بدر الحاج وغدي فرنسيس في كتابهما الموثّق، نصّاً وصُوراً وحواشي ومراجع، أنطون سعاده: شهادة الصُّورة 1904 – 1949 عن Folios limited،أكسفورد، خريف 2025، يردّان إلى مؤسِّس النهضة القوميّة في بلاد الشام فضلَه في إيقاظ الأُمّة السوريّة من غفوتها فجاء هو نفسه سعاده مُكملاً للفكر النهضوي في جبل لبنان، من بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق إلى جبران خليل جبران وأمين الريحاني، ثمّ استقلَّ وحدَه فوقفَ قامةً مديدة إذ أسّس الحزب السّوري القومي الاجتماعي وهو دون الثلاثين، فشرّعه ووضع دستوره، داعياً إلى وحدة بلاد الشّام تحت بيرق الزوبعة، مناهضاً الإحتلال الأجنبي، مُرسياً فكره على المنهج العلماني، ثائراً على الإقطاع ورجال الدين، فكان لا بدّ مما ليس منه بدّ ساعةَ فصلَ الدين عن الدولة، فزُجّ به في السجن لثلاث مرّات وخرج منه وبيده نشوء الأُمم (1938)، أوفى تحليل منطقي علمي لنشأة الأُمّة السوريّة، بمنهجيّة لم يسبقه إليها أحدٌ، من حيث الكشف عن حركيّة التاريخ في صقل فكر الأُمّة.
بدر الحاج وغدي فرنسيس جالا في 382 صفحة من القطع الموسوعي في تفاصيل سيرة سعاده من مسقطه في الشوير إلى دراسته في برمّانا ثمّ فرير القاهرة، إلى أميركه فالبرازيل، فالعودة إلى بيروت ودمشق لتأسيس حزبه ثمّ انكشاف أمره فالهجرة إلى الأرجنتين لعقد مهّد فيه لعقد للإطاحة بالنظام الطائفي في لبنان فعقد النيّة والعزم على دكِّه. اقترنَ بجولييت المير ورُزقا هناك صفيّة وأليسار، طال عمرهما، فعادَ إلى بيروت عبرَ القاهرة حيث التقى بنعمه تابت وأسد الأشقر، فوصلها يوم 2 آذار 1947 وكان استقباله بالآلاف مؤدّين له التحيّة وألقى رأساً خطابه الشهير من شرفة نعمه تابت في الغبيري، وليس من شرفة مأمون أيّاس، كما ورد في الكتاب، متحدّياً أُسس الكيان اللبناني فصدرتْ مذكّرة باعتقاله رأساً بعد خطابه، فانتقل متوارياً إلى بشامون ثمّ ضهور الشوير، إلى أن وصلتْ الأمينة الأولى إلى بيروت وولدتْ لهما راغدة، طال عمرها، فانصرفَ الزعيم إلى نفض الحزب وإعادته إلى مسيرته النهضويّة وصراطها المستقيم، وكلّ هذه السيرة موثّقة بالمتون، والأهم بشهادة الصُّوَر والوثائق، ما نيّف على 400 صورة ووثيقة كان الفضلُ بمدّ غالبيّتها للكتاب لكريمتي الزعيم صفيّة وأليسار، فأضاف إليها بدر الحاج وغدي فرنسيس ما وقعا هما عليه فجاء أنطون سعاده: شهادة الصُّورة 1904 – 1949 سِفراً يكاد يكون جامعاً مانعاً لنضال سعاده ورفاقه على مدى خمسة وأربعين، كاشفاً عن محبّة العُمد له وعن استقبال أهل الساحل السوري له في لقطات نادرة لم ينلْها لا من قبلُ، ولا من بعد، سياسي سوري، محافظاً على تواضعه ورصانته وابتسامته، رغم حذرِه، في قرى ودساكر ومدن بلاد الشام، خطيباً مُفوّهاً مُرتجلاً وسط حشود مؤيّدة من طرطوس إلى طرابلس وصُور واللاذقيّة والبقاع، مارّاً بالغبيري وبرج البراجنة وبشامون والحدث صاعداً إلى أميون وحامات، مُحاطاً بالناس والعُمد المخلصين، فكان على الدوام وحتى السّاعة رمز الزعيم المتفاني في خدمة الأُمة عبرَ رسائله وخطبه ومحاضراته ومقالاته وكتبه.
كلُّ هذا وكلُّ ذاك، هو الذي أمضى 45 عاماً على ظهر هذه البسيطة، وهي أصلاً لم تُسَوَّ له، سبعة عشر منها في بناء حزب حديدي سائراً حتّى الآن، عشرون منها في المهجر، وسنتان منها في بيروت ودمشق عمل خلالهما على هزّ مفاصل النظام الطائفي وكان لا بُدّ له من هزّ، فأرداه قبل اغتياله وها بعد ثمانين نرفع التحيّة قائلين تحيا سورية يحيا سعاده، فيسري في العروق حبورٌ. كلّ هذا وكلّ ذاك في مئات الصُّور في الكتاب جمعَها بدر وغدي بجهديهما ومن إرث عائلة سعاده المؤتمن عليه صفيّة وأليسار، فجاء الكتاب واجباً ولازماً وضرورة، ومرجعاً للباحثين، ولا عجبَ إذ نصَحني القومي العتيق يوسف سلامة منذ دهر: "إن كنتَ في مجلس والحديث سياسة فضجرتَ وغفوتَ ثمّ سُئلتَ عن رأيك أجبْ أنا من رأي الزّعيم، وعُدْ إلى غفوتك، تكنْ على صواب وكان الحقّ مع الزعيم".
يوسف سلامة هذا هو الذي عرّف هشام شرابي على عقيدة سعاده منذ 1943 حين كانا طالبيْن داخلييْن في الكليّة الاستعداديّة في أميركيّة بيروت، وشرابي هو الذي أعلمني وأنا عنده في جامعة جورجتاون في خريف 1992 وكان أستاذاً لتاريخ الأفكار فيها أن سعاده يتقدّم على مفكّري أوروبة اتّقادَ ذهنٍ وريادةَ رؤيا، وشرابي عرّفني عليه يوسف سلامة، ومن قبل كان بدر الحاج عرّفني على يوسفة سلامة، وعلى هذا النحو هيهاتِ أن ينقطعَ حبلُ الرفاقيّة من المودّة والإخاء في هذا الحزب العتيد، وكنتُ انجرفتُ في تيّاره بدءاً من 1964 فلا أنسى ما حييتُ ما رأيتُ فجرَ الأوّل من كانون الأوّل 1962 من شرفة أهلي على مطلٍّ من مخيّم برج البراجنة كيف أخرجَ عساكر نظام فؤاد شهاب القوميين منه بالبيجامات وألقوا بهم في شاحنات نقلتهم إلى المجهول سوى منفّذِ برج البراجنة، تربُ والدي، محمد راغب قبلاوي، الذي رموه بطلق ناري جثّة هامدة عند دوّار الغبيري، وعلى هذا النحو تفتّح ذهني بداية على المأساة إلى أن دفعَ إليّ أديب فرحة الوافد من مرجعيون بمؤلّف سعاده المسألة الفلسطينيّة في ربيع 1969 بتوصية من أستاذ التاريخ في الانترناشونال كولدج رائف لبكي النازل من بعبدات، فأدركتُ آنئذٍ أنّي واقع وإلى الأبد بين سندان الأرثوذكس ومطرقة الموارنة، والتقيت بأدونيس في العام نفسه فتأبّطت مواقف هدايا من أديب فرحة ورائف لبكي، طال عمرهما، ثمّ تعزّز إيماني بعقيدة سعاده لما شاهدتُ أستاذي الطيّب الذكر خليل حاوي يدقّ بقبضة يده بعصبيّة على طاولة نادي خرّيجي الجامعة الأميركية، ربيع 1974، جالساً في ندوة بين منير خوري وحليم بركات، رافعاً صوتَه في الحضور "أنا لم أخرج قيدَ أُنملة عن تعاليم الزّعيم، الحزبُ خرجَ"، وأدركتُ الوفاء لسعاده في مؤتمر ملكارت صوب ميلاد 1969 إذ رأيتُ عن كثب عبدالله سعاده ومحمد بعلبكي وإنعام رعد ومصطفى عزالدين وعبدالله محسن وعبدالله قبرصي خارجين من السجون، بعزم وثبات، فقلتُ الحزب بخير، وجلستُ إلى فؤاد عوض بعد حين وأسرّ إليّ "أذاهبون نحن إلى عهد الإمارة؟" فأدركتُ أنّ ليس لخلاف الرؤية ما يفقد الودَّ القومي، في عُرف سعاده، هذا للتوثيق، فلا بُدّ منه، وهذا التّوثيق واضحٌ في جهد بدر الحاج وغدي فرنسيس وصفيّة وأليسار سعاده، حيث الصّورة وثيقة وحيث النصّ المرافق لها وثيقة إلى جانب سرد تفاصيل تاريخ الزّعيم وهي وثيقة، فنحن إذاً عند ثلاث وثائق هي التاريخ نفسه، فإن ضاعتْ الوثيقة ضاعَ التاريخ كما أفهمَنا أُستاذنا الطيّب الذكر كمال الصليبي مُستنداً إلى مقولة أسد رستم في كتابه القيّم مصطلح التاريخ (1939)، أوّل كتاب بالعربيّة في منهج البحث التاريخي بالمعنى العلمي، وكان رستم التقى بالزعيم سرّاً في بشامون، إثر عودته من الأرجنتين فدوّن رستم، خرّيج جامعة شيكاغو عام 1923، هذا اللقاء بأناقة ودقّة، أي أنّ وصفَه اجتماعه بالزعيم وثيقة أساسيّة يُرجع إليها، فللتاريخ أصول لا يجوز الخروج عليها.
ومن هنا إجادة بدر وغدي وصفيّة وأليسار في توثيق اللحظة السعاديّة، وبالأمس ذهبتُ إلى باريس للقاء أدونيس فحملتُ إليه هذا الكتاب فأمسكَ بهذا الكتاب وضمّه فرحاً إلى صدره فيما ذرفتْ عيناه وقال أنا لا شيء دون سعاده فطارت منّي نسخة بدر فاستنجدت بعبّودي أبو جودي فأنقذني بنسخة ثانية.
تقودني رؤيتي للصورة الوثيقة، ربّما، إلى سخط ما عليّ من صفية واستياء منّي من أليسار، وأنا لا رغبةَ لي في ذلك، ولربّما غضبَ بدر منّي وحنقتْ غدي عليّ، أمّا عبّودي أبو جودة فمسامحٌ كريم، عهدي به، طبعاً، وليس فقط لأنّه يمدّني بدبس أهل قرينته أليسا، بل أيضاً لتطييره إليّ كتب دار فراته إلى هذا المنأى عند حافّة الكون، لكن للضرورة أحكام، وأحياناً أحلام، فأنا لم أقع في الكتاب على صورة لجورج عبد المسيح ولا وردَ اسمه في النصّ ولا حتّى في حاشيه، وبالتالي، ولا في فهرس الأعلام. سمعتُ على مدى خمسين عن عبد المسيح (نزول طلوع) وقرأت عنه (عرض طول). رأيته مرّة واحدة في حياتي، عام 1997. ذهبتُ مع يوسف سلامة وهشام شرابي إلى جنازة أبو تمّوز، الياس جرجي قنيزح. دخل عبد المسيح باحة الكنيسة يتكىء على رفيقين وكان هرماً في التسعين. تلفّتَ يمنةً ويسرةً. قال سلامة نشالله ما يشوفنا، فاستغربتُ قولَه. فجأة نادى عبد المسيح عليه (ولَكْ يا يوسف) (كذا) فقال شرابي (كَمَشْنا) فاستغربتُ ثانية. وسأل (مين حدّك يا يوسف مش هشام) ومين هيدا الولد معكن. ردّ يوسف (نعم سيّدنا وهيدا الولد عمرو خمسين)، فأعجبني ردّه سيّدنا. فبادرَه عبد المسيح (وليش ما عدنا التقينا). أجاب يوسف (اختلفنا من 1955). وأردفَ عبد المسيح (طيّب هيدا من زمان) ودخل الكنيسة. ثمّ أليسَ جورج عبد المسيح من دوّن محاضرات الزعيم العشر التي كان الزعيم نفسه أقرّ بموافقته على الخمس الأُولى منها ثمّ انشغلَ بنفض الحزب مما علقَ به من أردان، من خروج على العقيدة. أنطون سعاده: شهادة الصّورة 1904 – 1949 لبدر وغدي وبهمّة صفيّة وأليسار فتحٌ تاريخي، وكنزٌ مَعرفي، كتابٌ كان لا بُدّ من صدوره، وهذه الصُّور وهذه الوثائق لهي جزءٌ أساسي لا يتجزّأ من إرث سعاده، فمادّة الصُّور لا غنىً عنها لأي توثيق لاحق، وعليه، فإنّها مدماكُ درسٍ وبحثٍ، وهي المرّة الأُولى في تاريخ الحزب السوري القومي الإجتماعي تُردّ فيه إلى زعيمه صورتُه الجليّة الواضحة، فبُورك جهد بدر وغدي وصفيّة وأليسار المبذول، وطوبى لهم إرساء محبّتنا للزعيم، ولئن كان بودّي قراءة تقديم للكتاب من صفيّة وأليسار، فهما قولٌ فصلٌ وحقّ لنا، وإنْ كانتْ صلتي بهما على مدى خمسين، مصدرَ حبورٍ وسعادةٍ لمعرفتي بهما، مع راغدة صغرى بنات الزعيم، فشهادتي مجروحة وجبّتي صوفةٌ حمراء، وأنا لكريمات الزعيم ما حييتُ، فعقيدة سعاده ما أبقاني رغم ما جرّ عليّ الانقسام من أرق وقلق، وكفاني دائماً أنّي مدين للزعيم بوقفة عزّ فقط هي كلّ ما أملك حق الساعة في هذه الدنيا، وهذا كافٍ.
آمن الحزب القومي بالصراع الفكري في مسيرته بريادة الزعيم، فلم يُخوِّن ولم يتّهم ولم يُقاصص ولم يُعاتب، بل وجّه سهمَ النقد إلى حيث يجب، لا للتجريح، بل للتوجيه، ففي محاضرته الأولى، زبدة فكره، إثر عودته من الأرجنتين، لامَ فايز صايغ ويوسف الخال وحلمي المعلوف وفوزي المعلوف وغسّان تويني ونعمه تابت ويوسف نويهض ومأمون أيّاس لخروجهم على العقيدة، فلم يقرّع ولم يؤنّب، بل عالج اشتراكاً بين هؤلاء، ليس إلّا، ولم يُخوِّن أحداً، وها هو حين رغب في تقويم وجوديّة صايغ جلسَ إليه على مدى أربع عشرة ساعة تحت صنوبر الشوير، وإذ وجد أنّ صايغ لم يَلِنْ قال له الزعيم فايز أنت حرّ وتصرّف فأنتَ في حلّ. هذه هي الديمقراطية ممارسة في عُرف الزعيم، ولا الزعيم نطق أبداً بغير خير فيما يخصّ فخري المعلوف.
وما جلستُ يوماً في حضرة القوميين مُجتمعين إلّا وسمعت مناداتهم بعضهم بعضاً "حضرة الرئيس"، "حضرة الأمين"، وها هي صورة الزعيم مخاطباً القوميين في اللاذقيّة، 1949، وإلى يمينه أدونيس، وهو في الثامنة عشرة ناظراً إلى الزعيم قدوةً له، بعد أن قدّمه للقوميين هناك، ولا يزال، مصدر ولاء، فلا صدمة حداثة تبدّله، لا ولا ثابت ولا متحوّل يحدّان من أفقه.
هكذا كنّا وهكذا نحن وكذلك نبقى وكما أعلن الزعيم نحن سيف العرب وترسه فيما كانت العروبة أفلست إثر سقوط فلسطين، وكذا نحن حين أوفدني الرئيس علي قانصو منذ عشرين إلى أستاذي كمال الصليبي. قلْ له الحزب يرغب في تكريمه. أعلمني الصليبي أنّه لا يكرّمه أحدٌ وكان من قبل رفضَ تكريم جامعته الأميركية له وأردف: قمتُ بواجبي، ليس إلّا. ثمّ أوفدني الرئيس قانصو إلى أنيس صايغ للغرض نفسه. وافقَ بشرط: أن يردّ الحزبُ الاعتبارَ إلى أخيه فايز. قال الرئيس قانصو: ليكنْ. وقفَ أنيس في قاعة فندق السفير بحضور مئات القوميين وألقى خطاباً تاريخيّاً صفّق له المجلس الأعلى، قبل الجمهور. في 1954 طُلبَ من أنيس إدخال فؤاد رفقه إلى الحزب، فراقبَ حركاتِه وسكناتِه، وراءه مُمسكاً بكتاب شعر ومُنبطحاً على عشبْ أميركيّة بيروت، وشاهدَه جالساً على غصن شجرة متأمّلاً، وناظراً إلى البحر، تلميذَ فلسفة، ينظمُ قصائدَ، فرفعَ أنيس تقريره: ليبقَ خارج الحزب يُفده أكثر. أوليس ما قاله سعيد تقي الدين أحد آحاد النثر الفنّي في الحزب القومي: "وما كانت الحياة الحزبيّة لتخلوَ من الفكاهة" على صواب حتى الساعة! وجرى في مجراه الأمين عبدالله قبرصي ومحمد يوسف حمّود ويوسف سلامة وأنيس صايغ.
بقي أن أقول قبل مغادرة أنطون سعاده: شهادة الصُورة 1904 – 1949، ولو إلى حين، من باب الغمز واللمز، فليتّسعْ صدرُ بدر وصدرُ غدي وصدرُ صفيّة وصدرُ أليسار، فأقول أنّ صورة سعاده البهيّة وهو جالسٌ في مقهى الغلاييني عند بحر بيروت وعيناه تُبصران الثورة الاجتماعيّة الأولى من قريب وابتسامة على شفتيه في ساعة الوداع، في آخر ربيع من حياته، نيسان 1949، مُحاطاً بيوسف سلامة وهشام شرابي وفؤاد نجّار ولبيب زويّا يمق، وليس خالد جنبلاط، كما وردَ في الكتاب، لهي صورةٌ تاريخيّة تجمّد الزمان، بدا فيها لبيب زويّا يمق ناصعاً قبل عشرين على إصداره أطروحته في جامعة هارڤرد كتاباً عن عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي بعنوان: The Syrian Social Nationalist Party: An Ideological Analysis (1966). فهذا الخبز الروحي الطازج أبداً، الوافد من دستور الزعيم، دلالة واضحة أنْ ليسَ للواجب القومي حدود، سوى سُدرة المنتهى.
أعلى سعاده في أثره النفيس الصراع الفكري، بونس أيرس 1942، من شأن أبو العلاء المعرّي، فرأى فيه الشاعر السوري الخالد، وأكبرَ من قيمته الفلسفيّة، هو الذي من عشرة قرون رسمَ تضاريس وقفة العِزّ في صرفِه الشِّعرَ عن الخيال إلى الحقيقة، فجعلَه مسرحاً للنظر في الطبيعة والتفكير في الخلق والحكمة الاجتماعيّة:
تُعدُّ ذنوبي، عند قومٍ، كثيرةً،
ولا ذنبَ لي، إلا العُلى والفضائلُ
وقد سارَ ذكري في البلادِ، فمن لهم
بإخفاءِ شمسٍ، ضوءُها متكاملُ
فإن كان في لُبس الفتى شرفٌ له
فما السيفُ إلّا غمدَهُ والحمائلُ
فيا موتُ زُرْ، إنّ الحياة ذميمةٌ،
ويا نفسُ جِدّي، إن دهركِ هازلُ!
على هذا النحو هي المبادىء مكتنزاتُ الفكر والقوى وهي قواعد انطلاق الفكر في اتّجاه واضح، وها هو شهادة الصُّور قاعدة انطلاق في اتّجاه واضح، فهنيئاً لبدر وغدي وصفيّة وأليسار، وطوبى لهم، أبناء الحياة، ملحُ العقيدة، فإذا فسد الملح فبماذا يُملّح؟ أعود إلى جرأة أبو العلاء، وعليها عوّلَ الزعيم، وعلى جرأة الزعيم نحن نعوِّل، ونحن اليوم في مسارنا الحزبي على منعطف خطير وعند لحظة تاريخيّة تنذر بالويل والثبور وعظائم الأُمور، وهي جرأة الزعيم نفسها هي هي أن أفردَ بدر وغدي وصفيّة وأليسار عدّة صورَ في الكتاب لفايز صايغ مع الزعيم، وهو، لعلّه، أكبر متمرّد في تاريخ الحزب القومي، حين أصدر في 1947 كتابه إلى أين؟ بحث تحليلي نقدي في موقف "الحزب السوري القومي الاجتماعي" من الفكر والدين وحريّتهما (بيروت، دار الكتاب، 1947) رفعه إلى سعاده:
إلى
الذي كان زعيمي؛
والذي – على ضوء تعاليمه وقدوته،
في مراحل نضاله الأولى –
أحكم الآن على تطوّراته وانقلاباته الأخيرة،
الخطيرة والخطرة.
وأنهى كتابه على الصفحة 119 على النحو التالي:
وانّي اعلنكم [لعلّه قصدَ أُعلمكم] أنّي لم أنتمِ يوماً
من الأيّام إلى "الحزب السوري
القومي الاجتماعي" المُستحدث. أمّا "الحزب
السوري القومي" الذي حللتموه [كذا]،
والذي جعلتموني في حلّ من قسمي
تجاهه، فقد انتهى وانتهت سلطاتكم
الدستوريّة فيه.
إنّ الأمانة للمبادىء تستطيع
أن تستمرّ في ضمائر الأعضاء، حتى
ولو كان زعيمهم قد حادَ عنها. وانّها
فيّ لمستمرّة!
هذا، وتفضّلوا بقبلول احترامي:
فايز صايغ
سابقا:
- عميد الثقافة والفنون الجميلة
- عميد الإذاعة
- ناموس مجلس العمد
- عضو المجلس الأعلى
- عضو المكتب السياسي
- رئيس تحرير جريدة "صدى النهضة"
وإنّها طبعاً لجرأة بنفسِ تمرّدٍ، وهي حتماً جرأة وافدة من تراث الحزب السّوري القومي، وهو تمرّدٌ ينسلُّ من تربية صايغ السوريّة، مولداً، الفلسطينيّة، نشأةً، اللبنانيّة (لجهة والدته عفيفة البتروني)، ثقافة، هو الذي انخرط في الحزب القومي، في 1937، إلى جانب إخوته يوسف وفؤاد وأنيس بمباركة من أبيهم القسّ عبدالله صايغ، فيما انحاز إلى عقيدة الحزب باقي إخوته: ماري ومنير وتوفيق، ولأنّ الزعيم عرفَهم فرداً فرداً وباتَ عندهم في منزل العائلة في طبرية قبل سفره من ميناء حيفا إلى قبرص عام 1938، هو فايز نفسه القومي المتمرّد العنيد، إلّا أنّ سعةَ صدر الزعيم أنفتْ أن تردَّ الصاع صاعيْن والمكيال مكياليْن، إذ قرأ الزعيم إلى أين؟ فابتسمَ في قرارة نفسه قائلاً هذا الخبز من هذا العجين وأدركَ أنّ الصراع الفكري في الحزب القومي جوهر عقيدته وأنّ الخلاف ليس بالضرورة فاتحةً للانقسام داخل صفوف الحزب، فقاسمُه المشترك الأكبر هو سعاده نفسه، زعيماً ومفكّراً وقدوة.
منذ قرابة أربعين كنّا صفيّة وأنا ذاهبيْن للتدريس في أميركيّة بيروت، زمن عزّها، حين حيّاها من على رصيف مقابل رجلٌ نيّف على ما بدا لي على السبعين وتقدّم نحونا وخاطب صفيّة برفق وتواضع، كأنّه خشوع، وكان بقميص نصف كمّ مسدل على بنطاله ويداه وراء ظهره فيما أصابعه تكرّان حبّات مسبحة، ثمّ انصرف. سألتها من يكون قالت عبدالله محسن! فهمستُ في سرّي إن كان رؤساء الحزب على هذا المثال فلا خوف على الحزب. تلفتُّ لأتأكّد مما شخصتُه فإذا هو يداه خلف ظهره ويكرّ حبّات مسبحته فيما كان رافع الهامة ناظراً إلى أعلى. ثمّ انّي تلفتُّ إلى الأمام وصفيّة تغذُّ السيرَ أمامي، فجمدت حائراً، وفجأة تذكّرت أنّ الزعيم نفسه هو هو من بارك لقاء عبدالله محسن و هيام نصرالله، في سكن أهلها في الحدث، وسط البساتين، عند الغدير، في نيسان 1948، بحضور الأمينة الأُولى، تماماً كما في الصّور في شهادة الصورة، معي هنا، ثمّ انتبهتُ إلى أنّ صفيّة لا سبيلَ إلى اللحاق بها، عهدي بالزعيم لا سبيلَ إلى اللحاق به، ولكن ما لا سبيل إليه، لا حيلة فيه، وما خطر ببالي ساعتئذٍ إلّا أنّ سعاده وقفَ حياتَه كلَّها على فلسطين وفي سبيل فلسطين، وكان في السابعة عشرة عام 1921، حين نقضَ وعد بلفور وعرّاه، جملةً وتفصيلاً، فرأى فيه أفظعَ خيانةٍ تاريخيّة لمطالبِ السوريين القوميّة، وكانتْ أبيات الأخطل الصغير في قصيدته "ثورة فلسطين" مواكبةً لهدي سابق من سعاده، وتفاجأت وأنا أقلّب صفحات شهادة الصّورة، إن شاهدتُ مقابلة تلفزيونيّة قديمة، تعود إلى ستّين خلتْ، مع المطرب والملحّن السوري النابغة فريد الأطرش يلقي فيها القصيدة بأكملها عن ظهر قلب بأبياتها التسعة عشر، ومنها أقتطف:
عُرسُ الأحرار، أن تَسقيَ العِدى
أكؤساً حُمْراً وأنغاماً حزانى
يا جهاداً صفّقَ المجدُ له
لبِسَ الغارُ عليه الأُرجوانا
شرفٌ باهتْ فلسطين به
وبناءٌ للمعالي لا يُدانى
قُمْ إلى الأبطال نلمسْ جرحَهم
لمسةً تسبحُ بالطّيبِ يدانا
قمْ نجُعْ يوماً من العمر لهم
هبْهُ صومَ الفصحِ هبْهُ رمضانا
إنّما الحقُّ الذي ماتوا له
حقُّنا، نمشي إليه أين كانا
فنحن، جرأة، للزعيم، من قبل ومن بعد، للزعيم، ونحن أبداً تحت راية الزوبعة، مجنحةً إلى الأمام وصاعدةً إلى الأعالي، صلةَ وصل به وبفكره، وسببَ حياة متين، ولتحيا سورية ويحيا الزعيم والخلود لسعاده، ما بقينا متمسّكين بفكره الوضّاء، وتراثه المكين. إنّه هو هو شهادة الصُّورة، بتجليّاتها، وهو هو صورة الشهادة، بدقائقها.
هو الذي جنّبنا البهرجة النرجسيّة وحرّرنا من الفخفخة السياسيّة وفكّ أسرَنا من الميعان الفردي، هو الذي غادر الدنيا وفي جيب سترته 400 ليرة فقط لا غير، أوصى بها في محاكمته لزوجته وكريماته الثلاث، بالتساوي، ومُلكاً له في الشوير لهنّ، بالتساوي، فكان أغنانا جاهاً وفكراً وشهادة، وهي سترتُه نفسها طواها في سجن الرمل المركزي فجعلها مخدّته ليلقي رأسه عليها إثر سبع ساعات من محاكمته وقف فيها صلباً لم تثنِ له ركبةٌ ولم ينحنِ له ظهر، فغفا لساعة، قبل إعدامه، فما أن انطلق عليه الرصاص من اثنتي عشرة بندقيّة حتى صرخ في آن تحيا سورية، وكما شاء على مدى ربع قرن من نضاله بقي هو هو وبقى حزبه هو هو.
كان أستاذي جبرائيل جبّور الوافد من القريتين ناحية حُمص وقد عرفَ الزعيم عن كثب في الثلاثينات، يردّد على مسامعنا وهو يدقّق في مسوّدات الموسوعة الفلسطينيّة لتلميذه أنيس صايغ، وقد نيّف على الخامسة والثمانين، بعزم ونشاط نادريْن، بيتين للكامل الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا أميمَ أخي
فإذا رميتُ يُصيبني سَهمي
فلئنْ عفوتُ لأعفُوَنْ جَلَلاً
ولئن سطوتُ لأُوهِنَنْ عظمي