مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
انطون سعاده والمسألة اللبنانية: اصلاح الكيان على طريق التغيير القومي الشامل
 
أبو زيد، سركيس
 

 

 

 

في 4 تموز 1949 أعلن انطون سعادة الثورة على النظام اللبناني. وقد جاء في «بلاغ قيادة الثورة القومية الإجتماعية العليا الأولى «الذي أطلقها منذ 72 عاما ما يلي:

 

«إنّ الحزب القومي الاجتماعي يعلن الحكومة طاغية خارجة عن إرادة الشعب... ويعلن الثورة الشعبية العامة لأجل تحقيق المقاصد التالية:

 

1 ـ إسقاط الحكومة وحلّ المجلس النيابي واعتبار مقرراته التشريعية في السياسة الداخلية الناتجة عن مساومات خصوصية باطلة.

 

2 ـ تأليف حكومة تعيد إلى الشعب حقوقه وحريته وإرادته المسلوبة.

 

3 ـ وضع دستور صحيح ينبثق عن إرادة الشعب يحل محل الدستور الحاضر الفاقد الصفة الدستورية الصحيحة، ويضمن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لأبناء الشعب، ويجعل التمثيل السياسي على أساس المصلحة القومية بدلاً من أساس المصالح الطائفية والعشائرية الخصوصية.

 

4 ـ عدم التعرض للوضع السياسي السابق.

 

5 ـ توطيد الاستقلال اللبناني على أساس إرادة الشعب الحرة.

 

6 ـ احترام المعاهدات والاتفاقات المعقودة مع دول أجنبية.

 

 

هذه المقاصد تعبر عن برنامج اصلاحي كياني مازال صالحا حتى الان. لكنها لو نجحت الثورة لحققت التغيير في الكيان اللبناني فقط، لأنه لم يكن لها امتداد او تحضير جدي في الكيانات السورية الأخرى. مع العلم ان اجهاض الثورة وإعدام سعاده تم نتيجة التعاون الوثيق بين النظامين اللبناني والشامي. لذلك يطرح سؤال: كيف يوفق سعاده بين النضال داخل الكيان والإلتزام بالعقيدة القومية الشاملة؟ ما هو موقف سعاده من الاستقلال اللبنانيّ، ومن الكيان اللبنانيّ في ضوء رؤيته القومية؟

 

عالج سعاده المسألة اللبنانية ضمن أربعة أطرٍ متكاملة:

 

* الإطار الأول: المبدأ القوميّ العام، باعتبار لبنان من ضمن البيئة السورية الطبيعية، واعتبار اللبنانيين سوريين قومياً.

 

* الإطار الثاني: يتعلق بطبيعة المسألة اللبنانية من حيث إنها نشأت في ظروف عصر الحكم الدينيّ وردود الفعل ضدّه التي أفضت إلى اعتبار لبنان، ككيان، ملجأً للأقليات الدينية.

 

* الإطار الثالث: يتعلّق بطبيعة الحلّ الذي رسمه سعاده لهذه المسألة، ويتناول مسألة تحقيق الإصلاح الاجتماعيّ السياسيّ في حياة البيئة كلّها عبر فصل الدين عن الدولة، وقيام الأساس القوميّ المدنيّ الديمقراطيّ في الحكم محلَّ الأساس الدينيّ، حيث تزول، بانتصار المبادئ السورية القومية الاجتماعية، الأسباب التي أوجبت انعزال لبنان.

 

* الإطار الرابع: يتعلق باحترام الإرادة الشعبية في مصير الكيان، واحترام إرادة الأمّة في مصير الوحدة، والتزام الحركة السورية القومية الاجتماعية بهذه الإرادة، والعمل على أساسها.

 

استناداً على هذه الأطر المتكاملة رسم سعاده نظرته الى واقع الكيان اللبناني وعلاقته مع محيطه القومي والتحديات الطائفية التي يواجهها. ويمكن شرحها وفق المحاور التالية:

 

 

 

1 ـ التمييز بين الواقع السياسيّ والواقع الاجتماعيّ:

 

ينطلق سعاده في تحديد موقفه من الكيان اللبنانيّ من زاويةٍ مبدئية، فيعلن أن «جمعنا بين المظهر السياسيّ في لبنان والعقيدة السورية القومية الاجتماعية، بلا تناقض، يتحقق بشرحي وتعليمي أن الأمّة واقعٌ اجتماعيّ ـ وأن الدولة كيانٌ أو دافعٌ سياسيّ، فيمكن لأسبابٍ سياسيةٍ ظرفية أن تنشأ في الأمّة الواحدة عدة دول، كما أنه يمكن أن تتّحد أمّتان أو أكثر في دولةٍ واحدة».

 

إننا إذاً إزاء تمييزٍ بين الكيان السياسيّ «كدافعٍ سياسيّ» والأمّة «كواقعٍ اجتماعي».

 

ولكنْ ما هو تعليل سعاده لنشوء هذا «الواقع السياسيّ» اللبناني ضمن «الواقع الاجتماعيّ» السوري؟ ما هو تعليل سعاده لنشوء المسألة اللبنانية والكيان اللبنانيّ ضمن سوريا الطبيعية؟ كيف نشأت هذه المسألة؟ وكيف تعالجها الحركة السورية القومية الاجتماعية؟

 

يوضح سعاده ذلك في شرح التعاليم القومية الاجتماعية «فمن الناحية الداخلية يعتبر الحزب أن المسألة اللبنانية نشأت لمبرراتٍ جزئية، كانت صحيحة حين كانت فكرة الدولة دينية».. ذلك أن بعضاً من الفئات الطائفية «نزعوا في حالة الدولة الدينية، إلى أن وجدوا مخرجاً لهم من هذه الحالة إلى وجود حالة يشعرون فيها أنهم يقدرون أن يعطوا تحقيقاً عن أنفسهم، عن ذاتيّتهم، عن وحدتهم». «لأنه في الدولة الدينية لم يكن لهم حق، بل كانوا تحت الحماية ـ أهل الذمّة ـ والمحميّ ليست له حقوق العضوية في الدولة الدينية، نفس الحقوق المدنية السياسية» (المحاضرات العشر ص149 ـ 150).

 

بهذه المفاهيم المبدئية والعلمية انطلق سعاده لتعليل المسألة اللبنانية، من حيث أسباب نشوئها، ومن ثم الطريق إلى معالجتها.

 

فحدّد أولاً التمييز العلميّ الموضوعيّ بين الواقع القوميّ للأمّة السورية وحال لبنان ككيانٍ سياسي، حيث لم يعد من تناقض في التمييز الأساسيّ بين الإيمان بالأمّة السورية الواحدة في الهلال الخصيب كحقيقةٍ اجتماعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية، والعمل من أجل هذه الحقيقة الواحدة من ضمن الكيان اللبنانيّ، واحترام سيادته السياسية كدولة.

 

ثم أوضح سعاده انطلاقاً من هذا المفهوم المميّز، طبيعة المسألة اللبنانية التي هي مسألةٌ سياسيةٌ نشأت لظروفٍ اجتماعيةٍ ـ دينية تعود إلى تطلّع الأقليات الدينية إلى كيانٍ كان ملجأً لها في زمن سيطرة الدولة الدينية.. وهذه المبرّرات ما زالت مرتبطةً باستمرار موجات التطرّف الدينيّ السياسيّ في بلادنا. ويرسم سعاده طريق العمل للخلاص من هذه الحالة.. وهنا الفارق بين رجل النهضة والسياسيّ التقليدي. فأولاً: يَعمد السياسيّ التقليديّ إلى التستّر على الحالة، فلا يعلن الأسباب الحقيقية للمشكلة، ولا يجهر بوجود العلّة الطائفية. وثانياً: لا يكتفي السياسيّ التقليدي بالتمويه حول وجود المشكلة أساساً، بل إنه عند وصف الحلّ يعمد إلى التسويات من ضمن الوضع الراهن، «الميثاق الوطني» أو غيره من صيغ التسويات والمساومات. إنّ رجل النهضة يفعل غير ذلك وعكسه تماماً. وهذا ما فعله سعاده، إذ جابهَ المشكلة بصراحةٍ كلية، فأعلن بكلّ بساطة أنها مشكلةٌ طائفية سببها حالة التخلّف في المجتمع. ويقدم الحلّ الأوحد بإنهاء حالة التخلّف على مختلف مستوياتها.. والطريق كما يرسمه سعاده للخلاص من هذه الحالة هو «بالنهضة القومية الاجتماعية» وانتصار تعاليمها في البيئة السورية، حيث يتمّ فيها فصل الدين عن الدولة «فيكون الكل سوريين قوميين لا أكثرية محمدية، ولا أقلية مسيحية»، «فيحلّ الأساس القوميّ الاجتماعيّ محلّ الأساس الدينيّ» وينزع «فكرة الحكم على أساس المذهب». إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لا تريد «وحدةً سياسيةً مستعجلة على غير أساس الوحدة القومية» إذ «هل يمكننا أن نتصوّر وحدةً سياسيةً على أسس إبقاء الأمة أقواماً دينية متضاربة المصالح، متنافرة الغايات»؟

 

وسعاده الذي يريد توحيد بلاده، يشترط بالنسبة للكيان اللبنانيّ عدم الإستعجال في الوحدة السياسية، ويجعل الوحدة القومية الاجتماعية أساساً للوحدة السياسية، وهذا، يتحقق بانتصار مبادئ الحزب في البيئة السورية، وقيام المجتمع المدنيّ العلمانيّ الحرّ فيها. وهو بذلك يتّجه إلى معالجة المشكلة الاجتماعية ـ الدينية في البيئة كلّها حتى تزول الأسباب التي أوجبت انعزال لبنان. ولا يرى ذلك سوى «بانتصار تعاليم النهضة وحلول الأساس القوميّ الاجتماعي محلّ الأساس الدينيّ».

 

وبعد حصول ذلك كلّه، تبقى «مسألة الوحدة السياسية مسألةً غير متعلقةٍ بنا رأساً، بل مرجعها الأمّة». وبالنسبة للبنان «لا يريد الحزب أن يفرض على الشعب اللبناني شيئاً فرضاً. لأن الكيان اللبنانيّ هو وقفٌ على إرادة الشعب اللبناني».

 

 

 

2 ـ رفض عزل لبنان عن محيطه القوميّ

 

من ضمن هذه القراءة الشاملة الواضحة للمسألة اللبنانية نشوءاً ومعالجةً، يشجب سعاده بعض الجوانب المتفرعة من هذه المسألة والمتناقضة مع الحلّ السليم لمشكلات لبنان المزمنة. فهو أولاً يرفض محاولة فصل لبنان، قومياً واجتماعياً، عن بيئته السورية، ويرفض بالنتيجة اعتبار الكيان السياسيّ في لبنان مبرراً للادّعاء بوجود أمّة لبنانية منفصلة قائمة بذاتها. وهذا الرفض يأتي من نظرةٍ علمية مبدئية، لأن هذا القول في نظره معناه الخلط بين الواقع الاجتماعيّ والكيان السياسيّ، حيث تفصّل القومية ـ وهي شأنٌ اجتماعيّ ـ على قياس الكيان السياسيّ. فدُعاة الأمّة اللبنانية يزّيفون حقائق التاريخ والجغرافيا والاجتماع عبر إخضاعها لتبريرات اجتماعية ـ دينية ذات طابع ظرفيّ، ومنافية للواقع الطبيعي الذي تكرّس بعده القوميّ على مرّ التاريخ. فالأمّة لا يمكن أن تكون حصيلة وضع سياسيّ، بل تنشأ طبيعياً وتاريخياً على أساسٍ موضوعيّ يتحدّد بتفاعل الجماعة البشرية مع البيئة الطبيعية الواحدة، التي لا يشكل لبنان سوى إقليمٍ فيها، كان دائماً مرتبطاً، جغرافياً واقتصادياً واستراتيجياً، بالبيئة الطبيعية السورية ترابطاً قامت عليه الشواهد والأدلّة العلمية والعملية. فمن الناحية الموضوعية، لا يمكن أن يشكل لبنان بيئةً طبيعيةً منفصلة جغرافياً عن محيطه، وعلمياً ليس لبنان بيئةً طبيعية منفصلة عن سوريا الطبيعية، ولا يمكن أن يكون الشعب اللبناني شعباً تكوّن، سلالياً، وتاريخياً، وقومياً، بمعزلٍ وانفصالٍ عن باقي سكان سوريا.

 

في علم الاجتماع لا مجال للتسوية ولا للمسايرة السياسية، الحقائق وحدها تتكلم، وحين ميّز سعاده بين الكيان السياسيّ اللبنانيّ والأمّة السورية، كواقعٍ اجتماعيّ، لم يشترط أن يؤدّي التسليم بالواقع الاجتماعيّ القوميّ للأمّة السورية إلى رفض الكيان اللبناني السياسي، بل إنه يرفض بصورة مبدئية أن يؤديَ احترام الكيان اللبنانيّ السياسيّ والعمل من ضمنه على تكريسه كأمّةٍ عبر إخضاع الواقع الموضوعيّ لذاتيات الواقع السياسيّ.

 

ويرى سعاده في ضوء مفهومه العلميّ للأمّة المرتكز على علم الاجتماع، أنّ الكيان اللبنانيّ لا يشكّل واقعاً اجتماعياً طبيعياً منفصلاً في التاريخ والجغرافيا وطبيعة الحياة عن البيئة السورية.

 

إن سعاده يعلن «أننا نحترم الكيان اللبنانيّ»، «ولكننا نعتقد أن اللبنانيين هم سوريون قومياً» (31 تموز 1947)، ولذلك، فهو يرفض «فكرة فصل اللبنانيين عن بقية السوريين فصلاً أبعد من الناحية السياسية التي يؤمّنها الكيان اللبنانيّ أو الدولة اللبنانية، لأن الذهاب أبعد من الحجم السياسيّ الظرفيّ للمسألة اللبنانية يتعدّى الناحية السياسية إلى صميم الوحدة الاجتماعية ـ وبالتالي إلى صميم الوحدة القومية السورية، فيعزل اللبنانيين روحياً وثقافياً عن الحياة السورية العامة وعن التفاعل القوميّ الروحيّ الثقافيّ، ويجعل منهم مجموعاً مناقضاً للوجود السوريّ القوميّ، لا بل معادياً لهذا الوجود ومقاوماً لاستمراره.

 

وحيال هذه الفكرة، «فكرة الانعزال اللبنانيّ التامّ روحياً واجتماعياً» يرى سعاده أن ليس لها كما تزعم مقوّماتٍ «سلالية ـ اجتماعية ـ تاريخية» فاحتجاجها بانتساب اللبنانيين إلى الفينيقيين تمييزاً لهم عن باقي السوريين «غير مقبول علمياً ولا تاريخياً»، وقد أثبتت بطلانه التحقيقاتُ التاريخية الأنثربولوجية. فسكان لبنان هم في الغالب من ورثة الحثّيّين لا الفينيقيبن وعلى أي حال، فالفينيقيون لم يسكنوا الجبل «ولم تكن فينيقيا تنتسب إلى لبنان بل إلى سوريا».

 

هكذا عرّفها الإنجيل «بفينيقية سوريا لا بفينيقية لبنان، أما في التاريخ الحديث فلا تستطيع هذه الفكرة ردّ الوجود اللبناني إلى عهد الإمارات، لأن «الإمارات هي من صفات العهد الإقطاعيّ لا العهد القوميّ».

 

وفي لبنان نرى أن تاريخ إمارة فخر الدين، برغم أنها من العصر الإقطاعي، يدلّ على أنه رجلٌ سياسيٌّ كبير، عرف بثاقب رأيه أن لبنان وحده لا يكفي لتكوين دولةٍ مستقلة، فحاول إيصال حدود دولته إلى أبعدِ مدىً ممكنٍ في عمق سورية».

 

«ومن الوجهة الاقتصادية لا يشكل لبنان سوقاً منفصلة عن الشام وفلسطين وباقي الوطن السوريّ. والموارد الطبيعية تكمل بعضها بعضاً في الأجزاء السورية كلّها، بحيث لا تكون هنالك وحدةٌ اقتصاديةٌ إلا بها جميعاً» (خطاب الزعيم في توكومان 1943).

 

فعوارض الحدود السياسية لم تستطع «أن تمنع مئات السيارات من الذهاب والإياب يومياً بين مركز الفاعلية اللبنانية ومركز الفاعلية الحيوية الشامية» كما أنها «لم تَحُلْ اجتماعياً بين اللبنانيين والفلسطينيين المتشابكين في الحياة القومية». «فالانعزال، وتمكين المصالح الأجنبية من التحكم في موارد حياة اللبنانيين هو أدهى شرٍّ يصيب اللبنانيين، فيطردهم من ديارهم ويشرّدهم بين مختلف القارّات». ولا يفيد اللبنانيين تأويلُ هذا التشرّد بالقول إنه «فتح للأمصار وتمدين للعالم».

 

«إن الأمّ اللبنانية التي فقدت ابنها وراء البحار لا يعوّضها شيء» من هذا التأويل. «وإنّ الأب الذي كدح عاملاً في الأرض، وتهرب منه المواسم وترهقه الضرائب لا يجد جزاء خير» في هذا الفكر الانعزاليّ الواهم.

 

ففكرة الانعزال اللبنانيّ خاطئةٌ ومخالفةٌ للواقع الاجتماعيّ، وليس لها مقوّماتٌ موضوعية «في وحدةٍ أرضيةٍ مستقلة جغرافياً واستراتيجياً، ولا في وحدةٍ قوميةٍ مستقلةٍ اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، بل في نظام الحزبيات الدينية التي هي مشكلةٌ اجتماعية ـ سياسية في البلاد السورية كلّها، لا في لبنان فقط». فاللبنانيون متّصلون اتصالاً اجتماعياً وثيقاً ببقية السوريين، ومن المؤسف أن الاتصال الراهن يتمّ عبر هذا الوجود الطائفي الممزّق للشعب السوريّ في كلّ بيئته. ويريد سعاده أن يحوّل هذا الاتصال إلى وجهته الطبيعية عبر رفع الحواجز الطائفية، وحلّ مشكلة الدين والدولة في سوريا الطبيعية، حيث يصبح اتصالاً طبيعياً على كل المستويات. «إن الدروز في لبنان متصلون اتصالاً اجتماعياً وثيقاً بدروز جبل حوران وبدروز فلسطين وبقية البلاد، وإن المحمّديين في الجمهورية اللبنانية متصلون اتصالاً وثيقاً بالمحمّديين في كلّ البلاد السورية، وإن للأرثوذكس بطركيةً واحدة في كلّ سوريا وكذلك بقية الطوائف المسيحية، فإن في سوريا الطبيعية كرسياً واحداً لجميع الطوائف المسيحية هو الكرسيّ الانطاكي، وإن للشيعة مجتهداً أكبر مرجعاً واحداً في جميع سوريا الطبيعية هو المجتهد الأكبر في النجف، وجميع المسيحيين مشتركون اشتراكاً كلياً في جميع روابط الحياة الاجتماعية والروحية في البلاد السورية كلّها. واشتراك المحمديين والدروز في روابط الحياة الاجتماعية والروحية السورية لا يقل عن اشتراك المسيحيين فيها».

 

 

 

3 ـ حلٌّ جذريّ وقوميّ للمشكلة الطائفية

 

هنا يطرح سعاده المشكلة الطائفية من زاويةٍ أوسع وأشمل ممّا هي مطروحةٌ في الأدبيات السياسية الأخرى. فعلى أساس المشكلة الطائفية اللبنانية ذاتها أراد المشتغلون في السياسة اللبنانية إيجاد الحلول أو أنصاف الحلول. فقام فريق ينادي باعتماد الطائفية واعتبارها منطلق كلّ الحياة السياسية والبنية الأساسية التي يرتكز عليها قيام الدولة اللبنانية، فكان الفريق واقعياً في الإعتراف بوجود المشكلة الطائفية، ولكنه كان رجعيًّا في حلوله ومعالجاته، إذ أراد أن يبقيَ على هذه المشكلة ويرسّخ وجودها دون العمل على إزالة أسبابها وتخليص الشعب من ويلاتها. وقام فريقٌ آخر يسبغ على نفسه صفة التقدمية أو يقتبسها وينادي بالعلمانية من ضمن الوضع اللبنانيّ، فانقلبت العلمانية في أدبياته إلى نمطٍ طائفيّ آخر، كما أنّ بعض التنظيمات الصهيونية اعتمدت الدين وادّعت العلمانية. لذلك لم يعد غريباً في لبنان أن نجد تيارات ذات عناوين مثل: العلمانيون المسيحيون والعلمانيون المحمّديون، ولكل من هؤلاء مطالب مختلفة. الخطأ الأساسيّ الذي وقع فيه مختلف الفرقاء، الرجعيّ والمحافظ والتقدميّ والعلمانيّ، هو انطلاقهم من عزل المشكلة الطائفية اللبنانية عن ظروف البيئة السورية الاجتماعية ـ الدينية واعتبارها كأنها ناشئة بمعزل عن هذه الظروف، وهذا مخالف للواقع والحقيقة، فقد بين سعاده منذ اللحظة الأولى أن المسألة اللبنانية نشأت كردِّ فعلٍ على سيطرة مفهوم الدولة الدينية في البيئة. «لا جدال في أنّ السبب الموجب، من الوجهة الداخلية، لوجود الدولة اللبنانية هو المنازعات والحروب والمذابح الدينية التي حدثت بسبب الحزبيات الدينية ونفسية صراع الأديان» (الانعزالية أفلست).

 

وهذا الأمر يؤكده أيضاً «فيليب حتّى» فيما بعد بقَوله إن أساس الكيان اللبنانيّ يعود إلى فكرة إيجاد «ملجأٍ لكلّ أصحاب عقيدةٍ تخالف عقيدة الجماعة التي يعايشونها، وحمى جماعاتٍ من الأقليات المضطهدة» (ص9 «لبنان في التاريخ»). فليس من «سببٍ موجبٍ» غير هذا السبب، وليس هناك أسبابٌ قومية أو اجتماعية أو جغرافية أو اقتصادية خاصةٌ وراء انعزال لبنان.

 

بهذه النظرة العلمية يطرح سعاده الأساس الموضوعيّ لمعالجة المسألة اللبنانية، وبأسلوبٍ يختلف جذرياً عن كلّ المعالجات التقليدية، وحتى عن المعالجات «التقدمية» للمشكلة الطائفية في لبنان. وهو يطرح حلّ الحالة الطائفية في البيئة السورية كلها، ذلك لأن أسباب الحزبية الدينية والحروب الأهلية التي جرّتها، تطول في حيثيّاتها الشعب السوريّ كلَّه. فالحزبية الدينية داءٌ اجتماعيٌّ ـ سياسيّ منتشر في سوريا الطبيعية كلّها، ولا تكون معالجته شافيةً بإنشاء قضيةٍ خاصة بلبنان تتخذ شكلاً مصطنعاً جزئياً، بل بإنشاء قضيةٍ قوميةٍ اجتماعيةٍ كلية يحارب أصحابها «حرب الوعي القوميّ والتحرير الاجتماعيّ السياسيّ في سوريا الطبيعة كلّها».

 

وفي ضوء هذا التحليل الاجتماعيّ الموضوعيّ لا نستطيع حلّ المشكلة الطائفية في لبنان بمعزلٍ من حل مشكلة علاقة الدين بالدولة في سوريا الطبيعية كلّها. ولذلك كان على الحركة السورية القومية الاجتماعية أن تقوم في البيئة السورية كلها، وكانت حرب رجالها «حرب الوعي القوميّ والتحرير الاجتماعيّ السياسيّ في سوريا الطبيعية كلها». إذ كيف تزول أسباب ارتكاز الدولة اللبنانية على الأساس الطائفيّ الذي هو ردّ فعل على سيطرة مفهوم دين الدولة في البيئة، دون أن يقترن ذلك بالعمل لانتصار مبدأ فصل الدين عن الدولة في البيئة السورية كلّها؟

 

من هنا نستطيع أن نفهم مقدار ارتباط نظرة النهضة القومية الاجتماعية بثورتها الإصلاحية. ومن هنا أيضاً كان وجوب ربط التغيير الاجتماعيّ بمشروع متكامل يحقق أهدافه في كيانات الأمّة كلّها. وهذا الاستحقاق لا يعني تأجيل العمل النهضويّ في الكيان لحين توفّر شروطه في كيانٍ آخر، بل يعني، استراتيجياً، ضرورة التمركز في نقطة انطلاقٍ تشعّ إلى البيئة كلّها. وفي هذا تكمن فكرة لبنان ـ نطاق ضمانٍ للفكر الحرّ التي طرحها سعاده في أواخر الأربعينيات، والتي سندرسها بالتفصيل في بحث لاحق ... وهي الفكرة التي تضع الحلّ الشامل لكلّ مشكلات لبنان الداخلية، ولعلاقاته الطبيعية ببيئته، وتحمّله رسالةً تاريخية اجتماعية فاصلة يؤدّيها في بيئته.

 

استنادا على هذه الاطر والمفاهيم التي شكلت رؤية سعاده للمسالة اللبنانية، نلاحظ ان سعاده في "بلاغ قيادة الثورة القومية الإجتماعية العليا الأولى" التي اطلقها، شدّد بوضوح انها "الأولى" وذلك تأكيداً ان الثورة الإصلاحية التي دعا اليها في الكيان اللبناني هي خطوة أولى على طريق الثورة القومية الاجتماعية الشاملة التى تطال الكيانات السورية بكاملها من أجل تحقيق الحل الجذري من خلال تطبيق مبادئ النهضة. وهذا دليل إضافي ان سعاده مفكر عملي يجيد ربط المرحلي مع الإستراتيجي انطلاقا من إدراك الممكن في حركة التاريخ من دون الإستسلام للواقع الراهن او التسليم بالطوباوية.

 

 
التاريخ: 2021-07-08
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الديار، 8 تموز 2021
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro