عندما أطلّ أنطون سعاده على واقع الأمة السورية في مطلع القرن العشرين، رأى مشهداً مأساوياً لأمة تعاني من التشرذم والتبعية والتضعضع والانحلال وانحطاط المعنويات. لكنه لم يقف عند حدود التشخيص، بل أطلق مشروعاً نهضوياً شاملاً تجسّد في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. لم يكن هذا التأسيس مجرد رد فعل على الواقع المأزوم، بل كان إعلاناً لميلاد تاريخ جديد، وبداية لمسيرة تحرر شاملة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمجتمع والدولة.
التأسيس: حركة شعبية تغييرية
لم يكن تأسيس الحزب مجرد حدث سياسي، بل كان حركة شعبية واسعة جمعت قوى الشباب في بوتقة واحدة، وصهرت مختلف العقليات لتشكيل نفسية قومية موحدة. حركة لم تكن هادئة، بل "حركة صراع هجومية" -كما وصفها سعاده- تهاجم بالفكر والعمل كل مظاهر الفوضى والأنانية والطائفية والاقطاعية والرأسمالية والعقليات المتحجرة، ساعيةً لتحقيق حياة حرّة كريمة للشعب. لقد مثّل التأسيس انطلاقة مشروع حضاري يعيد للأمة شخصيتها المسلوبة ويستعيد لها إرادتها الحرة وسيادتها على نفسها.
الطلاب: حملة المشروع النهضوي
أدرك سعاده أن بناء النهضة يحتاج إلى أنفس جديدة نزيهة، فاتجه إلى الطلاب يبني في نفوسهم البناء القومي، مما أنتج ذلك التضامن البديع الذي ميّز الحزب في بداياته. كان للطلاب دور محوري في انتشار الحركة، فهم حملة "الوعي الجديد" والعنصر المؤهل لحل قضايا المستقبل. خاطبهم سعاده بلغة العقل والإقناع، محفزاً إياهم على اعتناق الثقافة القومية الاجتماعية كأساس لكل تقدم. وقد شكل الطلاب عماد الحركة الناهضة وأداة تغييرها، حاملين مشعل المعرفة، ناشرين الوعي في مختلف الأوساط الاجتماعية.
أسس النهضة المتكاملة
اعتمد المشروع النهضوي على أسس متكاملة تشكل في مجموعها رؤية شاملة لإعادة بناء الأمة:
- القومية التي تبني أجيالاً واعية متسلحة بالعلم والأخلاق والوجدان، أجيالاً تدرك معنى الحرية والكرامة والاستقلال.
- الاقتصاد المنتج القائم على العلم والعمل والإبداع
- المؤسسات القومية الصالحة للعمل القومي، التي تحوّل الأفكار إلى واقع ملموس
- الأخلاق الجديدة التي تربي النفوس على المحبة الحقيقية - محبة القيم الجميلة: الحق والعدل والحرية والسلام والجمال، ومحبة المجتمع والتضحية من أجله - ليست مجرد قيم، بل هي قلب النهضة النابض. إنها التي تُحدث ذلك التحول الجذري من النظرة الفردية إلى النظرة القومية، وتُعيد غرس المثل العليا الخلقية في نفوس أبناء الأمة.
التأسيس المستمر: من الفكرة إلى الممارسة
فعل التأسيس لم يتوقف عند لحظة تاريخية، بل تحوّل إلى عملية مستمرة يتولاها أبناء العقيدة القومية الاجتماعية جيلاً بعد جيل. وهذا الفعل يتجلى في:
- ترسيخ فكرة الأمة كبديل للهويات الفرعية الممزقة، فبدون تأسيس فكرة الأمة تبقى جميع الجهود الإصلاحية عرجاء
- تعزيز الوجدان القومي الذي يحوّل الأفراد من كيانات منعزلة إلى أمة موحّدة قادرة على مواجهة التحديات
- ترسيخ ثقافة العطاء في مواجهة النزعة الفردية الآخذة، فالأمة التي لا تعرف التضحية لا تعرف الحرية
- بناء الدولة القومية القائمة على الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة والعدالة الاجتماعية والمساواة، دولة تكون "مؤسسة الشعب الكبرى"
- تبني النهج العلمي في تحليل الواقع ومعالجة المشكلات، فالنهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بالعلم والمعرفة.
وهذه المسارات مجتمعة تُشكّل تجربة خطرة مستمرة تهدف إلى تحويل المجتمع من كائن مائع متباين الاتجاهات والأغراض إلى أمة متحدة الإرادة، في حرب دائمة مع بيئة الفساد التي توارثتها الأجيال.
الحزب كمشروع إنقاذ في زمن الأزمات
في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها شعبنا، من انهيار اقتصادي واجتماعي وسياسي، يبرز الحزب كحركة إنقاذ وأمل وحيد للخلاص. فالحزب -كما أراده سعاده- ليس تنظيماً طارئاً، بل هو تعبير عن حقيقة الأمة، قوي بعقيدته الصحيحة، غني بأخلاقه وتضحيات أبنائه، ومتينٌ بالوحدة الروحية الكلية التي تجمع القوميين الاجتماعيين في كل فكرة وفي كل نظرة في حياتهم، والتي تربطهم معاً كعصبة واحدة. إنه المشروع الوحيد القادر على تجاوز الأزمة وقيادة عملية النهوض والبناء.
نداء إلى القوميين الاجتماعيين: مسؤولية التاريخ والوجود
أيها القوميون الاجتماعيون،
في ذكرى التأسيس، ونحن نواجه تحديات مصيرية تهدد وجود أمتنا، يأتي في طليعتها وجود عدو غاشم طامع بأرضنا وثرواتنا، يسعى لتمزيق وطننا ونهب مقدراته، نذكركم بأن مسؤولية التاريخ والوجود تقع على عاتقنا. أن الواجب القومي يحتّم علينا ان نواجه هذه التحديات والأخطار كلها لا ان نتلهى بأمور صغيرة..
لقد حان الوقت لأن نشترك جميعاً في العمل القومي من أجل إنقاذ بلادنا وإنهاضها وشق طريق الحياة والتفوق أمامها، وأن نكون عوناً كبيراً لأهلنا المتألمين في فقرهم ومصائبهم ومحنهم.
- عودوا إلى المبادئ الصالحة لحياتنا وارتقائنا التي وضعها سعاده منهجاً للعمل والحياة
- مارسوا البطولة المؤيدة بصحة العقيدة في مواجهة التحديات. ولنتذكر أن مئات الشهداء من القوميين الاجتماعيين لبّوا نداء الواجب القومي دفاعًا عن الأرض وعن شرف الأمة وسيادتها وبقائها. هؤلاء الأبطال رفضوا الخنوع والقعود والاستسلام واندفعوا إلى ممارسة البطولة المؤمنة ليس طمعًا بمغنم شخصي او رغبة في جنة أو فردوس، بل بدافع الوجدان القومي الذي زرع في نفوسهم حب المجتمع والأرض وحب الحرية والحياة الشريفة، والذي علّمهم أن "الحياة كلها وقفة عز فقط ".
- اشحذوا الهمم لمواجهة الأخطار المحدقة بإرادة لا تلين.
- وحدوا الصفوف في مواجهة مشاريع التفتيت والإلغاء.
- قوموا بالأفعال الباهرة معتمدين على مبدأ "القوة المنظمة" في تأييد سيادتنا وحقوقنا وقضيتنا القومية، لأن القوة، يقول سعاده، "هي القول الفصل في إثبات الحق القومي او انكاره".[1]
- انشروا الوعي في كل مكان وزمان وتذكروا أننا في حرب دائمة مع بيئة فاسدة توارثتها الأجيال، حيث تظهر "الأثرة الفردية" أحياناً "متجلببة بجلباب الفضيلة"، وأن نصرة المشروع تتوقف على صلابة عودكم وتمسككم بالأخلاق القومية.[2]
- كونوا قدوة في العطاء والتضحية والإخلاص
إن الأمة تتطلع إليكم، إلى إيمانكم، إلى عطائكم، إلى تضحياتكم. لا تخذلوها في لحظاتها المصيرية. ليكن شعاركم "النضال" حتى تحقيق النهضة الشاملة التي تليق بأمتنا العظيمة.
ففي زمن الأخطار، لا مكان للتردد ولا للتراجع، ولا قيمة إلا للأبطال الذين يحملون العقيدة الصحيحة ويواجهون العاصفة بإيمان ويقين.
وإنما يكون رجاء الأمة بكم، وبـتمسككم بـ أخلاق النهضة - أخلاق الثقة الراسخة والإيمان والمثابرة - في مواجهة أخلاق الشك والتردد التي تمثل فساد البيئة.[3]
الخاتمة: نحو غاية سامية
النهضة التي أطلقها سعاده هي مشروع شامل "يتناول الحياة القومية من أساسها"، وهي غاية تشمل جميع قضايا المجتمع. فلا قيمة لاستقلال بلا حياة كريمة، ولا معنى لحركة بلا أخلاق جديدة. فالأخلاق هي التي تحوّل المبادئ إلى واقع، والحياة الجميلة هي الغاية التي تليق بأمة عظيمة تبحث عن مكانها تحت الشمس. إلى الأمام دائماً، إلى النهضة الشاملة، إلى الحرية والكرامة.