عندما قررنا إقامة لقاء شعري على العرزال، بمناسبة الثامن من تموز، استوقفنا سؤالان جوهريان:
في هذا المقال، سنتناول هذين السؤالين من منطلقات فكر سعادة، ثم في مقال منفصل، نسرد ما حصل بالنسبة لتنظيم الفعالية، وبعض الاثارة الحاصلة على السوشيال ميديا من قبل البعض.
في فكر أنطون سعاده، ليس الأدب ترفًا ولا الشعر غناءً للهوى، بل يجب أن يكون ضرورة قومية وأداة من أدوات الصراع في معركة الوعي والهوية. يرى سعاده أنّ النهضة لا تكتمل إلا بثورة فكرية ــ جمالية، تؤسس لنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، تعكس نفسية الأمة ومطامحها التاريخية. في هذا الإطار، أدّى الشعر الشعبي، وخصوصًا الزجل، دورًا فاعلًا في نشر العقيدة والتأثير في النفوس، بلغة نابضة من الأرض وحياتها.
ومن المهم التأكيد أن الثقافة والآداب والفنون ليست المجال الوحيد للنهضة، بل هي وجه من وجوهها المتعددة، إلى جانب التربية، والاقتصاد، والعلوم، والدفاع، والقضاء، وغيرها من المؤسسات والمصالح القومية المتخصصة. لكل ميدان في النهضة مجالاته، ولكل اختصاص دوره الحيوي ومجالاته للإبداع والابتكار والإنجاز. إنّ الاهتمام بالأدب والفن لا يلغي دورًا آخر، بل يعمّق صورة التكامل بين نواحي النهضة كافة.
لا يستسيغ بعض المثقفين، أو أصحاب الذوق الكلاسيكي، جميع أنواع الفنون الشعبية، ومن بينها الشعر العامي والزجل، معتبرين إياها انحدارًا عن مرتبة الأدب "الرفيع"، أو انغماسًا في السطحية واللهو. وقد تعزّز هذا الانطباع السلبي بفعل سلوك بعض الجوقات الزجلية التجارية والمهرجانات المبتذلة التي حوّلت الزجل إلى مادة للعبث، وربطته بالخمر والاستعراض الفارغ، وجردته من رسالته الأخلاقية والوجدانية، حتى بات في نظر البعض مرادفًا لفنون "الفراغ" و"الطائفية" والانفعالات الفردية. وقد يصل البعض، بحكم التأثر ببيئات اجتماعية أو دينية أو تقاليد معينة، الى تحريم الموسيقى أو استخدام بعض الآلات كالدف، وربطها بالفن الهابط، وصولاً الى فرض نمط معين مستورد من المجتمع القديم على المجموع، والا فالتكفير جاهز.
كما أن الأجيال الجديدة الخاضعة للهجمة الثقافية المعولمة عبر السوشبال ميديا، والتي تصدّر لنا ثقافات اجنبية تتبناها أجيالنا الجديدة وتتأثر بها، وتبتعد تدريجيا عن الادب والفنون الشعبية بشكل عام، وعن الادب الملتزم بشكل خاص، وخاصة الشعر الشعبي الذي يعتبره البعض هابطا ومتخلفا أو غير معاصر وخارج الترند الحالي.
لكن هذا التعميم الجائر يغفل جوهرًا عميقًا عبّر عنه أنطون سعاده نفسه: كل فنّ ــ أيًّا كانت لغته أو طبقته أو أسلوبه ــ إذا تحرّر من الانحطاط، والتزم الغاية الاجتماعية والروحية العليا، يصبح وسيلة من وسائل النهضة. فالشعر الشعبي، إذا كان راقيًا وهادفًا، لا يبتعد عن الرسالة القومية، بل يشكّل جسرًا تعبيريًا بين العقيدة والجمهور، أو بعضه على الأقل، ويعمّق الشعور القومي، ويجذّر الوجدان الجمعي، كما يفعل الشعر الفصيح أو المسرح أو الموسيقى.
وقد كان للشعر الشعبي والزجل في تاريخ النهضة دور كبير في نشر الفكر وايصاله بأساليب متعددة الى الناس، من خلال مئات الشعراء القوميين والمؤيدين الذين تأثروا بسعاده ونظرته الجديدة الى الكون والفن والحياة، ودعوته الى إيجاد أدب الحياة. وبالتالي فإن الزجل الذي يُقال في سبيل الأمة، يُصبح فعلًا نضاليًا لا يقلّ شأنًا عن الخطاب أو القلم أو الموقف، بل قد يكون في أحيان كثيرة أقرب إلى الناس، وأشد تأثيرًا في وجدانهم القومي.
الشعر الشعبي، بالتالي، في حال حسن استخدامه، يمكن أن يكون أداة للتعبئة والتبليغ وصوت الوجدان الاجتماعي. ولم يكن انخراط الشعراء الزجليين في الحزب ترفًا فنيًا، بل وعيًا بدور الكلمة في معركة المصير. وقد أدرك سعاده أن الشعر الشعبي، بما له من قرب إلى لسان الناس وعواطفهم، هو وسيلة فعالة لنقل العقيدة بصورة وجدانية مبسطة، يتردد صداها في الساحات والمقاهي والمهرجانات.
كما أن كل تعبير نابع من الروح الجماعية يمكن أن يحمل الفكرة القومية. لذا، كان للشعر الشعبي موقع مميز في النهضة، بوصفه صرخة وجدانية تعبّر عن الشعب بلغته وصوره وإيقاعه. وهنا تبرز كوكبة من الشعراء الشعبيين الذين شكّلوا لائحة ذهبية في تاريخ الزجل القومي، بعضهم منذ أيام سعاده حيث كانوا يحظون برعايته وتوجياته ودعمه، منهم:
يوسف حاتم، يوسف تاج، وليم صعب (أمير الزجل)، عجاج المهتار، خطار أبو إبراهيم، أديب البعيني، رفعت مبارك، فوزي عبد الخالق، خالد زهر، إميل رفول، جرجس بو جودة (ابو فاروق)، فؤاد ذبيان، حنينة ضاهر، ... وغيرهم. الكثيرون.
هؤلاء لم يكونوا شعراء تسلية، بل رسل فكر وثورة، جعلوا الزجل صوت النهضة في القرى والمهجر. ويجب أن يستمر انتاج النهضة المتجدد من الشعراء والمبدعين في كافة المجالات الادبية والفنية.
وعليه، فإن استبعاد الشعر الشعبي من محافل النهضة، فقط لأنه «عاميّ»، أو أنه مغنّى، هو موقف يتعارض مع جوهر رسالة سعاده. وما دمنا نفرّق بوضوح بين الفنون الراقية الهادفة والفنون السوقية المبتذلة، فإن للشعر الشعبي النهضوي، المعبّر عن عقيدة الحياة والكرامة، موقعًا أساسيًا في المشروع الثقافي القومي الذي أراد سعاده أن يكون: أدب حياة، لا أدب انحطاط وبلبلة ودموع، بل أدب نهوض ومقاومة وارتقاء.
لم ينظر سعاده إلى الأدب كفعل فردي معزول، بل كفعل جمعي ينبثق من "نفسية الأمة"، أي من رؤيتها للحياة والكون والفن. لذلك، دعا إلى تأسيس أدب جديد يعكس الروح القومية، ويتجاوز التقليد الأعمى والانغلاق الديني والطائفي. وقد قال:
"تعالوا نقيم أدباً صحيحاً له أصول حقيقية في نفوسنا وفي تاريخنا. تعالوا نفهم أنفسنا وتاريخنا على ضوء نظرتنا الأصلية إلى الحياة والكون والفن." (الأعمال الكاملة، المجلد السادس، ص 753)
الأدب عنده ليس مجرد محاكاة لغوية، بل إعادة تشكيل للرؤية الوجودية. والفن العظيم هو ما ينبثق من الفكر الحي والنفسية الجمعية. وقال أيضًا:
"تعالوا نشيد لأمّتنا قصورًا من الحبّ والحكمة والجمال... بمواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها المتناولة قضايا الحياة الإنسانية الكبرى". (الأعمال الكاملة، المجلد السادس، ص 753)
والشاعر عند سعاده ليس مجرد مرآة عصره، بل "فيلسوف ومبدع" يخطط الحياة الجديدة، ويقود الجماعة نحو المثل العليا. وهو قد علّم أن الفورة السياسية أمر تافه إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يُثبتها في قلب كل فرد... أدب حي وفن موسيقي يوحّد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تُصبح إيمانًا اجتماعيًا.
الزجل إذًا، بأنواعه المتعددة، وأوزانه الموروثه من تراثنا السوري السرياني، والمترسخ في وجدان قسم من شعبنا، ممن ما زالوا يتابعونه ويقدرونه، بهذا المعنى، ليس أداة ترف، بل أداة تربية وتحفيز وتحريك للوجدان الجمعي.
النهضة لا تنتشر في الصمت. ولم يكن سعاده يدعو إلى حزن مقدّس، بل إلى فرح ملتزم. من نُقِلَ عنه قوله ليلة الإعدام-الاغتيال: "هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيكون انتصارهم انتقامًا لموتي"، هو يريد حتما لذكرى استشهاده أن تكون تعبيرا للعنفوان والعز والحياة النابضة، لا مجلس عزاء. فالوفاء له لا يكون بتعميم ثقافة البكاء والمؤامرات والمماحكات والأحقاد المتوارثة، بل بالانتصار وتمجيد الحياة والارتقاء بالفعل النهضوي وتوحيد الجهود وانتصار القضية.
إن الشعر الشعبي، حين ينبع من الجذور ويعانق الفكرة، يصبح زخمًا شعبيًا حيًا، ويؤكد أن النهضة ليست فكرة في رأس مسؤول أو رفيق معزول حاقد، بل حياة في قلوب الناس وعقولهم ووجدانهم، وفي ذاكرة تتغذى من الكلمة الصادقة، والنغمة الملتزمة، والصرخة الشجاعة.
لا شك أن هناك من لا يشجع أو يحب هذا النوع من الشعر الشعبي، وله ذوقه الخاص وموقفه الذي نحترمه. والبعض يفضلون الحزن والغضب في هذا اليوم، وانتقاد النظامين اللبناني والشامي وقتها، والمحاكمة المهزلة التي كانت عاراً ما زال قائماً على جبين القضاء في لبنان. بعض آخر يستغلون الفرصة لندب حالة حزب النهضة ومؤسساته المتعددة والتشرذم الحاصل. وهنا تختلط الآراء وتتعدد وتتنوع، متأثرة بمزيج من قراءات فكرية تتراوح بين المنفتح الى حد التفلت، وبين المنغلق الى حد التكفير. وأيضاً بموروثات اجتماعية ادخلها البعض معه من بيئته المحلية وتراث بعض مناطقنا، مثل من يعتبر الغناء أو الموسيقى استخدام الدف، شيئاً غريباً ومحرماً، خاصة في ذكرى استشهاد سعاده، حتى لو بعد 76 عاماً، ومن يفضل استنساخ مثيل قومي لعاشوراء وكربلاء او الجمعة العظيمة وطريق الجلجلة.
في المقابل، ثمة من يعتبر ان ذكرى استشهاد سعاده بعد كل هذه المدة، لم تعد للتعبئة والغضب والحقد، بل للبناء والتكريم وتجديد الالتزام بطرق متعددة، وليس بالضرورة فقط من خلال مجالس عزاء أو تنظيم البكائيات واللطم والغضب.
ونحن نحترم أصحاب الأفكار المتنوعة، والمقاربات المتعددة شرط أن لا تتحول الى قوالب جامدة تفرض على المجموع. ليكن هناك أكثر من أسلوب للتعبير عن استرجاع الذكرى والاحتفاء بصاحبها، وليحضر كل من يريد حيث لا يجد حرجاُ في ذلك. وليغيب عن ما يعتبره غير مناسب. أم التكفير والحملات الإعلامية التهويلية واستخدام كرامات الناس الكرام للتمترس وتنفيذ الرغبات الشخصية أو التعطيل على الاخرين فهذا يضر اكثر مما ينفع.
ولم يكن من المتوقع، حتى لو عاد سعاده، أن يصبح القوميون جميعًا على لون أدبي أو فني واحد. بل إن في التنوع غنى في رحاب النهضة، شرط أن يكون كل صاحب ذوق أو موهبة أو طاقة مبدعة مركّزًا على مجاله، منفتحًا على غيره، دون أن يلغي الآخرين أو يكفّرهم فقط لأنهم ليسوا على صورته أو مزاجه. وفي حالات التشرذم والشلل والفصائل، حيث تسود العصبيات والمزاجيات الفردية اكثر من العمل المؤسساتي العقلاني المنهجي، يصبح الأعضاء في هذه الفصائل افراداً مجاهدين ومراجع ومصدري فتاوى وطرائق للسلوك، وتكفيريين بامتياز.
والفن، كالعقيدة، ليس مجالًا للفرض والتكفير، بل مجال للتعبير والتفاعل والتكامل والابتكار. والنهضة، بكل وجوهها، لا تُبنى بنمط واحد، بل بتنوع متجانس ومتكامل ومتفاعل من المبادرات والانشطة والفنون والآداب وأشكال العطاء، من ضمن وحدة الاتجاه العام والموقف والرؤية.