مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
مفهوم التضحية في فكر أنطون سعاده
 
ملحم، ادمون
 

 

 

تشكل التضحية إحدى القيم المحورية التي ارتبطت بمسيرة الأمم والحضارات عبر التاريخ، حيث تمثل معياراً دقيقاً لقياس صدق الانتماء وعمق الإيمان بالمثل العليا. وهي ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل شرط أساسي لتحقيق الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية. في الفكر القومي الاجتماعي، تحتل التضحية مكانة مركزية باعتبارها أداة فاعلة لتحويل الإنسان من كائن غريزي فردي إلى إنسان فاعل في مجتمعه وأمته، وجوهراً للفعل النهضوي وشرطاً لا غنى عنه لانبعاث الأمة السورية من جديد. وهذا البحث يتتبع تطور هذا المفهوم في فكر أنطون سعاده، من جذوره الفلسفية والتاريخية إلى تجلياته العملية في المشروع النهضوي.

 

 

أولاً: التضحية في الفكر الإنساني والفلسفي

 

تعددت المقاربات الفلسفية لمفهوم التضحية عبر العصور، بحيث ارتبط هذا المفهوم بتطور النظريات الاجتماعية والسياسية. فمنذ العصور اليونانية القديمة، جعل سقراط (469-399 ق.م.) من التضحية بالحياة السبيل الأقصى للدفاع عن الحقيقة، مقدماً نموذجاً راقياً للالتزام الفلسفي. وعلى نفس المنوال، ربط أفلاطون (427-347 ق.م.) التضحية بمفهوم العدالة، معتبراً أنها لا تتحقق إلا عندما يضع الفرد مصلحة المدينة فوق مصلحته الخاصة. أما أرسطو (384-322 ق.م.)، فقد تناول التضحية من زاوية الفضيلة، معتبراً أنها تجسيد للشجاعة التي تقود الإنسان إلى الخير العام.

 

وفي السياق الديني، شكّلت المسيحية المبكرة نقطة تحول كبرى في مفهوم التضحية، حيث أصبحت فكرة الفداء والتضحية بالنفس مَحَورًا لاهوتيًّا أساسيًّا. هذا البعد الأخلاقي الديني امتد تأثيره إلى الفلسفة الحديثة، فجاء جان جاك روسو (1712-1778) ليرى في العقد الاجتماعي تضحية يقدمها الفرد بتنازله عن جزء من حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية والأمن الجماعي. وبمنظور مختلف، رأى إيمانويل كانط (1724-1804) أن التضحية الحقيقية تكمن في تجاوز الميول الشخصية استجابة لنداء الواجب الأخلاقي.[1]

 

أما هيغل (1770-1831)، فقد أعطى للتضحية بعداً اجتماعياً وسياسياً أوسع، معتبراً أنها ضرورة لتحقيق الروح الموضوعية للأمة من خلال اندماج الفرد في الكل الاجتماعي. وفي العصر الحديث، تطور مفهوم التضحية في أعمال ليو تولستوي (1828-1910) الذي رآها أعلى تعبير عن المحبة غير المشروطة، والمهاتما غاندي (1869-1948) الذي جعل منها أساساً للمقاومة السلمية.[2] وفي المقابل، قدم فريدريك نيتشه (1844-1900) "قراءةً مغايرةً، معتبرًا التضحيةَ ليست إنكارًا للذات بل تعبيرًا عن إرادة القوة والإبداع القيمي.

[3]

وفي التراث السوري الحديث، كتب جبران خليل جبران أن "المحبة الحقيقية لا تكتمل إلا بالتضحية"[4]، بينما رأت مي زيادة أن التضحية هي "تاج الفضائل" وشرط نهضة الأمم. كما تجلت التضحية في الأدب الصوفي عند الحلاج الذي جعل من استشهاده شهادة على صدق التجربة العرفانية.

 

 

ثانياً: شواهد من التاريخ الإنساني

 

يقدم التاريخ الإنساني سلسلة من النماذج المضيئة التي تظهر كيف شكلت التضحية أساساً لنهضة الأمم وبقائها. ففي التراث الفينيقي، تمثلت التضحية في شخصية أليسار (أليسا) مؤسسة قرطاجة، التي فضلت الانتحار على الخضوع لزواج قسري، لتصبح رمزاً للحرية والكرامة. وفي اليونان القديمة، برز الملك ليونيداس الذي قاد ثلاثمائة من جنوده في معركة الثرموبايل، مقدماً نموذجاً خالداً للتضحية الوطنية في مواجهة الغزو الفارسي.

 

وفي التاريخ الروماني، مثل سبارتاكوس (القرن الأول ق.م.) نموذجاً للتضحية في سبيل العدالة والتحرر، حيث قاد ثورة العبيد ضد نظام الاستعباد الروماني. وفي التراث الإسلامي، شكّلت تضحية الحسين بن علي (626-680م) في كربلاء ذروة المعنى الرمزي للتضحية في سبيل الحق والعدالة، حيث تحول استشهاده إلى مدرسة خالدة في مقاومة الظلم.

 

وفي العصر الحديث، قدمت ثورة مراكش ضد الاستعمار الإسباني نموذجاً عملياً للجهاد والتضحية، وهو ما أشار إليه أنطون سعاده في كتاباته المبكرة عام 1925، حيث وصف المشاركين فيها بأنهم "رجال عزومون لا يترددون في تقديم التضحية المطلوبة لنيل حقوقهم في الحياة."[5]

 

أما على الصعيد السوري، فقد مثلت معركة ميسلون عام 1920 واستشهاد يوسف العظمة نموذجاً خالصاً للتضحية القومية، حيث جسّدت المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. ويوسف العظمة (1884-1920) كوزير للحربية في الحكومة السورية الفتية، واجه بمحدودية إمكانياته جيشاً فرنسياً مجهزاً بأحدث الأسلحة. رغم علمه بعدم التكافؤ العسكري، آثر القتال على الاستسلام، قائلاً كلمته التاريخية: "إننا مستعدون لمواجهة الفرنسيين، ولن نكون أسوأ من أجدادنا الذين دافعوا عن هذه الأرض".

 

لقد فهم العظمة أن قيمة التضحية لا تقاس بنتائج المعركة الميدانية، بل بالرسالة التي تبعثها للأجيال القادمة. فاستشهادُه في ميسلون لم يكن هزيمةً عسكريةً، بل انتصارًا معنويًّا أصبح رمزًا للكرامة الوطنية وإرادة المقاومة. كما كتب سعاده لاحقاً، فإن معركة ميسلون كانت "بدء تاريخ الأمة السورية الحديث"[6]، لأنها أثبتت أن سورية قادرة على الدفاع عن وجودها.

 

ويذكر الدكتور خليل سعادة في نداء له إلى الجالية السورية في البرازيل أن العظمة "ضحى بدمه في سبيل استقلال الوطن، وجاد بحياته عمداً واختياراً في معركة ميسلون الشهيرة، حيث سقط في ساحة الشرف.. ليحيا إلى الأبد في صدور السوريين وقلوبهم."[7] كما أضاف أن "ذكرى ميسلون من أقدس ذكريات سورية.. فهي عنوان التضحية السورية في سبيل أقدس الأغراض وأمجدها."[8]

 

لقد تحول استشهاد يوسف العظمة إلى أيقونة للصمود السوري، وأصبحت ميسلون ليست مجرد معركة، بل مدرسة وطنية تعلّم أن الدم الذي يُبذل في سبيل الوطن هو إعلان صريح بأن الأمم لا تموت ما دام فيها رجال ونساء مستعدون للموت في سبيلها. وهكذا، مثلت تضحية العظمة الجسر الذي انتقلت عبره روح التضحية من التراث التاريخي إلى المشروع النهضوي الحديث.

 

إنّ هذه الأمثلة، على تنوّع سياقاتها التاريخية والجغرافية، تؤكد أنّ التضحية ليست حدثًا عابرًا أو مجرّد بطولة ظرفية، بل فعلًا تأسيسيًا في صيرورة الشعوب، ومصدرًا لإلهامها. إنها قدر الأمم في صراعها من أجل البقاء والارتقاء.

 

 

ثالثاً: خليل سعاده وفلسفة التضحية

 

يشكل فكر العلاّمة الدكتور خليل سعاده (1857-1934) الأساس النظري الذي استند إليه ابنه أنطون في صياغة مفهوم التضحية. فقد كان خليل سعاده طبيباً ومفكراً نهضوياً دعا إلى التحرر من الاستبداد العثماني، ورأى أن النهضة لا تقوم دون استعداد للتضحية في سبيل الحرية والعلم. في كتاباته، أولى التضحية أهمية استثنائية، ووصفها بأنها "أجمل الأخلاق وأشرفها، بل هي أجمل اللآلئ في تاج الغيرية."[9]

 

وأكد خليل سعاده أن الأمم والإمبراطوريات "نشأت بالتضحية وقامت بالتضحية وثبتت بالتضحية"[10]، مشيراً إلى أن غياب روح التضحية أو ضعفها هو المؤشر الأول لانحطاط الأمم. واستشهد في هذا الصدد بتاريخ بابل وآشور ومصر واليونان وروما وقرطاجة، حيث كان الانغماس في الترف والملذات مقدمة للانحدار والزوال.[11]

 

وشدد خليل سعاده على أن "التضحية هي أساس الاستقلال، وعماد الحرية ومظهر راق من مظاهر التمدن عند كل الأمم والشعوب."[12] هذه الرؤية الفكرية شكلت الخلفية الفلسفية للفكر النهضوي الذي تبناه ابنه أنطون، حيث تحولت التضحية من قيمة أخلاقية مجردة إلى ركن عقائدي أساسي في المشروع القومي الاجتماعي.

 

 

أنطون سعاده وفلسفة التضحية

 

يعد أنطون سعاده (1904-1949) المحطة الأكثر تطوراً وثراء في صياغة مفهوم التضحية في الفكر القومي الاجتماعي. فقد جعل من التضحية إحدى الفضائل الأساسية في بناء الإنسان الجديد، وربطها بمفاهيم الحرية والبطولة والالتزام بقضية الأمة. وهي بالنسبة له الشرط الضروري للارتقاء من الأنا الفردية الضيقة إلى "النحن القومية" الواسعة، ومن الغريزة الأنانية إلى الفعل التاريخي البنّاء.

 

ولم تكن التضحية في فكر سعاده فعلاً عاطفياً أو اندفاعاً آنياً، بل فعل واعٍ نابع من إدراك عميق لحقيقة الحياة القومية. فسعاده يرى أن الإنسان لا يكتمل إلا بانتمائه إلى أمته، وأن الفرد الذي يحيا لنفسه وحدها يظل محدوداً، بينما الذي يهب نفسه لأمته يحقق ذاته في أرقى صورها.

 

لقد قدّم سعاده للتضحية بُعداً جديداً حين ربطها بالمثل العليا للبطولة القومية الاجتماعية. فهو لم يردها تضحية غريزية أو شخصية، بل تضحية عاقلة، مقصودة، نابعة من إيمان بالأمة وبقيم الحق والخير والجمال. فالتضحية هي الفعل العملي للإيمان والترجمة الفعلية للمعتقد إلى واقع ملموس. وفي هذا المعنى، تصبح التضحية جوهر البطولة، لأن البطولة ليست كلاماً ولا شعوراً مجرداً، بل استعداد دائم لبذل النفس ولتحمل الآلام في سبيل القضية القومية. لذلك يقول سعاده: "اخترنا أن نقاتل بآلامنا، حين رأينا أنّ الضرورة تقضي بأن نحارب بآلامنا، ولكننا لم نختر الآلام عن جبن بل عن شجاعة وجرأة وقوة. وإذا كنا قد اخترنا الحرب بالآلام مرة فلا يعني ذلك أننا سنبقى على الحرب بالآلام بل نحن نستطيع أن نحارب بغير الآلام. ولكن حربُنا لها غايةٌ واحدةٌ هي عزُّ الأمة ووحدتُها وشرفُها وانتصارُها على الإرادات الأجنبية."[13] ومن المعروف أن سعاده كرَّسَ حياتَه لخدمة قضية أمته، مضحيًا بوقته وراحته وهناء عائلته، ومتعرّضًا للنفي والمحاكمة الغيابية وللدسائس والوشايات والتهديد بالقتل مرارًا... حملَ في نفسِهِ آلامًا عظيمةً ولكنَّهُ لمْ يأبهْ للمشاقِ والمعاثرِ والآلامِ وللسلامةِ الشخصيةِ لأنَّهُ كانَ مستعدًّا للتضحيةِ والفداءِ من أجلِ الحرّيّةِ والعزِّ القوميين ولأنَّهُ كانَ مقتنعًا أنَّ الغاياتِ الساميةَ لا تنشدُها ‏إلا النفوسُ الكبيرةُ، التي لا بدَّ لها منْ أنْ تتألَّمَ وسطَ الصدماتِ ‏وهي إذ تقبلُ التضحياتِ فلأنَّها تعي أنَّ في التضحياتِ حياةً.[14] في إحدى رسائله الخاصة إلى أدفيك جريديني، يقول: " أني اشعر أن حياتي تكوِّن تضحيات في تضحيات. هذا شعوري منذ زمان. ولكن سورية يجب أن تحيا وتنهض وفي سبيل حياة سورية يهون كل شيء."[15]

 

 

الأساس الفلسفي للتضحية

 

ينطلق سعاده في نظرته للتضحية من موقفه الفلسفي العام من الحياة والوجود. فهو يرى أن الحياة ليست ملكاً للفرد وحده، بل هي سيرورة كلية تتجاوز الذات الفردية لتتجسد في الأمة والمجتمع. لذلك، لا تُقاس قيمة الإنسان بقدر ما يحقق من منافع شخصية، بل بقدر ما يقدّم من عطاءات تُغني حياة الجماعة وتدفعها نحو التقدّم. في هذا الإطار، كتب سعاده: "الحياة كلها وقفة عز فقط"، وهي عبارة تختزل جوهر التضحية بوصفها رفضاً للذل والخنوع، وقبولاً بالعناء والمواجهة والموت من أجل قضية كلية تتجاوز الفرد.

 

ولا تنفصل التضحية عند سعاده عن فهمه لمغزى الوجود نفسه: فالإنسان، لكي يكون إنساناً كاملاً، عليه أن يتجاوز ذاته الضيقة ويعي انتماءه إلى الأمة، وأن يقبل بالتضحية في سبيل استمرارها ورقيها. التضحية ليست إذن خياراً أخلاقياً عرضياً، بل هي نتيجة منطقية لوعي الإنسان لذاته الاجتماعية القومية.

 

 

التضحية العملية كشرط للنهضة

 

لم يَقصُر سعاده مفهوم التضحية على البُعد النظري فحسب، بل امتد به ليشمل حيز التطبيق اليومي. فالتضحية في رؤيته تبدأ بالتجرُّد من الأنانية والمصالح الشخصية، والالتزام بالانضباط الحزبي والنهضوي، وبذلِ الجهد والوقت في العمل والإنتاج؛ انطلاقاً من إعلاء المصلحة العامة والقيم القومية فوق المصلحة الفردية.[16]

 

ولذلك يُؤكِّد سعاده أن الأمة، لكي تنهض من تخلّفها وتجزئتها، تحتاج إلى جيل جديد مؤمن، مستعد للعطاء والتضحية بالراحة والأنانية في سبيل المصلحة العليا. فمن دون هذا الاستعداد، لا يمكن لأي عقيدة أن تتحوّل إلى قوة تغييرية في المجتمع. وفي هذا الصدد، يحذّر سعاده في خطاباته من أن طريق النهضة ليس مفروشاً بالورود، بل هو طريق صعب وطويل لا يعبره إلا من تهيّأ لبذل التضحيات.

 

وفي خطابه عام 1941، يوضح سعاده هذه الرؤية بقوله: "إنّ طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة. إنها الطريق التي لا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة. أما الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جوانبها." [17]وهكذا تكون النهضة في فكره مسيرة تضحيات وصعاب، لا يتحقق النصر فيها إلا بقدر ما يبذله المؤمنون من عرق ودماء.

 

هذا البُعد العملي يتجلى أيضاً في رسائله الخاصة، حيث كان يحثّ رفقاءه على قياس الإخلاص بمدى استعدادهم للعطاء الصامت المتقن، بعيداً عن رغبة الظهور أو انتظار المقابل. وهكذا غدت التضحية في فكر سعاده قاعدةً راسخة لبناء مجتمع جديد—متماسك في بنيته، فاعل في حركته.

 

 

بين الجمود والارتقاء

 

في مقالته "بين الجمود والارتقاء"، يبني سعاده رؤيته على ثنائية حاسمة: فالأمم إما أن ترتقي بواسطة التضحية، أو أن تجمد وتتقهقر بسبب غيابها. وهو لا يرى في التضحية فضيلة أخلاقية فحسب، بل "أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش."[18]

 

وليس المقصود بالتضحية هنا فقط بذل الحياة في ساحة الحرب، فهي "ليست لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأً عاماً."[19] إنها تشمل أيضاً تضحية الشهوات والأنانية العمياء، وتوجيه طاقات الفرد الحيوية نحو "الأعمال المفيدة، من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأدبية وفنية."[20] وهو ما يعتبره سعاده التحولَ من "البطولة الفردية أو القبلية" إلى "البطولة الاجتماعية" التي هي أساس المجتمعات الحديثة المتحضرة.[21]

 

 

المحاضرات العشر وخطاب ديك المحدي

 

في كتاباته وفي المحاضرات العشر، يؤسس سعاده لفلسفة التضحية على أنها المحك الحقيقي للإيمان والنتيجة المنطقية للوعي القومي. فهو يرى أن "النهضة لا تُبنى إلا بدماء وتضحيات"، ليس بمعنى التمجيد الأعمى للموت، بل لأن التضحيةَ هي التعبيرُ العمليُّ الأقصى عن الإيمان الحي.

 

وفي خطاب ديك المحدي (1947)، يقدم سعاده تصوراً عضوياً عميقاً للتضحية على أنها استعادة لملكية الأمة لما هو أساساً ملك لها. فهو يعلن: "إن الدماء التي تجري في عروقنا ملك للأمة لا لنا: هي وديعتها فينا التي يحق لها أن تطلبها منا في أية ساعة وأية دقيقة". بهذه الصياغة، تتحول التضحية من "نكران للذات" إلى "تحقيق لها في أسمى صورها."[22] إذ يجد الفرد كماله الحقيقي ليس في تملكه لذاته بل في عطائها للأمة التي هي مصدرها وغايتها. فالأنا الفردية تذوب لا لتفنى، بل لتتحول إلى طاقة في "النحن" القومية الأوسع.

 

هذا الربط العضوي – حيث الفرد "قطعة" من جسد الأمة – هو الذي يخلق القوة التي "تسيطر وتقود."[23] فالقوة، كما يوضح سعاده في الخطاب ذاته، لا تنبع من تجمّع أفراد يعبّرون عن ذاتياتهم، بل من "وحدة المجتمع والغاية الإنسانية الكبرى"، ومن كون هذه الجماعة "تعبر عن أماني المجتمع كله، عن آمال المجتمع النبيلة."[24]

 

وعليه، فإن إعلان سعاده في المحاضرات العشر "نحن مستعدون لكل تضحية من أجل انتصار الـمبادىء وانتصار الأمة بواسطة انتصار هذه الـمبادىء"[25] – يجد جذوره في هذا الإيمان العضوي. التضحية هنا هي الضريبة الطبيعية للارتقاء من الفردية إلى القومية، ومن "الجمود" إلى "الارتقاء". إنها الفعل الذي يُخضع المصلحة الفردية لـ"الخير العام"، مما يضمن "سلامة المجتمع وفلاحه". وبذلك، يصبح الاستعداد للتضحية هو البرهان الحي على صحة العقيدة وقوة "الروح المتولدة من مبادئها"، وهو ما يجعل من القومي الاجتماعي، كما وصف سعاده نفسه في ديك المحدي، قوة صاعدة "تملأ الكون."[26]

 

هنا يلتقي مفهوم سعاده مع مقولته: "في سبيل الوطنية يهرق الحر دمه. ... الوطنية تقتضي تضحية وبمقدار التضحية تكون الوطنية ـ بالتضحية تحيا الوطنية وبالوطنية تحيا الأمم."[27] فالتضحية هي الوقود والدم الذي يضخ الحياة في جسد الأمة، وبدونها تفقد روحها وقدرتها على البقاء والارتقاء، مصداقاً لفكر سعاده الذي يجعل من التضحية القاعدة التي لا تقوم لأي مجتمع جدير بالبقاء بدونها.

 

 

الجذور السورية للتضحية

 

لم يكن اختيار سعاده لمفهوم التضحية منعزلاً عن التراث السوري العميق، بل يمثل امتداداً طبيعياً للرموز الأسطورية والتاريخية السورية. ففي الأساطير السورية القديمة، نجد روايات عن آلهة مثل تموز (أدونيس) وبعل، الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل خير البشرية واستمرار الحياة. وفي ملحمة جلجامش - التي تدور أحداثها في مدينة أوروك السومرية - نموذجاً للتضحية من أجل الصديق، كما تجسَّد في تضحية "أنكيدو" من أجل "جلجامش"، البطل العظيم المعروف بأعماله الجليلة.[28]

 

وهذا الجذر الرمزي للتضحية استمر في التاريخ السوري الحديث، كما تجلى في معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، مما يجعل التضحيةَ عند سعاده ليست قيمةً مستوردةً، بل امتداداً لروح متجذرة في الوعي الجمعي السوري، أعيدت صياغتها في مشروع نهضوي حديث.

 

 

استشهاد أنطون سعاده: الذروة التطبيقية للتضحية

 

ولم تكن هذه الفلسفة مجرد تنظير بعيد عن التطبيق، بل بلغت ذروتها التجسيدية في استشهاد أنطون سعاده نفسه في الثامن من تموز 1949. ففي خطابه التاريخي في بشامون (1948)، جسَّدَ سعاده المبدأ الذي آمن به حين قال: "إنّ الحياة كلها وقفة عز فقط"، مؤكداً أن "سلامتي لم تكن ولا تعني لي إلا تكة... أما ما يعني لي شيئاً يمكن أن أتمسك به بكل قواي فهو مبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية."[29]

 

لقد حوّل سعاده استشهاده من مجرد نهاية تراجيدية إلى "وقفة عز" خالدة، مجسِّداً قوله: "إنّ أزكى الشهادات في الحياة هي شهادة الدم."[30] فما كان إعدامه إلا تتويجاً لمسيرة حياةٍ مُمتَلئَةٍ جهَدًا وعطاءً، زاخرة بالآلام والتَّضحياتِ التي بدأت منذ تأسيس الحزب، وبلغت ذروتها عندما رفض المساومات والتنازلات، مفضلاً الشهادة على التنكر للمبادئ.

 

وبهذا يكون سعاده قد قدّم النموذج الأمثل للتضحية التي دعا إليها: تضحية تكون فيها القضية أعز من الحياة ذاتها. فاستشهاده لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل أصبح مدرسةً حيةً في التضحية والوفاء، ومصدر إلهام للأجيال اللاحقة، ودليلاً عملياً على أن التضحية بالذات هي الطريق إلى خلود الأمة.

 

 

خاتمة

 

يمثل مفهوم التضحية في فكر أنطون سعاده نسيجاً متكاملاً حُوكم بخيوط فلسفية وتاريخية وعقائدية. فقد نجح سعاده في تحويل التضحية من مفهوم مجرد يُختزل أحياناً في البذل المادي أو الفداء في ساحة المعركة، إلى فلسفة حياة شاملة.

 

وإذا كانت الشهادات التاريخية من أليسار إلى يوسف العظمة تمثل تجليات سابقة لهذه الفكرة، فإن استشهاد سعاده نفسه كان التجسيد الأعلى لهذه الفلسفة، حيث حوّل نظريته إلى ممارسة حيّة، مجسِّداً مقولته: "الحياة كلها وقفة عز فقط".

 

إنها موقف وجودي يرفض الذل، وقيمة أخلاقية عملية تتجسّد في الانضباط اليومي والعمل الصامت، وتجربة إنسانية عاطفية عميقة، وشرط لا غنى عنه لتحقيق النهضة. وبذلك أصبحت التضحية هي المعيار الذي يقاس به تحول الفرد من كائن بيولوجي أناني إلى إنسان تاريخي، يعي أن وجوده الحقيقي ليس في بقائه الفردي، بل في استمرار أمته وارتقائها.

 

وهكذا، يجمع سعاده في رؤيته بين البعدين: الرمزي المتمثل في استشهاد البطل، والعملي المتمثل في عطاء الإنسان المجهول. في هذه الثنائية تتجلى أصالة فكر سعاده، الذي جعل من التضحية الوعاء الذي يجمع تراث الأمة وحاضرها ومستقبلها، والوقود الذي لا ينضب لأي مشروع نهضوي يطمح إلى تحرير الإنسان والأمة معاً.  وتبقى تضحيته القصوى في الثامن من تموز شاهدةً على أن النظرية عندما تلتزم بالممارسة، تصير قوةً تغيّر التاريخ وتخلد الأمم.

 


[1] كانط، إيمانويل، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة موسى وهبة، بيروت: دار الفارابي.

[2] Gandhi, M. The Story of My Experiments with Truth, Navajivan Publishing House, 1927.

[3] فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983، ص 110-115. راجع النسخة الإنكليزية: Friedrich Nietzsche, Thus Spoke Zarathustra, trans. Walter Kaufmann, Penguin Classics, 1978, Part I, “On the Gift-Giving Virtue,” pp. 90–95.

[4] جبران خليل جبران، الأعمال الكاملة، بيروت: دار صادر.

[5] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس (1921-1932)، "استقلال مراكش الاسبانية"، بيروت 1975، ص 173.

[6]  أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935- 1937، "الاتحاد العملي في حياة الأمم".

[7] خليل سعادة، الرابطة – مجموعة مقالات وأبحاث متنوعة، سان باولو – البرازيل، 1971، "التضحية"، ص 118.

[8] المرجع ذاته، ص 119.

[9] حليل سعادة، "التضحية"، ص 131.

[10]  المرجع ذاته.

[11]  المرجع ذاته.

[12] المرجع ذاته، ص 132.

[13] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 9 - خطاب الزعيم في اللاذقية - 26/11/1948.

[14] أنطون سعاده، الأثار الكاملة -1- أدب (الصراع الفكري في الأدب السوري)، بيروت، 1960، ص 155-156.

[15] "رسائل حب من أنطون سعادة إلى أدفيك جريديني 1937-1938"، موشن للدعاية والتسويق، بيروت، 1997، الرسالة 13.

[16] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 8 خطاب الزعيم في حلب 23/11/1948.

[17] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع 1940- 1941، خطاب الزعيم إلى القوميين، الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 32، 15/11/1941.

[18] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية، سلسلة النظام الجديد 5، منشورات عمدة الإذاعة، الطبعة الرابعة، 1977، ص 88.

[19] المرجع ذاته.

[20] المرجع ذاته، ص 88- 91.

[21] المرجع ذاته.

[22] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، خطاب الزعيم في ديك المحدي، الكوكب، بيروت، السنة 16، 20 و21 ديسمبر/ كانون الأول 1947.

[23] المرجع ذاته.

[24] المرجع ذاته.

[25] المرجع ذاته، ص 38.

[26] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، خطاب الزعيم في ديك المحدي،

[27] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس (1921-1932)، "الوطنية، بيروت 1975، ص 17-18.

[28] انكيدو، حسب الملحمة البابلية، كان صديق جلجامش والساعد الأيمن له. راجع فراس السواح، كنوز الأعماق – قراءة في ملحمة جلجامش، الطبعة الأولى 1987، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، نيقوسيا، ص 29- 53.

[29] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون 3/10/1948.

[30] المرجع ذاته.

 
التاريخ: 2025-10-30
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: صباح الخير - البناء
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2025 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro