لا أدّعي اختصاصاً قانونياً يخولني شرح معنى التعاقد في الحزب السوري القومي الاجتماعي من الناحية الدستورية بدقّة، لكن ما أقدّمه هنا هو محاولة للاقتراب من هذا المعنى في ضوء دلالاته الفكرية والمعنوية، استناداً إلى استنتاجاتي الشخصية.
الزعامة مدخل إلى التعاقد
ارتبط اسم سعاده بعدة تسميات: الشارع، صاحب الدعوة، صاحب الرسالة، المؤسس، المعلم، المنشئ، واضع أسس النهضة، القائد الأعلى، الفيلسوف، الهادي، المخطِّط، الباني، المرشد، موجه المنظمة، الزعيم. وتُعتبر صفة الزعيم من أهم هذه التسميات المكمِّلة لبعضها، لأن فعلها تجلّى في شتى ميادين الحياة: القانونية والدستورية، والعلمية والفلسفية، والتربوية والإدارية والأدبية.
والزعامة، في المفهوم القومي الاجتماعي، ليست لقباً عابراً ولا وظيفة إدارية، بل هي حقيقة جديدة في قاموسنا الفكري والسياسي. إنها زعامة منبثقة من رحم الأمة، معبّرة عن عظمتها ومقدرتها، متفرّدة في صفاتها وغاياتها، وقيمة أصلية توّجت بها الأمة حقيقتها برجل اختارته لينطق بلسانها ويكشف مكنونات أفكارها وطموحاتها.
هذه الزعامة ليست مجرد موقع أو رتبة، بل هي شخصية متفوّقة ومتميزة بيقينها وإدراكها ووضوح أفكارها وقوة إرادتها.. شخصية عبقرية وغنيّة بالعوامل النفسية "لا يمكن تقليدها أو الخلط بينها وبين غيرها ولا يمكن استبدال غيرها بها."[1] إنها زعامة مستمرة في صميم الأمة، لم تنتهِ باستشهاد صاحبها على رمال بيروت، لأن حقيقتها ارتبطت بحقيقة الأمة ذاتها.
فالزعيم في النظرة القومية الاجتماعية ليس حاكماً سياسياً تقليدياً ولا قائداً عسكرياً يفرض إرادته بالقوة، ولا خطيباً يستميل العواطف بالكلمة وحدها. إنما هو أكثر من ذلك: هو التعبير الأوفى عن حقيقة الأمة ووجدانها، القدوة في الإيمان والالتزام، والمثال الحيّ الذي يجسّد عظمة الأمة ويكشف حقيقتها. لذلك كان سعاده زعيماً مؤسساً لا باللقب أو الرتبة، بل بالجوهر والفعل، إذ وقف نفسه على أمته، وأقسم أن لا يستعمل سلطة الزعامة إلا لمصلحتها ورقيها.
التعاقد مع سعاده
صحيح أن مؤسسة الزعامة الدستورية انتهت باستشهاد سعاده، لكن زعامته ليست مؤسسة دستورية فحسب، بل هي زعامة معنوية وهداية لا ينطفئ نورها. والتعاقد مع سعاده الشارع وصاحب الدعوة هو في جوهره تعاقد مع الزعيم الذي "أنشأ العقيدة القومية الصحيحة والقضية السورية القومية وأنشأ، فوق ذلك، مدرسة التفكير السوري القومي في الحياة والفن."[2]
لذلك لا يمكننا الفصل بين "أنطون سعاده والقضية السورية القومية". فالزعيم هو التعبير الأوفى عن حقيقة الأمة وشخصيتها ومثلها وتطلعاتها. لقد كشف حقيقتها، عيّن مصلحتها، وحمل قضيتها، حتى أمسى هو والعقيدة وجهين للحقيقة السورية الواحدة. ومن هنا قوله: "إن أنطون سعاده لا يعني أنطون سعاده، بل مبادئ الحياة القومية المحيية."[3] ومن هنا أيضاً نفهم أن التعاقد معه هو تعاقد مع العقيدة المحيية المعبّرة عن إرادة الأمة وآمالها.
ومع المبادئ التي وضعها وأبدعها من صميم نظرة جديدة إلى المجتمع والإنسان، فجعلها قضية الأمة المقدسة، وأطلق بها نهضة شاملة تنظيماً وفكراً وحركة. فهذه المبادئ لم تكن إعادة صياغة لأفكار سابقة، بل ابتكاراً أصيلاً كشف عن حقيقة الأمة، وأرسى لها أساساً علمياً وفلسفياً جديداً.
والتعاقد، بهذا المعنى، ليس عقداً بين شخص وأشخاص آخرين، بل بين الفرد وحقيقة أوسع وأشمل هي الأمة. إنه انتقال من الأنا الفردية إلى الأنا الاجتماعية، من حدود الذات الضيقة إلى رحابة الانتماء القومي. فالتعاقد مع سعاده هو في حقيقته تعاقد مع الأمة التي نطق باسمها، ومع المبادئ التي أنشأها لتكون أساس نهضتها.
الانتماء وقسم اليمين
أبرز تجليات هذا التعاقد هو قسم اليمين، الذي يشكّل الإطار العملي لربط الإيمان بالفعل، والعقيدة بالسلوك. فالمقبلون على الدعوة القومية الاجتماعية انجذبوا إلى تفكير الزعيم ونظراته العميقة، فساروا وراءه مختارين، مقتنعين بمبادئه المفعمة بقيم الحق والخير والجمال. وصاروا صفوفاً منظّمة من آلاف السوريين معلنين بلا شروط ولاءهم لزعيم الأمة وقائدها الأعلى، ومؤكدين انتماءهم عبر قسم اليمين.
وقسم اليمين ليس تعهداً شكلياً، بل هو:
أولاً، التزام إرادي–أخلاقي، واضح تجاه الحزب وأعضائه وقضيته. إنه التزام عقلي واعٍ ووجدان قومي غايته خير المجتمع وارتقاؤه. وهو عهد يربط بين الإيمان والعمل، بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق. إنه أخلاق جديدة انبثقت من فكر الزعيم ومبادئه وتجسّدت في سلوكه وجهاده، وتستمر بالتجسد في سلوك العضو المؤمن المقتدي بزعيمه.
ثانياً، مسؤولية اجتماعية تسمو بالمنتمي إلى الحياة المجتمعية الرفيعة، فتربطه برفقائه في جماعة واحدة، يجمعها المصير المشترك والغاية السامية. وهو ارتباط كلي يربط مستقبل الفرد بمستقبل الجماعة، ويجعل ما يصيبها يصيبه، وما يصيبه يصيبها. فيندمج الجميع في فكر واحد، وحركة واحدة، نحو نهضة الأمة وخيرها. وهذه المسؤولية تقتضي أن يكون القومي الاجتماعي صادقاً مع رفقائه، مخلصاً لهم وللقضية، عاملاً بروح المحبة والوفاء، ومعيناً لكل من يحتاج من أعضاء الحزب.
التعاقد اليوم
منذ نشوء الحزب، كان الانتماء إلى صفوفه انتماءً على أساس العقيدة لا على أساس اللحظة التاريخية. فالقومي الاجتماعي، في الثلاثينات كما اليوم، حين يؤدي قسم اليمين، يربط نفسه بالعقيدة المُحيّية التي تكشف عن حقيقة الأمة وتعبّر عن إرادتها، لا بمجرد ماضٍ مضى. ومن هنا يبقى الانتماء إعلاناً متجدداً لمواجهة كل التحديات، من الاستعمار والتجزئة قديماً إلى الاحتلال والتبعية والتمزق وضياع الهوية حديثاً. فهو التزام دائم بحركة الأمة نحو التحرر والوحدة والسيادة، متجسّدة في مبادئ سعاده ونهجه.
إن التعاقد مع سعاده لم يكن لحظة تاريخية وانتهت، بل هو فعل مستمر يتجدّد في كل جيل. فكما كان الانتماء إعلاناً لولادة النهضة، كذلك هو اليوم إعلان لمواجهة التحديات الراهنة بكل أشكالها. فالقومي الاجتماعي، حين يقسم، لا يربط نفسه بالماضي بل بالمستقبل، في خط حركة حيّة متجدّدة هي حركة الأمة نحو الفلاح والمجد.
الزعامة كحقيقة خالدة
إن الزعامة، باعتبارها قيمة أصلية متجسدة بشخص أنطون سعاده وتعاليمه، ليست محدودة بفترة زمنية تمتد من أول آذار إلى الثامن من تموز، بل هي خالدة بخلود الحياة السورية. فهي ليست لقباً مكتسباً ولا وظيفة حزبية، بل حقيقة حيّة لا تموت، تسري في جسد المجتمع وأجياله المتعاقبة. لقد أصبحت، كما وصفها الشاعر والأديب محمد يوسف حمود: "للجميع، للمؤمنين به ولخصومه، كما هو الهواء للجميع، وكما هي الشمس للجميع."
[1] أنطون سعاده، “عيب الحزب السّوريّ القوميّ”، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 31، 1/11/1941
[2] سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، طريق الأدب السوري، بيروت، 1960، ص 71.
[3] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السابع 1944 – 1947، "حديث الزعيم إلى مجلة "الكوكب"، الشمس، بيروت، العدد 290، 20/08/1947.