مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
المحبّة القومية في فكر سعاده: من العاطفة الفردية إلى القوة النهضوية
 
ملحم، ادمون
 

 

تمهيد

 

تُعدّ المحبّة إحدى أعمق القيم الإنسانية وأكثرها حضورًا في التراث الديني والفكري العالمي. فقد جعلتها الديانات التوحيدية أساسًا للعلاقة بين الإنسان وربّه وبين الإنسان وأخيه الإنسان، كما أولتها الفلسفات الإنسانية مكانة مركزية في بناء الأخلاق والسلوك. غير أنّ مفهوم المحبّة، كما يتجلّى في الأديان أو في النزعات الفردية، يبقى غالبًا محصورًا في إطار عاطفي أو أخلاقي عام، من دون أن يرتقي إلى مستوى القوة الاجتماعية – السياسية الفاعلة في حياة الأمم. هنا يبرز إسهام الفلسفة القومية الاجتماعية التي نقلت المحبّة من كونها مجرّد عاطفة إلى كونها قيمة قومية مُؤسِّسة للحياة الاجتماعية الراقية، وشرطًا جوهريًا لا غنى عنه لنهضة الأمة ورقيّها.

 

 

أولاً: من المحبّة الفردية إلى المحبّة القومية

 

عادةً ما يُفهَم مفهوم المحبّة في بعده الفردي – الأخلاقي، كعاطفة تنبع من القلب وتُوجَّه نحو الآخر، أو كقيمة روحية تتجلى في التسامح والعطاء. لكن سعاده شدّد على أنّ هذا الفهم يظل ناقصًا إذا لم يتجاوز الفردية إلى الإطار القومي – الاجتماعي. فالمحبّة الحقيقية لا تُختبر في حدود العلاقات الفردية الضيقة، بل في نطاق المجتمع القومي. فهي ليست مجرد إحساس عاطفي عابر، بل قوة اجتماعية ورابطة قومية تولِّد التعاون والتعاطف، وتؤسس لوعي مشترك وتضامن عضوي بين أبناء الأمة.

 

المحبّة الحقيقية، كما يعتبر سعاده، هي الأساس للهناء العام، وهي قوة خفية تملأ النفوس صدقًا وإخلاصًا ووفاءً، وترفعها نحو المثال الأعلى، وتولّد التعاون في المجتمع من أجل الخير وتقود إلى فلاحه وسعادته.[1] ويؤكد سعاده أنّ نهضة شعبه ضرورية للتمدن ولسعادة البشرية جمعاء، لكنها لا تقوم إلا على نفسية متينة يُثبّتُها في القلوب والنفوس ليصبح "لها إيمان واحد قائم على المحبّة، المحبّة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاونًا خالصًا وتعاطفًا جميلًا يملأ الحياة آمالًا ونشاطًا."[2]

 

والمحبّة القومية الصادقة هي روح الحياة القومية وجوهر الأماني ونهاية الآمال. غايتها حسن الحياة وخيرها وجمالها وتحقيق مصلحة الأمة ورقيّها. لذلك فهي تدفع المؤمنين إلى الصراع في سبيل أمتهم ونهضتها، وتحثّهم على معرفة حقوقها والدفاع عنها. كما ترشدهم إلى الابتعاد عن المعاصي والإساءات والأفعال القبيحة المضرّة بحياة المجتمع وسلامته، وتدعوهم إلى التغلب على الشهوات ونبذ الرذائل والأحقاد والمثالب المدمّرة، ليكونوا مواطنين صالحين يمارسون الفضائل الجميلة في حياتهم ويعبّرون عن حقيقة أمتهم ومثلها العليا.

 

 

ثانياً: المحبّة القومية في مواجهة الفردية والبغضاء

 

من أبرز ما يميز المحبّة في الفكر القومي الاجتماعي أنّها نقيض مباشر للبغضاء والأنانية الفردية. فالفردية المنغلقة تقود إلى التنافس المَرَضي والخصومات الداخلية وتفكّك المجتمع. أما البغضاء فهي «آفة اجتماعية» تُحوِّل العلاقات الإنسانية إلى جحيم، وتنتقل بالعدوى من جيل إلى جيل. أمام هذا الواقع، يشدّد سعاده في كتاباته على "إنّ التراحم الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد ألا يخرب"[3]، معتبرًا البغضاء نقمة على المجتمع، تُورث الأحقاد وتُبقي الأمة في حالة عداوة مع نفسها. ولا خلاص للأمة من هذه الحال إلا بالمحبّة القومية التي هي شرط لبقاء المجتمع وصموده، وأداة لمداواة أمراضه... فهي تُزيل أسباب الخصومة وتُقيم الصلح في النفوس.

 

 

ثالثاً: مرتكزات المحبّة القومية

 

يمكن تحديد معالم المحبّة القومية كما بلورها سعاده في ثلاث مرتكزات رئيسية:

 

  1. الإيمان بالمجتمع: المحبّة ليست نزعة عاطفية مجرّدة، بل ولاء واعٍ للمجتمع واعتراف بكيانه الحيّ. فالإيمان بالمجتمع هو انتقال من دائرة الفردانية الضيقة إلى رحابة الوجدان القومي الأخلاقي. وهذا الانتقال يقتضي أن يضيف الفرد إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته – أمته، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه ويودّ الخير لابن مجتمعه كما يودّ الخير لنفسه. هكذا يتجسّد معنى النهضة القومية الاجتماعية الحقيقي. فهي ليست نهضة كراهية وتنابذ وضغينة، بل نهضة محبّة وألفة وبناء وتوحيد... محبّة للحياة والأرض والشعب كله بجميع فئاته، نهضة تهدف للسمو والإبداع والعز. فالمحبّة هنا تتحول إلى أساس نفسي وأخلاقي يفعّل الوجدان القومي ويجعله قوة نهضوية حيّة.

 

  1. الإخاء القومي: تتجسد المحبّة في مبدأ «الإخاء القومي»، أي التساهل ونبذ الأحقاد والتضامن والتعاطف بين أبناء الأمة في السراء والضراء. وقد لخّص سعاده هذا المعنى بقوله: "إذا غلط ابن أمتك فلا تجعل من غلطه سببًا لعداوة داخلية، بل اعمل على إصلاحه."[4]

 

  1. النهج العملي: المحبّة لا تبقى مجرّد خطاب أخلاقي أو كلامًا على الشفاه، بل تتجلى في أعمال صالحة في الحياة اليومية: خدمة الناس والسعي إلى سعادتهم، التعاون على الخير، الصبر على المشقّات، والابتعاد عن الأحقاد والرذائل.

 

 

رابعاً: ثمار المحبّة القومية

 

عندما تتجذّر المحبّة في النفوس والمجتمع، تنبثق عنها نتائج ملموسة على الصعيد القومي:

 

  • الوحدة الروحية للأمة: إذ تصهر الأفراد في بوتقة قومية جامعة تتخطّى الطوائف والمصالح الخصوصية.
  •  
  • الاستقرار الاجتماعي: إذ تحدّ من النزاعات الداخلية وتؤسس للتسامح والانسجام.
  •  
  • الدافع النهضوي: فالمحبّة القومية تدفع أبناء الأمة إلى التضحية في سبيل مصلحتها العليا، وتجعل التعاون قوة منتجة وبنّاءة. وقد عبّر سعاده عن هذا البعد بقوله: "اننا نبذل أنفسنا أفراداً في سبيل تحقيق المبادئ التي في تحقيقها تحقيق لحياة الأمة.."[5]
  •  
  • الارتقاء الأخلاقي: فهي تغذّي النفوس بالمناقب السامية، وتربط الحياة القومية بقيم الحق والخير والجمال.

 

 

خامساً: المحبّة كقوة نهضوية

 

الفلسفة القومية الاجتماعية المبنية على الولاء للمجتمع والحب له، لا تعترف بمثالب الدجل والمكر والرياء ولا بالبغض والحقد والضغينة أساسًا للحياة. بل هي تنادي بالتسامح القومي، وتعمل للوحدة والألفة والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد. إنها دعوة حقيقية ليقظة الشعب السوري ولبناء مجتمع أمثل قائم على المحبّة القومية وخالٍ من الكراهية ومن كل أشكال التفرقة والانقسامات.

 

النهضة القومية الاجتماعية لا تقوم على التعصّب أو البغضاء، بل على إحياء القيم الإيجابية. ويقول سعاده في هذا السياق: "الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تنشأ لخدمة الموتى وإحياء المثالب، بل نشأت لإحياء المناقب الجميلة السامية، لتحيا أمة عظيمة بأجيالها المتجددة بالتعاليم الجديدة المحيية."[6]

 

وبتعليمه التثقيفي المناقبي شدّد سعاده على محبة الشعب ونبذ الأحقاد والضغائن. ففي ندائه إلى القوميين الاجتماعيين عام 1937 يقول: "إذا كان السيد بيار جميل قد طلب سحق رأسي فأنا أريد سلامة رأسه. لأن المبدأ الذي أتمشى عليه هو مبدأ القومية، وهو المبدأ الذي يدعونا إلى محبة أبناء قومنا وجلب الإصلاح القومي لهم."[7]

 

ويضيف: "النهضة ليست صياح حقد وفوضى بل صعودًا نحو أهداف واضحة معينة."[8] إنها نهضة محبّة، محبّة للحياة الجميلة الراقية، محبّة للخير والحق، محبّة للإنسان في أمته، لأجل أن يسمو ويبدع. فالمجتمع القومي الذي يفتقد المحبّة والقيم الأخلاقية يتحول إلى ساحة نزاعات تُهدر فيها الطاقات، أما المجتمع الذي يتبنّى المحبّة كقيمة قومية فيتحول إلى قوة خلاقة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

 

 

سادساً: تعاليم المحبّة والتساهل

 

اعتبر سعاده أنّ ترك تعاليم المحبّة والتساهل والتراحم هو السبب في جمود أمم العالم العربي.[9] وبرأيه، إنّ التساهل، كما علّم السيد المسيح وأيَّده الإسلام المحمدي، غايته "سلامة المجتمع وفلاحه."[10] لذلك، إذا أردنا أن نحقق الحياة الجميلة الراقية، علينا أن نسحق المثالب الفاسدة في حياتنا ونُحيي المناقب الجميلة والأخلاق الصحيحة، وأن نعمل بمبدأ الإخاء القومي وبمبدأ الحب الكلي لكل ما هو سامٍ وجميل. من هنا تصبح المحبّة القومية روح النهضة وجوهرها، إذ من دونها يبقى المجتمع عرضة للتفكك والتناحر، بينما بفضلها يصبح قادرًا على الصمود والإبداع وبناء حضارة جديدة.

 

 

خاتمة

 

المحبّة، كما صاغها سعاده في الفلسفة القومية الاجتماعية، هي أكثر من وصية أخلاقية أو عاطفة وجدانية. إنّها قيمة اجتماعية تعيد صياغة العلاقات الإنسانية على أسس التضامن والوفاء والتفاني في سبيل المصلحة العامة. فهي في جوهرها نقيض البغض والأنانية والفردية المدمّرة، وأساس الإخاء القومي، وشرط النهضة القومية واستمرارها.

 

فلنُحيِ هذه المحبّة في نفوسنا، ولنجعلها منهجًا في حياتنا القومية والاجتماعية، كي نحيا حياةً أجمل وأرقى وأصدق، ونبني مجتمعًا حرًّا متينًا، تسوده الأخوّة والوئام، وتشرق فيه شمس النهضة القومية الاجتماعية.

 

 


[1] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، سلسلة النظام الجديد، الطبعة الرابعة، 1977، ص 61.

[2] أنطون سعاده، الآثار الكاملة 1- أدب، بيروت، 1960، ص 147.

[3] المرجع ذاته، ص 84.

[4]  أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث 1937، الطبعة الأولى، بيروت 1978، ص 77.

[5] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، بيروت، ص 38.

[6] أنطون سعاده في مغتربه القسري 1944-1945، الآثار الكاملة 12، ص 26.

[7] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث 1937، الطبعة الأولى، بيروت 1978، ص 76.

[8] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، طبعة 1976، بيروت، ص 113.

[9] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث 1937، الطبعة الأولى، بيروت 1978، ص 76.

[10] المرجع ذاته، ص 86.

 
التاريخ: 2025-09-12
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: صباح الخير - البناء، 149 - 12 أيلول 2025
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2025 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro