يدل على أن سعاده – مثلما هو صاحب نظرة- هو أيضاً صاحب منهج في التفكير: منهج يأخذ المسائل من أساسها، فيهتم بالأصول قبل الفروع، ولا يذهب أفقياً مندفعاً مع رياح النزعات الجامحة، العارضة، بل يتعمق، عمودياً أولاً، حتى يبلغ الأساس، ومن ثمّ يعود فيمتد أفقياً. إن تفكير سعاده هو تفكير هندسي راسخ، لا تفكير حسابي عددي أولي، كما يقول هو عن نفسه في احد مقالاته(19).

 

ويتابع سعاده في مقالات وخطب لاحقة التبشير بفلسفته الجديدة، فيركّز على الناحية العالمية فيها، معتبراً أنها فلسفة نابعة عن حاجة إنسانية عامة، وليس فقط عن حاجة سورية، وهذا ما يدحض تهمة التعصب والشوفينية  التي رمته بها قوى الانتداب الفرنسي- البريطاني؛ فيقول في خطاب في أول مارس/آذار، سنة 1940، في سان باولو، البرازيل: "إن الحركة القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة(..) إن في المبدأ السوري القومي إنقاذاً لا يقتصر على سورية بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله، ونهضتنا لا تعبّر عن حاجاتنا نحن فقط، بل عن حاجات إنسانية عامة"(20).

 

ويضيف في خطاب آخر ألقاه في أبناء الجالية السورية، في سانتياغو (الأرجنتين)، في السنة نفسها، مؤكداً على دور أمته في حل مشكلات العالم المعاصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قائلاً: "إن وجود السوري في العالم ليس من الأشياء التي يمكن الاستغناء عنها، بل هو كائن لازم وضروري للحضارة والثقافة وترقية النوع البشري"(21). ثم يتكلم عن مؤسسة الديمقراطية في العالم – وقد برهنت عن إفلاسها، إبان الحرب العالمية الثانية، في مواجهة الدول الكلية، من شيوعية وفاشية - فيصرح "إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئنّ من شلل هذه الأشكال وصار ينتظر انقلاباً جديداً(..) وإن هذا الانقلاب هو ما تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية التي تقول بالعودة إلى الأساس والتعويل على "التعبير عن الإرادة العامة" بدلاً من "تمثيل الإرادة العامة" الذي هو شكل ظاهري جامد" (22).

 

ويعود إلى فكرة الديمقراطية في خطاب ثانٍ في سانتياغو، في السنة نفسها، مفصحاً عن أصولها السورية التي نشأت على ضفاف دجلة والفرات ويقول "إن الديمقراطية التي يفتخر بها العالم الآن هي من صنع سوري لأن أول فكرة ديمقراطية تعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية" (23). ولذلك يحرص على أن ينبّه السوريين إلى أن العالم، بأسره، ينتظر منهم، في هذه القضية الخطيرة، تفكيراً جديداً يعالجها من جديد ويدفعها إلى العالم كاملة.

 

وينتقل في السياق نفسه، إلى نقد الاشتراكية لتقصيرها في حل المشكلات الاجتماعية المعقدة، فيكتب في مقال، في سنة 1942 قائلاً: "مما لا شك فيه أن النظريات الاجتماعية والاقتصادية من كارل ماركس وانغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجُدد قد ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية، ولكن الاشتراكية لم تتمكن من حلّ القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة(..) ومن هذه النقطة تبتدئ الفلسفة السورية  القومية الاجتماعية التي تقدّم نظرات جديدة في الإجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها" (24).

 

ويصل إلى ذروة نقده القاسي للتيارات الفكرية، الروحية، والمادية، المتصارعة، في الرسالة التي يوجهها من المغترب الأميركي إلى أنصاره في الوطن في مطلع سنة 1947، وقد انتهت الحرب العالمية الثانية، قائلاً: "إن العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالمية الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصية - فلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسية الجامحة التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفي الروح، وفلسفة الروح الفاشية وصنوها الاشتراكية القومية ]النازية[ المحتكرة الروح، الرامية إلى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونه- هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم - فلسفة التفاعل الموحّد الجامع القوى الإنسانية- هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم"(25).

 

وفي مقال بعنوان "النظام الجديد" نشره في بيروت في سنة 1948، بعد عودته إلى الوطن من المهجر الأميركي، ينتقد فيه نظام الطبقات الرأسمالي الذي تولّد بعامل الثورة الصناعية، قال عن هذا النظام أنه: "لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء لأن المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت عنه أحدثت، ولا تزال تحدث حيثما بقي هذا النظام فاعلاً، تشنجات واضطرابات شديدة تحفّز العقول إلى ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني يُزيل تلك التشنجات والاضطرابات ويفسح المجال لتفاعل ينمّي الحياة ويقويها ويحولها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية" (26).

 

ولم يكتفِ النظام الرأسمالي، برأيه، في خلق الطبقات وإثارة حرب الطبقات ضمن المجتمع الواحد، بل أدّى إلى تكوين الطبقات الأممية والنظام الطبقي الانترنسيوني الذي يخلق طبقة من الأمم الاستعمارية ذات الأمبراطوريات والمناطق الواسعة، وطبقة من الأمم المتوسطة، وطبقة من الأمم المضغوطة المحرومة(27).

وينتقد في المقال نفسه التجربة الشيوعية فيقول أن "المحاولة الشيوعية على أساس التعاليم المادية المحض، لم تحلّ بنظامها المبدئي مشكلة المجتمع الداخلية ولا مشكلة الحق الأنترنسيوني، فحرب الطبقات بين مادية العمال ومادية الرأسماليين وإقامة سلطة البروليتاريا ليست نظاماً صحيحاً لتقدم الإنسانية نحو مقاصدها الكبرى. وما يقدّمه "اتحاد الجمهوريات السوفياتية" من الوجهة الأنترنسيونية ليس إزالة طبقات الأمم بل تثبيت نظام طبقات الأمم الاقتصادية بترتيب جديد" (28).

 

وبعد مرور مئة عام على" البيان الشيوعي" لماركس وأنغلز، وفي ندائه، في الأول من أيار سنة 1949، إلى "منتجي ثروة الأمة وبنّائي مجدها" كما يصف المنتجين من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين، يؤكد سعاده على تشريحه السابق للنظام الرأسمالي والنظام الشيوعي، بوصفهما نظامين إقطاعيين دوليين، معتبراً أن الدول ليست أقل استغلالاً لقضايا الجماعات والطبقات من الأفراد الرأسماليين والإقطاعيين"فقد حلّت بعض الدول في موارد العالم ومواده الأولية محل العائلات الإقطاعية في موارد الأمة ومواد الوطن الأولية، ومحل الرأسمالي الفردي، بالنسبة إلى الإنتاج والأسواق الأنترنسونية" (29).

 

ويساوي سعاده في ندائه، من حيث الأهداف والنتائج، بين ما يسميها "الإقطاعية الشيوعية الانترنسيونية"، "والإقطاعية الرأسمالية الاقتصادية الاستعمارية"، فالإقطاعيتان ترميان إلى الاحتفاظ بتفوقهما وسيطرتهما تجاه الأمم الأقل عدداً وقوة وموارد. و"الإثنتان تقتطعان أو تستعمران الأمم التي ليس لها من القوة الذاتية ما يمكنها من حفظ استقلالها في شؤونها وأهدافها(..) وهدف الاثنتين السيطرة المطلقة النهائية على شؤون العالم، ومنع الأمم المؤهلة للنهوض والارتقاء وبلوغ القوة الفاعلة من إدراك غايتها، ومنازعتها السيطرة على موارد تلك الأمم وعلى مواد العالم الأولية" (30).

 

 

 

خاتمة

 

يعدّ هذا الكتاب، بالفعل، وثيقة فكرية هامة تُظهر مدى اهتمام سعاده بقضايا الفكر والتوجيه الفلسفي، وفيه من الملاحظات والإرشادات الدقيقة ما يجعل قيمته عالية جداً. فبالإضافة إلى إثارته قضية البعث القومي وما تقتضيه من ضرورة الاستقلال الفلسفي، يؤكد على أن تاريخ الأمة، لا سيما تاريخها الثقافي والفلسفي تحديداً، هو كل مترابط، لا يمكن تجزئته كيفياً إلى حقبات منفصلة، والاعتراف بحقبة دون أخرى، أو إعطاء ميزة لحقبة على حقبة أخرى، أو إخضاعه، كله أو جزءاً منه، للمناورات السياسية والمصالح الآنية للأطراف المتصارعة، محلياً أو دولياً. وهذا نابع من اعتقاده أن لكل امة مسارها الفكري الخاص بها الذي يعيّن اتجاهها في الحياة ويحدّد نظرتها الجديدة إلى العالم، وإن فاعلية الفكر - ويقصد هنا فكر الأمة، لا أفكار الأشخاص- هي التي تفرض نفسها واتجاهها، وهي التي تمنح الفكر صفة العالمية. وهذا يعني أن فاعلية الفكر تتراوح بين امة وأمة، وبين ثقافة وثقافة، وأن الأمم مراتب ثقافية متفاوتة، لا مرتبة واحدة.

 

ولهذا أيضاً ميّز سعاده بين الفيلسوف وناقل الفلسفة، لأن الإبداع الفلسفي - وهو إنجاز الفيلسوف تحديداً- مرتبط بعوامل كثيرة، تشكل مرتبة الأمة الثقافية بين الأمم الأخرى إحدى أهم ركائزه. ولذلك فالفلسفة لا تعني له الفلاسفة أنفسهم، كأسماء بحدّ ذاتها، لأن هذا التحديد للفلسفة ينحصر في فئة الإدراك العادي والتفكير السطحي اللذين يبقى أصحابهما مشدودين إلى الأسماء الكبيرة، بصرف النظر عن أفكارها. إن معنى الفلسفة، إذا، لا ينحدّ بالفلاسفة أنفسهم، بل يتجاوز هؤلاء إلى الحقائق النفسية الأخيرة التي فكّروا فيها حتى تغيب أسماؤهم ولا تبقى منها إلاّ الحقائق والمرامي النفسية الكبيرة التي تأملوا فيها ملياً.

 

ولذلك يلعب الفيلسوف دوراً أساسياً في اختطاط اتجاه جديد ينير طريق الأجيال التائقة إلى نور الحقيقية والجمال والحب والعدل، تلك المرامي السامية التي لا تشتاق إليها إلا النفوس النبيلة.

 

 

 

الهوامش

 

  1. سعاده، أنطون، الأعمال الكاملة، مج 3(1938- 1939)، مؤسسة سعاده للثقافة، ط 1، بيروت 2001، ص 259- 264.
  2.  أنظر: محمد مهران "مفهوم الفلسفة عند سعاده"، راهنية الدولة القومية، بحوث المؤتمر الدولي، تنظيم مؤسسة سعاده للثقافة، إشراف وتقديم علي حمية، ط1، بيروت 2006، ص 315.
  3.  سعاده، الصراع الفكري في الآدب السوري، مؤسسة سعاده للثقافة، ط 12، بيروت 2013، ص 68.
  4.  نصّار، ناصيف، الإشارات والمسالك، دار الطليعة، ط 1، بيروت 2011، ص
  5.  سعاده، الصراع الفكري ... المصدر المذكور، ص 91/ 92.
  6.  سعاده، الصراع الفكري ... المصدر المذكور، ص 66/ 67.
  7.  سعاده، الصراع الفكري ... المصدر المذكور، 67.
  8. خدوري، مجيد، الإتجاهات السياسية في العالم العربي، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1972، ص 200.
  9. سعاده، الأعمال الكاملة، مج 2 (1935- 1937)، ص 126.
  10.  نصّار، ناصيف، طريق الإستقلال الفلسفي، دار الطليعة، ط1، بيروت 1977، ص 98.
  11.  الحاج، كمال يوسف، موجز الفلسفة اللبنانية، بيروت 1974، ص 597/ 654.
  12. سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني، المصدر نفسه، ص 260.
  13.  سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن (1948-1949)، ص 210.
  14. سعاده، المصدر نفسه ص 211.
  15.  سعاده، المصدر نفسه ص 211.
  16. سعاده، المصدر نفسه ص 212.
  17.  سعاده،الأعمال الكاملة، المصدر المذكور، المجلد الثالث (1938- 1939 )، ص 448.
  18.  سعاده، المصدر نفسه ص 449.
  19.  المصدر نفسه ص 401.
  20. سعاده، الأعمال الكاملة، المصدر المذكور، المجلد الرابع (1940-1941)، ص 23.
  21. سعاده، المصدر نفسه ص 37.
  22. سعاده، المصدر نفسه ص 38.
  23. سعاده، المصدر نفسه ص 41.
  24. سعاده، الأعمال الكاملة، المصدر المذكور، المجلد السادس، (1942-1943) ص 98.
  25. سعاده، الأعمال الكاملة، المصدر المذكور، المجلد السابع (1944-1947) ص 180.
  26. سعاده، الأعمال الكاملة، المصدر المذكور، الجزء الثامن (1948-1949) ص 160.
  27. سعاده، المصدر نفسه، ص 355.
  28. سعاده، المصدر نفسه، ص 161.
  29. سعاده، المصدر نفسه، ص 355.
  30. سعاده، المصدر نفسه، ص (356-375).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
التاريخ: 2022-05-14
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro