هل يكفي، في اللحظة الراهنة، أن نتخطّى الانقسام الحزبي الداخلي ونوائم بين المؤسسات المتنازعة كي تعود الحركة القومية الاجتماعية إلى دورها التاريخي؟ وهل يكفي ترميم البناء التنظيمي كي ينهض من جديد مشروع النهضة الذي صاغه أنطون سعاده قبل ما يقارب القرن؟
الإجابة الواقعية، مهما حاول البعض تبسيطها، هي: لا.
فالنهضة لم تكن يوماً مسألة تنظيمية محض، بل كانت ولا تزال مشروعاً حضارياً شاملاً يستند إلى رؤية فكرية عميقة، ويتطلب بيئة اجتماعية–اقتصادية–سياسية–ثقافية–تكنولوجية متكاملة لكي يعمل ويتحوّل من فكرة إلى قوة مؤثرة. وما كان ممكناً في زمن سعاده، زمن الانتداب والتجزئة الأولى وبنى المجتمع الريفية والاقتصاد الزراعي وضعف الدولة الحديثة، لم يعد صالحاً بذاته في عالم يحكمه اليوم الذكاء الاصطناعي، والحروب السيبرانية، والسرديات الرقمية العابرة للحدود، والتحالفات الجيوسياسية المعقّدة، والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية التي بدّلت البنية النفسية والوجدانية للإنسان - المجتمع.
صحيح أن المنطلقات العقائدية ثابتة، وأن حقائق التاريخ والجغرافيا لم تتغيّر، وأن الأمة السورية—بجغرافيتها الممتدة عبر لبنان وفلسطين والأردن والشام والعراق وأقاليم أخرى—لا تزال حقيقة اجتماعية–تاريخية راسخة، ولو بالقوة وليس بالفعل. لكن التغيرات الكبرى التي عرفتها المنطقة والعالم منذ ثلاثينات القرن الماضي جعلت النهضة بحاجة إلى تطوير عميق في الأدوات والمقاربات والخطاب وآليات العمل. فلا يمكن للأفكار، مهما كانت عظيمة، أن تؤدي دورها في عصر جديد بوسائل قديمة.
من هنا، فإن توحيد التنظيم، على أهميته وضرورته، ليس شرطاً كافياً للنهضة، ولا يمكن أن يكون بديلاً عن تجديد المشروع نفسه. فالفكرة ما زالت قادرة على العمل والإلهام، لكن الزمن تغيّر، وإذا لم تتغيّر معه أدواتنا، بقي الفكر محلّقاً في فضاء مثالي بينما تبقى الأداة عاجزة عن تحقيق غايته.
ولهذا، قبل أن نناقش شروط ومستلزمات النهضة اليوم وسبل تجديدها، لا بدّ من مواجهة سؤال جوهري يتكرّر منذ عقود:
لماذا لم تنتصر النهضة حتى الآن، رغم عمق الفكر واتساع تأثيره ووضوح التشخيص الذي قدّمه سعاده؟
________________________________________
عندما نقرأ تاريخ الحركة القومية الاجتماعية بوعي نقدي، ندرك سريعاً أنّ سؤال "لماذا لم تنتصر النهضة؟" ليس سؤالاً عاطفياً أو جلدياً، بل سؤال منهجي يرتبط بطبيعة المشروع نفسه وبالبيئة التي ولد فيها وبالقوى التي واجهته منذ اللحظة الأولى.
فمشروع أنطون سعاده لم يكن مشروع حزب بالمعنى التقليدي، بل كان مشروعاً لإعادة تشكيل البلاد على أسس جديدة بالكامل: دولة علمية–مدنية، مجتمع موحّد، اقتصاد منتج، وهوية قومية تتجاوز الانقسامات، وصراع وجودي واضح مع المشروع اليهودي الصهيوني.
وقد أدركت القوى المسيطرة في ذلك الزمن خطورة هذا المشروع قبل أن يكتمل نموّه.
فالانتداب الفرنسي والأنظمة الطائفية الناشئة والطبقات السياسية المرتبطة بالخارج والمشروع الصهيوني الذي كان يتشكل في فلسطين، كلها تعاملت مع الحركة القومية الاجتماعية على أنها تهديد وجودي لبنيتها ومصالحها.
ولذلك لم تكن المواجهة مجرد سجال فكري، بل كانت هجوماً متعدد الاتجاهات هدفه إسقاط المشروع في مهده ومنع تحوّله إلى قوة مقرِّرة في مصير المنطقة.
تنوّعت أشكال الحرب على الحزب:
• قمع سياسي عبر الاعتقالات والملاحقات،
• تحريض طائفي منظم لإثارة مخاوف الجماعات،
• تشويه إعلامي يهدف إلى شيطنته ونزع شرعيته،
• حرب استخباراتية عبر الاختراق والتفكيك وتشجيع الانقسامات،
• وتحالفات إقليمية هدفت إما إلى عزله أو ابتلاعه أو استغلاله لمصالح خارجية.
وقد بلغت هذه الحرب ذروتها في عام 1949، حين جرى التخلص من سعاده نفسه، في عملية لا يمكن اعتبارها قراراً محلياً، بل تنفيذاً لإرادة دولية وإقليمية رأت في مشروعه خطراً على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية وعلى المشروع الصهيوني تحديداً. فقد كان المطلوب أن يُقطع رأس المشروع قبل أن يُرسّخ جذوره.
لكن الحرب على النهضة لم تتوقف عند هذا الحد.
فبعد غياب سعاده، واجه الحزب سلسلة طويلة من الضربات: منع من العمل العلني، ملاحقات، اعتقالات، تفجيرات، حظر سياسي وإعلامي، محاولات احتواء من قوى محلية وإقليمية، ودفعه في أحيان كثيرة إلى الدخول في تحالفات لا تشبه روح النهضة ولا تعكس أهدافها.
كما شهد الحزب فترات من الاختراقات الداخلية التي عمّقت الانقسام وشتّتت الطاقات، فغلبت على بعض المراحل حسابات الأشخاص والمواقع على حساب المشروع النهضوي نفسه.
وفي الموازاة، واجه الحزب تحديات ذاتية كان لها أثر كبير في الحد من قدرته على تحويل الفكر إلى قوة تغيير. وهذه بعض التحديات التي واجهها في مراحل متتالية، ولو بنسب تختلف من مرحلة الى أخرى:
• ضعف في التربية الفكرية،
• جمود في البنية التنظيمية،
• بطء في تجديد الأدوات بما يواكب العصر،
• قصور في مواكبة التحولات الاجتماعية والثقافية،
• وتأخر في إدخال مفاهيم التكنولوجيا والمعرفة الحديثة إلى بنية العمل الحزبي.
مع الزمن، بدا واضحاً أنّ الفكر كان أوسع من الأداة.
فالمشروع الذي صمّمه سعاده كان مشروعاً علمياً–حضارياً متكاملاً، لكن البيئة السياسية والاجتماعية لم تكن مهيّأة لاستقباله، في حين أن الأداة التنظيمية لم تتطوّر بالسرعة التي تغيّر بها العالم.
ومع ذلك، استمر الفكر حيث لم تنتصر الأداة.
فقد خرج مشروع سعاده من حدود التنظيم، وانتشر في الوعي الثقافي والاجتماعي، وتحوّل إلى أحد أكثر المشاريع القومية–الاجتماعية تأثيراً في المشرق العربي، يُقرأ ويُناقش ويتجدّد خارج الحزب أكثر مما يتجدّد داخله.
لكن النهضة—أي نهضة—لا تنتصر بالفكر وحده، بل بأداة تمتلك القدرة على ترجمة هذا الفكر إلى فعل في كل زمن.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي الذي يجب على النهضة القومية الاجتماعية مواجهته اليوم:
كيف نُنتج أداة جديدة معاصرة تليق بالفكر، وتنسجم مع شروط العصر، وتستطيع أن تحوّل الرؤية إلى قوة واقعية؟
________________________________________
حين أعلن أنطون سعاده تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، لم تكن بلادنا تمرّ بظرف عادي، بل كانت في قلب واحدة من أعقد اللحظات التاريخية في تاريخها الحديث.
كانت أوروبا الخارجة من الحرب العالمية الأولى تعيد رسم خريطتها، بينما فرضت بريطانيا وفرنسا على الهلال السوري الخصيب — لبنان، الشام، فلسطين، شرق الأردن، العراق — حدوداً مصطنعة هيمنت على حياة شعبه لأجيال. كانت كيانات سايكس–بيكو لا تزال في بداياتها، تُبنى فوق أسس طائفية وإثنية هشّة، مع سياسات استعمارية تهدف إلى إعادة إنتاج الانقسام وإبقاء الشعب في حالة تجاذب دائم يمنعه من تشكيل قوة حضارية مستقلة.
في الداخل، كان المجتمع يعيش حالة تفكك عميق:
الطائفية كانت نظام الحكم، والعائلة والعشيرة هما المرجعية الكبرى، والانقسام الديني–المذهبي يمزّق النسيج الاجتماعي ويمنع تشكّل رأي عام موحّد وإرادة موحّدة ومصلحة عامة واحدة.
أما الاقتصاد فكان زراعياً محدوداً، تتحكم فيه الإقطاعية والبرجوازية التجارية الوسيطة، دون مؤسسات إنتاجية حقيقية قادرة على خلق تنمية وطنية، خاصة في ظل استغلال الانتداب للموارد والمصالح والأسواق.
كانت الأمية منتشرة، والنخب السياسية والثقافية مشرذمة بين تبعية للغرب أو انغلاق تقليدي لا يملك جواباً لعالم يتغيّر بسرعة.
وفي ظل هذا التفكك، كان المشروع اليهودي الصهيوني يخطو خطواته الكبرى نحو إقامة كيان استيطاني في فلسطين، مستنداً إلى دعم دولي منقطع النظير، فيما المنطقة غارقة في الفوضى والركود والانقسامات.
وسط هذا المشهد المأزوم، جاء مشروع سعاده مخالفاً تماماً لمألوف عصره.
لم يكن مجرد رد سياسي على التجزئة، بل كان خطة نظامية معاكسة، ومشروعاً فلسفياً – اجتماعياً – اقتصادياً – تربوياً – تغييرياً لإعادة تأسيس الأمة على أسس جديدة، تبدأ من الإنسان وتنتهي بالدولة.
قدّم سعاده منهجاً علمياً مبنياً على دراسة دقيقة للتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، وابتكر فلسفة تركيبيّة متكاملة هي المدرحية—إحدى أهم الإسهامات الفكرية في القرن العشرين—التي توفّق بين المادة والروح، بين الفرد والمجتمع، بين حاجات الحياة وغائية الوجود، بين التقدّم العلمي والقيم الأخلاقية.
بهذه الفلسفة، تجاوز سعاده الصراعات التقليدية بين المثالية الروحية والمادية، وطرح رؤية الإنسان – المجتمع، التي تجعل الإنسان الفرد قادراً على التوحّد مع مجتمعه من دون إلغاء كيانه كإمكانية فاعلة في المجتمع.
كما قدّم سعاده نموذجاً جديداً للديمقراطية هو الديمقراطية التعبيرية، التي تتجاوز الاقتراع الشكلي إلى إعادة ربط سلطة الدولة بإرادة المجتمع الحقيقيّة والتعبير عنها من خلال الوعي والتمرّس، وتحرير السياسة من هيمنة الطوائف والعائلات الطائفية والفساد والولاءات الخارجية، وتمثيلها في المجالس المنتخبة.
ورأى أن النهضة ليست مجرّد إصلاح للنظام، بل هي إنتاج لإنسان جديد: إنسان علمي، منضبط، منتج، متحرّر من العصبيّات، مؤمن بالمصلحة العامة، ومؤهّل ليكون جزءاً من مجتمع راقٍ ومتقدّم.
اقتصادياً، رسم سعاده خطوط "النظام الاقتصادي الجديد"، الذي يتخطّى الرأسمالية الطفيلية والمصالح الضيقة والإقطاع، ويضع الإنتاج — لا الريع — والعدالة في قلب حياة المجتمع.
ودفاعياً، طرح مفهوم الأمة المسلحة، لا بمعنى العسكرة، بل بمعنى أن الدفاع وظيفة اجتماعية لا يمكن أن تقوم بها فئة منفصلة عن الشعب، وأن الأمة بحاجة إلى جيش عقائدي حديث يحمي وحدتها وحقها في الحياة.
على هذا الأساس، حدّد سعاده أربع ركائز لبناء الدولة القومية الحديثة:
1- ضرورة قيام دولة قومية اجتماعية ديمقراطية بعد سقوط الإمبراطوريات الدينية والسلطنة العثمانية، على نموذج الدولة–الأمة الحديثة حيث الشعب هو مصدر السلطات.
2- الفصل بين الدين والدولة، احتراماً للدين كقيمة روحية، وحمايةً للمواطنة من التمييز، وضماناً لمجتمع عادل لا تتحكّم به الغرائز الدينية والطائفية.
3- منع التمييز العنصري والديني والمذهبي، باعتبار المواطنة أساس المساواة بين جميع السكان.
4- تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، لأن النهضة لا تقوم بنصف المجتمع.
وكان لهذا المشروع جذور فكرية وعلمية عميقة.
عاد سعاده إلى الوطن بلا مال أو نفوذ، بل بحلم ومشروع ضخم وإرادة فولاذية. أقام في عرزاله في ضهور الشوير، يكتب ويقرأ ويفكر ويصوغ أسس نهضة كاملة، يعيش بين الطبيعة التي أحبّها ويتأمل الجبل والبحر، فيما يبني في ذهنه عالمه الجديد والأمة المتجددة.
هكذا وُلد مشروع النهضة: مشروع علمي وفلسفي وسياسي واقتصادي وتربوي متكامل، هدفه إعادة بناء الأمة من جذورها، لا ترقيع بنيان مهترئ.
________________________________________
بعد نحو قرن على إطلاق مشروع النهضة، نقف أمام عالم لا يشبه شيئاً من العالم الذي عرفه سعاده.
ذلك العالم الذي بُنيت فيه الرؤية النهضوية—عالم الانتداب، الطائفية الأولى، الاقتصاد الزراعي، والإعلام التقليدي—قد انهار بالكامل. وما نشهده اليوم ليس مجرد تطوّر أو تبدّل تدريجي، بل تحوّل جذري في بنية الحياة الإنسانية بأكملها: في الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، والثقافة، والوعي، وحتى في معنى القوة ومصادرها.
نعيش اليوم في عالم تحكمه البيانات لا الجيوش، والمنصات الرقمية لا الحدود السياسية، والخوارزميات لا الخطابات التقليدية.
أصبحت السيطرة تُمارَس عبر التطبيقات، والشبكات، والمحتوى، والدعاية الرقمية، والعقوبات المالية، والتحكم بالتدفق المعرفي، والإغراق الثقافي الذي يفكّك الهوية ويعيد تشكيل الوعي من الخارج.
وإذا كان الاحتلال في زمن سعاده يمارس عبر الجيوش، فإن الاحتلال اليوم يمارس، إضافة الى الجيوش، عبر: اختراق البيانات، والسيطرة على الفضاء السيبراني، وصناعة الرأي العام، والتحكم بالعملات، وتوجيه الثقافة، والتحكم بسلاسل الإنتاج والاستهلاك.
في هذا السياق، انهارت دول بالكامل، وتهشّمت اقتصادات، وارتفعت نسب الفقر والهجرة والنزوح، وتلاشى كثير من شبكات الأمان الاجتماعي التي كانت تتيح استقراراً نسبياً.
وتحوّل المجتمع تحت وطأة الحروب الأهلية، والتفكك السياسي، والانهيارات المالية، والضغوط الخارجية إلى مجتمع مثقل باليأس، مثخن بالانقسامات، ضعيف الثقة بمؤسساته، وفاقد لليقين بالمستقبل.
أما الشباب، فقد وجد نفسه في عالمين متناقضين:
عالم رقمي مفتوح، سريع، مليء بالفرص والإمكانات، وعالم واقعي متداعٍ، تنتشر فيه البطالة، والهجرة، واللايقين، وفقدان المشروع الحضاري.
وبين هذين العالمين، ينشأ جيل يعيش حالة انفصال بين هويته الحيّة التي يبحث عنها، والواقع الذي لا يوفّر له بنية للازدهار أو الانتماء. فيرى أن الحل الأمثل للخلاص الشخصي هو في الهجرة والبحث عن ملجأ آمن في المغتربات.
التربية الرسمية انهارت تقريباً في معظم الكيانات، بينما التعليم الرقمي غير المنظّم خلق فجوات هائلة بين فئات المجتمع، وأعاد تشكيل طرق التفكير بشكل متسارع، من دون أسس نقدية أو توجيه فكري.
وفي موازاة هذا الانهيار، صعدت الطائفية والتطرف بأشكال جديدة أكثر تنظيماً وخطورة، مستفيدة من الإعلام الرقمي، وحروب السرديات، وخوارزميات الانقسام.
وعلى صعيد الدفاع، لم تعد الجيوش التقليدية وحدها حاسمة. المعارك اليوم تُخاض بالدرونز، والروبوتات القتالية، والذكاء الاصطناعي العسكري، وأنظمة القيادة والسيطرة الرقمية، والحرب الإلكترونية، والتجسس السيبراني. لم يعد التفوق في عدد الجنود أو العتاد كافياً، بل أصبح التفوق الحقيقي في القدرة على التحكم بالمعلومات، والشبكات، والاتصالات والتقنيات الحديثة.
وفي مقابل هذا التحوّل الهائل، بقيت أدوات النهضة—في جانب واسع منها—أسيرة زمن آخر.
بقي الخطاب كلاسيكياً، وآليات العمل تقليدية، والمنهج التنظيمي بطيئاً، والقدرة على التعامل مع التحولات التكنولوجية والاجتماعية محدودة.
ولذلك، برغم أن جوهر الفكر القومي الاجتماعي ما زال يحتفظ بقوته المعرفية وصدقيته التاريخية، إلا أنّ آليات العمل التي تناسب عالم الثلاثينات لا يمكن أن تكون هي نفسها الآليات التي تواجه عالم الذكاء الاصطناعي، واقتصاد المعرفة، والسيادة الرقمية، والحروب السيبرانية.
لقد تغيّر العالم… ولم تتغيّر الأدوات.
وتلك هي الفجوة الكبرى التي يجب على النهضة اليوم أن تجسرها، إذا أرادت أن تعود مشروعاً قادراً على التأثير والفعل في حياة الأمة.
________________________________________
في الواقع الراهن، يبرز سؤال لا يمكن تجاهله:
هل يمكن اليوم الحديث عن وحدة قومية أو سياسية شاملة على مستوى الأمة في ظلّ الصراعات الإقليمية، والأحقاد الطائفية، والانقسامات بين الكيانات وداخلها، وترسّخ الهويات الوطنية المحلية بعد عقود من قيام الكيانات الحديثة؟
أم أنّ المقاربة الأكثر واقعية هي إطلاق مبادرات جديدة مثل مجلس تعاون مشرقي يجمع الكيانات القائمة في إطار تكاملي، يراكم المصالح المشتركة ويعيد وصل ما انقطع من دورة الحياة الاجتماعية الاقتصادية بين أجزاء الأمة؟
وحتى الحديث عن “مجلس تعاون مشرقي” أو “مجلس تعاون لسورية الطبيعية” — في ظل واقع سياسي متصدّع — قد يبدو ضرباً من الرومانسية السياسية. فالكيانات القائمة في سورية الطبيعية اليوم تختلف جذرياً في أنظمتها، وولاءاتها الخارجية، وسياساتها الاقتصادية، وتوازنات الحكم فيها. الحدود مشدودة، والثقة شبه معدومة، والمخاوف متراكمة، والانقسامات الاجتماعية متجذّرة منذ عشرات السنين. فكيف يمكن لحركة النهضة أن تتحدث عن تعاون أو تكامل في بيئة سياسية كهذه؟
لكن هذا السؤال، رغم مشروعيته، يفترض مسبقاً أن التكامل هو نتاج قرار رسمي يصدر عن قمم سياسية. بينما التاريخ يثبت أن المشاريع الوحدوية والتكاملية الكبرى تبدأ من المجتمع، لا من السلطة؛ من الاقتصاد والثقافة والتعليم، لا من المؤتمرات؛ من سلاسل الإنتاج والتبادل والدورة الاجتماعية الاقتصادية، لا من القصور الرئاسية؛ ومن الوعي الجمعي المتحرّك، لا من النخب المنكفئة.
وهنا يتبدّى الدور الجديد الذي يمكن لحركة النهضة القومية الاجتماعية أن تضطلع به في القرن الحادي والعشرين. فالنهضة اليوم ليست دولة كي تفرض التعاون بالقوة، وليست نظاماً سياسياً كي ترسم سياسات رسمية. لكنها تستطيع أن تكون قوة حضارية شعبية قادرة على تهيئة الشروط الموضوعية للتكامل، بحيث يصبح لاحقاً خياراً منطقياً بل وضاغطاً على الأنظمة نفسها.
1- التكامل يبدأ من المجتمع لا من القمّة
التكامل بين كيانات سورية الطبيعية ليس مشروعاً فوقياً يُفرض بقرار سياسي، بل هو مسار طويل يبدأ من: حركة التجارة والتبادل، وشبكات الإنتاج الزراعي والصناعي والمعرفي، والجامعات ومراكز البحث، والشباب والثقافة الرقمية، ومنصات المعرفة والمحتوى، والروابط المهنية والنقابية، والتعليم والتدريب والتواصل الشعبي.
إنّ بناء هذه الشبكات يخلق واقعاً جديداً يتقدّم على إرادة الأنظمة السياسية، ويجعل أي مجلس تعاون في المستقبل نتيجة طبيعية، لا فرضية فلسفية.
2- إنتاج المعرفة – بناء الرؤية قبل بناء المؤسسات
يمكن للنهضة أن تكون القوة الفكرية التي تُعدّ: دراسات اقتصادية–تنموية مشتركة، ونماذج تعاون في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والمعرفة، وخططاً لربط الأسواق والبنى التحتية، وبرامج للأمن الغذائي والمائي على مستوى سورية الطبيعية، وتصوّرات لنظم نقل واتصالات وطاقة عابرة للحدود.
فالتكامل يبدأ من رؤية علمية عميقة، ثم يتحوّل تدريجياً إلى إرادة مجتمعية ثم إلى إرادة سياسية.
3- الدبلوماسية الشعبية – ربط المجتمع بالمجتمع
بينما تعجز الأنظمة المتناقضة عن الحوار، تستطيع المجتمعات أن تبدأ الحوار بنفسها.
النهضة القومية الاجتماعية يمكنها: تحريك الجامعات لإنشاء برامج تبادل علمي وثقافي، وربط النقابات المهنية بين لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين، وإطلاق مبادرات شبابية مشتركة، ودعم مشاريع مجتمع مدني عابرة للكيانات، وتأسيس فضاءات ثقافية وفكرية تربط بين الكيانات ومواطنيها.
بهذه الطريقة، يُبنى مجتمع متعاون قبل أن يُبنى مجلس للتعاون.
4- الدبلوماسية الرقمية – معركة الوعي في الفضاء الإلكتروني
لم يعد الوعي يُصنع في الجرائد والخطب، بل في: المنصات الرقمية، والمحتوى المصوّر التفاعلي، والسرديات المتداولة، وحملات الرأي العام، والخوارزميات التي توجه تفكير الناس.
يمكن للنهضة أن تستعيد دورها عبر حرب وعي مضادة: مواجهة السرديات الطائفية والكيانية، وإنتاج محتوى يوحّد الوجدان القومي، وبناء منصّات تواصل محلية داخل الكيانات وفيما بينها، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتوجيه المحتوى العلمي والثقافي، وتحريك الوعي الجمعي نحو فكرة التعاون بين الكيانات.
في عصر الفضاء السيبراني، تصبح الدبلوماسية الرقمية أخطر من الدبلوماسية التقليدية وأكثر فعالية.
5- السيادة الرقمية – الدفاع عن الهوية في عالم بلا حدود
أحد أخطر أشكال الاحتلال اليوم هو الاحتلال الرقمي. أمن البيانات، والمحتوى، والشبكات، والاتصالات، كلها عناصر تحدد قوة الأمة.
يمكن للحركة النهضوية أن تساهم في: بناء شبكات معلومات مشتركة، وإطلاق بنى تحتية رقمية بين الكيانات، وتطوير أمن سيبراني مشترك، وحماية الهوية من الإغراق الثقافي، وإنشاء منصات مستقلة تعزز الوعي القومي والاجتماعي.
ما من تعاون بين الكيانات دون سيادة رقمية تُعيد للإرادة الاجتماعية السيطرة على وعيها.
6- محاربة التخلف والطائفية والكيانية – شروط بناء المجتمع الجديد
لا يقوم أي تكامل حقيقي في ظل الآفات السائدة: التخلف العلمي، والتطرف الديني والطائفي، والكيانية الضيقة، والفساد، والتبعية للخارج.
هنا يأتي دور النهضة في حرب الوعي: خطاب عقلاني علمي موحِّد، يعيد بناء الثقة بين الجماعات ويطرح مشروعاً حضارياً يلغي الحاجة إلى الهويات الجزئية. بهذا الخطاب تستطيع الحركة أن تصنع رأياً عاماً داخل الكيانات وعلى مساحة سورية الطبيعية، يرى في التعاون ضرورة حياتية، لا حلماً سياسياً.
7- تحويل التكامل من فكرة إلى واقع
حين يبدأ المجتمع—لا السلطة—ببناء شبكات اقتصاد وثقافة وتعليم ووَعْي مشتركة، يصبح أي نظام سياسي، مهما كان، مضطراً إلى التكيف مع هذا الواقع الجديد. فالأنظمة تتغير حين تتغيّر مصالح المجتمع، لا حين تتغيّر الخطابات.
هكذا تصبح النهضة: حركة توحيد للوعي، وقوة لبناء شبكات مصالح مشتركة، ومنصة للتعاون الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي، وإطاراً لتحويل التكامل من فكرة نظرية إلى ضرورة اجتماعية، وقوة حضارية تمهّد لمجتمع جديد أكثر استقراراً وإنتاجاً وفاعلية.
________________________________________
إنّ تجديد مشروع النهضة القومية الاجتماعية لا يعني مطلقاً تغيير مبادئها، بل إعادة ابتكار أدواتها لتتلاءم مع عصر مختلف جذرياً عن العصر الذي شهد ولادتها. فجوهر النهضة ثابت: بناء الإنسان الجديد، والمجتمع الموحد، والدولة المدنية العلمية، والاقتصاد المنتج، والدفاع المرتكز على مصلحة الأمة. لكن الأساليب التي صيغت في ثلاثينات القرن الماضي لم تعد كافية لعالم تحكمه التكنولوجيا الفائقة، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الرقمي، وتحوّلات الوعي والثقافة.
ولذلك فإن التحدي اليوم ليس في إعادة شرح الفكر، بل في إعادة صياغة آليات تنفيذه. وهنا تتضح مجموعة من المسارات التي يمكن أن تشكل “خطة عمل” للنهضة في القرن الحادي والعشرين:
1- في السياسة: من خطاب الوحدة الفورية إلى خطاب التكامل التدريجي
لم يعد واقع الكيانات والأنظمة يسمح بخطاب الوحدة السياسية المباشرة. لكن يمكن إعادة صياغة المشروع السياسي عبر:
• الانتقال إلى خطاب التكامل التدريجي بين الكيانات القائمة، ما يمهّد لمستقبل وحدوي واقعي.
• ترسيخ أدوات ومفاهيم التشاركية الرقمية التي تمنح المواطن قدرة فعل جديدة في المجال العام.
• صياغة برامج قطاعية عملية للشباب والنساء والمدينة والريف، تنقل النهضة من النظرية إلى الفعل.
• إعادة تعريف السياسة كفنّ إدارة المصلحة العامة وتحقيق الأهداف القومية لا كساحة صراع غريزي أو طائفي. السياسة هنا تصبح أداة لبناء المجتمع، لا لتفكيكه.
2- في الاقتصاد: من “النظام الاقتصادي الجديد” إلى اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي
تحدّث سعاده عن اقتصاد منتج راسخ على العدالة الاجتماعية والتنمية. اليوم، يجب تحويل هذه الرؤية إلى نموذج اقتصادي حديث يقوم على:
• اقتصاد المعرفة والابتكار.
• الذكاء الاصطناعي كقوة إنتاج جديدة.
• التعاونيات الإنتاجية التي تقلّل الاعتماد على رأس المال الكبير.
• ريادة الأعمال والشركات الناشئة.
• السيادة على البيانات باعتبارها ثروة قومية.
• الأمن الغذائي والمائي عبر شبكات زراعية–صناعية مترابطة.
• الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة كضرورة وجودية لا ترفاً.
بهذا يصبح الاقتصاد مشروع نهضة لا مشروع معيشة.
3- في التربية والثقافة: من التلقين إلى التفكير النقدي ومن التعليم الورقي إلى التعلم الرقمي
لا يمكن بناء نهضة بمدارس متداعية ومناهج قديمة. لذلك يجب أن تتبنّى النهضة:
• تحديث المناهج بالكامل على أسس العلوم الحديثة والمهارات الحياتية المعاصرة.
• رقمنة التعليم وتحويله إلى بيئة ابتكار لا إلى تكرار وانصياع.
• تعزيز التفكير النقدي والتحليل العلمي بدل الحفظ والتلقين.
• إنتاج محتوى ثقافي–فني عصري يربط الجيل الجديد بهويته وفضائه الحضاري.
• بناء منصّات رقمية قومية تعيد تشكيل الوعي وتربطه بالمعرفة الصحيحة.
التربية هنا تصبح مصنع الإنسان الجديد، كما أرادها سعاده.
5- في الاجتماع وعلم النفس: معالجة جراح الحروب وصناعة خطاب وحدوي جديد
النسيج الاجتماعي في الكيانات مثخن بالآلام، وبالنزوح، وبالفقر، وبالطائفية، وبالفساد وتدنٍ في القيم الأخلاقية، وبالهويات الجزئية، وبفقدان الثقة.
لذا يجب أن يعمل مشروع النهضة على:
• معالجة ندوب الحروب والتفكك عبر خطاب إنساني عقلاني.
• بناء سردية وحدوية جديدة تقوم على الكرامة والعدالة والحرية.
• إعادة تعريف الهوية القومية باعتبارها مشروعاً للنهضة لا شعاراً سياسياً.
• إحياء قيم التعاون والتضامن الاجتماعي في مواجهة الفردانية المفرطة والعشائرية المنغلقة والطائفية العنصرية الإقصائية والكيانية الضيقة.
النهضة في بعدها الاجتماعي ليست صراعاً مع الآخر، بل صراعاً مع الانقسام.
5- في الدفاع: من “الأمة المسلحة” إلى “الأمة الذكية”
لم تعد القوة العسكرية تُقاس فقط بعدد الجنود ولا بحجم السلاح التقليدي. اليوم القوة هي امتلاك المعرفة والتقنيات الحديثة مثل: درونز، وروبوتات قتالية، وأسلحة دقيقة، وأقمار صناعية، وذكاء اصطناعي عسكري، وقدرات سيبرانية هجومية ودفاعية، وحرب إلكترونية، وشبكات قيادة وسيطرة رقمية.
لذلك يجب تحويل مفهوم “الأمة المسلحة” إلى مفهوم الأمة الذكية: أمة قادرة على خوض صراعات العصر بأدوات العصر، وعلى حماية وجودها في ميدان جديد هو ميدان المعلومات والتحليل الذكي للبيانات.
6- في القيم: الواجب، والنظام، والقوة، والحرية… بلغة العصر
وضع سعاده شعارات النهضة الكبرى، وهي ليست مجرد كلمات، بل قواعد لنهضة إنسانية عميقة. لكنها تحتاج إلى إعادة صياغة معاصرة:
• الواجب: المسؤولية المدنية والرقمية والمجتمعية.
• النظام: الحوكمة، واحترام القانون، والشفافية والانضباط والالتزام.
• القوة: قوة المعرفة، والابتكار، والإنتاج، والصمود.
• الحرية: حرية الفكر، والضمير، والإبداع، والأخلاق، والحق في المعرفة.
وتتكامل هذه المبادئ مع ثلاثية الحق والخير والجمال، التي تمثل البعد الأخلاقي – الإنساني للنهضة، وتجعلها مشروعاً روحياً بقدر ما هي مشروع سياسي–اقتصادي.
إن النهضة اليوم لا تُبنى بإعادة تكرار خطاب الأمس، بل بتجديد أدوات الفعل.
جوهر المشروع لا يزال صالحاً، بل أكثر حاجة من أي وقت مضى، لكن الزمن تغيّر، وما لم تتغيّر معه آليات النهضة، سيبقى الفكر عظيماً… والأداة عاجزة.
النهضة في القرن الحادي والعشرين يجب أن تكون: علمية في أدواتها، ورقمية في بنيتها، واجتماعية في خطابها، واقتصادية في عملها، وحضارية في رؤيتها، وإنسانية في غايتها.
________________________________________
تقف النهضة القومية الاجتماعية اليوم أمام لحظة تاريخية مفصلية: إمّا أن تبقى صفحة مشرقة في ذاكرة الفكر السياسي–الاجتماعي دون قدرة على الفعل، وإمّا أن تستعيد روحها الأولى وتولد من جديد كـ نهضة ثانية—نهضة تعي العصر، وتُعصرن أدواتها، وتعيد إنتاج ذاتها بما يناسب تحديات القرن الحادي والعشرين.
لم يعد يكفي إصلاح التنظيم، ولا توحيد المؤسسات، ولا إدارة الخلافات، ولا تمجيد الماضي.
فالنهضة ليست مؤسسة، بل مشروع حضاريّ لإعادة بناء الإنسان والمجتمع والدولة. والمشروع الحضاري لا ينتصر إذا بقيت أداته أسيرة زمن آخر.
اليوم، يصبح السؤال الأساسي: هل نستطيع إعادة الماضي؟ والجواب: كلا.
لكن السؤال الأهم: هل نستطيع بناء مستقبل يليق بحقيقة الأمة السورية؟ والجواب: نعم—إذا امتلكنا جرأة التجديد، وشجاعة الوعي، وروح العمل.
فالسنوات العشر القادمة يمكن أن تكون عقد الانهيار الكامل إذا استمر التراجع، أو يمكن أن تكون عقد النهضة الثانية—نهضة تبدأ من الفكر، وتتحوّل إلى مؤسسات، ومشاريع، وطاقات بشرية، ومبادرات اقتصادية–ثقافية–تكنولوجية، وتعاون واقعي على مساحة سورية الطبيعية يبدأ من المجتمع ويضغط على الدولة.
إن تحويل فكر سعاده إلى حركة حضارية فاعلة يعني أن تصبح النهضة قوة: تفكّر بعمق، وتخطّط بعلم، وتبني بالمعرفة، وتصنع التكامل، وتُطلق طاقات الشباب، وتقاوم الطائفية والتفكك، وتواجه الاحتلال الجديد — الرقمي والاقتصادي والسردي والعسكري — بأدوات العصر.
لقد قال سعاده في ظروف صعبة للغاية: "إن فيكم قوة لو فُعّلت لغيّرت وجه التاريخ."
وتلك القوة لم تمت. إنها موجودة في وعي الجيل الجديد، في عطش المجتمع إلى مستقبل أفضل، في حاجة الأمة إلى مشروع جامع، وفي قدرة النهضة على أن تفتح الطريق عندما تنغلق كل الطرق.
إن التاريخ لا ينتظر، والنهضة لا تُستعاد بالنوستالجيا، بل بالفعل، وبالجرأة، وبالرؤية التي تعانق المستقبل وتصنعه بدل أن تبكي على الماضي.
وإذا امتلكت الحركة القدرة على تحويل مشروعها إلى برنامج عمل لعقدٍ كامل — عقد تفكير، وبناء، وتكامل، وتحرّر، وابتكار — فإن النهضة الثانية لن تكون حلماً، بل حقيقة تتشكّل، وقوة تفعل. وإنها لفاعلة.