مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الرأي العام - "النهضة" العدد 27 (13/11/1937)
 
نص ونقاش - الحلقة الثانية
إعداد: أحمد أصفهاني
 

 

 

 

الرأي العام ركن أساسي في كيان كل دولة. ومهما تضاربت الأقوال في هذه الظاهرة الروحية العظيمة الأثر في السياسة والاجتماع تبقى الحقيقة الراهنة كما هي، وهذه الحقيقة هي أنّ الرأي العام قوة اجتماعية سياسية خطيرة الشأن.

 

ولكن هذه القوة معرضة أبداً للعوامل الروحية والثقافية فهي تتأثر بهذه العوامل تأثراً شديداً يحملها على إعطاء رد فعل سريع لكل حادث له علاقة بأحد هذه العوامل، ومن هذه الحقيقة نشأ الاعتقاد الغالط بأنه ليس هنالك شيء اسمه رأي عام.

 

الحقيقة أنّ الرأي العام موجود دائماً في كل مجتمع متمدن. ولكن قوّته لا تكون راسخة إلا في المسائل المستمرة التي تعمل عوامل مستمرة على إكسابها صفة الثبات بواسطة الأساليب الثقافية والتقاليد المرعية. وفيما سوى ذلك فالرأي العام أشبه شيء بريشة في مهب الرياح، إذا هبّت الريح جنوباً مالت شمالاً وإذا هبّت صباً مالت غرباً. فالإشاعات للرأي العام كالريح للريشة.

 

متى تضاربت الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولّد هذا التضارب وهذا الاختلاف رأياً عاماً مبلبلاً متفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، وزعزعا الوجدان القومي الصحيح ومنعا تولّد ما يسمى في العلوم السياسية "الإرادة العامة".

 

وهذا حال الرأي العام في هذا الوطن السيِّىء الطالع. فهو متفسخ متبلبل تتضارب فيه مصالح المذاهب الدينية المتعددة. وينشأ من هذا التضارب تضارب العوامل الثقافية المكونة الرأي العام وتكون النتيجة التفسخ القومي المانع من إدراك المصلحة القومية العامة وإيجاد الإرادة القومية العامة.

 

في كل أمة تختلف بعض الفئات المؤسِّسة على مصالح فرعية معينة في الاتجاهات الفرعية ولكنها في اختلافها تشترك جميعها في اتجاه واحد أساسي هو اتجاه الأمة ومصالحها العامة.

 

أما نحن فالرأي العام مقسّم عندنا على اختلافات أساسية. ففي الأوساط المارونية مثلاً، نجد أنّ الإكليروس لا يزال يحرّض الأوساط الشعبية المارونية على التمسك بوجهة نظر طائفية بحتة تبنى على أساس وجهة نظر مسيحية. فيقول بأن المسيحيين والمسلمين جنسان لا يجتمعان إلا وواحد سائد والآخر مسود، ولذلك يجب أن يبقى لبنان منفصلاً عن بقية البلاد السورية، لكي يتسنى للمسيحيين أن يسودوا، وصحفهم ومؤسساتهم لا تفتأ تغذي هذه الروح.

 

وفي الأوساط السنّية أو الإسلامية عامة نجد المؤسسات تغذي الرأي العام في اتجاه معاكس تماماً، ولكن على نفس الأساس، فهذه المؤسسات تعتقد تماماً باختلاف المسلمين والمسيحيين وبوجوب سيادة المسلمين، وتجعل من ذلك قضية إسلامية عامة تتجه نحو جمع الأقطار العربية تحت هذه الوجهة الدينية وتولّد تياراً فكرياً مصادماً للتيار الأول، وهكذا دواليك.

 

فلما جاءت النهضة القومية تقول بأن النظرة الصحيحة هي النظرة المبصرة مصالح الجميع في الوطن الواحد، لم يشأ أي فريق التنازل عن نظرته الخصوصية لتحل محلها النظرة القومية الشاملة التي تتمكن من إيجاد الأساس العام المشترك فيتحول التصادم والتفسخ المتولدان من تضارب الاتجاهات إلى تعاون واتحاد متولد من الاتجاه القومي. وبين مصالح الملّة المسيحية ومصالح الملّة الإسلامية ومصالح الملّة الدرزية، الخ. تضيع المصلحة القومية ويقف الرأي العام حائراً مشلولاً.

 

من الدروس الفيزيائية الأولية، أنّ كل قوتين متدافعتين أو متجاذبتين وتتوفر الأسباب لإيجاد توازن بينهما تبطل فاعليتهما.

 

وإبقاء كل مجتمع مقسّم على الاتجاهات المتنافرة في حالة شلل يمنعه ذلك من التقدم أو الارتقاء. وهذا فن في السياسة المتغلبة.

 

وكل مجتمع يريد أن يتحرر من الشلل ليتقدم ويرتقي وينال نصيبه وحقه في الحياة، يجب أن يقاوم فن السياسة المتغلبة بفن سياسة متغلبة، وهذا الفن يوجب إزالة التصادم المؤدي إلى الشلل.

 

هذه هي رسالة النهضة القومية إلى الرأي العام، وهي تختلف عن رسالة الصحف والمؤسسات الدينية والإكليريكية في أنها رسالة الاتجاه القومي الجامع الذي يحل مصلحة الأمة محل مصالح الفئات الخصوصية ويجعل للرأي العام قيمته.

 

أما الجرائد والمؤسسات الثقافية الإكليريكية والمذهبية فرسالتها إبقاء الشقاق في الشعب، لأنها بالشقاق تعيش هي بينما الأمة تموت.

 

* "الأعمال الكاملة"، المجلد 2. صفحة 266.

 

 

 

مداخلة الأمين يوسف كفروني

 

 

 

مصطلح الرأي العام هو مصطلح اجتماعي سياسي، وهو ميدان واسع للبحوث في العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية: اتجاهاته وعوامل تكوّنه وطرق قياسه ووسائل التأثير فيه وغيرها.

 

تهتم الدول المتقدمة بقياس اتجاهات الرأي العام في مجتمعاتها والمجتمعات التي تحاول التأثير في سياساتها. وجرى استخدام مصطلح الرأي العام أواخر القرن الثامن عشر خلال الثورة الفرنسية.

 

إنه اتجاه جماعة بخصوص مشكلة أو حادثة ما. يمكن أن تكون هذه الجماعة تمثل المجتمع، أو فئة منه. ويمكن أن تمثل أكثر من مجتمع،  فنتحدث عن رأي عام إنساني.

 

يتأثر الرأي العام بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. وتلعب القيم الاجتماعية ضمن الثقافة تأثيراً كبيراً في تكوين الرأي العام. ويقصد بالقيم بشكل عام التفضيلات العامة الدائمة التي تحدد السلوك وتؤثّر في رأي الأفراد في نظرتهم إلى الأخرين، وفي ما هو مقبول أو مسموح وفي ما هو غير مقبول.

 

استخدم سعاده مصطلح الرأي العام بكثرة في مؤلفاته، مبدياً اهتماماً كبيراً في التوجه إلى الرأي العام واطلاعه على الحقائق وتنويره وكشف كل الخداع والغش والتزوير الذي يمارس بحقه. يقول في المجلد السادس: "بهذه الـمقاييس العامة الـمضبوطة بضابط رسمي وجدت في سورية وفي أوساط الـمهاجرين هذه الظاهرة الاجتماعية الـخطيرة التي تسمى: الرأي العام والإرادة العامة. رأي عام واحد لـجميع السوريين القوميين الاجتماعيين من جميع ملل سورية وطوائفها وإرادة عامة واحدة. لا جدال ولا مـماحكة ولا سفسطات ولا تردد عند الذين هضمتهم العقيدة الـجديدة. وعملية الصهر دائبة دائمة حتى تضمحل الـمتباينات جميعها ولا يبقى إلا التنوع الـمتجانس الذي يشكل وحدة أعضاء ومؤسسات وفروع ومواهب ومزايا تعمل بـمقاييس واحدة وتـجري بأساليب متنوعة إلى غرض عام واحد هو: القضية السورية القومية الاجتماعية الـمقدسة". (صفحة 481) نص سعاده حول الرأي العام يوضح أهميته وضرورة تشكله في المجتمع الواحد.

 

الرأي العام قوة اجتماعية سياسية خطيرة الشأن، موجود في المجتمع المتمدن. الاختلاف يكون في الاتجاهات الفرعية للفئات ذات المصالح الفرعية، والاتفاق يكون في المسائل الأساسية الثابتة في اتجاه الأمة ومصالحها العامة. في المجتمع الذي تتضارب فيه الاتجاهات الأساسية وتختلف فيه العقائد والعوامل الثقافية، يكون الرأي العام مبلبلاً ومتفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، مانعاً لتكوّن الإرادة العامة.

 

الرأي العام مقسّم عندنا على اختلافات أساسية حسب كل طائفة. النهضة القومية تقول بأن النظرة الصحيحة هي النظرة المبصرة مصالح الجميع في الوطن الواحد. الاتجاهات المتنافرة في المجتمع تؤدي  إلى الشلل ما يمنعه من التقدم أو الارتقاء. وكل مجتمع يريد أن يتحرر من الشلل ليتقدم ويرتقي وينال نصيبه وحقه في الحياة، يجب عليه إزالة التصادم المؤدي إلى الشلل.

 

هذه هي رسالة النهضة القومية إلى الرأي العام، وهي رسالة الاتجاه القومي الجامع الذي يحل مصلحة الأمة محل مصالح الفئات الخصوصية ويجعل للرأي العام قيمته.

 

السؤال الذي يجب طرحه ومحاولة الإجابة عليه هو: إذا كان مجتمعنا يعاني من بلبلة وانقسام في الرأي العام نتيجة العصبيات الدينية والمذهبية والعصبيات الأتنية والعشائرية وسائر العوامل السياسية، فما هي أسباب انقسام وبلبلة الرأي العام عند السوريين القوميين الاجتماعيين؟ وما العمل لتوحيد الرأي العام عندهم ليكون لهم رأي عام موحداً في القضايا الأساسية ومتنوعاً في المسائل الفرعية ما يغني الحوار لوضع برامج عملية وتطوير ما يلزم تطويره؟ كيف نقيس اتجاهات الرأي العام عند القوميين؟ كيف نحدّد القضايا الأساسية التي لا يجوز الاختلاف بشأنها؟ كيف نحدّد المسائل الفرعية وما مدى التباين فيها؟

 

 

 

مداخلة الأمين أحمد أصفهاني

 

 

 

 

يصف سعاده الظروف الروحية النفسية في سورية التي عاد إليها سنة 1930 بأنها: "ظروف انحطاط في المناقب عزّ نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة خوف وجبن وتهيب وتهرب وترجرج في المناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو المجتمع". ("الأعمال الكاملة" الجزء الثالث، صفحة 180).

 

هذا الانحطاط الروحي الخطير تطلّب من سعاده معالجة متواصلة، خصوصاً بين 1935 و1938. وهي سنوات أقترحُ أن نسميها "المرحلة التأسيسية". إذ لم يكن يكفي أن يضع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي ويشرحها، ولا أن ينشئ المؤسسات الحزبية ويستكمل تصنيف الدستور، على أهمية هذه الخطوات... طالما أن النفسية الروحية العامة عند السوريين قد بلغت هذا الدرك السحيق من التخبط والفوضى وفقدان الثقة بالنفس وبالأمة. لذلك توجّب على سعاده أن يخوض "معارك" تأسيس الحزب على جبهات عدة، داخلية وخارجية. وهي مهمة شبه مستحيلة نظراً إلى غياب أي مؤسسات قومية يمكن الاستناد إليها في مرحلة أولى تمهيداً للانطلاق في العمل النهضوي. يشرح سعاده ذلك الواقع في خطابه المنهاجي الأول: "لم يكن للشعب السوري، قبل تكوين الحزب السوري القومي، قضية قومية بالمعنى الصحيح. كل ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعية لا يمكن الشعب السوري أن يأنس إليها أو يجد فيها سنداً لحاجاته الحيوية". ("الأعمال الكاملة" الجزء الثاني، صفحة 3)

 

إضافة إلى غياب المؤسسات القومية والتفسخ الروحي في المجتمع، كان على سعاده أن يتعامل مع ظواهر الفوضى في التفكير والتخبط بالمفاهيم. يقول في خطاب الأول من آذار سنة 1938: "وليس أدل على هذه الفوضى من التعابير الكثيرة المختلفة التي وُصفت بها هذه الحركة التحريرية (تحركات ما قبل الحزب)، ومن محاولة تحويل هذه الحركة إلى قضية اختلط فيها الدين بالسياسة والاجتماع والاقتصاد والحقوق". ("الأعمال الكاملة" الجزء الثالث، صفحة 178). ومن أجل سدّ هذه الثغرة، عمل سعاده على وضع شروحات واضحة ودقيقة لبعض المفاهيم والمدلولات المتداولة بين الناس، والتي هي من مظاهر تفشي التخبط والفوضى. ومقال "الرأي العام" (جريدة "النهضة"، العدد 27 تاريخ 13 تشرين الثاني 1937) يعالج جوانب من المسائل المُشار إليها أعلاه.

 

يُصنف المقال في إطار التثقيف الفكري العقائدي لما أسميناه "المرحلة التأسيسية". يأخذ سعاده عبارة "الرأي العام" السائدة، ويحللها ويشرحها ويربطها بأوضاع المجتمع السوري، ليخرج في خاتمة المطاف بمفهوم جديد يحمل مضامين مختلفة عمّا هو مطروح سياسياً واجتماعياً في سورية والعالم العربي. فمن وجهة نظر سعاده، يمثل الرأي العام "قوة اجتماعية سياسية خطيرة"، وهو من مزايا "كل مجتمع متمدن". غير أنه معرّض لعوامل روحية وثقافية قادرة على حرفه عن مساره الطبيعي، بل وتوظيفه لتحقيق غايات سلبية. وهذه القوة الاجتماعية الكامنة تحتاج إلى الديمومة والثبات. وبما أنها نتاج المجتمع المدني، فهي تضمن بقاءها وتطورها من خلال استمرار وحدة الروح القومية.

 

يرى سعاده أن الرأي العام سيحافظ على قيمته كقوة إيجابية مؤثرة، طالما أنه يعبّر عن رؤية اجتماعية موحدة. ذلك أن التضارب في الاتجاهات الأساسية للأمة سيوّلد رأياً عاماً مبلبلاً بحيث يفقد عناصر القوة الموجودة فيه. والرأي العام المنقسم على ذاته سيعجز عن أن يؤسس لنشوء وعي عام يؤدي إلى إدراك المصلحة العامة، أي المصلحة القومية الحاضنة لكل المصالح. وفي مثل هذه الحالة، سيصبح من الصعب تولد "الإرادة العامة" التي يشدّد سعاده على أنها السبيل لخلق الوجدان القومي. وعندما يطبّق سعاده تعريفه لـ"الرأي العام" على أوضاع سورية في ثلاثينات القرن الماضي (الوضع الراهن لم يتغيّر كثيراً... بل ازداد سوءاً)، فهو يجد أن التفسخ القومي يقف عائقاً أمام السوريين ويمنعهم من "إدراك المصلحة القومية وإيجاد الإرادة القومية العامة". ومن الطبيعي أن يؤكد سعاده أن المبادئ التي يقدمها الحزب للأمة كفيلة بإزالة العوائق، والتأسيس لحصول الوعي القومي.

 

وترد في المقال فكرة مهمة جداً سيكون لها خلال سنوات سعاده اللاحقة تداعيات واسعة. يقول: "في كل أمة تختلف بعض الفئات المؤسِسّة على مصالح فرعية معينة في الاتجاهات الفرعية، ولكنها في اختلافها تشترك جميعها في اتجاه واحد أساسي هو اتجاه الأمة ومصالحها العامة". والمقصود بذلك أن الرأي العام كقوة فاعلة في مجتمع متمدن لن يخسر شيئاً من حضوره في حال بروز اختلافات فرعية في صفوف الشعب، طالما أن هناك توافقاً عاماً حول المصلحة القومية العليا. فالمجتمع السوري يمكنه استيعاب التناقضات الداخلية الفرعية، وفي الوقت ذاته تشكيل الرأي العام الذي يمهد لـ"الإرادة العامة". غير أن المشكلة تتمثل في أن "مصالح المذاهب الدينية المتعددة" ترفع سوية خلافاتنا إلى "الاتجاهات الأساسية". ويعود سعاده في خاتمة المقال إلى التذكير بأن الحزب السوري القومي الاجتماعي قدّم للأمة المبادئ التي تكفل تحقيق وحدة الاتجاه. إذ أن غياب التوافق الاجتماعي على قاعدة وعي المصلحة العامة، سيبقي الرأي العام في دائرة الانقسام والتناحر، قابلاً للتفجير الداخلي في أية لحظة.

 

 

 

 

مداخلة الرفيق شحادي الغاوي

 

 

 

عندما أقرأ سعاده في مقالاته وخطبه ورسائله وفي كل ما كتب وقال، أحاول دائماً معرفة ظروف المكان والزمان السياسية والثقافية، كما ومعرفة ماهية الحدث الرئيس الذي كان مهيمناً في ذلك المكان وذلك الزمان. لذلك، ومن أجل فهم مقالة "الرأي العام" التي كتبها في بيروت 13-11-1937، قرأت عدة مقالات له قبلها وبعدها. كان الحدث الرئيس هو مناقشة البرلمان اللبناني لبيان الحكومة اللبنانية التي تقدمت به لنيل الثقة. البرلمان انبثق من إئتلاف إنتخابي، والحكومة هي أيضاً حكومة ائتلافية. لذلك كان متوقعاً أن تكون المناقشة هادئة وخالية من أية مشادات أو إعتراضات حادّة.

 

أمّا الحالة السياسية الثقافية العامة آنذاك فكانت تتسم بانقسام الشعب طائفياً، وبالتالي كان الرأي العام مبلبلاً ومنقسماً وغير قادر على الإجماع على مصلحة عامة، وبالتالي كان يفتقد إلى ما يسمى في العلوم السياسية بالإرادة العامة.

 

وكعادته في جميع أعماله، كان سعاده ينطلق من الخاص إلى العام، أي من تفاصيل الحدث السياسي  المحلي إلى القضية القومية ومبادئها الأساسية العامة. ذلك لأنه صاحب قضية قومية تشق طريقها وهي لا تزال في بدايته، وعليه أن يتناول الأحداث إنطلاقاً من النظرة القومية الاجتماعية الجديدة، وعليه أن يبسّط هذه النظرة للشعب ويعرِّفه عليها بأسهل ما يمكن من الأساليب والطرق. فمقالة "الرأي العام" التي كتبها سعاده في ذلك الظرف السياسي والثقافي عالجت موضوعاً سياسياً محلياً في مكانه وزمانه، لكنها نقلته إلى عالم المبادئ والمفاهيم التي تصلح لكل زمان ومكان.

 

فصحيح أن مقالات وخطب ورسائل سعاده وكل أعماله يجب قراءتها وفهمها "تاريخياً"، أي في زمانها ومكانها وظروفها السياسية والثقافية، ولكنها تحتوي دائماً على مبادئ أساسية وعلى مقولات عامة تنطبق على الحاضر والمستقبل ويمكن القياس عليها واتخاذها قواعد إنطلاق.

 

ومن هذه المبادئ والقواعد والمفاهيم الأساسية يمكن استخراج التالي:

 

  1.  الرأي العام هو قوة سياسية إجتماعية خطيرة الشأن وعظيمة الأثر في المجتمع.
  2.   العوامل الروحية والثقافية العاملة في المجتمع هي التي تكوِّن الرأي العام. ومن هذه العوامل: الثقافة العامة والعلوم والتقاليد والتيارات السياسية والفلسفية ومستوى نظر الشعب وفهمه لأوضاعه ومحيطه. لذلك فالرأي العام شديد التأثر بهذه العوامل وتطوراتها وتغيراتها.
  3.  تبلبل الرأي العام نتيجة تضارب الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلاف العقائد والعوامل الثقافية، يؤديان إلى عدم الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، وعدم وعي مصلحة عامة يمنع تولّد إرادة عامة. الإرادة العامة هي وليدة مصلحة عامة، ولا إرادة حيث لا مصلحة.

 

سعاده في مقالته يبرز هذه المباديء والقواعد لكي ينبّه الشعب على ضرورة ترك العصبيات الطائفية التي تقسمه وتضعفه، وضرورة الأخذ بما يوحّد نظره إلى نفسه مجتمعاً واحداً له مصلحة عامة واحدة في الحياة وبالتالي إرادة عامة واحدة. وهذه الإرادة العامة الواحدة هي ما يجعل منه مجتمعاً قوياً قادراً على تأمين مصالحه وانتزاع حقوقه وترقية حياته. لذلك يختم سعاده مقالته قائلاً: "هذه هي رسالة النهضة القومية إلى الرأي العام، وهي تختلف عن رسالة الصحف والمؤسسات الدينية والإكليريكية في أنها رسالة الاتجاه القومي الجامع الذي يحل مصلحة الأمة محل مصالح الفئات الخصوصية ويجعل للرأي العام قيمته. أمّا الجرائد والمؤسسات الثقافية الإكليريكية والمذهبية فرسالتها هي إبقاء الشقاق في الشعب، لأنها بالشقاق تعيش هي بينما الأمة تموت".

 

 

 

مداخلة الأمين جورج يونان

 

 

 

بالنسبة إلى قراءة الأمين أحمد أصفهاني وتعليق الرفيق شحادي الغاوي، ثم تعليق الأمين يوسف كفروني، على مقال سعاده "الرأي العام" أبدأ بهذه العبارة: "معارك تأسيس الحزب هي على جبهات عدة، داخلية وخارجية"، تتبعها عبارة الرفيق الغاوي: "عندما أقرأ سعاده في مقالاته وخطبه ورسائله وفي كل ما كتب وقال، أحاول دائماً معرفة ظروف المكان والزمان السياسية والثقافية، كما ومعرفة ماهية الحدث الرئيس الذي كان مهيمناً في ذلك المكان وذلك الزمان...". ليس عندي ما أضيفه سوى أن معارك التأسيس، برأيي، هي معارك بدينامكيَّة مستمرة وبدون توقُّف، فمبادىء سعاده ليست الوصايا العشر وإنما دعوة إلى الانطلاق والإبتكار في الفكر والإدارة والممارسة. فمن الناحية الإدارية، القيادات انغمست في الخطاب الطقسوي "الكهنوتي" الذي شبع منه الجسم الحزبي، والهرولة تجاه السلطة من أجل المنافع الشخصية، ولم تعتمد على المشورة الواسعة من النخبة الرؤيوية في المخزون الحزبي مما أعطاها صبغة ديكتاتورية.

 

أما في التثقيف الفكري، فقد اتبعت الخطابة والاجترار، فالمبادىء الأساسية أثبت الزمن حتميتها، والرأي العام سَلَّمَ براهنيتها. والمبادىء الإصلاحية تبدو، في الوقت الحاضر، مرتفعة إلى الأساسية. ما لا أوافق عليه هو أن "العوامل الروحية والثقافية العاملة في المجتمع هي التي تُكَوِّنُ الرأي العام"، وأن "مصطلح الرأي العام هو مصطلح إجتماعي سياسي". يقولُ رايهولد نايبور إنَّ ما يتحكَّم في مصادر القوة في أيٍ من المجتمعات المتطوِّرة إنما هو الاقتصاد وليس القدرة السياسية أو القدرة العسكرية. ويقولُ سعاده بأنَّ الاقتصاد القومي هو الإنتاج، وبغير الإنتاج ليس هناك اقتصاد. ونحن نرى كيف أن الرأي العام يتكوَّنُ ويتَحَوَّلُ بسبب عدم وجود إنتاج قومي، وعدم وجود ديموقراطية تعبيريَّة. التثقيف الفكري في الحزب يجب أن يتزامن مع الممارسة العملية في شؤون الحياة اليومية، أي الإنتاج. ليس هناك انقسامٌ تجاه الحركة الإنتاجية، والرأي العام يتكوَّنُ من فَعَّاليَّة هذه الحركة.

 

وهنا نأتي إلى العامل الثالث في معركة التأسيس وهو الممارسة. عمدة ما وراء الحدود في تاريخها عَمَدَت إلى التسوُّلِ في حوارها مع الإمكانيات الموجودة في المغتربات، وكان الأحرى أن تُجَنِّد هذه الإمكانيات للإستثمار في الوطن في مؤسسات زراعية أو صناعية أو تجارية أو سياحية لإيجاد فرص عملٍ للجسم الحزبي وللجميع. المغتربون أينما كانوا يرسلون أموالاً لإعانة أهاليهم، وهذه الإعانات لا تصرف في الإستثمار بل بالأشياء الإستهلاكية.

 

الإرادة العامة من رحم الإنتاج، وكذلك الرأي العام.

 

 

 

 

مداخلة الأمين زهير فيّاض

 

 

 

 

تبدأ مقالة "الرأي العام" بجملة تأكيدية على أهمية وعظيم شأن الرأي العام باعتباره "ركناً أساسياً في كيان كل دولة"، وباعتباره "ظاهرة روحية عظيمة الأثر في السياسة والاجتماع "، وباعتباره أيضاً "قوة اجتماعية سياسية خطيرة".

 

السؤال الأول البديهي هو عن أي رأي عام نتحدث هنا؟ أي رأي عام موجود في بلادنا؟ أي اتجاهات رأي عام موجودة في أمتنا؟

 

نعم، الرأي العام – حسب سعاده – هو قوة مؤثرة وفاعلة تبعاً للقواعد التي يرتكز عليها هذا "الرأي العام"، بمعنى أن طبيعة المجتمع هي التي تحدد اتجاهات الرأي العام فيه. وهذا الموقف لسعاده من "الرأي العام" لا ينفصل عن الموقف من "الديمقراطية التمثيلية " التي تفتقد الى البعد التعبيري عن مصالح الأمة واتجاهات تطورها ونموها الحقيقية، وضرورة أن تمثل آليات للتعبير أو لتظهير الاتجاهات السياسية الحقيقية في المجتمع والدولة.

 

وهذا واضح في المقالة من خلال ما ذكره سعاده من أن: "هذه القوة معرضة أبداً للعوامل الروحية والثقافية فهي تتأثر بهذه العوامل تأثراً شديداً يحملها على اعطاء رد فعل سريع لكل حادث له علاقة بأحد هذه العوامل". ويخلص بعدها للقول: "الرأي العام موجود في كل مجتمع متمدن، ولكن قوته لا تكون راسخة إلا في المسائل التي تعمل عوامل مستمرة على إكسابها صفة الثبات بواسطة الأساليب الثقافية والتقاليد المرعية". وفيما سوى ذلك فالرأي العام أشبه شيء بريشة في مهب الرياح.

 

نستنتج من هذه الجملة أعلاه عدة أمور:

 

أولاً: الرأي العام الموجود في كل مجتمع متمدن هو رأي عام متمدن، والتمدن مرتبط – بطبيعة الحال - بمفهوم المواطنة وبعلاقة المواطنة بالدولة على مستوى الدور وعلى مستوى الحقوق والواجبات وعلى مستوى صنع القرار.

 

ثانياً: المجتمع المتمدن هو مجتمع أوجد حلولاً لإشكاليات الهوية والانتماء الوطني والقومي، وحقق وحدته الداخلية وهو فعلاً  يتسم بالاستقرار الداخلي.

 

ثالثاً: إن المجتمع المتمدن نفسه هو مجتمع يحترم الإرادة العامة لمواطنيه، ويتمتع بوجود آليات تعبر عن هذه الإرادة العامة عبر الإعلام الحر الملتزم قضايا هذا المجتمع، ومن خلال آليات انبثاق السلطة تحترم خيارات هذه الإرادة العامة.

 

جاء في مقالة سعاده حول "الرأي العام" ما نصه: "متى تضاربت الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولّد هذا التضارب وهذا الاختلاف رأياً عاماً مبلبلاً متفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، ويزعزع الوجدان القومي الصحيح ويمنع تولّد ما يسمى في العلوم السياسية "الإرادة العامة".

 

هذا يعني بما لا لبس فيه أن المسائل والقضايا التي يطرحها الرأي العام في مجتمع ما لا يجوز بشكل من الأشكال أن تطال الأساسيات حول الهوية والكينونة والانتماء والمواطنة، انما هي قضايا ومسائل تتناول كيفية تطوير اتجاهات الاجتماع البشري في السياسة والاقتصاد والحرب، وفي كيفية تنظيم المجتمع وإدارته وفي آليات التعامل مع المسائل التفصيلية التي لا تدخل في مفهوم "الاتجاهات الأساسية" للمجتمع.

 

ويضيف في مكان أخر: "في كل أمة تختلف بعض الفئات المؤسسة على مصالح فرعية معينة في الاتجاهات الفرعية، ولكنها في اختلافها تشترك جميعها في اتجاه واحد أساسي هو اتجاه الأمة ومصالحها العامة". وفي هذا القول تأكيد إضافي أن حدود الاختلافات وسط اتجاهات الرأي العام هي الحدود الفاصلة بين "الاتجاهات الأساسية" و "الاتجاهات الفرعية" في المجتمع الواحد. بكلام آخر، لا يمكن لاختلافات الرأي العام أن تتمحور حول الأساسيات المتعلقة بالهوية وقضايا الوجود المجتمعي الأساسية، وإلا يحصل التضارب والتناقض وتنحو عندها الاختلافات منحى ىسلبياً يهز الاستقرار ويؤدي إلى عواقب وخيمة تعكس نفسها على مناحي حياة المجتمع واستمراريته.

 

فاختلافات الرأي العام في المجتمعات القومية المستقرة تتناول البرامج والرؤى والخطط والمسائل التفصيلية المتعلقة بكيفية تطوير وتنمية هذه المجتمعات في المجالات السياسية والحقوقية والقانونية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبما يؤكد وحدة المجتمع ومناعته وقوته وصيرورته المستقبلية. لذا وفق النماذج القائمة في دولنا وكياناتها، نرى أن اتجاهات الرأي العام تأخذ اتجاهاً سلبياً كونها اتجاهات مؤسسة على "مصالح فرعية" طائفية ومذهبية وقبلية وعشائرية وطبقية وما شاكل.

 

وبرأيي، موقف سعاده من موضوع "الرأي العام" يتفرع منه أو يتأسس عليه موقفه من الديمقراطية التمثيلية في وضعية البلبلة والانقسامات العامودية والأفقية التي يعاني منها مجتمعنا، ويرتكز على تمييزه لمفهوم الديمقراطية التعبيرية التي تتأسس على العقلية الأخلاقية الجديدة، وعلى الوعي الوطني والقومي الصحيح، والتي لا تنجح تطبيقاتها وآلياتها التمثيلية إلا في المجتمع المتمدن المستقر الواحد الموحد بكل خصائصه ومندرجاته.

 

 

 

مداخلة الرفيق ريمون الجمل

 

 

 

لا بد وأن نزيد من احترامنا لسعاده لتناوله موضوع الرأي العام في فترة مبكرة وبأسلوب علمي بحت، في حين أن الذين حاربوه وخاصموه آنذاك لم يهتموا لهذا الموضوع من بعيد أو من قريب.

وكذلك أهملت القيادات الحزبية التي تعاقبت على قيادة الحزب الموضوع بشكل عام، باستثناء الرفيق سعيد تقي الدين الذي وصف الرأي العام بالبغل في عدد من مقالاته.

 

وإذا أردنا التوغل في دراسة هذا الموضوع، علينا أن ندرس الزمان والمكان وكيف يمكن الاستفادة من هذا الموضوع. سعاده كان متقدماً، وهمه أن يعرف كيف من الممكن توجيه الشعب للإلتحاق بالنهضة. كيف يفكر المواطن، ما هي همومه، وكيف يمكن أن يوجه المواطن لأولويات جوهرية تختلف عما يخالج أعماق المواطن من هموم نفسية وحياتية. إنه أسلوب: Marketing preceded our time.

 

الغرب يهتم للرأي العام في كل شاردة وواردة من حياته المعيشية، التجارية، المالية. وقد أصبح موضوعاً أساسياً يُدرّس في الجامعات. وتأسست شركات دعاية ناجحة لتوجيه المواطن إلى المكان المطلوب والاستفادة المادية. زد عليها تأسيسPolling Companies that have a great influence

 

مؤسسة سعاده للثقافة يمكن أن تكون على هذا المستوى، فلماذا لم تستعمل حتى الآن؟

 

 

 

 

 

مداخلة د. ادمون ملحم

 

 

اضغط هنا لمتابعة المداخلة

 

 

 

 
التاريخ: 2021-05-15
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro