منذ فجر التاريخ، لم تكن الأمم تُبنى بالقوة المادية وحدها، بل بالأخلاق السامية التي تشكّل روح الحضارة. فالأخلاق هي النظام الخفي الذي يحفظ تماسك المجتمعات، والمحرك الأساسي لأي نهضة حقيقية. وحين تغيب الأخلاق، تغيب القيم، ويحل الانهيار محل البناء، والفساد محل الإصلاح. لذلك يقول العلّامة الدكتور خليل سعاده أن "حياة الأمم بقلوبها النابضة وأخلاقها الراقية."[1] وقد أدرك الفلاسفة هذه الحقيقة منذ القدم، فسقراط اعتبر الفضيلة معرفة، وأرسطو رأى فيها طريق السعاده، والرواقيون جعلوها انسجاماً مع العقل والطبيعة.
لكن الرؤية الثورية التي قدمها أنطون سعاده جاءت في لحظة تاريخية حرجة، حيث كانت سورية تعاني من كارثة إنسانية شاملة بين عامي 1914-1920. فبفعل سياسة التجويع العثمانية الممنهجة، حوصرت بيروت بحراً وبراً، وصودرت محاصيل القمح، وقُطعت أشجار التوت التي كانت عماد الاقتصاد. وتحولت المدن إلى ساحات للموت اليومي، حيث تكدست الجثث في الشوارع بلا دفن، وانتشرت الأوبئة بسبب سوء التغذية. هذا الانهيار المادي صاحبه انهيار أخلاقي بعد قرون من التفكك والجهل والسيطرة الأجنبية، حيث سادت "مثالب الانحطاط" كما سماها سعاده: الفساد، الفوضى، السفالة، النفاق، الخيانة، الغدر، الاتكالية على الأجنبي، والأنانية.
في خضم هذه الكارثة الشاملة، أدرك سعاده أن المعركة الحقيقية هي معركة أخلاقية داخلية. فلم تكن القضية مجرد تحرير الأرض من الاحتلال أو الاستعمار، بل تحرير النفس من براثن الانحطاط وإعادة تأهيل المجتمع السوري بسحق مثالبه الفاسدة وإحياء المناقب الجميلة. وقد أكَّدَ أن "الحركة القومية الاجتماعية لم تنشأ لخدمة الموتى وإحياء المثالب، بل لإحياء المناقب الجميلة".[2]
وهكذا أسس سعاده لثورة أخلاقية تقوم على القطيعة الجذرية مع الأخلاق المثالبية الهدّامة التي تعتمد المصالح الفردية وتكرس التبعية والخنوع، لصالح أخلاق قومية تنطلق من المصلحة العامة وتنمي روح الاستقلال وتكون بمثابة قاعدة لبناء إنسان جديد، ومجتمع جديد، وحياة جديدة قائمة على العز والمجد، وليس مجرد العيش الحقير.
لم تكن هذه الرؤية مجرد تنظير، بل قدم سعاده نموذجاً عملياً يجسد مقومات الأخلاق البانية: الواجب طريقاً إلى الحق، التضحية من أجل المصلحة العامة، الصدق مع الذات والأمة، والمسؤولية الاجتماعية. كما أولى دوراً محورياً للمرأة كحارسة للقيم ومربية الأجيال، وربط الأخلاق بالاقتصاد من خلال رفض الاستغلال والدعوة إلى العدالة في توزيع الثروات.
هذه الأخلاق القومية تتحول إلى قوة بناء عندما تترجم إلى ممارسات يومية: في السياسة برفض الفساد والمحسوبية، وفي التعليم بغرس القيم القومية، وفي الإعلام بتعزيز الخطاب الأخلاقي، وفي الحياة اليومية بأن نكون قدوة في السلوك، في مواقفنا، في طريقة تعاملنا مع المجتمع، في التزامنا بقضية ترفع من شأن الإنسان وترتقي بالمجتمع. الأخلاق القومية ليست تزمتًا ولا تصنّعًا. هي فعل شجاع، وقرار مستمر بأن نكون في صفّ الحياة، في صفّ الكرامة، في صفّ المصلحة العامة.
فالأخلاق التي تبني وطناً ليست شعارات ترفع، بل هي ممارسة يومية تبدأ من الفرد وتنتهي بالأمة. هي التي تجعل المواطن يشعر بأن عليه واجبات، مثل ما له من حقوق، وأن عليه أن يُعطي كما يأخذ، ويضحّي كما يطلب. إنها أخلاق تُواجه القبائح والرذائل ولا تساوم معها، تزرع في الإنسان روح المسؤولية والوجدان الاجتماعي. إنها ثقافة الواجب والانضباط والتضحية، وإرادة حرة تقف في وجه الفساد والانتهازية والانحلال.
أن نكون من حملة الأخلاق القومية يعني أن نجسّد هذه الأخلاق في سلوكنا اليومي، فليسأل كل منا نفسه: هل أجسّد هذه الأخلاق؟ هل أسير في طريق البطولة الواعية؟ كيف أساهم في بناء وطني من خلال التزامي الأخلاقي؟
في النهاية، الأخلاق، كما يؤكد سعاده، هي "في صميم كل نظام يمكن أن يبقى".[3]